الغول الرقمي والشاطر الفنان المسرحي غنَّام غنَّام – فلسطين ورقة مقدمة ضمن أعمال المهرجان الثقافي المحلي للمسرح المحترف بقالمة/ الجزائر
غنَّام غنَّام – فلسطين
ورقة مقدمة ضمن أعمال
المهرجان الثقافي المحلي للمسرح المحترف بقالمة/ الجزائر
17 إلى 21 ديسمبر 2020
كان يا ما كان في حاضر العصر والأوان، كان وسوف يكون يا سادتي الأعيان، هنا وليس هنا، ولنقل في بلاد اسمها “لخمستان“، وما غَرّبْتُ البلادَ إلا كي أتجنب غضبة الباشاوات من النقاد والفنانين والسياسيين، فلن نتحدث اليوم لا عن ترامب ولا أردوغان ولا بايدن، ولا عن هواة السلام، ولا عن محترفي الهوان، بل سنحكي عن المسرحي الشاطر الفنان.
والفنان هنا ليست صفة أو نعتاً، بل اسم والأسماء مكتوبة في اللوح المحفوظ عند الرب الديّان، فقد ولد لعبد ربه الفقير للمال و لرحمة الرحمن، عدد من البنات و الصبيان، و آخر العنقود جاء إلى الدنيا، خرج من رحم أمه و لم يبكِ، قصوا حبله الصُري و لم يبكِ، قلبوه و شقلبوه وعلى ظهره وقفاه ضربوه ولم يبك، احتارت القابلة والأم و الأب في الأمر، وصادف ذلك مرور عجوز غريبة الألوان، مُشعشعةٍ لامعة، مُشَنْشَلَةٍ بما يشبه الحبال، تحسبها تضيء من جنباتها، و كأن وجهها كرة بلور تتكسر عليها أشعة الشمس فيتلون، و ما أن رآها الوليد حتى ضحك ضحكة غريبة من أعماق قلبه، مما أثار دهشة والديه وأغضبها، ضربت بيدها الهواء فتردد فيه طنين رهيب و قالت بصوت عجيب : هذ الوليد سيتعب في حياته، و سيشقى في يومياته، سيتعب الناس و سيكون كثير اللغو و الكلام، سيتحلقون حوله، يسمعونه،ثم ينفضون كأنه لم يكن و لا كان.
قال الأب: كيف تقولين عنه كل هذا وهو قد ولد للتو؟ فقالت ضحكته الساخرة التي أطلقها في وجهي دون احترام لمهابتي تقول إن أخلاقه ستكون سيئة، ستكون كأخلاق الفنان و العياذ بالله، ثم ضربت بعصاها الهواء و اختفت مثل برق مَضَى، و ما بين مصدق لنفسه و مكذب، و كأنه بين النوم و الصحيان، أعلن العبد لله أن هذه رسالة من السماء وأنه سمى الوليد “فنان“.
كبر فنان وكان مليح الصفات، بديع الحركات واللمحات، يحب الجميع ويخدم الضعيف و العجوز، و يغني للحزين حتى يفرح، و يروي للمحزون حكايات ما سمعها إنس من قبله ولا جان، و كان فهلويا، و لا تنقصه الحيلة، لكن الله أوقع في قلوب الناس محبته، فراحوا ينادونه الشاطر فنان.
وروح يا زمان و تعال يا زمان، كبر الشاطر فنان و صار شاباً، رقيقُ القوام، لا يصلح لعراك، لكنّ أحداً لم يستطع أن يهزمه، لا يصلح للأعمال الشاقة ولا نبغ في الكيمياء ولا الفيزياء، لكنه في كل مساء كان يصعد (مصطبة) عالية في الحي، ويردد الألحان، و يغني الأشعار، يوقد النار في المكان و الأفكار، يحكي حكاية العشاق المجانين كيف عاشوا وكيف انتحروا، يحكي قصص الأنبياء و الأبطال الفاتحين وكيف أنتصروا، يحكي عن الخلق والبدايات، وعن الفينيقين والفراعنة والسومريين، يحكي عن البحارة المكتشفين، وعن رعاة الصحاري والقفار، يجتمع الناس حوله كأنه ساحر، و حين ينهي ألعابه ينفض من حوله السامر، وحين يحتارون في أمره وحبهم لما يفعل، يقولون، بالمختصر المفيد يا إخوان، هذا الفتى فنان، أما هو فكان يضيف : فنان مسرحي.
أما العجيب والغريب في هذه الحكاية، أن الناس كما سنة الحياة، تفنى و تولد، و الأجيال تتجدد، الشوارع تتغير، البيوت كذلك و العمران، مدارس الأولاد، والمركبات، من الحيوان إلى “المواتير” التي تقاس قوتها بالحصان، وتطورت العلوم، سرق طبيب الأسنان من الحلاق جزءًا من مهنته، و سرق المهندس من البناء جزءًا من مهنته، وسرق الطبيب من المداوي جزءًا من مهنته، و سرقت الإذاعة جزءًا من أحاديث الناس فيما بينهم و إشاعاتهم، و سرقت السينما جزءًا من خيالهم، و سرق التلفاز جزءًا من مساءاتهم وسمرهم، تغيرت أشياء كثيرة، و لكن الشاطر الفنان المسرحي لم يتبدل، الناس تفنى وهو عايش، وكأنه قد أكل عشبة الخلود قبل أن تختطفها الأفعى من يد جلجامش، وظلت تلك المصطبة حاضرة بل وصارت مصاطب وأركاح و خشبات، ومدرجات وكواليس ودخل التجار على الخط وكوّنوا الشركات و صار هناك انتاج و تسويق وإنجازات وأرباح و سرقات، حتى صار الفن جاذباً لمن يتفنن و من لا يَفِنّون، وصار الفقهاء في الفلسفة يضعون فيه النظريات، وظل الشاطر الفنان يلعب قصص الأولين والآخرين، قصصاً حدثت و قصصاً لن تحدث، وظل ينثر الجمال على رؤوس الناس محبة، إلى أن جاء يوم وظهرت تلك العجوز التي شهدت ولادته وكانت السبب في تسميته، هل تذكرونها أم نعيد الحكاية من جديد؟
حركت عصاها، فانتشر في الكون مرض لعين شديد، أسماه البعض كورونا وأسماه البعض كوفيد، واضطر الناس للمكوث في البيوت دون خروج، ووضعوا الأقنعة الواقية و الكفوف، وانتشر الوباء، وعم البلاء، فلا سفر ولا انتقال، وساءت الأحوال، وامتنع الناس عن التجوال، إلا في أوقات محددة و رقابة وأوامر مشددة، واعتمت مصطبة الفنان، فلا مسرح ولا تمثيل ولا ألوان، وتحول الناس إلى التعامل بالتطبيقات، لكل شيء في حياتهم من طلبات، انتعشت شركات الإلكترونيات، وصار توصيل كل شيء إلى باب المنزل، وبارت بضاعة الفنان، فراح يخرج من أرشيفه ما كان قد وثقه بالصوت و الصورة، و حين يدخل إلى مصطبته و صومعته، يجد نفسه وحيداً فريداً.
راج سوق الفيديوهات، وانتشر سوق المنصات، و صارت دراسة الطلاب عن بعد، و الشغل يتم إلكترونياً و عن بعد، و تحمس البعض فعقد عن البعد الندوات، وبعضهم المهرجانات، فراج سوق التيمز و الزوم و كل منتوجات الميكروسوفت، و صارت حال الشاطر الفنان مثل الزفت.
وذات ليلة و هو شارد الأفكار، وجد امرأة فارعة بارعة دراعة عنده في وسط الدار، تساءل كيف دخلت؟ كيف عبرت؟ فقالت له لا داعي للسؤال، فلا شيء اليوم أمامي محال، أنا الجميلة المزيونة رقمنة، هيا معي إلى بلادي، فليس لك بعد في هذه الدار و لا في المصطبة للعيش من مجال.
شدته من يده وسحبته كخيط من سم الإبرة، ودون وعي أو شعور ألفى نفسه معها في مكان طافح بالنور، يعج بالروبوتات، وكل شيء يعمل فيه باللمس وبالهمس وبمجرد النظر، فقال لها أي مكان هذا الذي نحن فيه، قالت له: أنت الآن في المستقبل، الذي تختزل فيه الأمكنة والأزمنة، أهلاً بك في عالم لا تعرفه، أهلا بك في عالم الرقمنة.
واستدارت و لفت حول نفسها كالزوبعة فإذا بها تتحول إلى عجوز السوء التي نعرفها، جفل قلبه و تماسك بصعوبة، وسألها ماذا تريدين؟
قالت : منذ ولادتك سخرت مني، و أنا أرقبك، أريد أن أرد لك الصاع صاعين، سأسخرك وأرقمنك؟
قال : أتحولينني روبوتاً.
قالت: أرقمن فنك، أرقمن مسرحك، أرقمنك، فتصير عبد الرقمنة.
قال : و إن رفضت؟
قالت : سيلفظك التاريخ إلى مزبلته.. فهلا سلمتني رقبتك؟
قال : اوتعلمين من أنا؟
قالت : أعرفك من زمان. الشاطر الفنان
قال: الشاطر الفنان المسرحي، أول من وظف التقنيات في خدمة فنه.
كانت النار اكتشافاً مذهلاً، اضأت فيها مصاطبي المسرحية.
كان البناء علماً بسيطاً، فوظفته لبناء مدرجاتي، فيه درست كيف ينتقل الصوت في الحجر، و كيف يتمتع المشاهد بالضوء و النظر و السمع، و أنظري في الآثار، تجدين المسارح صامدات، و ما زلنا نقدم عليها الفنون المختلفات.
كانت العجلة والبكرة اختراعاً مفصلياً لولاه ما كان كل ما نعيشه، أنا أول فن وظفها العمل المسرحي.
اكتشف الإنسان الوقود فأنرت به قناديل عتمتي.
جاءت الكهرباء لتنير الكون، فكنت أول فنان يستخدمها، بل استخدمتها قبل أن تعرفها الأفران و المركبات.
جاءت تقنيات الصوت و الإذاعة فزودتها بالمبدعين و تكاملت معي، لم أخطفها و لم تخطفني، وظفت الصوتيات و المؤثرات في فنوني، حضرت معي و سجلت فني..
جاءت السينما لتكون مارداً، فأدخلتها في قمقمي ووظفتها.
وخذي ما قاله غنام غنام عام 2007 أي قبل ثلاثة عشر عاماً في موضوع تقنيات السينما والمسرح:
راحت التكنولوجيا من صوت و صورة و إضاءة و بناء مناظر و مناخ افتراضي على المسرح تأخذ دوراً أكبر و أكبر، ولا أدل على ذلك من دخول تقنية الصوت و الصورة السينمائية على المشهد المسرحي في عملية توشيج لعالمين فنيين “السينما” و “المسرح“، و كل منهما قامة فنية مستقلة، ربما تشتركان في بعض المكونات و ربما في الكثير منها من حيث عناصر المعادلة، إلا أن المنتج النهائي لهما مختلف تماماً، إذ تكون الصورة النهائية في السينما لحظة ثبات لمعرفة قديمة ثابتة غير متجددة، لكنها تستعاد كما هي دون تغيير كلما عرضت من جديد، بينما تكون اللحظة المسرحية لحظة ولادة حياة جديدة منبثقة عن معرفة قديمة، قابلة للتطور و التغير بلا توقف.
ومن هنا نجد أن المسرح بسعة آماده استعان بالتكنولوجيا السينمائية، فيما لا تستطيع السينما فعل ذلك أبداً، ولنتخيل أن فيلماً مدته ساعتان، قدم مشهداً حياً مدته دقيقة أمام الشاشة ضمن إطار حدثه الدرامي، فإن العرض سيتحول إلى فعل مسرحي، ولن يحدث العكس لو أستخدم المسرح السينما داخل مشاهده.
سقت هذا المثال لأصل إلى أن قامة المسرح استثناءٌ جامعٌ، يحتوي ولا يُحْتَوى.
ومنذ الثلث الأول في القرن العشرين، راح المسرحيون يدخلون السينما وما إلى ذلك في العروض، ولم يكن ذلك ليشكل الخيار الأجمل والأقوى بالمطلق، لكنه كان يشكل الخيار الأجمل للحظة الإبداعية المحددة لذاتها.
وحتى عندما جاءت الخوازميات بالرقمنة على بساطتها، فاستخدمتها في تجهيز الإنارة والصوت وخلق المناخات البصرية والصوتية وإعلاناتي وبثثت عبرها ما أقدمه حياً وما أسجله وأوثقه من فنوني، سهلت الرقمنة ذلك.
عودة لورقة غنام غنام عام 2007، جاء فيها:
“في السنوات الأخيرة راحت التقنيات الرقمية والحاسوبية تدخل في العرض على الخشبة، بعد أن دخلت الحواسيب في برمجة النظام الضوئي والصوتي للعرض، ونظام تبديل المناظر والمناخات (الواقع الافتراضي) وهو مصطلح أطلقه (جيرون لانييه)،ورغم أهميتها إلا أنها ظلت مكملات مسرحية، ولم تنجح برأيي محاولات العروض الضوئية البصرية المدعمة بالموسيقى والمجردة في تقديم عرض مسرحي، ولكنها بغض النظر عن الجمال أو الدهشة، قدمت عرضاً ضوئيا بصرياً لا أكثر“.
كل ما فات من التقنيات صار جزءاً من تجهيزاتي، وظل الشاطر الفنان المسرحي رقماً صعباً لا يرقمن، المادة ترقمن أما الإبداع والإحساس والانفعال والعواطف التي يحملها الإنسان فلا ترقمن، اتأثر بالرقمنة لكنني لا أصير عبدها بل تصير صديقتي وأصير صديقها، أحبها ولا أخافها، فالمسرح يحتوي ولا يحتوى.
الرقمنة مرحلة من مراحل التطور التكنولوجي/ التقني، وكما جاء في ورقة المسرحي غنام غنام عام 2007 فإن “التكنولوجيا مفهوم ثابت لمعطيات متغيرة متطورة بتطور العلوم التي يعمل عليها البشر، وما يعتبر في لحظة تاريخية منجزاً تكنولوجياً متطوراً، يعتبر في لحظة تاريخية لاحقة واحداً من المندثرات أو الحلول البدائية، خاصة في ظل التطور التكنولوجي المتسارع تسارعاً “ريخترياً” (نسبة لمقياس ريختر للزلازل).
تعالي نلتقط صورة سيلفي، سأطيرها على كل وسائل التواصل الاجتماعي، سأضعها عل موقعي الإلكتروني، هاتقي مرقمن، جهاز التحكم في سيارتي مرقمن، حاسبي مرقمن، جهاز التلفزيون مرقمن، الفرن والطباخ والميكرويف والغسالة مرقمنة، كل أدوات الحياة الرقمنة، الرقمنة خادم لحياتي.
وكما قال الشاعر أحمد فؤاد نجم “والخوف يجي ليه؟ من عدم الشوف“
فالجهل بعلوم الرقميات والتكنولوجيا الحديثة هو المبعث الأساسي لهذه “الفوبيا” التي تصيب البعض، فيصل الأمر إلى توظيفها توظيفاً غير سليم فتأتي النتائج عكسية ويتم رفضها جملة وتفصيلاً واتهامها بأنها خربت العمل المسرحي، أما المعرفة في هذه العلوم فإنها تساعد على اختيار توظيفها لرفع سوية المنتوج فنياً، ويساعد على التخلي عنها إن لم يكن لها ضرورة فنية.
فتواضعي ولا تلعبي دور الغولة، من طورك إنسان، ومن يستخدمك بشكل جيد إنسان ومن يستخدمك بشكل سيء إنسان، ومن يتغول على البشرية بك هو غول مضحك مثلك.
أنا الشاطر الفنان،لو حصلت كارثة في الأصقاع الباردة حيث تخزن كل المرقمنات ذاكرتها، تبقى لي ذاكرتي و ستحمل ذاكرة البشر إبداعاتي كما حملت الخيال المجنح في أساطيرنا و حكاياتنا آلاف السنوات، لو انقطعت الطاقة سأبقى أنا الإنسان.
بالمناسبة، كل برامج الألعاب الإلكترونية التي تصور مباريات كرة القدم مثلاً و أنا من هواة لعبة الأتاري، لا يمكنها أن تحقق بطولة لا في حارة و لا في بلد و لا في قارة و لا في العالم..
كل البحار الافتراضية لا تشعرني بالانتعاش و لا تبلل قدمي.
تعالي أبرمجك و أضع لك باسوورد (كلمة الدخول) جديدة.
اسم المستخدم الشاطر الفنان المسرحي
كلمة السر : to be or not to be
بالمناسبة وبعيداً عن المسرح، أنا فلسطيني، جيش الاحتلال مرقمن جداً، لكن الحجر في يد فتى الانتفاضة أقوى وأبقى.
ملاحظة للتوضيح:
نسجت ورقتي هذه على منوال الراوي، الذي يجلس أمام الناس وبعد أن يسلم ويحيي يبدأ الحكي بقول “قال الراوي..” فيكون هو الراوي الذي يروي على لسان راوٍ ثانٍ، فكنت الراوي الأول غنام، والراوي الثاني غنام، وهذه من فوائد أن يكون اسمك مكرراً محبوكاً أوله مثل آخره، والحمد لله.
الشارقة 19 ديسمبر 2020
----------------------------------------
المصدر : إعلام الهيئة العربية للمسرح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق