تصنيفات مسرحية

الأحد، 13 ديسمبر 2020

«باليه باراد»: أفكار جان كوكتو ورسوم بابلو بيكاسو الراقصة

مجلة الفنون المسرحية


«باليه باراد»: أفكار جان كوكتو ورسوم بابلو بيكاسو الراقصة

 *مروة متولي 

عندما نشاهد «باليه باراد» نفهم المكتوب عن كل ما صاحب عرضه الأول في باريس عام 1917، من معارك وخلافات نقدية، ومشادات كلامية وبدنية أيضا، والجيد إنه باليه من فصل واحد، لا تزيد مدته الزمنية عن 22 دقيقة، وتعود شهرة هذا الباليه وأهميته إلى الأسماء الكبرى، التي اجتمعت على إبداعه، فمصمم الرقصات هو ليونيد ماسين، والموسيقى لإريك ساتي، أما مؤلف الباليه أو صاحب فكرته فهو جان كوكتو، الشاعر والناقد والفنان المسرحي والسينمائي، ونصل في النهاية إلى الرسام صاحب الشهرة الواسعة والمكانة الرفيعة بابلو بيكاسو، الذي قام بتصميم الملابس والمناظر والمجسمات، وطغى بفنه على كل شيء آخر، وتغلّب بألوانه وتأثيراته البصرية المفهومة وغير المفهومة، على الفكرة والموسيقى وخطوات الراقصين، فلا يشعر المرء بأنه استمع إلى موسيقى ساتي، أو تابع حركات ماسين، أو شرد مع فكرة كوكتو، وإنما يشعر فقط بأنه شاهد رسومات بيكاسو، وهذا يكون صعبا على غير متذوقي الفن التشكيلي، أو من لا يفهمونه بسهولة.
كما أن مشاهدة هذا العمل لن تكون ممتعة بالطبع لهواة الباليه الكلاسيكي، أو الحديث أيضا، لأنه يفتقد إلى الدراما والحكاية والخيال والمشاعر، التي يفيض بها الباليه الكلاسيكي بخطواته وحركاته الحالمة، وكذلك قوة التعبير، وطلاقة الجسد الحر في الباليه الحديث.
كما أن الموسيقى في «باليه باراد» كفيلة بالتشويش على أي مشاعر إن وجدت، فإن ضوضاء ساتي ومؤثراته الغريبة وضرباته المزعجة، وصمته المريب أحيانا، لا تسمح بالتركيز ومحاولة الاندماج مع أي من عناصر الباليه الأخرى، ويعتبر بعض النقاد إريك ساتي من عظماء الموسيقيين، رغم كل شيء، وربما يحب البعض سماع مؤلفاته الأخرى الشهيرة.

تقوم فكرة «باليه باراد» على العلاقة بين الفنان والجمهور، فأبطال الباليه هم مجموعة من الفنانين، الذين يقدمون عروضهم على مسرح متنقل، أو داخل خيمة ينصبونها في مكان ما، ويسعون إلى جذب أكبر عدد من المتفرجين لمشاهدة عروضهم، وهم يبدون كمزيج من لاعبي السيرك وفناني التياترو، ولا يزيد عدد الراقصين في هذا العمل عن ثمانية، ثنائي الأكروبات المكون من رجل وامرأة، وثنائي الحصان الذي يختبئ داخل مجسم الحصان برأسه المكعب، والفتاة التي ترقص منفردة وترتدي ما يشبه ملابس البحارة، والمهرج أو الساحر الذي يرقص منفردا أيضا، بالإضافة إلى الشخص المختبئ داخل مجسم تكعيبي شديد التعقيد، ولا نرى منه سوى القدمين واليد التي تمسك بالعصا، وهو بالطبع لا يستطيع الرقص، ولا يؤدي سوى بعض الخطوات البسيطة، وهناك رجل آخر داخل مجسم تكعيبي أيضا، وإن كان أقل تعقيدا، يمسك بورقة مكتوب عليها باراد، ويتحرك على المسرح بخطوات شبه راقصة، تدل على أنه يعلن عن العرض الذي يقدمونه، وينادي على الجمهور الذي لن يظهر ولن يأتي، وسيفشل الجميع في جذبه وإحضاره إلى عرضهم، حيث يخرج أحدهم من الخيمة ويؤدي جزءا من استعراضه في الشارع، أملا في أن يخلق رغبة المشاهدة في نفس الجمهور.

تقوم فكرة «باليه باراد» على العلاقة بين الفنان والجمهور، فأبطال الباليه هم مجموعة من الفنانين، الذين يقدمون عروضهم على مسرح متنقل، أو داخل خيمة ينصبونها في مكان ما، ويسعون إلى جذب أكبر عدد من المتفرجين لمشاهدة عروضهم.

لكن الباليه يبدأ بالرجل المختبئ داخل المجسم التكعيبي، بخطواته القليلة المقيدة، التي تبدو بهلوانية بعض الشيء، بعد ذلك يخرج المهرج أو الساحر بشعره الطويل المضفر، وماكياج الوجه الذي يوحي بأنه من الصين، وتدل بعض حركاته الراقصة على أنه يؤدي بعض الألعاب والخدع السحرية، لكنه يبدو كمهرج أحيانا، ثم يغادر المسرح ويدخل الرجل المكعب الآخر، الذي يمسك بالورقة الإعلانية المكتوب عليها كلمة باراد، ويمسك بما يشبه البوق ويدور يمينا ويسارا لينادي الجميع، وهو لا يتمكن من الرقص أيضا بسبب المجسم التكعيبي، وعندما يغادر المسرح تخرج من الخيمة الفتاة التي تؤدي رقصة منفردة، وتؤدي بعض الخطوات القريبة إلى الكلاكيت والمحاكاة الجسدية لمشية شارلي شابلن، وطريقة الاستعراض الهزلية إلى حد ما، وبعد أن تنتهي من رقصتها، وتغادر المسرح، تصمت الموسيقى تماما ويدخل الحصان، ليؤدي بعض الحركات مثل التحية الشهيرة التي تؤديها الأحصنة في الغرب، والانحناء بالرأس مع ثني الساق الأمامية، ثم أداء بعض الحركات بشكل مضحك، كالوقوف على الساقين الخلفيتين. وتعود الموسيقى مع دخول ثنائي الأكروبات، ونشاهد ما يمكن تسميته بالرقصة الثنائية في هذا العمل، حيث تؤدى بعض حركات الباليه الأساسية، التي يتم كسرها عمدا أو قطعها، وعدم السماح باكتمالها، من أجل تغليب الطابع الأكروباتي على الرقصة، وبعد الانتهاء من هذه الرقصة يختتم الباليه باجتماع كل الراقصين على خشبة المسرح، أو في الشارع، بالإضافة إلى الرجلين المكعبين، ويؤدي كل من الراقصين أقوى الحركات التي قدمها في عرضه المنفرد، ربما للدلالة على ازدياد اليأس، وتكرار المحاولات البائسة لجذب الجمهور، الذي لم يأت أبدا.


يبدو أن فكرة العلاقة بين الفنان والجمهور، كانت تشغل بال جان كوكتو، وهي فكرة رائعة كان يمكن التعبير عنها حركيا بشكل أكثر درامية، يدل على مدى معاناة الفنان الذي يحتاج إلى الجمهور احتياجا معنويا طوال الوقت، ويزداد الأمر سوءا وبؤسا، إذا كان الاحتياج معنويا وماديا أيضا، كما هو حال أبطال «باليه باراد» فالعروض التي يقيمونها وينتقلون بها من مكان إلى آخر، والاستعراضات التي يؤدونها هي مصدر رزقهم، بالإضافة إلى كونها الموهبة والشغف والحياة وكل هذه الأمور التي تمثل الجانب الروحي الجميل من الفن، ومن المفارقات أن «باليه باراد» لاقى الرفض نفسه، وعانى معاناة أبطاله عندما عرض لأول مرة، والغريب في هذا العمل هو طغيان عنصر الملابس بصورة غير مسبوقة في فن الباليه، فقد تطغى الموسيقى أحيانا، أو الحكاية الدرامية، لكن المعتاد أن يطغى الرقص في أغلب الأوقات بطبيعة الحال، لكن بيكاسو انتصر على الجميع بحضور لا يقاوم، وتأثير كبير، ربما يكون متذوقو الفن التشكيلي أكثر قدرة على فهمه وتفسيره، لكن حتى من لا يعرف عن بيكاسو سوى بعض المعلومات الأولية عن فنه التكعيبي ومرحلته الزرقاء، سيشعر بأثر اللون الأزرق، سواء في ملابس ثنائي الأكروبات أو الرجل المكعب، وكذلك بأثر الألوان الأخرى وتصميمات بقية الملابس، ومجسم الحصان برأسه التكعيبي الغريب، كل ذلك سيشعره طوال الوقت بأنه يشاهد رسوما أو شخصيات خرجت من إحدى لوحات بيكاسو، وبأنه يطالع في النهاية لوحة مكتملة تضم الجميع.

----------------------------------------------------------
المصدر : القدس العربي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق