ابو بكر العيادي - العرب
مسرحية “عدوّ الشعب” لهنريك إبسن استشراف لصراع إيكولوجي سياسي.
المسرحية تعرض الآن بمسرح بلفيل بباريس، يبدو فيها هنريك إبسن سابقا لعصره، وهو يطرح قضية حماية البيئة وعواقب من ينبّه إلى خطر قائم أو محدق، ولكنه يتناولها من زاوية صراع بين أخوين لا نعرف في النهاية من منهما عدوّ الشعب؟
منذ قابيل وهابيل، ثم إتيوكليس وبولينايكيس، وأتريوس وتيويستيس في التراجيديا الإغريقية، تحفل الأعمال الأدبية والمسرحية بثيمة الصراع بين أخوين، أحدهما طيب والثاني شرّير، ولو بأوجه مختلفة.
وهنريك إبسن (1828-1906) يتناولها في مسرحية “عدوّ الشعب” من منظور إيكولوجي سابق لعصره، وهو ما يؤكّد راهنية هذا النص الدرامي الذي ألفه عام 1883، وصوّر فيه صراعا إيكولوجيا سياسيا بين الأخوين توماس وبيتر ستوكمان.
تحوم الأحداث حول محطة حمامات معدنية استشفائية أسّسها الأخوان ستوكمان، فتولى بيتر الذي يشغل خطة محافظ إدارتها بشكل حقّق للمدينة رخاءها، وقام توماس الطبيب بضمان جودة العلاج الذي يتلقاه المنتجعون. ورغم أن المظاهر توحي بأنهما متفقان على كل شيء، فإن الحقيقة غير ذلك، إذ تكفي شرارة واحدة لتشعل نار الخلاف بينهما.
وقد اندلعت الشرارة هذه المرة حين اكتشف توماس أن بكتيريا بداخل القنوات تلوّث مياه المحطة وتهدّد صحة الزوّار. أراد إعلامَ الأهالي عن طريق الصحافة، وغلقَ الحمامات ريثما يُعاد بناء تجهيزاتها، ولكن أخاه اعترض بشدة، لأن الحمامات هي مصدر ثراء المدينة وعلامتها التجارية، وقد تساهم أشغال الصيانة في إفلاس المساهمين ودافعي الضرائب المحليين.
وبعد أن عدّت الصحافة الخبر خبطة صحافية، تراجعت وامتثلت لأوامر المحافظ وتهديداته، ولم يلبث توماس أن وجد نفسه وحيدا، فقد تخلّى عنه الجميع باستثناء زوجته وابنته.
كان توماس على قناعة بأن الحقيقة وحدها سوف تجلب له التضامن والمساندة، وبسذاجته الخالية من أي وعي سياسي كان يحسب أن أخاه سيأخذ برأيه لما فيه الصالح العام، إلّا أن بيتر المحافظ له تصوّر آخر عن الحقيقة يستند إلى البراغماتية الاقتصادية، ولكي يحمي مصالحه ومصالح المساهمين في الحمّامات، حاك خطة لتكذيب أخيه، وتحويل الظنون نحوه كخطر يتهدّد المجموعة، بل كعدوّ للشعب.
وبينما كان الخصام الأخوي يمتد ويترامى على المدينة كلها، يُدخل إبسن على الحبكة عنصرا جديدا يتراوح بين الكوميديا والتراجيديا، ويدفع بالمتفرج إلى التساؤل هل نصدق مطلق الإنذار الذي يدفعه حرصه على الحقيقة إلى موت اجتماعي؟ وكيف يمكن الفصل بين متطلبات العدالة ومقتضيات الاقتصاد؟
وفي رأي المخرج أن الأخوين المتعاديَين يمثلان وجهين لعملة واحدة، والخلاف بينهما لا يمكن حلُّه في نوع من الانسجام الإنساني، فلا شيء يدعم المجموعات البشرية خير من كذبة مشتركة، على حساب كبش فداء.
هذا النص كتبه إبسن في الغربة عقب الفضيحة التي أثارتها مسرحيته السابقة “الأشباح”، وقابلها النقد بتنديد واسع، لكونها فضحت عيوب المجتمع النرويجي المحافظ. وكعادته في الكشف عن مساوئ مجتمعه، ركّز هذه المرة على تناقضات الديمقراطية في بلده، حيث يستغل بعض المسؤولين مركزهم للإثراء على حساب الشعب.
وعلى غرار الألماني توماس أوسترماير في مهرجان أفينيون عام 2012، سعى الفرنسي جان فرنسوا سيفاديي إلى خلق مناخ يناسب أحداث المسرحية، من جهة سينوغرافيا صائبة تصوّر محطة استشفاء بالمياه المعدنية، ومن جهة تنويع المواقف لتجنّب الوقوع في خطاب مانوي بين طرفين متنازعين، لكل منهما حجته. إضافة إلى إلغاء الجدار الرابع حيث يختلط الجمهور بالممثلين، حتى يكون وسط الصراع الذي يضع وجها لوجه الطبيّ والسياسيّ، ما يوحي بأن القضية تهمّ الجميع.
وسيفاديي لا يكتفي بسرد حياة توماس الذي تحوّل إلى “عدوّ للشعب” بل يعمد أيضا إلى تفكيك محيطه، حتى على الخشبة، تحت أنظار جمهور يقوم مقام الشاهد، فالذي ظن أنه محاط “بكتلة شعبية متراصّة” اكتشف أنها لا ترجو سوى إقصائه.
قد يكون من بين هذا الجمهور مُطلِق إنذار (أو مخبر في أدبيات وسائل الإعلام)، أو شعبويّ خطير، أو مندّد بطغيان أغلبية حمقاء. وفي الطرف المقابل خصوم من ممثلي الدولة أو مدافعين عن مصالح ذاتية أو صحافيين متواطئين يبتدعون الحجج السخيفة باسم المصلحة العامة.
“عدوّ الشعب” نص يثبت حداثة إبسن واستشرافه للمشاكل الإيكولوجية والرأسمالية التي تعاني منها المجتمعات الغربية اليوم، والتلوّث الذي يتحدث عنه هو تلوّث العقول أكثر منه تلوّث الماء، وتوماس ليس أقل خطرا من أخيه بيتر، فعندما التقى بالأهالي في اجتماع عام كان يريد خلاله تبرير موقفه، جعل يشتم الحاضرين، ويندّد بالحمق الذي ضرب على عقول الأغلبية المتراصة، كعدوّ للحقيقة والحرية يسمّم المنابع الحيوية للذهن، ويصيب الأرض بالتلوّث.
عندما سئل سيفاديي عن تحوّل توماس من بطل إلى عدوّ للشعب، أجاب “في الفصل الرابع، بينما كان توماس ستوكمان يحاول كسب نصرة الأهالي، جاوز حدّه ففاه بكلام صادم، حيث أسهب في التنديد بمن لا يوافق موقفه، وعدّ نفسه الوحيد الذي يمكن أن ينقذ المدينة ممّن يستغلون خيراتها دون وجه حق. وهو خطاب شعبوي نجد صداه اليوم عند أكثر من قائد، يقول أنا أو الطوفان”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق