حين يكتب سارتر عن فلوبير في (أحمق العائلة)
احمد الزبيدي - تاتو
لا يزال الكتاب الذي ألفه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بعنوان (احمق العائلة) والذي تناول فيه أدب وسيرة حياة الكاتب غوستاف فلوبير،يشكل مادة للبحث والتحليل باعتباره من الكتب الرائدة في مجال النقد الادبي،
وقد تناول الكاتب الانكليزي جوليان باتريك بارنز (المولود في العام 1949 والحائز على جائزة مان بوكر لعام 2011) هذا الكتاب في مقالة نشرتها المجلة البريطانية الشهيرة لندن ريفيو اوف بوكس.
يصف الكاتب جوليان بارنز هذا الكتاب بانه عمل رائع ويثير الاعجاب،ذو اسلوب مكثف لكنه مكتوب بسلاسة،في الظاهر يبدو عليه كتاب سيرة ذاتية عادي،لكنه في الحقيقة ينسج من خلال السيرة الذاتية لفلوبير دراسة نقدية لجميع اعمال فلوبير،ويتذكر كاتب المقالة في معرض وصفه لعبقرية سارترما قاله الرئيس الفرنسي ديغول عن سارتر في عام 1968 حين طالبه بعض مستشاريه باعتقال الفيلسوف ـ على خلفية الاضطرابات التي سببتها مواقفه من الاحتلال الفرنسي للجزائر، ودعوته إلى العصيان المدني ـ ردّ الرئيس ديغول حينها: فولتير لا يُسجن.
من بدأ مشروع هذا الكتاب؟ انه روجيه غارودي على مايبدو فقد اقترح على سارتر في عام 1954 ان يتناول الاثنان سيرة حياة فلوبير واعماله،(انا من وجهة نظر ماركسية وانت من وجهة النظر وجودية)هكذا قال غارودي لسارتر،وشرع سارتر في كتابة مؤلفه الكبير هذا وقد تحدث عن الغاية من تأليفه في صفحات الكتاب الاولى (ماذا نعرف عن فلوبير بعد كل هذا الزمن الطويل؟انه اكثر مما نتخيل،هناك الكثير من الوثائق والادلة والشواهد التي تحتاج الى غربلتها،وتفحص الاراء المتناقضة عن فلوبير والفرضيات المشكوك فيها والاستنتاجات المتسرعة)،اذا فسارتر امام مشروع ضخم لسيرة حياة مبدع كبير،حينها قرر سارتر ان يستخدم التحليل الماركسي للخلفية الاجتماعية لفلوبير،وان يعتمد التحليل الفرويدي لدراسة شخصيته،وما بينهما من ثغرات يمكن ان يتم ملؤها بافتراضات تخيلية مبنية على وقائع محددة،وليس غريبا ان مثل هذا العمل الضخم قد اخذ من سارتر اكثر من عقد من السنين من حياته.
ولكن لماذا فلوبير؟يذكر سارتر انه قد تأثر في طفولته بفلوبير وغوته وقد تسممت افكاره بنزعتهم التشاؤمية،لكن (مراسلات فلوبير) هي التي نقلته من الكراهية الى الحب،وعلاوة على ذلك فقد قدمت له مادة ضخمة للتحليل النفسي لشخصيته.
وهناك ايضا عوامل ذاتيه لاختيار سارتر تأليف كتاب عن فلوبير،كان سارتر يرغب في عمل مقارنة بين طفولته وطفولة فلوبير،ولكن المقارنة لم تكن لصالح سارتر كما يكشف عن ذلك كتابه (الكلمات)،كلا الكاتبين نشأ في عائلة بورجوازية تقليدية تمارس الفضيلة دون ان تؤمن بها،كان سارتر قد تعود على شكوى جدته من جهة الام التي كانت تكررها حين بلغت السبعين من العمر من زوجها الاناني الذي استولى على طعامها لنفسه في اول ليلة من شهر العسل وكان ذلك في العشرين من عمرها اي قبل نصف قرن،وكيف كانت حياتهما مليئة بالحقد والضغينة،او رواية جده من جهة الاب عن اكتشافه في اليوم الثاني لزواجه ان عائلة زوجته التي كان يظنها ثرية كانت في حقيقة الامر قد اصابها الافلاس،ومنذ تلك اللحظة لم يكلم زوجته ابدا،ولا يتبادل معها سوى الاشارات اذا اراد منها شيئا،وعاشا على هذا الحال لاكثر من اربعين سنة،وقد نشأ كلا الكاتبين (سارتر وفلوبير)في مثل هذا الجو من العلاقات العائلية التي تسودها النزاعات والمشاكل،وكان جد سارتر كثيرا ما يذكره بوالد فلوبير،اما جدة سارتر فقد كانت تشبه الى حد كبير مدام بوفاري بطلة رواية غوستاف فلوبير الشهيرة.
كان سارتر يحب ان يجادل في ان هناك اختلافا جوهريا ومهما بينه وبين فلوبير،فقد كان في طفولته طفلا محبوبا ومدللاً،على العكس من فلوبير الذي لم يكن محبوبا في طفولته، وحتى لو سلمنا بصحة هذه الفرضية التي يقول بها سارتر كما يقول كاتب المقال جوليان بارنز فان هناك الكثير مما يجمع بين الاثنين،وكما يذكر سارتر في كتابه الكلمات فانه عاش سعادة مزيفة في ايام طفولته بل ان من يقرأ كتابه (احمق العائلة) يكتشف ان تلك السعادة لم تكن سوى منّة من اهله،وكم كانت هذه العائلة البورجوازية ظالمة له وتعامل هذا الطفل الذي سيصبح في المستقبل فيلسوفا بكل قسوة وانانية،في حين كانت معاملة عائلة فلوبير له اقل وطأة.
يستمر كاتب المقال في عرض هذا الكتاب المهم والذي يعد معلما من معالم تاريخ النقد الادبي في العالم ومحاولة مهمة في التحليل الاجتماعي والنفسي لسيرة حياة واعمال كاتب مهم مثل غوستاف فلوبير،مما يشير الى ان اسهامات جان بول سارتر في الفلسفة والفكر والادب لا تزال تحتفظ باهميتها رغم مرور كل تلك السنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق