ولد ماكس فريش في الخامس عشر من شهر آيار عام ١٩١١، وهو كاتب سويسري، كتب القصة، الرواية، النص المسرحي، اضافة الى المقالة الصحفية، من أب كان مهندس ممعماري، ينحدر من عائلة نمساوية. التحق بجامعة زيورخ، بعد الانتهاء من المدرسة الثانوية وحصوله على شهادة البكلوريا، لدراسة اللغة الالمانية وعلومها (Germanistik)، بعد أن انهى المدرسة الثانوية والحصول على شهادة البكالوريا (١٩٣١ – ١٩٣٣)، إلا انه تركها دون إكمالها، والذهاب الى براغ كمراسل صحفي، ومن هناك الى معظم دول أوربا الشرقية والجنوبية، عاد ليدرس الهندسة المعمارية في زيورخ (١٩٣٦ – ١٩٤١) ، حيث مارس، بعدها، العمل بما درسه في الكلية، الى جانب الكتابة، إلى أن جاء عام 1954 ليترك مهنة العمارة، ليحترف مهنة الأدب، بعد الانفصال من زوجته الاولى واطفاله الثلاث، ليعيش حياة مستقلة بعيدا عن هموم العائلة والتفرغ للعمل الأدبي، وبعد أن صدرت روايته " شتيلر" ، التي مهدت له الطريق ليكون واحد من أهم ادباء سويسرا خصوصا، والادب الاوربي/ العالمي عموما.
من أهم اعماله الادبية إلى جانب شتيلر، هي: هوما فابر، اسمي غانتنباين، مونتاك. هذا ما يخص أعماله الروائية. أما في المسرح فهي: الجدار الصيني، الآن يغنون ثانية، بيدرمان ومشعل الحرائق، واندورا...الخ
توفى ماكس فريش في الرابع من شهر نيسان عام ١٩٩١ عن عمر جاوز الثمانين.
عندما انتهت الحرب، مسرحية (دراما) للكاتب السويسري ماكس فرش، انتهى من كتابتها عام 1948. وكما ذكر الكاتب في يومياته التي دونها ما بين عام 1946 ـ 1947، بأنه كان قد التقى بسيدة المانية، روت له، بأنها كانت تلتقي كل يوم بأحد من ضباط الحيش الأحمر، الذين سكنوا بيتها كمحتل، من أجل حماية زوجها (من الجيش الالماني)، الذي كان مختفيا في السرداب، وعلى الرغم من صعوبة التفاهم اللغوي بين الاثنين (الضابط لايتحدث سوى اللغة الروسية والمرأة اللغة الألمانية)، فقد تطور هذا اللقاء ألى شكل علاقة حب بينهما.أما المصدر أو الحدث الثاني، لهذه المسرحية، فهو لقاءات ماكس فريش للكثير من الأشخاص الذين عايشوا أحداث الغيتو في وارشو (عام 1943) اثناء زيارته لبولندا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، الى جانب التقرير الذي أعده يورغن شتروبس، الذي اعتمد عليه الكاتب في وضع مسودة لقصة قصيرة حول عمليات القتل .
عرضت المسرحية أول مرة في زيورخ في الثامن من شهر كانون الثاني من عام 1949 وبفصولها الثلاث، وبقت هكذا تعرض على الكثير من المسارح الأوربية حتى عام 1962، عندما حذف فريش الفصل الثالث منها، على اعتبار انه لايناسب الواقع الذي نعيشه.
الفصل الأول:
بدايات عام 1945: في سرداب بيتها (القبو) تخفي أغنس نفسها ومعها طفلها مارتين، عمره أربع سنوات،اضافة إلى غيتا، وهي إحدى معارفها. البيت يسكنه بعض من رجال الجيش الاحمر، حيث الضجة والاصوات العالية ترافقها طلاقات نارية. أغنس تأكد لهورست (زوجها) ، الذي هو في وضع مرتبك، والذي تمكن الهروب من الأسر، بأنها لازالت تحبه، رغم الفراق الذي كان بينهما منذ سنتين ومنذ وجوده على الجبهة الشرقية.
يهودا كراب، رجل يهودي من وارشو، وظيفته عسكري بسيط، يقوم بخدمة ضباط الجيش الأحمر، ينزل الى القبو في البحث عن الخمرة. وحينما يكتشف وجود أغنس في هذا المكان، راودته فكرة اخذها معه حيث تواجد الضباط في غرفة الجلوس. وحين طلب منها المجيء معه، طلبت منه، مع رجاء، انها ستأتي، ولكن ليس الآن .
اثناء هذا تهرب غيتا، التي كانت قد أغتصبت من قبل ستة عساكر من الجيش الروسي، ومعها الطفل مارتين.
هورست، الذي لازال بلباسه العسكري، لايمتلك الشجاعة بالخروج بهذا اللباس، طلب من غيتا أن تجلب له لباسا مدنيا ان أمكن.
أغنس وهورست يتعاهدان الوفاء والاخلاص، والموت سوية، إذا تعرضت اغنس إلى الاغتصاب. بعدها تترك المكان الى فوق، حيث غرفة الجلوس وتواجد الضباط.
شتيبان افانوف، عقيد روسي، يقوم بحماية أغنس، عند دخولها غرفة الجلوس، من محاولة اعتداء ثلاثة من الضباط عليها. أغنس تحاول اقناعه، بأنها ليست عدوة له، وأن لايكون هو كذلك، وان حضورها الى هنا، هو اعادة للموازين الانسانية، التي تعتمد على الثقة واحترام الآخر… ومن خلال حديثها الطويل وصمت شتيبان، حتى انها كادت ان تكشف المكان الذي يختفي فيه زوجها له، إلا انه تبين لها، بأنه لايفهم اللغة الالمانية. وحين دخول يهودا، طلبت منه ان يترجم له ما تقوله: „ بأنها على استعداد اللقاء معه (شتيبان) كل مساء، إذا وعدها، بأنه ومن معه سيتركون البيت في أقرب فرصة ممكنة، وأن لا يبعث أحد الى السرداب في البحث عنها.
الفصل الثاني:
بعد ثلاثة اسابيع من هذا الاتفاق، لازال كل من هورست وأغنس يعيشان في السرداب.
اغنس تلتقي كل مساء بشتيبان، حيث يتطور هذا اللقاء الى علاقة حب بين الاثنين، وتضطر أغنس الكذب عليه ( أي على زوجها)، حين يسألها هورست، عما يدور من حيث بينهما… لم تتحمل أغنس، نفسيا، الذي هي فيه، فتطلب فجأة من هورست أن يمنعها من الذهاب إلى هناك، إلا انه لم يفعل هذا، ويؤكد لها على ثقته بها، وما عليها إلا الذهاب الى هناك.
في غرفة الجلوس يتحدث يهودا مع هالسكا، وهو موسيقي معروف، كان يقيم الحفلات الموسيقة زمن الرايخ الثالث (عازف بيانو )، يعمل الآن عند الروس في صيانة البيانو ( ضبط الوتار وتصليحها). هالسكا يشعر، بأنه ضحية الظرف الذي عاشه، ولازال يعيشه، ولم يجد أي مبررا أو تفسيرا، مايؤخذ عليه ( انه لم يفعل غير العزف على البيانو. يهودا يروي ماعاناه من أعمال غير انسانية ووحشية في الغيتو (Ghetto) في وارشو، عندما أغرق الجيش الألماني المجاري (قنوات المياه)، وكل من كان يحاول الخروج منها والهروب، يطلق عليه الرصاص، إلا أنه استطاع النجاة من هذه المحنة، بعد ان تمكن الاختباء تحت جثث الموتى والهروب والتحاقه بالجيش الروسي. هالسكا يؤكد له بأنه لا علاقة له بمثل هذا الحدث، ويطلب منه بالكف عن ازعاجه وعدم الكلام معه حول هذا الموضوع، ومن الأفضل أن يوجه سؤاله الى الضابط أندرس، الذي كان حينها موجودا في وارشو، وهو الآن قابع في السرداب.
أغنس وشتيبان عند لقائهما يتحدثان كل واحد منهم بلغته الام، رغم صعوبة الفهم، مع هذا فقد يفهم واحده الآخر دون الكلام. أغنس تحدث شتيبان عن تأنيب ضميرها تجاه هورست. هو يغني لها ألحان من القِرِم تذكره ايام المقاومة، التي كان يقودها ضد الجيش النازي. هورست يفاجئهم بحضوره، مرتديا اللباس المدني، يسأل متى يتركون البيت. يهودا يتقدم، يكشف للحضور، بأن هورست كان في وارشو أثناء احداث التمرد في الغيتو، الا ان هورست يدافع عن نفسه، بأنه كان واحد من القوات المسلحة الالمانية، وانه اثناء هذه الاحداث، كان راقدا في المستشفى للعلاج… شتيبان يترك البيت مشمئزا.
بين أغنس وهورست صمت، شبيه بهوة عميقة، يفصل فيما بينهم….
الفصل الثالث (شطب من المسرحية عام 1962):
بعد سنة يصبح بيت أغنس وهورست مفتوحا لدخول وخروج الأمريكان ومعهم هورست ، الذي تطبع بسرعة على هذه العلاقات الجديدة… ( صفقات تجارية) اضافة الى الولائم وحفلات الرقص، التي في واحدة منها تتعرف أغنس على اوليفر، وهو شاب ينتمي الى واحدة من الطوائف الدينية ، حيث ترتبط به، بعد ذلك، بعلاقة حب.
ومن كثرة الحديث عن أحداث الغيتو في وارشو، يعترف هورست لها، بأنه كان قد شارك في اطلاق النار وقتل الأبرياء هناك، اضافة الى معرفته، طول الوقت، بعلاقتها مع اشتيبان…. وفي النهاية لم تتمكن أغنس من احتمال معرفة زوجها من تلك العلاقة، وما يدور في بيتها الآن امامها…. لم تتحمل مثل هذا الوضع، فتقوم بقتل نفسها ( الانتحار)
ملاحظة:
-الحوار بين أغنس وشتيبان يجري بلغة كل واحد منهم (الروسية/ الالمانية) دون مترجم.
-يتحدث يهودا (yiddischer Sprache)، التي يعود تاريخها الى العصور الوسطى، وهي وهي لهجة خليط من اللغة العبرية، واللغة الالمانية التي كانت متداولة في تلك الفترة.
- اختار المؤلف، قصدا، اسم أغنس لزوجة هورست، لأنه يعني باللغة الالمانية " البراءة والنقاء".
شخصيات المسرحية:
أغنس أندَرس، سيدة ألمانية
هورست أندَرس، زوجها
شتَبان إفانوف، ضابط روسي
ياهودا كارب، يهودي من وارشو
غيتا، ألمانية، من برلين
هالسكا، عازف بيانو
شخصيات ثانوية:
ثلاثة ضباط روس، طفل.
أحداث المسرحية : برلين، ربيع عام 1945.
الفصل الاول
المشهد الاول
حجرة (غرفة غسيل) في سرداب (قبو)
تسمع موسيقى عسكرية. أغنس جالسة ومعها قطعة قماش مرقعة تركتها تسقط على حجرها. الجميع يتصنت. عند نافذة القبو تقف غيتا، التي تتطلع إلى الشارع (تترقب). هورست واقفا، ماسكا بلطة بيده اليسرى، تبدو يده اليمنى مقطوعة عند المرفق، يرتدي لباسا عسكريا دون حزام ودون أي اشارة عسكرية (وسام، نِشان). تًسمع حركة الارتال العسكرية (منهوكة في سيرها). الطفل مارتين لازال في نومه.
غيتا: هم يتكاثرون (عددهم مستمرا الزيادة) (اعدادهم تتزايد).
صمت، موسيقى عسكرية
دبابات وقاذفات لهيب ترافقهم.
صمت، موسيقى عسكرية
مجاميع منغولية!
صمت، موسيقى عسكرية
أغنس:“ لقد كان زمن قاسيا. من الصباح وحتى المساء، طول اليوم، لا يسمع المرء غير سير أرتال كثيرة من الجيش المنتصر. سقطت المدينة. العدو هنا، ومثل دم نقي ترفرف أعلامه تحت هذه السماء المعتمة. حدث هذا في وضح النهار، في الربيع، في شهر آيار، مع هذا فقد كانت السماء مظلمة مغطات بالرماد والدخان، يحجبان اشعة الشمس من السقوط على الارض. في الشوارع جثث جنود ملقات في كل مكان، جنود غرباء وجنودنا، سوية جنب إلى جنب، دون أي تفرقة وآخرون معلقون على الأشجار، لأنهم رفضوا الحرب، وأرادوا العيش. من بعض السطوح لازال يطلق الرصاص بشكل عشوائي دون هدف معين، رغم ما أعلن، بأن هذه الحرب، اللعينة، ستنتهي بعد ساعات قليلة."
صمت…
سير الارتال العسكرية(منهوكة)
لكن الخوف لا ينتهي."
صمت…
سير الارتال العسكرية.
"قي صباح ما، كان يوم الأربعاء، وجب على أغنس ترك السرداب (القبو) والخروج لجلب الماء، بعد أن نفذت آخر قطرة ماء، وبعد أن كاد بغمى على الطفل من العطش. ربطت أغنس رأسها بمنديل قبيح الشكل حتى لا تثير اعجاب الروس. وحينما ملأت السطل وأرادت حمله، شعرت بثقله، وصار من الصعب حمله تقريبا، حلت المنديل من رأسها ولفته على سلك السطل كي لا تجرح اصابعها… وهكذا رجعت بتأني، حتى لا ينسكب الماء، وهي لا تعير الانتباه عما يحدث من حولها. وحينما وضعت السطل ثانية على أرض الحديقة، انتابها الذعر حينما لمحت رجلا واقف خلف شجرة الصنوبر. لم تصدق أغنس عينها، إنه زوجها لازال على قيد الحياة. أخذ السطل، وذهبوا سوية إلى البيت، باتجاه السرداب."
صمت…
صوت الموسيقى العسكرية يصبح بعيدا.
غيتا: هم مستمرون في سبرهم – نحو بوابة براندنبورغ (Brandenburg).
غيتا تعود تاركة النافذة. أغنس نعاود عملها في ترقيع أو الخباطة على قطعة قماش (أو قطعة من لباس قديم. هورست في الخلف، في واحدة من الزوايا.
هورست: إذا استمر المطر على هذا المنوال بضعة ايام أخرى، سنضطر للتجذيف… هناك في الخلف تتسرب المياه الى الداخل.
أغنس: مياه...؟
هورست: حبذا لو تكون مجرد مياه فقط…
غيتا تجلس عند أغنس.
غيتا: ما هذا الذي تفعلينه...؟
هورست: الحساء، نحن نعرفه! أشمَّ رائحة جثة عفنة ـــ .
غيتا: هل تطرزين (تُخيطين) الاسم...؟
أغنس: للحيطة والحذر،
غيتا: مارتين أندرس، برلين زَلندورف (Zehlendorf)، ولدَ عام ألف وتسعمائة وواحد وأربعين. أجد ما تقومين به، لهو مؤثر، حتى عام ولادته؟
أغنس: لدي من الوقت ما فيه الكفاية.
غيتا: من أجل ماذا...؟
تسمع ال (Balalaika)، يبدو أن الناس قد تعودوا على ذلك.
هورست: أنا في وضع لا يحسد عليه، لأني لا أملك غير هذا اللباس الذي عليَّ ( البدلة). لو كنت أعرف! بأن كل شيء قد احترق، ولم يبق حتى ولو بنطلونا، أو على الأقل معطفاــــ.
صمت، Balaladika.
في هذا اللباس يكون قد قضي عليَّ.
غيتا: تعرفون قصة غينتر، أليس كذلك...؟… أنها شبيهة لهذه الحالة. اختفى ثلاثة سنوات عن الأنظار، وكل واحد منا كان يعرف، بأننا كنا نخاطر بحياتنا. من أجل أي شيء! مرتين فتشوا البيت، والتلاعب بالمواد الغذائية (مؤنة، موادَّ التموين)، لأن غنتر ليس لدية بطاقة للتموين. ولكن الأصعب والأخطر من هذا كانت الصغيرة. الصمت والاحتفاظ بالسر! كان هذا شرطنا الوحيد، حتى ولو كانوا أقرب الناس إلى أبيها (اصدقاء أبيها). سأتحَمَّلَ مثل هذا الوضع والصبر، هكذا كان يقول دائما. لكن الصغيرة...؟ الصغيرة تذهب إلى بحيرة فان (Wannsee) للسباحة، وتذهب الى حفلات الموسيقى، وهي تعرف طوال الوقت، أن والدها قابع في القبو (السرداب). وراء أكوام الفحم، وكان عليها أن تحتفظ بالسر، ولاتترك أحد يشعر أو ينتبه لذلك…ثم… وفي الآخر التحرير (الخلاص): غنتر، الرجل الطيب، لم يستطع غنتر الانتظار، وأنت تعرفه، في الحال إلى الشارع، لأول مرة، منذ ثلاثة سنوات، أراد أن يعانق كل الجيش ـــ ثم، هنا يرى طفلته والجيش يحتضنها، وقف بينهم وبينها، طبعا كانوا كلهم سكارى ــــ لا يفهمون أي كلمة ــــ ضُرِبَ بأخمص (كعب) البندقية على رأسه ، وسقط.
صمت، تسمع موسيقى روسية (Balalaika)
ما عليك إلا أن تكون سعيدا، يا هورست، لأنك لازلت على قيد الحياة.
هورست: مثل فأر في المصيدة.
غيتا: لقد وجد واحدكم الآخر… وهذه لمعجزة حقيقية.
أغنس: وهذا ما أقوله أنا أيضا.
جيتا: لو أعرف، أين أوتّو ــــ
ضوضاء وضحك متواصل. يتطلعون إلى السقف.
كم هو عددهم، فعلا...؟
أغنس تهز منكبيها
منذ مساء الأمس...؟
هورست يتصنت عبر الجدار (الحائط).
أغنس: ليس بمقدورك سماع خطواتهم، إذا كانوا في الناحية الأخرى، في غرفة الضيوف….
إلى غيتا: في الدهليز (الممر) تسمع كل ضريه من ضربات أخديتهم بشكل غير معقول يثير الأعصاب، ونفس الشيء يجري في المطبخ. ولكن في غرفة الضيوف، حيث السجاد الكبير، ــــ لم يخطر هذا على بالي. لم نعرف طوال الليل، فيما إذا لازالوا هنا. لم تغمض لنا عين.
ضحكات وغناء.
غيتا: وهل تقصدين، بأن لا علم لهم، بأن يكون أي شخص في هذا البيت...؟
هورست يضرب بالفأس على الجدار (الحائط).
أغنس: دعك من هذا.
هورست: ألا تسمعين...؟
أغنس: لا فائدة من هذا، هورست، بهذا لا نغير من واقع الحال (مما نحن فيه).
هورست: يا لها من حقارة ـــــ
أغنس: لو يسمعوا هذا، سيأتون (ينزلون) إلينا. بالتأكيد.
هورست: بالأمس طوال المساء ـــــ
أغنس: ما داموا يرقصون، فإنهم لم يفعلوا شيئا غير هذا.
هورست: هنا!… هنا!…
أغنس: هورست...؟
هورست: هنا ــــ في كل مكان!…
أغنس: أرجوك.
هورست: جرذان ـــــ أليس هذه جرذان….
فجأة يصفر (يشحب) وجه أغنس.
أغنس: جرذان...؟
هورست يتصنت عبر الجدار (الحائط).
غيتا: إذا أطلق سراح أوتو، في يوما ما، أنا متأكدة (واثقة)، بأنه لازال على قيد الحياة، وإذا لم يجدني في البيت، أعرف جيدا، بأنه سيبحث عني عند أهلي، إذا نجا. وإذا نجونا. لكن كل هذا مجرد تفكير أو شعور خاليا من المعنى، ما دمنا نحن ننتظر وننتظر لأيام قادمة، لا تعرف إلى متى…
هورست: تأتي من هناك، من المكان الذي كانت المؤن فيه، في السابق. إنها كثيرة العدد.
أغنس: جرذان...؟
هورست: ماذا حدا بك...؟ لقد اصفرَّ ــــ
أغنس: لا شيء.
هورست: بسبب بضع من الجرذان...؟
أغنس: اسكت(اصمت)، أرجوك!
هورست: نحن نعرف هذه الحيوانات، إنها دائما هنا، تتواجد حيث مخزون المؤن الغذائية أو جثث ــــ
أغنس: الرجاء أن تسكت!
هورست: ماذا...؟
من جديد، ضوضاء كبيرة، أصوات عالية... يتطلعون إلى السقف، منتظرين حتى يعم الهدوء.
أغنس: على أية حال، أنا سعيدة، على الأقل ، لأن الصغير يستطيع النوم.
موجة جديدة من الضوضاء، الموسيقى عاليه.
غيتا: وهل أنت متأكد تماما، هورست، أن أختك (شقيقتك) لازال لديها بدلة على الأقل...؟
هورست: ما هو قصدك من " متأكد"…!
غيتا: قصدي فقط، هو: إذا كان ذهابي إلى بوت سدام يوفي بالغرض المطلوب، فأنا سأفعل هذا. لأنني أعرف، أن مصيري، في كل الأحوال، سيكون الهلاك بدونكم.
هورست: أنا لم أطلب منك أن تفعلي هذا لي.
غيتا: لماذا تعيد مثل هذا الكلام مرة أخرى.
هورست: لأنه ليس من طبيعتي (شيمتي)، أن أبعث آخرين من أجل غرض شخصي. صدقيني غيتا. ولم أفعل هذا أيضا، عندما كنت في الخارج. ( المقصود على الجبهة)
غيتا: أنا لم أقصد هذا.
هورست: لو لم يكن هذا اللباس ــــــ
غيتا: هورست، من الأفضل أن نترك الحديث حول هذا الموضوع!
تسمع طلقة نارية، تليها ثانية ثم ثالثة.
هورست: الآن يطلقون الرصاص ثانية على القناني. أو ربما لا يعلم إلا الشيطان على ماذا.
غيتا: المسألة هنا، إذا ذهبت إلى بوت سدام ولم أجد بدلة عند اختك ـــــ سأسرق واحدة، بمحض إرادتي، ولهذا فأنا أرى، في هذه الحالة، ليس من الضروري الذهاب إلى هناك… إنني سأفعل كل شيء، إذا كان هذا الفعل يخدم ما نصبوا إليه…. يجب علينا، بكل بساطة، الخروج من هنا!
هورست: هذا ما أقوله أيضا.
غيتا: في أقرب فرصة ممكنة!
هورست: وقتما يكون عندي بدلة. هذا ما أقوله طول الوقت: الابتعاد من هذا المكان، الابتعاد عن هؤلاء الروس الخنازير!
تتطلع أغنس عليه بدهشة.
أغنس: الآن تقول هذا أيضا...؟
هورست: لا أعرف، حقيقة، ما أعجابك بهم...؟
أغنس: أنا...؟
: هورست: نعم.
أغنس: أنا لا أعرف عنهم أي شيْ، سوى حديثك عنهم. في ذلك الوقت، أيام الاجازة. من رسائلك، ليلة عيد الميلاد عند الفلاحين الروس! حينها كنت قد عايشت وقائع (أحداث) مؤثرة ـــــ
هورست: في حينها.
أغنس: بشر رائع (عظيم)! كنت معجبا (متحمسا) ــــ
هورست: ربما. في السنة الأولى،
أغنس: عندما كان التقدم نحو الأمام.
هورست: وماذا تقصدين من كلامك هذا...؟
أغنس تلتفت من جديد إلى عملها.
غيتا: ربما أعثر على دراجة أيضا….
أغنس: الروس الخنازير، هل تعرف، يذكرني هذا عن اليهود الخنازير وعن الأشياء الأخرى، التي قالوها خنازيرنا ــــــ وما فعلوه.
هورست: ماذا تقصدين من كلامك هذا...؟
أغنس: نحن لم نر بعصنا الآخر مند زمن طويل، هورست، أكثر من سنتين ـــ
أغنس تتقدم نحوه:
أنت...؟
هورست ثابت في مكانه.
سنتان، أنها لفترة زمنية طويلة… مع هذا فإننا لم نتغير، بقينا كما نحن، وسنبقى هكذا سوية، يفهم بعضنا الآخر! أليس كذلك...؟
طرق على الباب، السكون يخيم على المكان ... يتطلع الواحد للآخر.
غيتا: أيها الرب في السماء!…
ثم يُسمع رج الأبواب المجاورة، في القبو، تليها بعد ذلك مباشرة ضربات قوية بالأرجل لفتحها. تصحبها لعنات وشتائم باللغة الروسية، على أثرها يستيقظ الطفل من نومه. أغنس تأخذه على الفور إليها. ثم يطرق من جديد على بابهم.
أغنس: من الذي يطرق (من هنا)...؟
تعطي أغنس الاشارة إلى الآخرين كي يختفوا ومعهم الطفل مارتين،
أغنس: ماذا تريدون...؟
تفتح أغنس الباب، يتدحرج إلى الداخل شاب في ملابس عسكرية، يبدو عليه السكر (مخمورا). مضطربا عاجزا عنالكلام تقريبا.
يهودا: مدام ـــــ
أغنس: هل تتكلم الألمانية...؟
يهودا: مدام ـــ أنا ماكنت أعرف، كنت أعتقد، أنه لا أحد هنا (في البيت)…
أغنس: كيف من فضلك...؟
يهودا: لا أحد بالبيت، كنت أعتقد.
أغنس: هل تريد خمرا...؟
يهودا: نحن نريد شلوم (سلام)…
أغنس: ما هذا...؟
يهودا: نحن نريد شلوم، ومعناه سلام...عشرين اسبوعا دون بيت (مأوى)، دائم في سفر من مكان لآخر (في تنقل)، مدام كوني طيبة...! نحن سعيدين في بيتكم هذا. انه مأوى لنا. والمدام ليس من المفروض أن تخاف. نحن لا نخرب البيت… ماتت الحرب! الحرب نُسيت (انتهت الحرب)! لن يموت بعد الآن أنسان ـ
أغنس: خذ هذه القناني.
يهودا: مدام...؟
أغنس: هذه آخر ما نملك.
يهودا: مدام، أنت إنسانه طيبه! كلكم اناس طيبين ـ
أغنس: من الأفضل حملها، هكذا، على ذراعك.
بهودا: سيضحك الرفيق الآمر! سيقول: رفيق يا له من يوم عظيم!
أغنس: هكذا ـ وهنا الزجاجات الاخرى.
يهودا: فقراء نحن، مدام، ليس عندنا خمرة (شراب)، نحن نعاني من العطش فقط!
أغنس: أنا افهم ما تعنيه.
يهودا: الرجال السكارى، هم دائما في عطش.
أغنس تمسك له الباب.
اسمي يهيدا كراب، يهودي، إلا أنني لم أرسل إلى المحرقة ـ
أغنس: فهمت.
يهودا: مدام، أنتِ تفهمين كل شيء!
أغنس تريد أن تغلق الباب من خلفه، إلا أن الشاب يعود ثانية، وتكاد القناني أن تسقط من بين يديه.
مدام!
أغنس: نعم.
يهودا: أليس للمدام رغبة للمجيء إلينا...؟ الجميع هناك، كلهم، من الضباط، إلا أنا. فأنا مراسل. الرفيق المسؤول انسان طيب، والجميع هناك يريدون الرقص… هل تشك المدام في كلامي هذا...؟ اليس للمدام رغبة بالمجيء...؟
أغنس: لا.
يهودا: سيكون الرفيق الآمر غير سعيد بموقفك هذا.
أغنس: لا تخبر عن وجودي هنا. اجلب الشراب لهم. السادة بانتظارها. انتبه من أن تتعثر على السلالم.
يهودا: سيستاء الرفيق الآمر….
يخرج يهودا، أغنس تقفل الباب، البقية تتقدم إلى الأمام.
أغنس: الآن، من الطبيعي، يعرفون، بأنني هنا.
غيتا: لماذا فسحت المجال له بالدخول...؟
أغنس: أفضل من فتح (تحطيم، كسر) الباب بالقوة ـ
هورست: كان من الأولى قتل هذا الصبي.
أغنس: هراء لا يجدي نفعا…
غيتا: إذا نزلوا إلينا، سأعض شريان يدي بأسناني وأقطعه، صدقي ما أقول. أنا لن أفعل هذا مرة أخرى! مهما كان الثمن! حتى لو أرادوا أن يطلقوا الرصاص عليَّ ـ لن أفعلَ هذا!
موجة من الصخب العالي.
هل تَسمعين...؟
هورست: عندهم الآن الخمرة.
غيتا: والنبأ بوجودنا.
صخب عال مخلوط مع الموسيقى.
أغنس: الآن يجب عليكم الخروج من هنا، والذهاب بأسرع وقت.
غيتا: لماذا...؟
أغنس: بهدوء، ودون اثارة اي ضوضاء!… مارتين، خذ الخبز، لا تأكله، إلا حين تكون جوعانً. فهمت...؟ ولا تفارق غيتا. كن دائما معها! لن يراكم أي أحد، إذا أخفيتم أنفسكم، ببساطة، خلف سلم القبو، وإذا رجع ـ سأدعه يدخل ـ هل فهمت، وفي اللحظة التي أغلق الباب فيها: اهربوا…!
غيتا: وإذا نزلوا كلهم الى تحت...؟
أغنس: وهذا هو الأفضل. سأتركهم يدخلون، حتى تذهبوا.
غيتا: وأنت...؟
أغنس تجلس على ركبتها، إلى جانب مارتين.
أغنس: مارتين، سنلتقي ثانية ـ
مارتين: أعرف هذا، ماما.
أغنس تقبله، تبكي، تنهض.
أغنس: الآن ـ هيا...!… بسرعة
غيتا: وأنتم...؟
أغنس: سنأتي، إذا سنحت لنا الفرصة المناسبة. وإذا تمكن هورست من الحصول على بدلة.
غيتا: سأحاول بشتى الطرق ـ
تفتح أغنس الباب.
أغنس: بشت (اش)
تخرج غيتا ومعها مارتين. تغلق أغنس الباب. تقف ماسكة شفرة بيدها.
آملَ أن يكون هذا صحيحا…. (آمل أن يكون ما فعلته صحيحا)
هورست: ماذا تقصدين...؟
أغنس تبقى واقفة عند الباب.
أغنس: „ مارتين أندرس، ولد عام ألف وتسعمائة وواحد وأربعي
ن، برلين تسَليندورف (Berlin Zehlendorf)، آخر مرة شوهد فيها، يوم الجمعة هذه. ضاع (فقد أثره) عند طلوع الفجر. ضلَّ طريقه وسط الخرائب، وسقط في احدى الحفر العميقة، حيث لم يكن بمستطاع أي انسان سماع صوته، ستة أسابيع ظلَّ مفقودا. عثر عليه كلب في اللحظات الأخيرة التي كاد فيها أن يفقد حياته. عمره أربع سنوات.“
أغنس تخفي وجهها بين يديها.
هورست: ما بِك...؟ أغنس...؟
أغنس، بعد أن هدأت نفسها.
أغنس: أين هي الحقيبة الرصاصية...؟
هورست: لماذا ـ
أغنس: وجدتها، شكرا.
هورست: هذه وصمة عار بحقي، وأنت تعرفين، حين تركت هذه المرأة الذهاب الى بوت سدام من أجل بدلة لي. كل شيء يجب ان يفعله الآخر لي.
أغنس: خذ هذا الروب (Bademantel)، العائد لك.
هورست: لماذا...؟
أغنس: البسه على لباسك هذا!
هورست: الآن...؟
أغنس: حتى لا ير أحد ملابسك. واترك هذه الفأس الملعونة تختفي عن الأنظار، هورست، الرجاء… هذا لا يجدي نفعا. انهم سيطلقون عليك الرضاض بكل بساطة (سيقتلونك).
هورست: أنا لم أتعود على مثل هذا ـ
أغنس: عن ماذا...؟
هورست: أن يفعل الآخرين كل شيء لي. في العراء، في ساحة المعركة، من الممكن القول، بأنني لم أكن عاجزا، فكل واحد منا فرض عليه الاعتماد على النفس: حل أي مشكلة يقع فيها، والدفاع عن النفس بأي شكل من الأشكال. وحينما فقدت ذراعي…
هورست يرتدي الروب (Bademantel)
هل من الممكن مساعدتي في ريط الحزام لي…:
أغنس تقوم بربط الحزام.
صحيح ـ شكرا!… ماذا ستفعلين...؟
أغنس تتصنت.
الآن قد خيم الهدوء.
أغنس: هل أغلقت الباب (تربست) verriegelt...؟
هورست: لتوي.
أغنس: أذا جاءوا مرة أخرى، عليك أن تخفي نفسك على الفور ـ
هورست: وأنتِ...؟
أغنس: المهم، انه لا يجوز أن يراك أي واحد منهم، بأي حال من الأحوال!
أغنس تتصنت عبر الحائط ( تضع إذنها على الحائط للتصنت)
هورست: على أية حال سيتركونا، هنا، نهلك.
موسيقى وغناء (Balalaika und Gesang)
أغنس: هل عندك سكارة بعد...؟
يعطيها هورست سكارة.
ربما سننجوا مرة أخرى. وحين اتذكر، كيف قضيت كل هذا الوقت في هذا السرداب، أقول إن الحظ كان من جانبنا، مقارنة بالناس الآخرين.
هورست: ربما.
أغنس: في ذلك الوقت، في سيلت ـ هل تتذكر...؟ أنتِ امرأة محظوظة، هكذا كنت تقول دائما. هذه الاسابيع الاربعة كلها في ستلي. وكيفية عودتك من فرنسا، واعتقادنا بأن الحرب قد انتهت. في هذا الروب تعرفت عليك. هل تتذكر...؟ وإذا ما عادت بي الذاكرة اليوم…
يجلب هورست علبة رماد الموقد…
ما هذا...؟
هورست: رماد.
أغنس: لماذا…
هورست: أن تلوثي نفسك.
أغنس: لم أفعل هذا أبدا.
هورست: أغنس...؟
أغنس: أنا لست بخنزيرة. لماذا يجب عليَّ أن أبدو قذرة وسخة كما هو الخنزير...؟
هورست ينظر اليها، ثابت في مكانه.
دع غيتا تروي لك، كيف أنقذها الرماد!…. خمسة جاؤوا إلى السرداب (القبو)، وعندما أرادت الدفاع عن نفسها، أخذوا سكينة، محاولة منهم في تقطيع البنطلون، لم يفطنوا على فتحة البنطلون (Reißverschluss). ماذا كان بإمكانها أن تفعل...؟ ضد خمسة من السكارى. ـ على الأقل، إنها قد أنقذت البنطلون، البنطلون الوحيد، الذي لا تملك غيره.
أغنس تسحق السيكارة.
بعدها جاء الضابط، وكان على الأقل غير مخمور، وأوضحت له، كل ما جرى لها… طبعا بعث الجنود إلى الخارج… وعلى أية حل، كان السادس. رغم وجهها الملوث.
تنهض أغنس وتبقى عند النافذة.
ماذا تريد.
أغنس ترجع، ترى نصف السكارة على الأرض. تلتقطها وتنفخها
لماذا تتطلع إليَّ هكذا...؟
هورست يعطيها النار من جديد.
السكارة الاخيرة ! ليس من الواجب رميها على الارض…
هوست: لم أقصد هذا.
أغنس: وإنما...؟
هورست يجلس بجانبها.
هورست: أغنس، من حقي، أن أسأل، كما أعتقد، دون أي إهانة، ربما تثير مشاعرك. ـ
أغنس: ماذا…!؟
هورست: نحن لسنا سوى بشر. قصدي، السؤال الذي طرحته عليك بالأمس… فيما إذا كان حُبُك لي كما هو، مثل ما كان في السابق ـ ليس من الضروري أن توضحي لي، ماذا كان، فقط نعم أم لا.
أغنس: لم أفعل أي شيء، هورست.
هورست: أبدا…
أغنس: أعرف، أنك لا تصدق هذا.
هورست:سنتين، إنها لفترة زمنية طويلة.
أغنس: بالتأكيد، نعم! إذا كان المرء لا يعرف في كل مساء، فيما إذا سيرى الصباح… لماذا لا تصدقني...؟… لقد عانينا الكثير هنا، وليس هناك أي حجة أو مبرر أن تحكم على امرأة نقضت العهد، وفعلت شيء آخر. كنت لم أعرف، إذا أنت لازلت على قيد الحياة. لم أطلب منك أن تسمي هذا وفاء أو ما شابه ذلك، كل ما كان يدور من حولك يثير الخوف، مفزع ورهيب… مرعب ـ لا أعرف ـ في الواقع ليس من السهولة (يعجز الانسان) وصف كل شيء، فكل ما يمكن قوله، كنت لا أريد الهلاك، وإنما كنت أريد العيش…. البقاء على قيد الحياة فقط ـ .
هورست: أغنس!
أغنس: هل تفهم، ماذا أعني...؟ دون أمل، ربما في يوم ما ستعود ـ
طرقات على الباب، يتصنتون، ، صمت (يتوقفون عن الكلام)، زمجرة صوت..
لحظة!
يخفي هورست نفسه، تفتح أغنس الباب. يهودا يدخل.
يهودا: مدام ـ
أغنس: ماذا...؟
يهودا: الرفيق الآمر ـ
أغنس: تريدون خمرة مرة أخرى...؟
يهودا: لا خمرة، وإنما نريد المدام (نحن بحاجة إلى المدام)
أغنس: دع هذا!
يهودا: ليس أنا! الرفيق الآمر ـ
أغنس: لست بحاجة إلى ذراعك.
يهودا: بلى، تحتاجين.
أغنس تتركه واقفا…
أغنس: ما هذا الأمر...؟
يهودا: أمر...؟ أي أمر...؟ لا أحد يأمر هنا. الحرب انتهت. أمر...؟ رغبة الرفيق الآمر، أن يرى المدام ـ
أغنس: من أجل أي شئ...؟
يهودا يبتسم.
وإذا لا أريد المجيء...؟
يهودا: سيكتئب الرفيق الآمر… سيكتئب. الرفيق الآمر سيأتي بنفسه إلى هنا.
أغنس: إلى هنا...؟
يهودا: من أجل أي شيء تنتظر، المدام...؟ هناك فوق (في البيت) أجمل من هنا، هناك في البيت سجاد مفروش، مدام. في السرداب الأرض صلبة ومكان سيء وقذر، تنعدم فيه الراحة. أنا أعرف السرداب، مدام، فقد كنت فيه (عشت فيه)…
يهودا يضع يده على كتفها.
من أجل أي شيء تنتظر، المدام...؟
أغنس: لا تلمسني ـ هل فهمت!
أغنس تبتعد ثلاث خطوات عنه.
أعنس: هل يتكلم الألمانية...؟
يهودا: من...؟
أغنس: الآمر.
يهودا: طبعا! كما ( مثل) الكتاب. فهو يضمر حبه الكبير للكتب. ويحترم الفكر ـ وكان قد سمع السمفونية التاسعة لبيتهوفن! قال مرة ما، انه لا يسمح، بأن تحرق الكتب. والكتاب الالماني، كتاب جميل بالنسبة له… هو لا يريد غير ان يتحدث معكم، مدام.
أغنس: حقا...؟
يهودا: غوته، يوهان، يوهان ولفغانك غوته! وماركس، كارل ماركس، هيغل، غيرهارد هاوبتمان: فيبر، اينشتاين، أوسيتسكي، كل حاملي جائزة نوبل ـ كل اللغة الألمانية...!… هل ستأتي المدام...؟
أغنس: ليس، هكذا، في الحال.
يهودا: لماذا لا...؟
أغنس: بعد نصف ساعة. يجب أن أغير لباسي
يهودا: المدام شابة وجميلة!
أغنس: بلغ السيد، ما أقوله: أرجو أن يمنحني نصف ساعة من الوقت.
يهودا: سيكون الرفيق الآمر مسرورا.
أغنس: تفضل.
أغنس تفتح الباب.
يهودا: بعد نصف ساعة...؟… الرفيق الآمر سيكون هنا، بعد انتهاء الوقت المحدد.
الرفيق الامر لا ينتظر أبدا.
يهودا يخرج.
هورست: لن تذهبِ.
أغنس: كم الساعة، عندك، الآن...؟
هورست: أغنس، ما تفعلينه الآن، ما هو إلا جنون ـ
أغنس: وإذا نزلوا إلى هنا...؟
تذهب أغنس إلى الباب ... تفتحه.
لا وجود لمارتين وغيتا فقد انضرفاـ .
أغنس تأخذ حقيبة وتفتحها
وإذا كان صحيحا، أنه يفهم الألمانية ـ فهذا هو أملنا الوحيد الآن. سأتحدث معه.
هورست: عن ماذا...؟
أغنس: لا اعرف ( حول أي شيء)…
هورست: ألا تسمعين، كيف هم سكارى...؟ ألا تسمعين...؟
أغنس تُخرج ( من الحقيبة) رداء سهرة (رداء مخصص للحفلات).
ماذا تفعلين...؟
أغنس: سأقوم بترتيب مظهري بشكل مناسب قدر الامكان ـ
أغنس تمسح حذائها
إذا تريد مساعدتي بالفعل، أعطني الحذاء الآخر، الاسود. من المفروض أن يكون في الحقيبة ايضا ـ
أغنس تنظف ردائها.
هورست: وإذا لم يستمعوا إلى ما تقولين...؟ وإذا مارسوا، بكل بساطة، العنف معك...؟
أغنس واقفة بملابسها الداخلية.
أغنس! سيكون هذا فاجعة بالنسبة إلي. هل تفهمين...؟ فاجعة لن أتحملها!
أغنس: ليس لك فقط، وإنما لي أيضا.
هورست: سأنتحر (سأشنق نفسي)ـ
تتقدم أغنس نحوه.
أغنس: هورست...؟ كلانا، أنت وأنا، لن نتقبل مثل هذا الوضع… هذا واضح.
أغنس تمسكنه من اكتافه. موجة من الضوضاء تسمع من فوق، ضحك وغناء. هورست يتطلع إليه. تخفت موجة الضوضاء ولم يسمع سوى الغناء.
دعنا نفكر بالعقل.
هورست: أنتِ تحلمين!
أغنس: أنريد أن ننتحر (نشنق أنفسنا)...؟ الآن في هذا المكان (Waschküche)...؟ وكل شيء حتى الآن ـ حين أتذكر أريكا… لماذا لم يضع الانسان حدا لحياته من قبل...؟
هورست: لماذا أريكا...؟
أغنس: أريكا ليس عند الجدّ والجدّة ـ
هورست: وإنما...؟
أغنس: كنت قد كذبت ولم أقل الحقيقة.
هورست: أين...؟
أغنس: هناك، حيث تكون الجرذان.
هورست: أريكا…
أغنس: طربيد. في اليوم الحادي عشر من شباط. أردت أن أخبرك في الوقت المناسب.
هورست: وهذا ايضا.
أغنس: سأتحدث معهم. سأُحاول. وإذا ما كان ذهابي عبثا دون أي نتيجة، ولم يحالفني الحظ في ذلك ـ لم يتخلَ واحدنا عن الآخر، هورست… فهمت...؟ وإذا كان من غير الممكن، إلا إذا مشينا على الأربع: إذا أبدا، لن نفعل هذا!
أغنس تصوب نظرها إلى عينيه
أغنس: أبدا
هورست: أبدا
أغنس تقبله على جبينه، كما يقبل المرء شخصا، حين يعاهده، أو يودعه. موجة من الضوضاء تسمع من فوق. تأخذ أغنس رداء السهرة لتلبسه.
أغنس: قل لي، كم عندي من الوقت بعد.
المشهد الثاني
غرفة الجلوس
على الأقل اربعة سكارى روس (بدى على بعضهم علامات السكر الشديد) يتبادلون الحديث مع بعضهم البعض بهذا الشكل تقريبا: بيوتر، شاب أشقر، يبدو انه الشخص الوحيد، الذي من الممكن المزاح معه ومشاركته الضحك، يجلس الي البيانو يعزف الموسيقى الروسية في مقطعها الأخير (Balalaika)…. بعدها يخيم الهدوء. الشخص الآخر، أوسيب جالس على كنبة ، يتطلع على ساعته.
أوسيب: نصف ساعة...؟إذا لم تأت، الرفيق الآمر، بعدها اجلبها إلى هنا من شعرها.
الآمر، الجالس على كرسي مبطن، لا يرد عليه، يملأ قدحه ويشرب لوحده. الجميع بدون السترة العسكرية (كانوا قد نزعوا سترهم العسكرية). الثالث، ميهايل ، مشغول بالغراموفون (Grammophon)، يقرأ الاسطوانة، يريد أن يضعها:
ميهايل: ثلاثة اوبرات عظيمة.
تبدأ الاسطوانة بالدوران ، اثناء ما كان يتصفح في ألبوم الاسطوانات، يسحب كل مرة واحدة، يمسكها عاليا، أوسيب، المضطجع على الكنبة، يطلق رصاصة من مسدسه عليها، فتتحطم واحدة تلو الاخرى.
صوت الغراموفون: وسمك القرش، الذي عنده اسنان
ويحملها في وجهه
وماخيات، الذي عنده سكينة
غير أن السكينة لا يراها أحد
طلقة عيار ناري
أه هي زعانف سمك القرش
حمراء، حينما تسيل الدماء
سكينة ماكي محمولة داخل القفاز
كي لا تعرف الجريمة
طلقة عير ناري
على التايمز مياه ماء أخضر
تتساقط الناس فجأة
انه ليس الطاعون أو الكوليرا
وإنما يقال: ماخات يطوف هنا.
طلقة عيار ناري
والحريق الكبيرة في سوهو
سبعة اطفال ورجل عجوز
وسط الجموع سكينة ماكي
واحد يسأل، والآخر لا يعرف ماذا يجيب.
طلقة عيار ناريه، تخطيء الهدف هذه المرة، وتبقى الاسطوانة كاملة. يضحكون ويتتبعون الاتجاه الذي انطلقت منه الرصاصة.، التي وجدوا أنها قد اخترقت الباب من جهة اليمين، حين يشر بيوتر بإصبعه الى المكان، ينهض أوسيبي مترنحا، يفتحون الباب الذي يؤدي الى فراغ: جفلوا في مكانهم، وبدى عليهم الصمت والدهشة وهم يرون الدمار… منظر من الخرائب في كل مكان، عند المقطع الأخير من الاسطوانة:
والأرملة القاصرة (minderjährige)
التي يعرف كل واحد اسمها،
تستيقظ، وكان قد انتهكت حرمتها ـ
ماكي، بأي ثمن كان هذا...؟
صمت
شتيبان: برلين ـ.
الآمر يبقى جالس.
ارجعوا، ارجعوا، الباب يبقى مغلوقا.
أثناء هذا تدخل أغنس، ترتدي الرداء الطويل المخصص للحفلات المسائية، إضافة إلى معطف من الفرو الابيض. لم ينتبه لها أحد على الفور، إلا بعد أن أغلقت الباب، وحينما نظر إليها بيوتر.
بيوتر: آه…. امرأة… امرأة جميلة!
أغنس: عذرا، يا سادتي، إذا كنت قد أزعجتكم.
ينهض شتيبان. بيوتر يجلس إلى البيانو على الفور، ويبدأ بعزف ألحان هورست فيسل، مما دفع أوسيب إلى سحب سكينته، والاتجاه الى خلف البيانو والقيام بقطع أوتاره، واحد تلو الآخر، حتى صار من الصعوبة الاستمرار بعزف اللحن.
لقد طُلب مني الحضور. اسمي اندَرس، أغنس أندَرس. قيل لي أن الآمر يريد الحديث معي (التحدث معي).
بيوتر: السيده المحترمة!
أغنس: دع هذا.
بيوتر: أوهو (Oho)
أغنس: أبعد يدك عني، لا تلمسني، أرجوك.
بيوتر يمد يده إلى ردائها.
بيوتر: ادخلوا، أيها الرفاق، ادخلوا.
بيوتر يرفع ردائها، فيحصل على صفعة منها على وجهه (Ohrfeige)
أغنس: لقد قلت لك أن تترك هذا.
أثناء هذا يقترب اوسيب إليها، الذي أطلق الرصاص على الأسطوانات وقطَّع الأوتار، ووجهه محمرا من الغضب، يريد أن يريها، بأن هناك حدود ليس من المسموح تجاوزها، يمسكها من معطف الفرو.
اوسيب: ماذا تعتقدين...؟ تعتقدين، بإمكانك ضربنا على أفواهنا، أنت، أيتها الألمانية الخنزيرة القذرة.
اوسيب يرفع ردائها كذلك، تصفعه على وجهه. في الحال يوجه المسدس إلى صدرها. أغنس تغمض عينيها. يضرب شتيبان على المسدس بيده، فيسقط على السجادة ويقوم الآخرين بمسك اوسيب. وسط هذه الضوضاء يظهر يهودا أيضا.
شتيبان: ابعدوا المسدس (خذوا المسدس)
اوسيب: من هو المنتصر، أنتِ أم أنا...؟
شتيبان: اخرجوه من هنا (ارموه إلى الخارج)
اوسيب: ألمانية خنزيرة، آريه قذره.
شتيبان: اخرس.
أغنس تنظر إلى يهودا.
قل للسادة، إنني أريد الحديث مع الآمر لوحدنا.
شتيبان: اخرسوا. وليبتعد واحد عن الآخر. هذا أمر. ان الذي يتجرأ ويمس هذه المرأة، سيطلق الرصاص عليه في الحال.
سمعوا ما قاله الآمر. تركوا الغرفة في الحال. وآخر من خرج هو يهودا. يغلق الباب من ورائه. لم يبق سوى أغنس وشتيبان.
أغنس: شكرا جزيلا.
شتيبان يشير إلى الكرسي.
سأبقى واقفه.
شتيبان يرتدي سترته العسكرية.
لو لم تكن الآمر بالفعل ـ مع الافتراض، بأن الشاب لم يكذب… فلم يكن من المفرض عليَّ المجيء إلى هنا. أخذتم بيتنا، الحرب هي الحرب هي الحرب، فلم أطالب هنا بشيء، وهذا واضح بالنسبة لي ـ .
شتيبان يقدم لها سيكارة.
لا شكرا.
يأخذ شتيبان لنفسه سيكارة.
لا اعرف، من أجل أي شيء طلبت حضوري إلى هنا. وكما يبدو هنا ـ وهذا معناه، وكما اتصور. كلكم رجال، وأنا امرأة وحيدة، ليس بمقدورها الدفاع عن نفسها… وإذا كانت هذه هي رغبتكم (نيتكم): سأقطع الوريد بأسناني، وهذا كل ما يمكنكم الحصول عليه.
يشعل شتيبان سيكارة له.
مجيئي إلى هنا، هو الاستماع إليكم.
شتيبان ينظر إليها وهو يبتسم.
أنا أقدر صمتكم هذا، سوء ظنكم ـ بعد كل وقع في هذه السنين… أنا أتحدث معكم بلغة، وانا أعرف ، أنها من الممكن، أن تثير الكراهية والاشمئزاز لديكم …. في الحقيقة، لا أعرف ماذا يجب أن أقول لكم. ما دمت أتكلم هذه اللغة ـ وهذا الشيء الوحيد، الذي تسمعه عبر كلماتي: هو انني ألمانية…
شتيبان صامت يدخن سيكارته.
أنا ألمانية. نعم.
شتيبان صامت يدخن سيكارته
تصوروأ، أن زوجي كان في الجبهة الشرقية. إذا فهو عدوكم. من الممكن أن أريكم رسائل كتبها، في تلك الفترة، التي كان فيها في أوكراينا ـ هناك في موضوعة في طاولة الكتابة ـ هناك حيث تجلسون انتم ، حزمة بكاملها...لو تقرأون، ماذا كتب في حينها، ربما ستصدقونني، بأننا لسنا هكذا، مثلما يصورنا الآخرون، بأننا أعداء: دون تميز، والكل على السواء. لا يوجد شعب ـ هكذا ببساطة! لم أصدق مطلقا بمثل هذه الأوهام وكل ما كان يقال، وإلا لما وقفت هنا، أيضا: أمام رجل روسي، حيث أعرف جيدا، ما حدث لصديقتي، إلى جانب الكثير من الأعمال القذرة الاخرى ـ انسان مثل غنتر، الذي كان اشتياقه لكم لا يعادله اشتياق أي شخص آخر: يخرج من السرداب، ويضرب بقاعدة البندقية، ولا أحد يسأل عنه !… عموماـ ـ
شتيبان بصمت يدخن سيكارته.
لماذا هذا...
شتيبان صامت يدخن.
اعرف، أنك تفكر بطريقة تختلف عما يفكر به البعض. ربما بإحساس آخر ـ وفي قرارة نفسك تهزأ مني. أنني لا أعرف، كيف أفكر، إلا أنني متأكدة، بأن مثل هذه الحالة لن تستمر على هذا المنوال ـ آه يا إلهي! ان مثل هذه الأقوال، التي تداولت، ولا زالت تتداول في أفواه الجميع، التي ليس لها أي قيمة… عبث: كأننا لسنا بشعوب من لحم ودم. أنت وأنا…
شتيبان ينهض، يتجه نحو النافذة. يرمي سيكارته إلى الخارج.
لماذا هذا الصمت، ألا تريد الحديث معي...؟
أغنس تجلس، شتيبان يقف عند النافذة، ساند نفسه على حافتها، وهو لازال يتطلع إليها.
عندما كنت طفلة، عشت أيام طويلة في الصين، حيث كان والدي يعمل هناك في واحدة من الشركات الالمانية (Norddeutschen Lioyd)، وكان عندي ذلك الوقت أحد عشر سنة من العمر ـ مرة ما ضعت طريقي ، ووجدت نفسي في حقل من حقول الرز، لا شيء من حولي سوى شتلات الرز. لم أشعر بمثل هذا الرهبة من قبل: فجأة حين ينتابك التفكير، بأنك وحيدا في هذا الفلك تحت قبة سماوية صافية مرصعة بالنجوم ـ أناـ يومان وليلتان، تحت سماء صافية، لا غيم يحجب الشمس والقمر، وشتلات الرز والماء… فيما بعد عثر علي رجل صيني، صدفة، وكان واحد من المشردين، الذين لا مأوى لهم، والذي لم أتمكن الحديث معه، حتى ولو كلمة واحدة أو النطق باسم ما. ولكن في تلك اللحظة لم يخطر على بالي شيء ما أبدأ (لفت نظري ـ ملفت للنظر). تعرف، هذا ما تعودت عليه ( تعلمته هناك في بلدنا)، إلا عندما ظهر هذا الانسان من بين شتلات الرز… حتى ذلك الوقت، كنت ألاحظ، دائما، فقط، بأن لهم عيون تختلف عنا، وبشرة الجلد أيضا، ورأس أصلع خالي من الشعر، ولأول مرة ـ على فكرة، انه لم يكن شخص ذو خصال حميدة، لأنه ابتز والدي ، بأن يدفع له مكافئة مالية، مشين! ولكنه انسان، كائن مثلي… لا أعرف، إذا كنت تدرك ما أقصد...؟ لازلت أتذكر، حتى يومنا هذا، كيف أتى عبر الحقل، فجأة، أولاً الرأس الأصلع، ثم الأذرع، وفي الآخر كامل جسمه النحيف… إذا ما صرخ انسان، وإذا نزف دما ـ مثلا ـ فأنني لن أسأله في مثل هذه الحالة، عن أنفه، عن لغته، عن آرائه ووجهات نظره، عن مكان ولادته ـ هذا ما أفكر به أنا على الأقل..
ستيبان يستدير، متجها نحو البيانو.
لا أعرف، ما موقفك (رأيك) من مثل هذه المسألة.
شتيبان يجلب زجاجة وقدحين.
إذا تريد قراءة الرسائل ـ هناك في طاولة الكتابة ـ ربما تصدقني، بأنه هنا في هذا البلد، ايضا، بشر لا يمكن (من المستحيل) لجم افواههم ببساطة، مثل صمت حيوان…. مع من أتحدث أنا هنا! مع جماد لا ينطق ولا يسمع…
شتيبان قدم لها قدح وقد مليء بالشراب.
لي!… لا شكرا
شتيبان: جيد ولذيذ الطعم!
أغنس: شكرا...أنا أعرف هذا النوع (Marke) جيدا.
يرفع شتيبان قدحه منتظرا.
صدقني، أنا لا أريد. يجب أن تعذرني.
شتيبان يشرب لوحده… أغنس ماسكة القدح المملوء.
لماذا هذا الصمت، لماذا لا تتكلم، لتقول رأيك...؟ عندما طلبت إليَّ بالمجيء إلى هنا… كنت تعتقد: امرأة ، مغامرة (مجازفة)، هذا يمكن أخذه من الأعداء!… وهنا أتيت، وهنا أقف أنا- تسخرون !… بعد كل ما عانيتموه من بشر يتكلمون لغتي – ربما قد اقسمتم في نهاية الامر، بأنكم لن تتحدثوا، ولو كلمة واحدة، مع بشر من أمثالنا، وقد تكون لديك أدلة على من يقف أمامك - .
تضع أعنس قدحها.
وإذا أعطيتكم الدليل...؟
شتيبان يملأ قدحه من جديد.
إذا منحتكم كل ثقتي، واثبت لكم، بأنني أضع مصيرنا بين أيديكم – دون أي خداع أو مراوغة – هل ستصدقونني، بأن بقية ما سأقوله ليس كذبا...؟ موافق...؟ إذا قلت لكم – مبدئيا بأن الأمر يقع علي في صنع نوع من المصداقية (الثقة) فيما بيننا، وفي هذه الحالة عندكم الحق… وإذا قلت لكم بكل صراحة: زوجي -
أغنس تتردد، شتيبان يشرب.
زوجي، هناك، يجلس في السرداب.
شتيبان يمسح فمه.
هو عقيد، أقصد كان عقيدا. قبل سنتين، في تلك القترة بالذات، كان قد بُعِث إلى ستالينغراد، وكان قد وقع في الأسر، ولم أعرف في أي مكان، ولم يتحدث معي حول هذا. كنت لا أعرف أبدا، فيما إذا كان على قيد الحياة… بالأمس، حينما جلبت الماء فُجئت بوقفته في الحديقة، طوال الليل، قال، انه اخفى نفسه خلف شجر الصنوبر، لأنه كان يجهل، من يكون في هذا البيت، وفيما انا لازلت على قيد الحياة… تصوروا، ماذا يعني هذا له…! لم يفقد غير ذراعه الايمن ولا شيء غير هذا. وقبل شهر هرب من الاسر أثناء عملية نقل الأسرى، هكذا قال لي.
شتيبان صامت وهو يتطلع عليها.
وهذا كل ما يمكن أن أقوله ـ .
شتيبان يملأ قدحه للمرة الثالثة.
لو لم يكن هورست، لما كنت أعرف، كيف كان من الممكن لي تحمل كل هذه السنين ـ من الطبيعي هناك بشر، مثل هورست ـ كما تعرفون، ليسوا بملائكة، وإنما أرادوا الحياة، وليس الهلاك …. طبعاـ الكثير منا يعرف أمثال هؤلاء البشر… لا اعرف كيف يمكن للإنسان أن يحصل على الثقة، والحفاظ على ماء الوجه، كما هو في زمننا هذا! وفي هذا البلد بالذات!… من أين لي الشجاعة أن أقف هنا، وأن اطالب، أن نعامل كبشر…
شتيبان صامت، يشرب.
إذا كانت رغبتكم، أن نترك هذه الدار، لأن وجودنا يزعجكم اسألكم ـ هل من الممكن، على الاقل، البقاء في السرداب...؟ قولوا لي صراحة.
شتيبان يشرب ما في القدح، وهو صامت.
نعم أم لا...؟
شتيبان صامت. أغنس تجهش بالبكاء
آه يا إلهي...! ماذا تريدون مني بعد...؟ الركوع والتوسل إليكم، كي تردوا على...؟ ماذا فعلت بكم إذا...؟
ينهض شتيبان، والحيرة بادية عليه، وإشارات تثير الدهشة والاسف.
لا تتظاهروا، فأنا أعرف تماما، أنكم تجيدون اللغة الالمانية ـ
شتيبان: يهودا...؟
أغنس: ولربما كان الشاب قد كذب علي...!
شتيبان: يهودا...؟ يهودا ـ
شتيبان يتجه نحو الباب، يفتحها، تشمع من جديد موسيقى وغناء الآخرين.
أغنس: كلاب! حقراء ـ
أغنس تعدو إلى الباب الآخر، من حيث كانت قد أتت، تجده مقفول. تعدو إلى الباب الثالث، الذي يؤدي إلى الخارج، تحاول فتحه برجة من يدها… لا فائدة.
حتى هذا ـ
يعود شتيبان بصحبة شاب يرتدي مريلة، يحمل بيده مقلاة وخرقة من القماش. اثناء هذا رصدت أغنس مسدسا ملقى على السجاد، تأخذه وتخبأه تحت معطفها.
لقد أوقعتني في الفخ...! فهو لا يفهم أي كلمة، أبدا، كل شيء كذب...!
يهودا: مدام ـ
أغنس: أنت… أيها الكلب اللعين، أنت …!
يهودا: المدام لا يروق لها الهزار...؟
أغنس: ألا تخجل من نفسك…
يهودا: الرفيق الآمر يقول لكم، انه سعيد بوجود المدام هنا.
أغنس: شكرا.
يهودا: انه مسرور جدا، يقول الرفيق الآمر. عليَّ أن اقول هذا مرة أخرى، فمن واجبي ترجمة كل شيء.
أغنس: ماذا...؟
يهودا: كل شيء.
شتيبان يشير إلى الكرسي، أغنس واقفة.
أغنس: اسأله، كم هي المدة، التي سيقيمون السادة فيها في بيتنا.
يهودا: هي تريد أن تعرف، المدة، التي سنبقى بها هنا.
شتيبان: لا أعرف.
يهودا: إنها خائفة من وجودنا هنا.
شتيبان: ثلاثة أسابيع، أربع…
يهودا يلتفت إلى أغنس.
يهودا: الرفيق الآمر لا يعرف بالضبط. الرفيق الآمر يقول ثلاثة أسابيع، أربعة أسابيع ـ لا يعرف.
أغنس: قل للسيد العقيد، انني اقترح كالآتي ـ
أغنس تتوقف عن الحديث، عند ظهور أشخاص آخرين من عند الباب، الذي كان مفتوحا… تنتظر حتى يدرك ما تقصد…
شتيبان: اغلقوا الباب.
يغلق الباب ويختفي الآخرون.
أغنس: اقترح كالآتي: سأقوم بفعل كل ما يطلبه مني، سأكون خليلة له (Mitresse) ـ كلا، لا تقل له هذا…!
يهودا: ماذا تريد المدام...؟
أغنس: قل له: انني سأتناول الشراب معه كل ليلة… إذا كانت هذه رغبته، ولكن بشرطين: يجب على الآخرين ترك بيتنا، وعلى العقيد أن يضمن لي تنفيذه. والشرط الثاني: بإمكان العقيد أن يحدد الوقت الذي يناسبه، ولكن عليه أن يقطع العهد على نفسه، بأن لا يتحرى عن المكان، الذي اقيم فيه خارج نطاق الموعد المتفق عليه… رجائي أن تترجم له هذا.
يهودا: بكل سرور، مدام.
أغنس: وإذا لم أكن هنا في الوقت أو في الساعة المتفق عليها، سيكون مفهوما بطلب استدعائي. وإذا ما التزمت بوعدي هذا ـ وسألتزم ـ فما عليه، أيضا، أن يلتزم، كضابط عسكري، بتنفيذ ما يتفق عليه.
يهودا يترجم:
يهودا: انها تقترح: أولا ـ/
بقية الحديث يصبح غير واضح (غير مفهوما)، ويُشاهد كيف يوضح، هو، الاقتراحين بإشارة من إصبعيه، مما ينتج عن ذلك حديث مطولا.
شتيبان: جيد. أنا موافق.
يهودا يلتفت إلى أغنس.
يهودا: الرفيق الآمر يقول، بأنه موافق على ما اقترحته المدام.
يهودا ينحني، تاركا المكان. شتيبان وأغنس لوحدهم. يأخذ شتيبان القدح المملوء، الذي تركته أغنس قبل ذلك، ويناوله لها. يريد أن يرفع القدح، إلا أنه قبل أن يفعل هذا، يقدم نفسه.
شتيبان: ايفانوف. شتيبان ايفانوف.
أغنس: أغنس ـ
أغنس تسقط، على الأرض، مغشيا عليها.
شتيبان: يهودا…! يهودا…!
يهودا يعود.
اغمى عليها.
يهودا: هذا بسبب الجوع.
شتيبان والشاب (يهودا) يحملانها ويضعونها على الكنبة، في وضع يبدوا نصف جالسة ونصف مستلقية. من خلال فتحة الباب تسمع موسيقى وأغان. أغنس تُغطى بمعطف عسكري. شتيبان يتطلع عليها بعض الوقت، بعدها يعطي إشارة للشاب ليقوم بتنظيف الغرفة وجمع القطع المكسورة من على الارض. شتيبان يساعده، وكلاهما يجلسان على ركبتيهما على السجادة. واحد منهم يصطدم بالطاولة، فتسقط زجاجة على الارض ـ أغنس تفتح عينيها، دون أن تحرك نفسها. الرجلان الجالسان على ركبتيهما، بقوا في مكانهم دون حركة، خوفا من أن تستيقظ أغنس، لأنهم لم يتمكنوا من رؤية أغنس وقد استيقظت ماسكة المسدس بيدها.
ينهض شتيبان. أغنس تغلق عينيها. يحمل الشاب القطع المكسورة، كي يأخذها الى الخارج. يسير على أصابع قدميه. شتيبان لوحده مع المرأة النائمة. يتطلع عليها بعض الوقت… ثم يريد الاستمرار بجمع باقي القطع المكسورة… يجلس قرب الكنبة…. يتأوه فجأة… وبصورة عفوية تجلس أغنس. يتطلع بعضهم على الآخر… يبتسم شتيان ببطيء.
أغنس: الدماء… انظر...! كيف تقطر الدماء على السجادة! ألا تفهم ما أقول ...؟ يدك، ايفانوف، تطلع إلى يدك اليسرى…!
شتيبان: ايفانوف، شتيبان ايفانوف.
أغنس: شتيبان ايفانوف، الدماء تنزف ….
تسدل الستارة
الفصل الثاني
المشهد الثالث
السرداب (Waschküche)
هورست يقف عند النافذة. الوقت هو الغروب. أغنس تهيأ له العشاء. صمت طويل.
هورست: غدا، تكون، بالضبط، ثلاثة اسابيع.
صمت…
أغنس: لازال عندنا القليل من الخبز ـ .
صمت…
هورست: انها امنية ، أن يكون الانسان حرا، طليقا، يتحرك، خارج هذا المكان.
أغنس تتوقف عن العمل.
أغنس: „ بالأمس كانت طليقة، خارج هذا المكان. في الساعة السابعة، كما هو دائما، عندما تخرج، يكون هو (شتيبان) بانتظارها، مرتديا المعطف، والبيرية على رأسه (Mütze)، واقف بجانب سيارة مرسيدس، كان قد حصل عليها، وهكذا بدأ السفر سوية بعيدا، الى غابات غرونَ (Grunewald)، وبحيرة شلاختن، حتى آخر خيوط الشمس فوق أشجار الصنوبر. توقفوا عند بحيرة الفان (Wannsee)، نزلوا، مشوا على الرمل بأحذية رياضية سوداء اللون (Ballschuhe/ أحذية باليه). أخذوا زورقا… أغنس في فستان السهرة (Abendkleid)، والشمس على أبواب الغروب، تبعث بأشعتها الدافئة. مكثوا ساعتين على الماء (في الزورق) وأغنس تضع على معطفه، الذي تعط منه رائحة البنزين، التبغ، والزيت، على كتفها… لقد كان يوما جميلا…"
هورست يبتعد عن النافذة.
هورست: لو كان بمستطاع الانسان ترك هذا المكان والذهاب والخروج، حيث الهواء التقي.
أغنس تقدم له الصحن.
أغنس: هناك في الخارج، على بحيرة فان، بدأ الناس يمارسون السباحة! عاد كل شيء، كما كان في السابق، مخضرا، نابض بالحياة، وكأن شيء لم يحدث. في كلادوف، حيث كنا نلعب الكولف (Golf)، لا تُرى سوى بعض المدافع والاضواء الكاشفة، التي طلاها الصدأ، والنادي الذي نال نصيبه من الحرب.
هورست: من أين تعرفين كل هذا...؟
أغنس: أنا...؟ ماذا...؟
هورست: هناك، خارج هذا المكان، كيف تبدوا الاشياء في كلادوف.
أغنس: في كلادوف ـ كنا، أنا وغيتا، في شهر شباط، لجلب الخشب من هناك.
هورست: ويسبحون في بحيرة فان...؟
أغنس: مجرد خيال، لماذا لا، وأنا أتخيل نفسي في الأيام الأخيرة من شهر آيار.
تسمع موسيقى تنطلق من البيانو.
لماذا تهز برأسك...؟
هورست: انه يعيد العزف من جديد!
أغنس: لا تعيره انتباهك، وحاول أن تتفادى سماعها.
هورست: انها تصيب الانسان بالجنون … طوال النهار، لا يمكن أن تكون هذه إلا من صنع الشيطان …! مرارا وتكرارا موزارت!
أغنس: طعامك جاهز.
هورست: كونسيرت بيانو في د ـ مول (d-Moll).
هورست يجلس.
أغنس: أنا لا أفهم غيتا. إذا كانت قد رمت قطعة من الورق عبر النافذة! ودون أي كلمة عن مارتين وكيف وضعه ـ فهي تدرك جيدا (واثقة)، ماهية الهموم، التي سأعانيها من جراء ذلك….
هورست: أليس لديك شهية لتناول الطعام...؟
أغنس: أبدا...! ليس عندي شهية لذلك.
هورست: هذا غير ممكن الاستمرار على هذا الوضع، الذي أنت فيه… حالة نفسية عسة، تزداد تعاسة يوما بعد يوم.
أغنس: لا تحمل همي من أجل هذا، يا عزيزي ، فعلا… ـ
هورست: هل يقدم لك طعام، هناك، أفضل من هذا….
أغنس تتكلم بلهجة قاسية (حادة).
أغنس: ماذا تظن، من أكون أنا...؟
هورست: على أية حال ـ يجب على الانسان أن يعيش…
أغنس: أسألك، ماذا تظن، من أكون أنا.
هورست: يا إلهي ـ
أغنس: هل تعتقد بالفعل، بأنني مومس...؟
أغنس تبكي.
هورست: ماذا جرى...؟
أغنس: لا تلمسني… أبعد يدك عني…!
هورست: الآن تبكين ثانية ( تعاودين البكاء) ـ
أغنس: لم أكن اتوقع منك، ان تكون خبيثا بهذه الصورة…!
هورست: أرجوك، أغنس، ماذا قلت...؟ أنتِ...؟ لا تأخذي كل هذا، هكذا، بجدية ـ .
أغنس تبعد نفسها عنه.
نعم، هذا ما اكرر قوله: إنك مرهقة الاعصاب، يا أغنس، لأنه ليس لديك شهية لبتناول الطعام. مع كل يوم يمر، يصبح جسمك أكثر نحالة، هذا ما يمكن ملاحظته كل يوم…
تجلس أغنس لتنظف حذائها.
أغنس: كم الساعة الآن...؟
هورست: عشرون دقيقة قبل السابعة، بالضبط واحد وعشرون دقيقة.
أغنس تلبس الحذاء الأسود اللون.
أغنس: لا ضرر من ذلك، لو تناولت القليل من الطعام، لأنني لا أشعر بالحاجة إلى أكثر من هذا. إنك ستكون مبسوطا لكل لقمة تتناولها.
هورست: لو حصلت على بدلتي، فإننا لن نحتاج إلى مثل هذا المخزون، سوى ما يمكن حمله في الحقيبة ـ
أغنس: من أين لك هذا، بأن البدلة ستكون هنا...؟
هورست: عندما تترك غيتا ورقة كتبت عليها: ستكون البدلة هنا يوم الخميس. أرجوك.
أغنس صامته
عجيب أمرك، يا أغنس، نحن ننتظر هنا، في هذا المكان الملعون ثلاثة أسابيع، وعندما تقترب الفرصة للحصول على البدلة ـ
أغنس تأخذ فستان السهرة.
أغنس: تريد الآن أن نترك هذا المكان ونذهب من هنا...؟ وما الفائدة من ذلك...؟
هورست: أنا لم أفهم ما تريدين…
أغنس: لم يصيبنا أي ضرر من بقائنا هنا. طبيعي ـ العيش في هذا المكان (في السرداب)… وساعة بحالها من أشعة الشمس…. إنهم لن يمكثوا هنا إلى الأبد، وعلى أية حال، عندما يذهبون ويتركون هذا المكان، سيعود بيتنا لنا. من أجل بعض من الأيام، سواء طالت أم قصرت. فإذا هربنا، سنخسر كل شيء، وسنكون مشردين لا مأوى لنا… هنا يجب التفكير وإعادة النظر جيدا في هذا الأمر.
هورست: أيعني هذا، تريدين البقاء هنا...؟
أغنس: ما نملك من مخزون يكفينا، على الأقل، اسبوع آخر.
هورست: إذا لم تأكلي أي شيء، بالتأكيد.
أغنس: على أية حال، سوف لن أذهب من هنا، فاضية اليدين، هربا إلى المجهول، بهذه البساطة… ربما سيكون البيت، بعد اسبوع، خاليا! وسيعود لنا…
هورست: ربما.
أغنس: إذا…
هورست: ربما، أيضا، لا.
أغنس تذهب، والرداء بيدها، خلف الجدار.
أغنس: إنك تشكي دائما، في دائرة هذا الفراغ الذي تعيشه، من الممل المقيت، وإذا ما جلبت لك الكتب، لا اعرف لماذا لا تقرئها…!
هورست: كتب ـ .
أغنس: سابقا، كنت تقرأ كثيرا وبشكل مستمر.
هورست: بسمارك، العصر وأثاره…
أغنس: لم يكن بإمكاني الاختيار. أخذت ما كنت قد عثرت عليه أمام الأبواب.
هورست: أجمل الأساطير الكلاسيكية للعهود القديمة… أوديسيس يأتي إلى اتيكا. اوديسيس مثل متسولا (متنكرا)في القاعة (البهو). بينولوبَ أمام العَريس. أوديسوس يهزأ مما يراه. المساء والصباح في القصر ـ
أغنس: إلى جانب هذه، هناك أشياء اخرى (كتب أخرى أو أعمال أخرى).
هورست: عندما كنا تلامذة، كنا نهزأ منها ونصنع النكات حولها…اننا كاريننا… شعب بلا أرض… تعليمات حول ركوب الخيل للعشيقة… افول الحضارة الغربية… أفكار غير سياسية، توماس مان...رسائل حب عبر ثلاثة قرون، أهديتها لي.
أغنس: أنا...؟
أغنس تظهر من وراء الجدار بفستان السهرة، الذي لازالت أزراره مفتوحة، وبين أسنانها مشبك الشعر وقد وضعت يدها على شعرها.
هورست: حبيبي هورست بعد أول رقصة لنا في حفل مع أغنس السعيدة في ارميتاغَ.
أغنس: كم الساعة الآن...؟
هورست: السابعة إلا ربع. شيء واحد يمكن الاعتراف به، وهو أن الآمر علمك المحافظة على ضبط المواعيد.
أغنس تقف أمامه كي يغلق أزرار فستانها من الخلف.
ما الأسباب التي تمنعك، من أن تقولي لي، كيف يبدو هو ( ملامحه)…
أغنس: أنت تعرف هذا، كيف يبدو الروسي.
هورست: فعلا، إنك لا تتحدثين إلا قليلا في الآونة الخيرة… في البداية كان على العكس من هذا، عندما كنت تعودين مشتتة الافكار، ولكن رغم هذا كنت تقصين عليَّ كل ما دار بينكم، في المساء، من حديث. والآن...؟
تمد أغنس يدها إلى الخلف لتتأكد من غلق الازرار.
أغنس: شكرا.
أغنس تمشط (ترتب) شعرها أمام المرآة.
هورست: حديثكم حول هاينه، ماركس، وكل السادة الآخرين، الذين منعونا، بكل بساطة، عنهم ـ مثلا القضية مع أوسيتسكي (Ossietzky)، هذه كلها أسماء لم نسمع عنها، نحن من أمثالنا، ابدا، وانا بدوري أجد هذا شيء رائع، بأن يعرف هذا الروسي أحسن منا عن رؤوسنا الكبيرة… على أية حال انه شيء مؤثر … ونحن، الذين لا نفكر سوى بذئب البراري (Steppen Wolf)، وإذا ما دار الحديث حول الروس ـ وهذا ما يحدث لي شخصيا…! أثناء ماكنت على الجبهة (im Osten)، وكانت فترة طويلة … لا يعلم غير الشيطان. التقيناهم بشر يختلفون عنا، مع هذا، كانوا بشر طيبي الاخلاق. مشكلتنا الوحيدة، إننا لم نتمكن من الحديث معهم…. يضعون الحليب لك على المائدة، رائع، وإذا ما خرجوا من الغرفة، ينتابك الخوف… تفكر، ما الذي يجول في خاطرهم...؟ هنا يحس المرء من جديد بفقدان الثقة وعمد الطمأنينة. وهذا كله سببه هذه اللغة الملعونة…! اما الآن يجلس هنا رجل روسي في بيتنا، يتكلم اللغة الالمانية بطلاقة، وإذا ما تحدثيني عن نقاشاتكم ـ فجأة، وعلى حين غرة، بدا لين كل شيء مختلفا، أشياء معينة، تلك التي أضمر لها الكراهية، اسماء معينة ـ ما لم أستطع الكشف عنه ـ فجأة كل شيء يتغير، وتظهر بوجه جديد، حينما تتكلمين، بكلام كله أمل ؟ بجدية.
أغنس تمشط (ترتب) شعرها...صامته.
هل تفهمين ما أقصد...؟
أغنس: ولهذا السبب تريد الذهاب من هنا...؟
هورست: لكن في الآونة الأإخيرة ، إذا لم أسأل، تبقين صامتة، لا تتفوهين بكلمة ولو واحدة، إلا حين أسألك.
تسمع موسيقى موزارت من جديد.
أغنس: على فكره (بالمنسبة)، من الغرابة، بأنك لا تتحدث. سنتين كنت مفقودا: لم تتفوه، ولو بكلمة واحدة، كيف عشت، وأين كنت ـ منذ وارشوا (انتفاضة الغيتو في وارشو أثناء الحر العالمية الثانية ـ المترجم ـ)
هورست يسمع (يصل صوتا إلى سمعه)
هورست: حبذا لو يكون هذا الصوت، صوت غيتا...؟
أغنس: لماذا...؟
هورست: ألا تسمعي...؟
أغنس: غيتا...؟
هورست: شخص ما ينادي اسمي… بوضوح تام.
أغنس: لا تأتي غيتا، بالتأكيد، قبل أن ينسدل الظلام.
أغنس تنهض.
كم الساعة الآن...؟
أغنس تقلم أظافرها.
لماذا تنظر هكذا إلي...؟
هورست: إنك تهتمين بمظهرك أكثر من اللازم، بالفعل، يا أغنس ـ ….
أغنس: أهذا مأخذ...؟ هل تعرف، بأننا لو أهملنا أنفسنا وتعاملنا مع الآخرين على هذه الشاكلة، سنخسر كل شئ. إنك كرجل، ليس بإمكانك أن تدرك هذا… وهذا هو الواقع. في صيف باريس في الأربعين، كنت قد فهمت هذا.
تجلس أغنس من جديد امام المرآة.
هورست: مجرد أن أعرف، كيف يبدو هو، يبدو أنك لا تريدين عن هذا...!
أغنس: من...؟
هورست: من…!
أغنس: لقد ذكرت لك، هو روسي… وكيف يبدو الروسي، هذا ما يعرفه كل طفل. من أجل أي شيء وجدت الصور. كل شعب عنده عَلم ووجه. اليهودي له أنف مقوس، وشفاه غليظة، ناهيك عن طبائعه. الانكليزي رشيق، ورياضي ، مادامت اللعبة تستجيب لظروفه ومتطلباته. الاسباني فخور بنفسه. الايطالي له صوت يحسد عليه، إلا انه كسول وسطحي التفكير. الألماني وفي مخلص. الفرنسي يمتلك خفة الروح، وهذا كل شيء… أما الروسي، تذكر رجال المقاومة، الذين لاقيتهم ـ
هورست: لم ألتق أي واحد منهم.
أغنس: تذكر المجلات المصورة…! هكذا هو بالضبط، ندبة على رقبته، كما أعتقد، أو شامة.
أغنس تضع المساحيق على وجهها.
والآن، يا عزيزي، ما الذي جنيته من ذلك...؟
من خلال نافذة السرداب تظهر يد تضرب على الجدار، إلا أن كلاهما لم يلاحظا هذا. البيانو يعزف من جديد مؤلفات موزارت . اليد تظهر ثانية، وهي تمسك رزمة، تتركها تسقط. هورست يلاحظ هذا، وهو يتطلع في الوقت نفسه، فيما إذا أغنس قد لاحظت هذا أيضا. إلا أن هذا لم يحدث. أغنس مشغولة بوضع المساحيق على وجهها. بعد تردد قرر هورست، أن يأخذ الرزمة، ويدفعها تحت مضطجع خشبي. البيانو يتوقف عن العزف.
هل تعرف، ماهي المزارع الجماعية...؟
هورست: لماذا...؟
أغنس: بالأمس، تحدث طول الوقت عن المزارع الجماعية.
أغنس تطلي شفتها ( أحمر الشفاه).
على أية حال، انها مجموعة من الفلاحين، فهمت ـ (جمعيات فلاحية)
أغنس تتوقف عن الكلام (تصمت فجأة)، وكأنها تتحدث مع نفسها.
"قبل ثلاثة أسابيع، عندما صعدت أغنس، لأول مرة، إلى فوق، تعاهد الاثنان، على أن لا تكون الخيانة ثمن لحياتها. لكن هذا ليس إلا حب وليس عمل مشين، يدفع الانسان ثمن باهظا له، فماذا عليها أن تفعل ...؟ الصعود والنزول، الذي تقوم به، أغنس، كل مساء، وساعات الحب التي تقضيها هنا، والساعات التي تقضيها تحت، حيث الكذب: فما الذي كان عليها أن تفعل. هورست أنقذت حياته، مادام يصدق ما تقول: يعتقد، انه بهذا قد نجى من الموت.“
ينظر كل واحد للآخر…
هورست: لماذا تتطلعين، هكذا، على ...؟
أغنس: وأنت… لماذا تتطلع، هكذا، علي...؟
هورست: جمالك، والسعادة البادية على وجهك، هكذا، يا أغنس، حين حضرنا أول حفلة رقص. وقت ذاك في أرميتاك (Ermitage).
أغنس: أردت أن تقول شيئا غير هذا.
هورست: لا أدري .
أغنس: قل ما تريد أن تقوله.
هورست: هل ذهابك الى هناك برغبة وطواعية منك ...؟
أغنس: هورست ـ
هورست: مجرد سؤال لا غير.
أغنس ترمي نفسها عليه (تحتضنه)
أغنس: لا تتركني الذهاب إلى هناك، مرة أخرى…! أبدا!
هورست: أغنس...؟
أغنس: امسكني…! امسكني…!
هورست: أنتِ…
هورست يمس شعرها برقة.
أغنس: لا تتركي الذهاب مرة أخرى أبدا.
هورست: وإذا أتوا (نزلوا) إلى هنا...؟
أغنس: أطلق الرصاص علي.
هورست: أغنس ـ
أغنس: على كلانا.
أغنس تشهق بالبكاء على كتفه.
هورست: هو يُحبك …. من الممكن أن أفهم هذا، يا إلهي، هذه ليست جريمة، إذا لم يحدث شيئا بينكم ـ أعرف… كانت نذالة مني، عندما رجعتٍ أول مرة إلى تحت، سوف لن أطلب منك، في المستقبل، أن تقسمين اليمن!
أغنس: لم يكن قسم كاذب ـ .
هورست: وكنت في حينها، غريبة الأطوار، أيضا. لا تتطلع إليَّ مثل الحيوان ! كما قلتٍ مرة، هكذا بشكل عدائي. ولعدة أيام لم تلتفتي إلي، ولم أجرأ الحديث معك. ولم يكن هذا امر هينا، بالنسبة لي، وكما تعرفين، ثلاث ساعات في هذا السرداب أربع ساعات…!… كان من المفروض عليك أن تفهميني، وأن تتحسسي وضعي، يا أغنس، قسما، لن أسألَ مرة اخرى أبدا. وهذا عهد مني… أبدا….هل تسمعيني...؟ لقد تغييرة كثيرا عن المرات السابقة، تماما، صدقيني…! علامات الخوف، التي كانت واضحة على وجهك، قد اختفت، وهذا ما أشعر به، يا أغنس. لم يكن من السهولة عليَّ تصديق كل ما تقولين. لكن الآن ـ لماذا ترتعشين...؟… إذا لم يحدث شيء لحد الآن، أغنس، لا داعي للخوف بعد الآن، من امرأة تحب زوجها ـ لا أحد يجبرها على عمل ترفض القيام به ـ أنت تعرفين هذا تماما.
أغنس: أطلق الرصاص علي…!
أغنس تخرج المسدس من معطفها.
افعل هذا …! هذا حالا، الآن …! أطلق الرصاص، الآن ، علي…!
يأخذ هورست المسدس من يدها
أما أن تصدقني، أو تطلق الرصاص علي…!
أغنس تنهار على الأرض، جالسَ على ركبتيها.
هورست: ما هذا الذي تفعلينه، يا أغنس …. تعالي … انهضي، تعالي … دعينا نفكر بالعقل … إذا لم تذهبي الآن ـ أنا اصدقك، يا أغنس، وهذا واضح على أية حال ـ سنضيع، ونفقد كل شيء، كلانا...هل تسمعين...؟
أغنس لازالت جالست، ويديها على وجهها.
أغنس: „ إذا لم تذهبي الآن. أنا اصدقك، يا أغنس، وهذا واضح، على أية حال. سنضيع، ونقد كل شيء، كلانا.“
موسيقى موزارت تسمع من جديد.
هورست: أغنس، لقد جاوزت الساعة السابعة.
تسدل الستارة
المشهد الرابع
غرفة الجلوس
عند البيانو رجل اسمه هالسكا، يعزف موسيقى لموزارت… يتوقف عن العزف، فيقوم بضبط الأوتار. يهودا يتحرك هنا وهناك، يقوم بإعداد مائدة العشاء.
هالسكا: قل للآمر، الأوتار المقطوعة قد غيرت، كما أمر، من البيانو العائد لي. وهذا ما يمكن عمله على الأقل. لا أعرف، ماذا يفهم هؤلاء السادة عن هذا البيانو (Flügel)… هذا الصندوق تعط منه رائحة الخمرة.
يترك يهودا المكان من جديد.
وإذا أصبحوا، الآن ، سادة العلم، مثل هؤلاء الخنازير ـ .
يعود يهودا ومعه زجاجة من الخمر.
يهودا: أنا لا أستسيغ سماع اللغة الألمانية، ولكن أفهمها.
هالسكا: تعودت القول دائما، ما يجول بخاطري. حتى ولو كان المرء يفهم ما أقول.
يهودا يتطلع عليه.
ليس مهنتي هي ضبط الأوتار.
يضع يهودا بريمة نزع السداد على فلينة الزجاجة.
يهودا: كيف لم تمت لحد الآن ...؟
هالسكا: كيف من فضلك...؟
يهودا: كيف لم تمت لحد الآن...؟
هالسكا: موت...؟ أنا...؟ كيف ...؟
يهودا: السيد تعود القول، ما يجول في خاطره.
هالسكا: بلا شك.
يهودا: كيف كان يفكر السيد، حينما تُرك يعيش مدة اثني عشر سنة بكاملها...؟
يسحب يهودا سداد الفلين من الزجاجة.
هالسكا: ليس لدي أي شكوى أو تظلم،
أرجو أن تفهمني بشكل صحيح.
كان على الآخرين أن يحفروا. تحت زخات مطر شديد…! لا أنتظر منك، أن تعرف من أكون أنا، وأن يكون لاسمي، بالنسبة لك، مدلول آخر (شأن آخر)، له أهميته. يعلم الله، إنه ما يحدث الآن ظلم آخر، في زمن آخر ـ .
يهودا صامت، يرتب مائدة الطعام.
ماذا فعل أمثالنا من ذنب (جريمة) خطأ...؟ أرجوك، كون أن نجاحي جاء في هذه الفترة بالذات. ما علاقة موزارت بالرايخ الثالث...؟ وماذا فعلت أنا. لا شيء أكثر من أنني عزفت مؤلفات موزارت الموسيقية، في وضع كان فيه تحت رحمة ارهاب الغارات الجوية … كان هذا ربيع عام ١٩٤٣…!
يهودا صامت، يرتب مائدة الطعام.
لا تصدق هذا… أليس كذلك...؟
يهودا صامت، يرتب مائدة الطعام.
على أية حال ـ .
هالسكا يحاول العزف مرة اخرى لموزارت على البيانو… انه عازف ممتاز بالفعل، في نفس الوقت، الذي يقوم يهودا بمسح الاقداح الزجاجية، بمسكها أمام الضوء . يتوقف العزف.
يهودا: ألف وتسعمائة وثلاثة واربعون ـ كنت في الغيتو ـ في وارشو ـ تركوا المياه تتسرب الى داخل القنوات، كي نغرق، وإذا ما خرجنا منها (القنوات)، كانوا ينتظروننا في الخارج بأسلحتهم: طاق … طاق … طاق …! كان من المفروض أن يذهب واحد منا إلى الروس، ولكن كيف...؟ غرقت أمي، وأبي أطلق الرصاص عليه أمام أعيننا، وأختي مات في غرفة الغاز ؟ طلبت من النساء أن يضعوني في العربة مع الأموات. يجب الخروج من هنا…! أخذوني وألقوا بي إلى جانب الجثث (مع الأموات)… وهكذا تمكنت من الوصول إلى الروس. أخوتي، قلت لهم: لا تنثروا التراب علي… اتركوني هكذا، وعندما ينسدل الظلام، أنهض اواصل سيري ـ .
يضع يهودا الأقداح
هالسكا: لا أعرف، لماذا تقص عليَّ كل هذا، وما شأني منه. فليس لي علاقة بالأحداث، التي جرت فعلا … يعلم الله ـ .
يهودا: هكذا كان في وارشوا.
هالسكا: ممكن …
يهودا: آذار، تسعمائة وثلاثة وأربعون.
هالسا: لا يجب عليك أن تعتقد(تشك)، بأنني أستسيغ مثل هذه الاعمال، لأنهم يهود ـ أنا لست ضد اليهود. كان في فرقتنا الموسيقية مجموعة من اليهود، لهم موهبة في العزف ـ لماذا تتطلع هكذا عليَّ ...؟ هنا يوجد شخص آخر، بإمكاني البوح باسمه. النقيب أندرس، هو الذي كان في وارشوا، وليس أنا…!
يهودا: النقيب أندرس...؟
هالسكا: هورست أندرس . ـ أنا فنّان.
يهودا يأخذ دفترا صغيرا يُدون فيه بعض الملاحظات.
لن أدعي، إذا قلت …. هل تعرف، كنت أقوم بزيارة هذا البيت كثيرا، يعلم الله، ان هؤلاء الناس لن يفعلوا شيئا قبيحا ضدي، بل كان العكس …!… ولكن كل ما أريد قوله، إن أمثالنا لا يسمح أن يكون لهم دور ـ
يهودا يدون…
يهودا: هورست أندرس . نقيب . وارشوا تسعمائة وثلاثة وأربعون ـ ...؟
هالسكا: ارجو أن تفهمني بشكل صحيح …!، أنا لم أقل، بأن هذا الرجل، قد شارك؟ فليس عندي أي دليل بهذا الخصوص … مطلقا ـ مبدئيا، فانا لم أتدخل في السياسة ـ
يدخل شتيبان .
هالسكا: السيد الأمر، انتهيت من ضبط البيانو (ضبط الاوتار).
يضع شتيبان قبعته ويخلع معطفه. هالسكا ينتظر الجواب، ولكن دون جدوى. بعدها ينحني تاركا المكان . شتيبان يتطلع على الساعة.
شتيبان: أين هي سيدتنا العزيزة...؟
يهودا يهز منكبيه، ثم يبتعد عن المكان. شتيبان واقف يتطلع إلى المائدة. اثناء هذا تظهر أغنس من عند الباب الآخر. شتيبان لم يلاحظ دخولها، اثناء تناوله قطعة من اللحم ووضعها في فمه بسبب الجوع.
أغنس: بصحة وعافية…!
يلتفت شتيبان إليها، وكلاهما يضحكان.
شتيبان: أغنس ـ …!
يتعانق الاثنان.
أغنس: كيف الحال...؟
تقبله.
يقبلها هو أيضا.
تعال، انت جائع…!
يتجهان نحو المائدة، ماسكا كل واحد ذراع الآخر.
شتيبان: انا سعيد جدا حين تركت هذا المكان، والخروج، حيث الهواء النقي. أنا افهمك. ولكن لا أفهم الالمان. انهم غير صادقي النية معنا. كذلك رفاقنا لم أفهمهم. لقد صاروا حيوانات من جراء هذه الحرب.
يجلس الاثنان.
أغنس: لننسى كل هذه الهموم، شتيبان. ما دمنا سوية. فكر بأمسية الأمس. فكر في بحيرة فان ـ
شتيبان: بحيرة فان...؟ جيد.
أغنس: ماذا تعتقد، ماذا تفعل سيارتنا المرسيدس...؟
شتيبان: مرسيدس ـ واقفة ـ لاتشتغل…!
يضحكان. أغنس تملأ صحنه
أغنس: كنت أفكر طول هذا اليوم ـ
أغنس تنهض:
لا يجوز لنا ان نفعل هذا ثانية، شتيبان. أن نخرج سوية. ابدأ.! هل تفهم ما أقصد...؟ في الوقت الذي هو قابع في السرداب ـ .
شتيبان لا يأكل: خذ هنا الفلف.
شتيبان يأخذها (أغنس) على حجره.
هل تفهم هذا...؟ انه رجل طيب. لو كان من الممكن أن تراه: هناك تحت ـ وأنا أجلس، هنا، في حجرك… يا له من شيء يجن العقل…! لو لم تكن اللغة، شتيبان، عائق بينكم، فإنه بالتأكيد سيفهم واحدكم الآخر، ومن الممكن أن تكونوا أصدقاء. يخيل لي، بعض الأحيان، بأنكم كلاكما في شخص واحد… هل تفهم هذا...؟
شتيبان يتلمس وجهها
شتيبان: لماذا بكيت...؟
أغنس: لا أعرف، ماذا تقصد.
شتيبان: لماذا بكيت...؟
يشير شتيبان إلى عينيها.
أغنس: لا تحمل هم هذا…! مثل هذه العيون الباكية، يوجد الكثير منها… لا داعي للحديث عنها.
تنهض أغنس...تتمشى في الغرفة.
شتيبان: أغنس...؟
أغنس تجلس إلى المائدة (قبالته)
أغنس: شتيبان، كيف يمكن أن يستمر مثل هذا الوضع معنا...؟ الغريب في الأمر، أنا سعيدة جدا… تعرف، أنا أجد هذا شيئا جميلا، كوننا لا يفهم ما يقوله واحدنا للآخر… ومع هذا، فهل تعرف، باني أحبك يا شتيبان...؟ على الرغم من هذه العيون المحمرة من البكاء، شتيبان، انا سعيدة، وإذا ما ذهبت، فسوف لن يكون من الممكن أن اكون هكذا مرة أخرى، كما أنا الآن. لا تحمل هما، حتى ولو كنت لا تفهم ما أقول. ربما لا يختلف هذا، أبدا، بين امرأة ورجل، حينما يتحدثان، فلا يكترث الواحد للآخر عما يمكن أن يقال، فلا قيمة لكل ما يقال… دون قدومك إلى هنا، ما كان عليَّ أن أعرف، بأنه بالإمكان أن يحدث مثل هذا، أن أكون أمامك، هكذا، دون خوف ورياء… هكذا بالفعل… هكذا كما ترى…! الا تشعر بهذا...؟ ما قلته الآن، لم أكن من الممكن أن أقوله لاي انسان آخر لحد هذه اللحظة … أنت تسمع هذا، شتيبان، وبالرغم من هذا يبقى كل شيء سرا… ألا ترى، بأنني لا أعرف، أيضا، من أنت، سوى إننا نحب بعضنا… وبعد، فأنت، بكل بساطة، هنا: أنت كل شيء، ما يمكن أن أفكر به… ما الذي فعلته، كي أستحق كل هذا…! ثم، وكما تعرف أنت، أنه لا يوجد كذب فيما بيننا ـ
تمسك أغنس يده.
شتيبان...؟
شتيبان صامت يتطلع إليها،
الآن أنت هنا. ـ
ينظر واحدهم للآخر.
تعال، يجب أن تأكل…!
شتيبان يريد أن يملأ صحنها.
لي، لا، أرجوك، أنت تعرف ـ!
أغنس تنهض… تبتعد عن المائدة.
لو لم أكن كنت خائفة على الطفل…! غدا سيكون الاسبوع الثالث. لماذا تركته يخرج من السرداب...؟ لم افهم، لماذا فعلت هذا، ولم أجد أي مبررا على فعلتي هذه. وغيتا، لم أعد أسمع أخبارها أيضا…! وحكاية البدلة التافهة ـ وإذا نجحت...؟ وإذا حصلت، بالفعل، على بدلة: فماذا سيحصل بعد ذلك...؟
شتيبان قدم لها قدحا…
ليس لي رغبة بالشرب…
شتيبان: أغنس ـ
أغنس: أريد أن أبق هكذا، كما أنا، دون هذا.
شتيبان: الا تحبينني...؟
أغنس: لماذا هذا الشك ثانية...؟
شتيبان: انتِ لا تحبينني ...؟
أغنس: أنا لا أفهم، ما تريد قوله.
شتيبان: ماذا...؟
أغنس: ولكن يجب أن تفهم، شتيبان، بأنه من المستحيل أن يستمر الوضع على هذه الشاكلة. كل مرة، حين أنزل إلى السرداب، تفوح مني رائحة الخمرة. بكل بساطة، لا يمكن أن تسمر الحالة على هذا المنوال… أليس كذلك...؟
في غضب:
نعم… ولكن… ما هو الممكن وغير الممكن…! أنا أنام معك ـ شتيبان ايفانوف، الرجل، الذي لا يعرف عني شيئا، سوى إني أحبه، ويحبني أيضا ـ شتيبان ايفانوف هذا هو الذي يحدث، وهذا ما يمكن أن يكون، وكائن…! أحن اليك كل مرة… لم أستطع الانتظار … أنتظر... متى يأتي المساء…!؟ وهذا ما يحدث… لماذا لم يطلق، هورست، الرصاص عليَّ ...؟ أنا أحبك، شتيبان، وليس بمقدوري أن أفعل غير هذا…! ولم أكن أتصور أو أدرك، كيف يمكن أن تكون لي مثل هذه الطاقة أو الامكانية في فعل هذا، رغم ما يدور من حولنا من أحداث رهيبة، حتى حين تأخذني بين يديك ـ وحتى لو فكرت بغيتا وغتر، وكيف قتلوا بكل بساطة ـ وأنت تقبلني، وصامت وأنا سعيدة… سعيدة بالفعل … هكذا أنا…! وكل هذا ممكن، وممكن أن يكون أو يحدث.
شتيبان يمسكها من كتفيها.
شتيبان، من أكون أنا (من أنا) ...؟
شتيبان يقبلها.
في يوم ما ستتركني ـ فجأة يطرأ على بالي … طول الليل كنت أفكر، الامطار تهطل، لم تغمض لي عين … كيف يمكن لنا النوم…! لماذا لم أرتد ملابسي وأصعد إليك. ما دمنا نتنفس ـ .
تسحب أغنس نفسها منه، وتجلس على الكنبة.
اعرف، أنك لا تسيء الظن بي.
يقف شتيبان، يقدم لها سيكاره.
عندما تزوجنا ـ
شتيبان يشعل لها سيكارثها (يعطيها المقدحة).
في الحقيقة، لم ارغب (أردت) برجل آخر … هورست كان برتبة ملازم ثان، وكان قد قَدِم لتوه من فرنسا، وكنا نعتقد بالفعل، بأن الحرب على أبواب نهايتها، أو ربما لم نشغل أنفسنا بمثل هذا التفكير ونحن كنا نجلس على كثبان سيلت… وفيما بعد وجب عليه الذهاب إلى الجبهة الشرقية … كنت أنتظر طفلي البكر. كانت آخر إجازة له هي في أعياد رأس السنة في عام ألف وتسعمائة واثنين وأربعين لم نعش سوية منذ بداية حياتنا الزوجية لحد هذه اللحظات ربما ثلاثة أشهر. في محطة قطار فاضية من البشر، كنا نودع بعضنا. انطلقت صفارات الانذار، لم نعبأ لهذا، رغم انه كان هجوما ضرب كل شيء، ونحن نقف وسط مكان مكشوف. قلت له: هل أنت مجنون...؟ على فكرة، كان الصغير مارتين معنا، مدافع المضادة للطائرات فتحت نيرانها من جميع فوهاتها، في الوقت الذي انفجرت مجموعة من المخازن، كانت قريبة، مسافة مائتين مترا، منا، إثر الاصابات المباشرة. يا للخسارة (مع الأسف)…! هكذا قال، سوف لن أنس هذا… كما تريدين، ثم أعطاني يده، مبتسما، تعرف، مثل الذي يذهب للإعدام… وفهمت، في حينها، بأنه على استعداد اقتحام كل الحواجز… لم أتحمل هذا، وبدأ البكاء بصوت عال (الصراخ). (Heil)…! قال لي مودعا… بعدها بشهرين جاءت آخر رسالة: من وارشو ـ
تسحق أغنس سيكارثها في الكوب.
كل انسان بمكن ان يروي الكثير عن مثل هذه الاحداث.
يجلس شتيبان على ذراع (مسند) الكنبة.
شتيبان: كل الحروب قذرة… لا تجلب غير الدمار.
أغنس: هذا صحيح.
شتيبان: حرب ـ خسيسة.
أغنس تمسك يده.
أغنس: حدثني عن نفسك. سأنظر الى فمك، وسأحال فهم كل كلمة تقولها. أخبرني يهودا، بأنك مهندسا، وكنت منتميا الى المقاومة. في القرم ـ .
شتيبان: القرم...؟
يبدأ شتيبان يردد ألحان من القرم… بعدها يتوقف
وطني.
أغنس: حدثني، من أنت. من أين أتيت. حدثني عن حياتك، بأكملها.
شتيبان: القرم ـ خرائب.
ينهض شتيبان، يتمشى في الغرفة، يتحدث، في نفس اللحظة، تتابع أغنس مشاركتها بطرح الاسئلة… أكثر وأكثر، وبشكل إيحائي أيضا.
قدت حرب المقاومة… فجرنا الجسور. فجأة دبابات المانية. ركضنا فوق الجليد. الجليد لم يتحمل. عندنا ديناميت. الماء يرتفع… يرتفع باستمرار: هكذا، هكذا ـ مياه، أين هم الرفاق السبعة...؟ على الجانب الآخر: أنا لوحدي، وحدي، رفاق...؟! رفاق…!! لا أحد. فقط مياه، مياه، وجليد.
يجلس.
طرق على الباب، يصغون. يتكرر الطرق من جديد
يهودا...؟
يتكرر الطرق للمرة الثالثة.
أغنس: أدخل.
يفتح الباب، يظهر هورست مرتديا بدلة رصاصية اللون (عادية/مدنيه).
هورست: عذرا، إذا أزعجتكم…
صمت يخيم على المكان.
الآمر إيفانوف...؟
صمت يخيم على المكان.
على ضوء كل ما سمعت ـ اسمي أندرس. أفترض، أن الأمر يتعلق بقضية البيت. إذا سُمِحَ لي، السيد الآمر ـ ما اعنيه، من الطبيعي، ليس إلا سؤال …. ربما لا تعرفون شخصيا، متى تتركون هذا البيت ـ
يتجه شتيبان نحو الباب.
شتيبان: يهودا…! يهودا…!
شتيبان يخرج.
أغنس: ما هذا الذي تفعله...؟
هورست: كنت أعتقد ـ
أغنس: من أين لك هذه البدلة...؟
هورست: لقد قُلتِ، أنه يفهم اللغة الالمانية ـ
يعود شتيبان بصحبة يهودا وهو في حالة من الغضب.
شتيبان: انسان غريب، انسان غريب، من الشارع يدخل الى غرفتنا.
يهودا: ولكن هناك من يقوم بالحراسة في الحديقة.
شتيبان: دون عيون.
يهودا: غير معقول
شتيبان: نعم.
يهودا يلتفت إلى هورست:
يهودا: الرفيق الآمر يسأل، من أنت، وماذا تريد...؟
هورست: ماذا من فضلك...؟
يهودا: من تكون أنت، وكيف دخلتم إلى البيت...؟
هورست: هذا ما احاول أن اقوله. اسمي أندرس. انا صاحب هذا البيت. إذا سمحتم. أنا زوج هذه السيدة ـ .
يهودا: أندرس...؟
هورست: نعم.
يهودا: نقيب...؟
هورست: نعم ـ لماذا...؟
يهودا: نقيب أندرس، هل كنت في وارشو...؟
هورست: من أين تعرف هذا ـ
يهودا ينظر اليه. وقد تشنج وجهه من شدة الحقد والهلع (ذعر). يأخذ ورقة من جيب بنطلونه. يتقدم إلى الآمر، ويريها له.
يهودا: ضابط الماني. كان في وارشو. قاتل.
شتيبان: من أين تعرف هذا...؟
يهودا: هو زوجها.
يهودا يشير إلى أغنس. شتيبان يقف وكأنه قد اصيب بصاعقة. يهودا يستدير من جديد الى هورست.
الرفيق الآمر يسأل، هذا صحيح...؟
هورست: ماذا...؟
يهودا: هل كنتم في وارشو...؟
هورست: نعم ـ .
يهودا: شهر آذار ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعون...؟
هورست: لماذا...؟
يهودا: كنت في الغيتو (Ghetto)...؟
هورست يصمت… دون جواب.
بالمسدسات: طاق… عندما كنا نخرج من البيوت، التي كانت النيران فيها تلتهب: طاق…
هورست: ولكن ليس أنا…!
يهودا: هل تعرف...؟
هورست: ليس أنا…!
يهودا: في الربيع… ألف وتسعمائة وثلاثة واربعون. آذار ونيسان. ثمانين ألف من البشر ـ
أغنس: ماذا يقصد، هورست، لم أفهم أي كلمة.
يهودا: فرقة شتروب (Stroop) ـ
هورست: ولكن ليس القوات العسكرية...!
يهودا: قوات عسكرية...؟
هورست: من الطبيعي انا واحد من القوات العسكرية، بإمكاني أن اثبت هذا…! لباسي العسكري تحت في السرداب. تحقق من هذا…!
أغنس: هذا صحيح.
يهودا: أنت واحد من القوات المسلحة…! أعرف هذا، لأنني كنت هناك في الغيتو. قسم من وحدة سلاح ريمتروف. أليس كذلك...؟ بطارية المدفعية المضادة للطائرات. الرائد شتيرناغل، القوات المسلحة ـ
هورست: ولكن ليس أنا…! هذا ليس صحيح…! كنت أنا في مستشفى في وارشو، رصاصة في الذراع ـ
يهودا: هل يمكن أن تثبت هذا...؟
هورست: ماذا ـ
يهودا يقبض عليه من رقبته.
يهودا: قتله…!
يسحب هورست المسدس، الذي كان قد أخذه من أغنس.
هورست: دعني…
يبتعد الواحد عن الآخر.
ماذا تريد مني...؟
أغنس تقف، على الفور، أمام شتيبان.
أغنس: هورست…!
هورست يخفض المسدس.
هورست: طوع اشارتك ـ.
يرمي هورست المسدس على السجادة. هدوء. شتيبان يتحول الى النافذة، تاركا ظهره إلى الغرفة. أغنس تنظر إليه بقلق.
شتيبان: سنترك هذا المكان ونذهب.
يهودا يسمع هذا، كاظما غضبه… يذهب عبر الباب. شتيبان يستدير، تاركا النافذة، والهدوء باديا على وجهه.
أغنس: شتيبان ايفانوف ـ ...؟؟
يأخذ شتيبان قبعته العسكرية ببطء. يضعها على رأسه. يأخذ حزامه ويشده. يفعل كل هذا دون أن ينظر إلى أغنس أو هورست. بعدها يأخذ المعطف، ويذهب تاركا الغرفة إلى الخارج.
هورست. إلى أين يذهب...؟
أغنس صامته…
هل تعتقدين، بأنه سيتركنا بسلام...؟
أغنس لازالت على صمتها.
ربما يضمر لنا شيء ما ـ .
يأتي يهودا ومعه الحقائب، في طريقه للخروج من الغرفة، التي بدت وكأنها فاضية تماما. يأخذ المسدس من على السجادة.
أغنس: يهوداـ ...؟
يهودا يبتعد ويترك الاثنان لوحدهما، وهم يقفان دون حركة، ينظر واحدهما للآخر، هكذا، وكأنهما ينظران عبر هوة عميقة لا يمكن تخطيها.
صمت….
ستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق