ازادوهي صاموئيل -- ايقونة المسرح وراهبة في محراب الخشبة المقدسة / جوزيف الفارس
قد يندهش البعض من متابعي مقالاتي ومواضيعي الفنية ولاسيما المهتمين بالفنون المسرحية , انني اهتم الان بتناول مسيرة حياة فنانينا من نجوم المسرح العراقي , فانا اعتبر هذا الاهتمام وفاءا مني وحبا لهذه الكواكب المتالقة في مسيرة الدراما العراقية , اضافة الى هذا لعلني استطيع المساهمة من هذا الاهتمام بتذكير الجهات المعنية برفع الغبن والحيف الذي اصاب هؤلاء النجوم من التعتيم الاعلامي وحالة من النسيان المتعمد او الغير المتعمد , وهذا بالطبع ياتي من اهتمامات الدولة والمسؤولين عن حركة المسيرة الفنية في العراق , ومع مزيدا من الاسف الذي يلاحظ ويتابع هذه المسيرة الفنية ويراقب نشاطات الفنانين ضمن هذه المرحلة الزمنية من تاريخ حركة المسرح في العراق ومقارنة مع الاحقاب الزمنية الماضية سيلمس الفرق مما كان عليه الحال وعلى الحال الذي وصل به الفنان العراقي من قلة العطاء او من اعمال لا ترتقي الى مستوى ماكان عليه في الماضي , ويعود هذا الى عدة اسباب منها عدم اهتمام الدولة والمسؤولين عن حركة المسيرة الفنية في العراق وانعدامها في هذه المرحلة بالذات مما سببت حالة من الياس لدى معظم فنانينا في العراق والذي ادى الى هجرة القسم الاعظم منهم الى خارج العراق , او اللجوء الى الدول المجاورة من الدول العربية بغية البحث عن الرزق , او اصابة القسم منهم حالة من الوهن والمرض مما اقعدهم على سرير المرض , والقسم الاخر عجل في الرحيل الى العالم الاخر بحثا عن الراحة الروحية والجسدية خيرا من مكوثهم في هذا العالم مع حياة ( عفوا ) لا ترتقي الى مستوى البشر وهم في حالة من العوز المادي والذي اوصلهم الى حالة لا نتمناها لاي انسان .
ونحن ومن خلال هذا المنبر المقدس نناشد جميع المؤسسات ذات العلاقة مع الاعلام والدوائر المعنية بان تشمل الرعاية الصحية والمادية للفنانين العراقيين ولا سيما منهم الرواد ممن وصل بهم الحال الى العوز المادي والقسم الاخر طريح فراش المرض والذين يملكون من عزة النفس لا يسمحون لانفسهم ان يطالبون بالمساعدة وبالرغم من ضروفهم الاقتصادية والتي لا يحسدون عليها .
ومن هنا ساقني الواجب المقدس ان اتناول مسيرة حياتهم ضمن هذه المرحلة القاسية , وان اسلط الاضواء على ما وصل بهم الحال من واقع تعيس وحياة قاسية .
انني في هذه الدعوة الكريمة ليتفضل القراء ويسترجعون بذاكرتهم ويتذكروا ما قدمته الفنانة القديرة والرائدة ازادوهي صاموئيل , هذه الفنانة التي شقت طريقها بقسوة وشاقة مع الحياة , وابت ان تتراجع الا وان تحقق اهدافها لخدمة الجماهير المعجبة بفن ادائها وقدرة عطائها , ان ازادوهي صاموئيل هي ايقونة المسرح وراهبة في محراب الخشبة المقدسة ,
ولدت هذه الفنانة الكبيرة في بغداد وبالذات في منطقة راس القرية في شارع الرشيد سنة 1941 من عائلة ارمنية هاجرت من تركيا بعد الاعتداءات الاثيمة والتي اصابت الارمن من سبي وقتل وتهجير , مما اظطر والدها وعائلته للهجرة من تركيا الى العراق واستقر بهم ااالحال في بغداد فابصرت فيها نور الحياة , حيث عاشت هذه الابنة في احضان عائلة فقيرة حرصت على تعليم اولادها في مدارس نموذجية , فدخلت الابتدائية في مدرسة الارمن الغربية , ولقد كان لشقيقة الاستاذ سامي عبد الحميد دورا في مشاركتها مع فرقة المسرح الفني الحديث وهي تعمل تحت اسم مستعار ( زاهدة سامي ) .
ان اسعد لحظات حياتها دخولها معهد الفنون الجميلة واطلاعها على خفايا حرفية التمثيل والاكتساب الثقافي الاكاديمي والتسلح بالثقافة النظرية والعملية , لقد كانت في مقدمة الفتيات اللاتي سعين للدخول الى عالم الفن وعن طريق معهد الفنون الجميلة واحتلت احد الكراسي لتكون تلميذة مجتهدة ساعية الى معرفة الثقافة المسرحية وبعلمية اكاديمية .
دخولها الى معهد الفنون الجميلة فتح الابواب على مصراعيه امام العديد من الفتيات اللاتي كن يرغبن في الدخول الى المعهد والتي تحققت من خلال الجراة والتحدي للعديد من الفتيات اللاتي كن يرغبن في الانضمام الى رعيل طلاب معهد الفنون من جيلها , ولهذا كان لها دورا قياديا في هذه المسيرة حينما التحق بركبها كواكبة من فتياتنا للتسجيل في هذا المعهد مما ادى في السنة الثانية التحاق عدة طالبات به واصبحنا طالبات في المعهد منهن هناء عبد القادر, وسمية داود, وبعدها التحقن بهن طالبات كان لتسجيلهمن تاثيرا ايجابيا في مسيرة المسرح العراقي منهن فوزية الشندي , ورؤيا رؤوف , وساهرة احمد , وشوبومحمد ومنيرة عباس, وبلقيس الكرخي , وهكذا اانفتح مصراعي باب الانتساب الى المعهد واصبح وجود الطالبات حالة طبيعية لكل من ارادت تحقيق احلامها في عالم المسرح , حيث التحقت في المعهد بعدئذ غزوة الخالدي واحلام عرب بعد ان سبقتهن في التلمذة كل من الفنانة القديرة والرائدة فوزية عارف وهناء جاسم زوجة الفنان القدير والرائد نزار السامرائي .
هذه الفنانة القديرة والرائدة في عالم المسرح ازادوهي اطلعت على اهم ادبيات الكتاب العالميين ومن خلال اصداراتهم وعن طريق روائع ادبيات المسرح العالمي ومنهم ستانسلافسكي وتشيخوف ومسرحياته وبريشت ونظريته ومدرسته , وكذالك هي متاثرة ايضا بمدرسة ستانسلافسكي وتعلمت منه فنون التمثيل ومن خلال تعاملها الروحي مع الشخصية والتقمص والاندماج مع الدور وبموجب تحرير الاحاسيس الداخلية للشخصية وعكسها الى الخارج وعن طريق رد فعلها الداخلي , ولهذا تفوقت على العديد من الممثلات واللاتي لا ثقافة لديهن والموجودات على ساحتنا الفنية ( وماشاء الله ) , هذه الفنانة اخذت من مولير مايزيدها ثقافة وابداعا وتالقا في مسيرتها الفنية , لقد اخذت من البير كامو ثورته على الاعراف والتقاليد الاجتماعية البالية , اضافة الى كل هذا استفادت من برندلو وتعلمت منه كيف تتعامل مع الشخصية لتجسدها بشكل اكاديمي على خشبة المسرح ,
ان الفنانة القديرة ازادوهي هي مدرسة بحد ذاتها قائمة على ركائز الثقافة المسرحية , تشاهدها تنتقل على خشبة المسرح وبموجب مامرسوم لها من الحركة برشاقة ومرونة جسدية , وصوت له من السحر في نبراته , اضافة الى كل هذا انها تملك من الثقافة والملكة الاكاديمية في فن الالقاء , ولهذا اصبحت هذه الفنانة نجمة من نجوم الدراما العراقية ورائدة قل نظيرها في مسيرة المسرح العراقي ومنذ القدم ومن خلال تلمذتها على ايدي اساتذتنا الرواد من امثال بهنام ميخائيل وجعفر علي وجعفر السعدي وجاسم العبودي وسامي عبد الحميد وبدري حسون فريد وابراهيم جلال وقاسم محمد والذين كانت لهم لمسات فنية في صقل مواهبها وتقديمها في اعمال مسرحية عديدة منها :مسرحية اني امك ياشاكر , وفوانيس , ومسالة شرف , والمفتاح , وتموز يقرع الناقوس , والنخلة والجيران , وثورة الموتى , فمن هذه العناوين لمعظم مشاركاتها كممثلة لك ان تتعرف على قدرتها وثقافتها وموهبتها الفذة والتي اكتسبتها من في هذه الاعمال كممثلة ونجمة متالقة في مسيرتها الفنية والتي جعلت المنتجين السينمائيين ان يتعاقدوان معها على العديد من الافلام السينمائية منها فيلم الجزاء , وفيلم وجهان في الصورة . لقد عملت في مسرحية المثري النبيل لمولير واخراج جعفرعلي , ومسرحية عطيل لشكسبير واخراج جاسم العبودي , ومسرحية اوديب ملكا لسوفكليس واخراج جعفر السعدي ومسرحية من وراء الافق لاونيل واخراج بهنام ميخائيل , وكذالك جسدت العديد من الادوار الجادة في المسرح العراقي حيث كانت حريصة اشد الحرص على نجوميتها مثلها كمثل العديد من كواكب المسرح العراقي واللاتي تناولنا سيرتهن في مقالات سابقة , انما هي تميزت عنهن بادوار فيها من الفلسفة والمضمون الانساني , نصوص دافعت من خلالها عن حقوق الانسان وحرية الجماهيرفي اتخاذ القرار , كانت تعشق الادوار التي تملك الجراة والعمق الفلسفي متاثرة بالمدرسة الواقعية , ولهذا جاءت ثمرة ابداعاتها بجوائز عديدة حصدتها ضمن اعمال عراقية ومهرجانات عربية والتي شاركت فيها وابهرت الجمهور العربي بحرفيتها وتمثيلها الذي تميزت به عن بقية نجوم المسرح العراقي والعربي .
لقد كانت تعاني هذه الفنانة في بداية مشوارها الفني من لكنة كانت تلازمها لكونها مسيحية وارمنية في الوقت نفسه , الا انها ومع مرور الزمن والتدريب المتواصل مع تمارين الصوت والالقاء , اضافة الى ملاحظات اساتذتها وتوجيهاتهم اكتسبت خبرة في الالقاء فتغلبت على هذه اللكنة التي كانت تعيقها في بداية مسيرتها الفنية مما جعلت تجسد الامراة البغدادية الشعبية واعطائها الصورة الواقعية وبشكل ابدعت في هذا التجسيد , فلقد مثلت الامراة الشعبية والامراة المعاصرة المثقفة اضافة الى التنوع في الادوار اكسبها خبرة وحرفة جعلها متمكنة من تجسيد جميع الادوار وبشكل ابهر الصحافة والنقاد المعنيين في عالم المسرح .
بعد تخرجها من معهد الفنون الجميلة عام 1962 عينت معلمة في بغداد الا ان سرعان ما اعتقلت وفصلت من وظيفتها بعد انقلاب 1963 مما اظطرها الى العمل في صالون حلاقة للسيدات , لقد عانت من الملاحقات الامنية وشددت الرقابة على انشطتها لكونها تحمل ميولا سياسية يسارية تناصر من خلالها الطبقة الفقيرة والعمالية الكادحة حالها حال العديد من النساء الوطنيات واللاتي كن يناصرن الطبقة الفلاحية والعمالية ويعملن على مقاومة الاستبداد ومناهضة الافكار التي لا تخدم شعبها ومجتمعها , وقد اعيدت الى وظيفتها وبعيدة عن بغداد في محافظة الانبار كي تبقى بعيدة عن موقع عملها ونشاطها المسرحي مع فرقة المسرح الفني الحديث , الا انها بقيت صلدة ولم تنحني امام هذه المعوقات حيث كانت تتواصل مع دوامها الرسمي في الرمادي صباحا وتسافر الى بغداد مساءا للمشاركة في نشاطها المسرحي مع فرقة المسرح الفني الحديث والتي بقيت تزاول عملها الفني منذ عام 1954 وحتى تموز عام 1968 وهي تعتبر من اكثر الممثلات العراقيات نشاطا وغزارة ومشاركة في مسرحيات ذات شان في مسيرة المسرح العراقي .
ان الفنانة القديرة ازادوهي صاموئيل فنانة لا تجد في الحياة غير خشبة المسرح في بغداد , هذه الفنانة التي تهوى الاطلاع على الكتب الادبية والقصص الصغيرة والروايات والشعر ,اضافة الى هوايتها قراءة ادبيات المسرح العالمي وبالذات اعمال الكاتب الروسي تشيخوف والتي اكتسبت من افكاره فلسفة في الحياة ترجمتها وجسدتها ضمن اعمالها المسرحية , اضافة الى هذا فهي تهوى الموسيقى وتعشق اغاني المطربة فيروز ومائدة نزهت , كانت تملك اذن موسيقية وتظبط ايقاعاتها الحسية ولهذا كانت تسبح في احلام الموسيقى والاصوات ذات الملكة الاحترافية في الاداء والطرب , هذه الفنانة اللامعة كانت مفتاح باب الدخول لعالم الفن للعديد من اللاتي كن يرغبن الاقتحام لجدار اسمه الاعراف والتقاليد الاجتماعية , حيث كانت اسما وعلما لريادتها في دخول معهد الفنون الجميلة , لقد ضربت رقما قياسيا في اعمالها الدرامية منذ سنة 1954 حيث سجلت ومن خلال نشاطها المستمر محفلا فنيا رياديا بتمثيلها الذي رسخت من خلاله فنا عريقا دون ان تبالي بالحواجز والمعوقات الاجتماعية التي كانت تحول امام تحقيق احلامها التي كانت تتمنى ان تتحقق سيما وانها كانت فتاة مثقفة سياسية احبت السياسة كونها تحس بمعانات الانسان ومن خلالها استطاعت خدمة الجماهير والمجتمع , بحيث ساهمت من خلال عروضها المسرحية بتحقيق الاهداف السامية للحياة الكريمة التي يجب ان يكون عليه المجتمع .
الفنانة ازادوهي صاموئيل لاقت المطاردة والمحاربة برزقها , انما امنت بقدرها واصبحت امام الامر الواقع والذي لم تهرب منه وانما قاومت وتصدت بايمانها وعزيمتها على انها ستحقق ما تريد من اهدافها المرسومة لحياتها السياسية ومن خلال خشبة المسرح والذي اعتبرته المنبر المقدس المؤمنة به على انه هو السبيل الوحيد الى التغيير والتطوير من اجل تحقيق الاهداف والبدائل التي من شانها ان تساهم في اسعاد هذه الشريحة الاجتماعية المعدمة والتي حرمت من ابسط مقومات سبل العيدش والحياة الكريمة .
ان الحديث عن هذه الفنانة القديرة لا تفي بضعة اسطر لشرح ابعاد مسيرتها وحياتها الفنية , ان ماقدمته من اعمال اكاديمية تالقت بها ونالت استحسان المعنيين بشؤون المسرح من المسؤولين والصحافة والنقاد , الا ان ما يؤسف له ان هذه الفنانة التي وقعت طريحة الفراش الان , ولازمها المرض وابعدها عن الساحة الفنية , لم تنل الاهتمام والرعاية الصحية من الجهات المعنية وبما يليق بمقامها , ونحن نتسائل ومع جميع اصحاب الضمائر الحية , اين موقف نقابة الفنانين العراقيين من هذه الفنانة الرائدة ؟ اين موقف وزارة الثقافة والاعلام واهتماماتها ورعايتها الصحية لهذه الفنانة التي وهبت حياتها للمسيرة الفنية في العراق وطيلة 52 سنة من حياتها , ان ازادوهي صاموئيل تحدت القيود الاجتماعية والسياسية , وبقيت تغرد وتشدو للجماهير وللوطن وللفقراء وللمعدمين من ابناء طبقتنا العاملة وابنائنا من الفلاحين المغلوبين على امرهم , فماذا جنت لقاء تلك التضحية ؟ انما للحقيقة هي لا يهمها موقف الذين ذكرناهم بقدر مايهمها محبة الجماهير ومتابعتهم لاخبارها والذين تعتبرهم زاد وماء الحياة التي تعيش عليه بقية حياتها .
وستبقى ازادوهي صاموئيل ايقونة المسرح وراهبة في محراب الخشبة المقدسة وعلى مدى السنين اللاحقة من مسيرة المسرح العراقي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق