الشخصيات:
المرأة ( الضمير، الحبيبة، الزوجة ، الأم)
الرجل (الشاب، الجندي، المُهاجر، القتيل، الشهيد)
المنظر( المسرح مظلم ،صوت انفجار قذيفة على أثره تبدأ الإضاءة بالظهور تدريجياً لنشاهد مجموعة من سياقان وأعمدة خشبية مختلفة الأحجام والأطوال وأكياس (الجنفاص) المملؤة بالتراب متناثرة هنا وهناك وتوجي للمتفرج بأنه موضع عسكري في خطوط التماس مع العدو.. صوت أنين يطغى على المسرح، تنحصر الإضاءة على شكل بقعة ضوئية على السيقان والأعمدة الخشبية المتراصة مع بعضها ليظهر الرجل من بينها وكأنه يبحث عن شيء مفقود ويخفت الأنين )
الرجل: هذا!؟ كلا.. ربما هذا.. كلا.. [ينهض] أنني أبحث عن خطٍ يفتح لي الخلاص!!
تراب أحرقته القذائف وماء لوثته الدماء .. وهواء امتزج برائحة الدخان! صرنا
دواب الأرض، بل حطب الأرض وبهذا سنكون بانتظار الموت لأنه على الأبواب
دائماً، أجواء الهمس تسود المكان ،متى نوقف نهر الألم الجاري؟!
صار اللهاث صوتنا! والنظر بكل خوفٍ وتوجس من وراء تلك الأكياس المنيعة
المملوءة بالتراب، خطوط متشابكة صارت حياتنا ما بين الطول والعرض
[يتفحص راحة يده اليُسرى بكلِ دقةٍ وأناة]تدل هذه الخطوط التي في راحة يدي
على أحداثٍ ونمط ٍ للحياة التي عشتها!!هذا ما تعلمته من صديقي سامر الذي
كان مولعا بقراءةِ الكَف والأبراج، وكلما طلبت منه أن يقرأ كفي يوافق على
شرط وهو أن أشتري له علبة سجائر.. أيه رحمك يا سامر.. عرفت منك
إن طول الخط لا يدل على عمر الشخص أنما يدل على جودة حياته.
ها أنا أبحث عن فسحة أمل في عالمٍ مضطرب، فأحلامي مرقطة بألوان شتى
مثل بدلتي العسكرية هذه.
المرأة[تدخل وهي ترتدي عباءة غريبة التصميم ، تقهقه عالياً مما تثير الاشمئزاز]
الرجل: من أنتِ؟
المرأة: أنا ضميرك، نبض قلبك أيها الرجل التائه
الرجل: أن كنت تائه حقاً فاعذريني، لأنني أحتمي خلف هذه الأكياس، تكسرت تواريخ
وتهدمت مصابيح على أبواب تساؤلاتي ليكتب النهار الذي لا يطرق بابه
سوى الحروب. عندها يموت ربيع الكلمات فالكل تائه بين خطوط حياته
التي امتلأت ما بين الفرح والحزن والجوع والخوف.
المرأة: لا زلت تعيش في الماضي
الرجل: من لا يتذكر الماضي لا يمضي خطوتين نحو المستقبل.
المرأة: على ما يبدو أنت مولع بالخطوط؟
الرجل: كلا، ولكن عريف شاكر صِنفُه (مُشغِل رادار) كثيراً ما حدثنا عن أهمية
خطوط الطول والعرض للمُشغل.
المرأة: حقاً فلولا تلك الخطوط لما أستطاع الإنسان أن يحدد موضعه على سطح
الأرض براً وبحراً وجواً.
الرجل(بألم)البر!؟ الجو!؟ البحر!؟ لا تذكريني بهذا يا امرأة.
المرأة: لماذا؟
الرجل: لأن تم بيعهم جميعاً. وها هي العودة الى لعبة الأرض بلا حدود!
المرأة: لكن خطوط الوطن وشم في باطن القلب وظاهره، الوطن هو أن يسكنك وتسكنه.
الرجل: لكن جسدي في وطني ولأن قلب الأرض قلبي، قررت أن لا يخطفه مني أحد.
ايها الوطن مهما حملت نعوشنا.. فلن نحمل نعشك !اعذرني لأنني تكسرت
على موانئ التغريب وشواطئ الرحيل.
المرأة: وتبين لي انك أيضاً برجلٍ مهزوم.
الرجل: ومن منا لا تهزمه الأقدار، فها أنا أسير على عكاز الألم، متعب من أيامي،
ماتت حتى الأماني الصغيرة!؟هل سأبني لي هنا قصراً للحياة أم للحُبْ أم
للموت!؟ هل وِلدت لكي أموت وكل ذكرياتي وأحلامي ستموت هي الخرى!
المرأة: الأيام التي مضت ،أم تلك التي نعيشها الآن؟
الرجل: لا يهم، فأنها مجرد أرقام من الدقائق والثواني، فحينما يغادرني الأمل والحُلم
تبقى الخطوط حائلاً بيني وبينها، صفحات سوداء لا تكفي مياه دجلة والفرات
لغسلها! أناشيد الموت المقيم على شفاهنا وأسئلة الحزن التي لا تنطفئ، أي
زمن عاقر هذا الذي نعيشه الآن، رحت أصنع من صفحات الأحلام في زوارق
تبحر في مياه الألم والدم.
المرأة: تبحث عن خلاصك في الركض وراء سراب الأحلام؟
الرجل: وأين ضمير الخلاص من هذه المحنة الطويلة المتعددة الأوجه؟
المرأة: هل نسيت يا هذا ..أنا ضميرك، هيا قل ما حاجتك به؟
الرجل: حاجتي به لأنه كالضماد لشفاء وطني الذي يئن من جراحه.. حينما يحتضر
الوطن يعصف بأرواح أبنائه.
المرأة: هل ماتت الإنسانية؟
الرجل: لم تعد الإنسانية مكاناً لها بيننا، رحلت باكية متأسفة على ما وصلت إليه
البشرية كما اغتالوها قبل رحيلها!
المرأة: لماذا؟
الرجل: لأن القسوة غلفت وجوهنا وخنقت الرحمة في قلوبنا فصار أحدنا يأكل
لحم أخيه ميتاً، أو يفسد في الأرض أو بسفك دماء بغير حق، طار الفرح
فزعاً من أصوات الطائرات والبراميل وهدير القذائف ولعلعة الرصاص،
فكل الأيام حزينة مثقلة بالخوف والمجهول.
المرأة: تقصد أن هذا الزمن كثر فيه الطعن والخيانة.. زمن أصبح فيه الأبيض أسود
والأسود أبيض؟
الرجل: صحيح هذا الكلام؟
المرأة: تبين لي بالملموس أنك رجلاً ضائعاً مهزوماً.
الرجل[يضحك] أنا ليس برجل ٍ مهزوم، بل بسيط كالماء وبساطتي ليس لها حدود،
لأنني أحب من حولي ،ففي داخلي طفل يخاف أن يكبر ولم يحقق من أحلامه
شيئاً كما أن خوفي أن أعيش في تداخل واشتباك بين خطوط تغتال الحُب.
المرأة: يا للغرابة طفل وعاشق في آن ٍ واحد!؟
الرجل: بل أنني أكثر من ذلك ،لأننا نعيش حالة الحزن الدائمة والفرح المفقود،
أصبحنا مسكونين بالخوف والتوجس ،دعيني أذن أخيط جروح ربيعي
المتخم برماد الحروب.
المرأة: الحرب! تلك التي التهمت شباب!
الرجل: في البداية كان الشهداء يتساقطون واحداً تلو الآخر. وكانت الجنازة ذاتها
مبعث فخر وإعتزاز ليس لأهل الشهيد بل لأهل المحلة كلها.
المرأة: لم نعد نميز أعراس اهل المحلة عن جنائزهم. في العرس يبكون وفي الجنازة
يغنون ويزغردون. وكم شهدت المقابر من زفات لشباب مثل الورود.
الرجل: اما الآن أصبح الدفن بصمت وإنكسار! ويعود أهل الميت الى بيوتهم وهم
منطوين على أنفسهم .فلم تعد الجنازات اعراساً بل صارت عويلاً وصراخاً
المرأة: اليوم بفخر وكبرياء اتسعت مقابر الشهداء! وهذا أعظم أنجاز لنهجهم !
فالمقابر دليل على نجاحهم
الرجل: ايام الحروب ملعونة فيها انتصارات وخسارة وفقدان
المرأة: تلك الصور جعلتك ان تضع الخطوط الحمراء بدلاً من البيضاء وأصبحت تملأ
المكان وتحاصره؟
الرجل[يهذي] نعم . أنها خطوط منحنية .قف!؟ لا تقترب !؟ بُمْ.. سيارة ملغمة! ممنوع
هذا أو ذاك! ممنوع هنا وهناك! أهرب من أطنان الممنوعات وتكاثر الأسئلة ،
أفعل ذلك كل يوم منذ أن وطأت قدماي أرض المعركة حتى يكل عقلي
ويهدني التعب ،فأغفو للحظات ٍ معدودات ثم يستيقظ قلبي من صور جميلة
أسدلت ستائرها الحرب اللعينة.
المرأة: لا تكن ضعيفاً، الحياة تحب الأقوياء .
الرجل: لكن ذكرياتي تبعثرت ورميت من العمر كل سنوات الأمل في أرض الحجابات،
منذ سنين وأنا أعيش في ظلام ..مسافر بلا بيت يأويني أصبحت أعيش عيشة
طائر خفاش في الأماكن المظلمة فوجدت الهجرة ملاذي الآمن.
المرأة: تقصد أنك سافرت للبحث عن بقايا الفرح المفقود؟
الرجل: حملت حقيبتي ووضعت تذكارها مع أشيائي ورحلت ممن أحبهم بلا وداع ضعت
في بلدي وفي المنفى ،أبحرت سفينتي في المجهول خارج خطوط الوطن ،لم أسمع
نصيحة صديقي لي عائد منه حينما قال لي: ستجوب الأراضي والمدن لكن الغربة
والحنين ستنخر روحك.
المرأة: وهل نخرتك الغربة أم الحنين؟
الرجل: كلاهما عندي سواء، لأنني مهاجر وهارب. أخرج من وطني ووطني يدخل فيّا
أينما رحلت. انا الذي كنت غريبا في بلاد اخرى فلا بأس ان اعيش غربتين غربة
داخلية واخرى خارجية.
المرأة: هارب لأنك مسافر من دون هوية ،لأن من لا وطن له لا هوية له.
الرجل: ما يعني أنني ارتكبت جريمة، وما هي جريمتي؟
المرأة: أنك ولدت على أرض ٍ مليئة بالأساطير والحكايات.
الرجل: وما عساي أن أفعل!؟.. هل أكتب رُقم الطين جديدة! أم أكتب مسلة حمورابي
الثانية!؟
المرأة: ربما هناك أسباب أخرى لا تود البوح بها؟
الرجل[متردداً بعض الشيء] لا. من التعسف رحت باحثاً عن ذاتي المفقودة أو أحاول
اللحاق وإكمال البحث عن أمنياتي، لم أترك مدينة إلا وكانت تحت أقدامي إلا
أنني لم أعثر على ما أردت.
المرأة: وكيف وجدت ذاتك ؟
الرجل : خطوط مبعثرة، تصورت بأني سأقبض على ما فلت من يدي وأنا هنا، صرت مثل
طائر هجر عشه مرغماً، إلا أني لم أمسك سوى ريشة جناح ذلك الطائر المهاجر
،فاختفت آخر ملامح لي مع أسراب تلك الطيور المهاجرة التي طعنت بخناجر
المنفى ثم قررت العودة.
المرأة: لماذا؟
الرجل: أتعبني الجوع والحر والبرد والحسرات، نمت على الأرصفة، لم أبالي لكل هذا
لأنني كنت أملك من الأحلام ما يكفي لنصف سكان الأرض إلا أنها تكسرت
على حافات الحنين والعوز من المجهول. استبد بي الجوع والعطش هنا فتذكرت
الجوع في بلدي وصرت اعمل ليل نهار حتى ضاعت مني الاوقات واختلطت علي
الليالي فصرت اعمل وانا نائم على البلاط.
المرأة: عقدت الأمل للعيش هناك في فردوس.
الرجل: عملت في مهن لم تخطر على بالي أن أقوم بها، لكنها كانت تقيني من برد ٍوحر
الأرصفة، لذا كنت أعمل طوال اليوم وأعود الى فراشي جسداً عاشقاً للنوم ناسياً
ما كنت أحلم به .
المرأة: لأن حياتك أصبحت تسير في خطوط منحنية عندها تبعثرت حياتك واقتادتك الى
خيوط وهمية.
الرجل: صحيح. كانت حياتنا هادئة آمنة وتسير بخطوط مستقيمة ،وها أنا أتساءل أيضاً
هل كان القدر المحتوم بي نحو ما أنا عليه الآن أم أن الخطأ كان خطأي لِمَ لَمْ أهاجر
منذ أول أيام شبابي !؟ لِمَ جنبت عن الهرب من الجيش؟ لمَ.. لِمَ؟
المرأة: لم تفكر هكذا، لأنك مذبوح بحنين وحرقة دمك مما حل بالوطن.
الرجل: وها أنا أنتظر نهايتي السوداء بعد كل الذي عانيته من قبل وحتى هذه اللحظة
وفي مثل هذا الليل المظلم خائف ما بين الموت والمواجهين وأنا أجر خطاي
بصعوبة نحو الملجأ الذي تناثرت أكياسه هنا وهناك وتشظت الخطوط وأصبحنا
حطب!.. نثرت الأجساد كحبات الرمل.
المرأة[باستغراب] حطب!؟..ماذا تقصد؟
الرجل: قضيت في الأرض الحرام زهرة شبابي، ففي هذا المكان لا تفعل شيء سوى أن
تقي قوامك من الطلعات وأن تصد الهجمات المعادية عن القائمين خلفك، أجل
!..جيل كامل كان بمثابة حطب كي تظل النار متوهجة ،لم أكن أعلم بأن الواجب
الدفاعي تكون ضريبته أن أصبح وقوداً للمعركة [يبكي بألم وحرقة] أجسادنا صارت
وقوداً للنار وأسمائنا حفرت على شواهد قبورنا.
المرأة: انت تعرف ان اجساد الشهداء محرمة على دود الارض!
الرجل: نعم يا ماه.. لكن القبور تحنو على الموتى فتسترهم.
المرأة: لكن سُفن أسماؤكم سترسو على شواطئ المجد والشهرة.
الرجل: لا يهم أين سترسو ،لكن المهم متى ستنكسر أشواك الشر ويتوقف العبث
بالحطب، عفواً أجسادنا.
المرأة: كثرت بركة الدم كما في أساطير الأولين، فلنصلي لتحترق الفجيعة وتبعد عنا
رائحة الموت[ تتغير الإضاءة ــ تخلع المرأة عباءتها عن ظهرها وتقترب
من الرجل].
الرجل: هكذا كويت أيامنا بالنار، هذا هو قدرنا أيتها الحبيبة لأن الحرب ليس فيها
من رابح إلا الموت والخراب.
المرأة: لكن انتصاراتكم كانت هي لاصطياد الشمس ،لا شأن للأقدار بما صنعته، كم مرة
وعدتني في الإجازة القادمة بيوم زفاف ٍ بهيج ويهيج النفوس لزغردة العرس .
[تنطلق موسيقى وأهازيج شعبية تقام أثناء العرس، ترقص المرأة على أنغامها ويشاركها بالرقص أيضاً الرجل، المرأة تتوقف عن الرقص تتحسس جسدها]هذا الجسد المكتنز الذي
كان ينتظرك لتفتشه بأنفاس ٍ لاهثة.
الرجل: كيف لي أن أنسى أيتها الحبيبة الغالية، أردنا أن نتقاسم معاً شظف العيش على
أمل أن ننعم يوماً ما بالبهجة، ربما كانت أحلامنا وراء الأفق، فالنار حطمت الحُلم
والفؤاد.
المرأة: أنني لن أنساك ما حييت .
الرجل: لا تحزني انتهت أجازة العرس ، وها أنا ذاهب لأقاتل عند خطوط التماس صيانة
لعرضك ِ.
المرأة: أيتها الحرب ،أيتها اللغة الملعونة، أرفعي عقيرتك بالموت وسأطلق صوتي مغرداً
بالحب ولا يهمني مهما نثرت ِ روائح الخراب.
الرجل: مهما يكن يا حبيبتي أن عزاءك هو الأمل الذي يسكن قلبك عندها ستنامين في
راحة البال. مجنون من لا يترك حكاية خالدة عن الحطب الذي تاه بين النار
والخطوط.
المرأة: عُد لي سالماً في الأجازة القادمة لأنني لا أريد أن يموت الحب بداخلك.
الرجل: لا زلت أحمل بقاياه [بشيء من التردد والانكسار] لكن لا تطلبي الكثير من الحب
من إنسان اقتلع عقله وقلبه من أزيز الرصاص فالحياة معركة تحتاج الى سلاح!
فهل سمعت ِ عن محارب بلا سلاح!
المرأة: سلاحك أنا، وأبنك الرابض بين أحشائي، أمك التي ترش الماء عند عتبة الباب
عند رحيلك، أبوك الذي يدعوا لك في كل الصلوات[تقترب منه أكثر بقوة وحنان
وتضمه الى صدرها]
الرجل: تريدين الحقيقة ،كنت سعيداً بموتي الذي لا يشبه غيري من رفاقي في السرية أو
الفوج [يبتعد عنها على حين غفلة]
المرأة: بأي ثمن أختصر أوجاعي وأختصر مسافة الفراق يا حبيبي ،كلما اقتربت منك
ابتعدت عني لماذا؟ هل أصبحت تكرهني وتحب خطوط التماس أكثر مني؟
الرجل[باعتذار ممزوج بأنني يمسك يدها بكل قوة وتأكيد] هذا ليس صحيحاً فحماية
خطوط التماس هي توثيق للحب بيننا، كما أنني أشم فيك ِ رائحة الأرض
وطعم الحياة، أحبك حتى الموت، فرائحتك عبق الماضي، وابتسامة الأمل، حبي
لك مكتوب على الرُقم الطينية منذ أقدم العصور، اعذريني أيتها الغالية لأن
رماد البارود شوّه صورنا الجميلة[يجثو عند رجليها باكياً] اعذريني.
المرأة[كأنها استفاقت من حلم طويل، تبتعد عنه ثم تعود وتضع عباءة على ظهرها
وتمشي بانحناء الظهر قليلاً حتى تقف على رأس الرجل لتساعده بالنهوض]
((( تتغير الإضاءة ))
المرأة: أنهض يا ولدي، جئت لزيارتك.
الرجل [ينهض فرحاً كأنه أفاق من غفلة ويبتعد عنها كأنها ملدوغ] ماذا!؟ عودي من
حيث أتيت ِ يا أماه.
المرأة: لماذا يا ولدي؟ طالت غيبتك عنا؟
الرجل: أنني في نوبة حراسة الآن ،والضابط إذا جاء سأقع في مشكلة!
المرأة[باستغراب] أن تزورك أمك في أرض المعركة مشكلة.
الرجل: نعم انه لا يريد زوار هنا كما ويحثنا باستمرار قائلاً:
[يقلد صوت الضابط] من أجل سلامة المدنيين نحتاج الى نظام وقنابل وليس
زواراً.
المرأة: لكنني اشتقت إليك كثيراً يا وحيدي.
الرجل: وأنا أكثر يا أماه، هانذا للسنة السادسة ما زلت قابعاً على خطوط التماس لا فرق
عندي بين ليل ونهار أو نهار، فكلاهما عندي سواء، حطبٌ تأكلها النار، أحس
أحياناً بأن القيامة قد أتت قبل أوانها، فألسنة اللهيب حولي تأكل كل شيء ورائحة
الدم تزكم الأنوف [يبكي] حروب أكلت نصف الوطن، حزن بالوراثة كأنه منحوت في
ذاكرتنا، هل خلقت الناس لتموت قتلاً!؟ كنت الناجي الوحيد يا أماه من بين رفاقي
الذين استشهدوا لحماية تلك الخطوط، كلهم ذهبوا سدى مع أدراج الرياح!!!
نسيت جراحي وكل الشظايا التي اخترقت جسدي والنار التي التهمت ملابسي لأنني
عاشق لميتة الأبطال.
المرأة: قد تموت الأشجار، تنحني للريح! لكنها تظل واقفة، سأمنحك جنحي حمامة تحلق
بها عالياً حين تمطر شظايا الحرب عليك[كأنها تذكرت للتو] أين رفيقك سلام؟
الرجل: سلام! آه ما أشقانا برحيل الأحبة يا أماه.. آه يا وجعاً يأكل قلبي ،سمعت أنه
مُصاب في أرض الحرام ما بين حدودنا وحدود العدو فتقدمت للضابط
المنضبط آمر السرية ليأذن لي بإنقاذه لكنه رفض طلبي .
المرأة: لماذا رفض الضابط طلبك؟
الرجل: قال لي لا أريد أن تخاطر بحياتك من أجل إنقاذ جندي من المحتمل أنه قد مات.
المرأة: وهل انصعت لأمر الضابط؟
الرجل: كلا، ذهبت دون أن أعطي أهمية لرفض الضابط وبعد ساعة عدت حاملاً صديقي
سلام وهو مصاب بجرح مميت حاملاً جثته.
المرأة: ماذا قال لك الضابط؟
الرجل: كان معتزاً بنفسه ،لأنه قال لي ربما قد مات ، وهل كان يستحق منك كل هذه
المخاطرة للعثور على جثته.
المرأة: وبماذا أجبته؟
الرجل: بكل تأكيد يا سيدي ،فعندما وجدته كان لا يزال حياً قال لي: كنت واثقاً بأنك
ستأتي لأنني أعرف بأن الصديق هو الذي يأتيك دائماً حتى عندما يتخلى عنك
[يبكي متأوهاً بشدة]هكذا رحلوا أحبتي وممن حولي يا أماه، كانوا حطباً للنار..
تباً للنار التي أكلت أكلتنا، أردت أن أكون نهراً لسلام ليروي ظمأه أو سوراً
ما بين الحطب والنار.
المرأة: كن كالنهر الجاري يا ولدي لأنه يجتاز كل قيد وحّد وتصل حينما تريد، لكن السور
ثابت غير متحرك، بأي لغة أبكي على رحيلك يا ولدي؟ بأي وصفة أوقف استهلاك
الحطب؟ بأي وسيلة ٍ أمنع انحراف الخطوط وأي دعاء اردده لأجعل الطبيعة تنتفض
على دورتها الأبدية.
الرجل: لكن غرباء آتين من جزر العُهر محملين بقوانين الفوضى والحرية المغشوشة
فهدموا السور.
المرأة: بالصبر يا ولدي سنعيد بناء السور.
الرجل: أصبحنا نعيش بين أسوار التيه والخوف والحرية المغشوشة.
المرأة: عندها نغتسل بالنور ونتطهر من الخطيئة، بها سنهدم أسوار الخوف والتيه
الرجل: هيا لنجلب الكفن وندفن مستقبلنا المجهول.
المرأة: كلا يا ولدي. الحصان يكبو ولا يموت، والرجل يعثر لكنه لا يسقط هكذا نولد من
جديد [تهم لترك المكان]
الرجل[ يعترض طريقها ]الى أين ؟ لا تذهبي يا أماه؟
المرأة: فيما مضى قلت لي زيارتك ِ ستسبب لي مشكلة والآن تطلب مني عدم الرحيل
الرجل: اعتذاري لك حب، وقسوتي كانت خوف، أنها طاعة عمياء من أجل الحفاظ على
خطوط التماس.
المرأة: أحسنت أيها الجندي المنضبط.
الرجل[باستهزاء] جندي منضبط!؟ضابط منضبط!؟ كل ذلك الانضباط ذهب هباء في ريح
التغيير الذين جاؤوا به من وراء البحار والمحيطات، دمروا أشيائي وشوهوا ألوان
مدننا.
المرأة: رحلوا لكنهم عادوا وهاهم في الأرض والسماء.
الرجل: وها هي الأرض والأرواح تئن من حرب ٍ جديدة اسمها!.. حرب الرايات! تحاصر
العقول وتنفى الافكار ليموت الانسان.
المرأة: انها لعبة دموية جديدة ستسطر في التاريخ وقائع مأساة اضافت الى كواهلنا
سنوات لا تحملها الجبال او يطيقها الزمن.
المرأة: جاؤوا ليحرروا المُقسم وتجزئت المجزئ، انقضوا على شواهد الحضارة دمروا
الحجر! قتلوا الجمال منعوا الألوان إلا السواد! هدموا المآذن والكنائس.
الرجل: راياتهم اخترقت النفوس والأبواب خلسة فاستوطنت في الأزقة والبيوت وأسكنتهم
في مخيمات للمهجرين والفارين من سيوفهم فتهدمت بيوتهم ولم يحملوا سوى
مفاتيح البيوت.
المرأة: كم رؤوس قطعت وألقيت في نهري دجلة والفرات !لا فرق عندهم بي صغير
وكبير! رجل وامرأة! قاموا برسم خطوط مغناطيسية لتجذب الشر أينما وجد،
لتتوغل داخل القلوب والعقول. بوجودهم ماتت الحياة! يبست الزهور وتحولت
الى حطب مرةً أخرى.
الرجل: لذا أنني أبحث عن ريشة عنقاء.
المرأة: ريشة عنقاء !؟ ما حاجتك بها؟
الرجل: أن أحلق بها نحو الشمس!
المرأة: لماذا؟
الرجل: أنا وكل أبناء جيلي نستغيث يا أماه!
المرأة: ممن يا ولدي؟
الرجل: أقدام الموت تطبق على أنفاسنا وتدق على أبوابنا كل يوم. فالخوف منه فينا صار
أفق. ما أكثر التوابيت الفارغة التي لا تحمل سوى الأسماء.
المرأة: إذا ماذا تريد يا ولدي؟
الرجل: أريد الخلاص من مستنقع الظلمة والحزن والحرمان والخوف.
المرأة: لكنهم جعلونا نرتدي ثوب الأحزان يا ولدي.
الرجل: تضاعف أعداد الأمهات الثكالى والأطفال اليتامى، فمجالس العزاء والنواح لم
تنقطع أبداً، صارت أثوابنا هي أكفاننا بسبب خفافيش الموت حينما يخطفون
أي شخص ويمثلون بجثته، لقد ماتت الحياة وخمدت أنفاسها كل لحظة وثانية.
المرأة: ما دام أن يقوم البشر من عقل وحس وروح بتفخيخ نفسه وتفجيرها وسط مآتم
العزاء أو ربما وسط المشيعين وهم يحملون فقيدهم الى المقبرة.
الرجل: تفجير لم يفرق بين مسيء وبريء، أنه الخراب وليل الفجائع ،الكل تخاف من
الموت الذي يجوب الشوارع كذئب افلت من سجنه، كيف امنع النار من التهام
الحطب!؟كيف اهجر زاوية الانكسار والخوف!؟أسئلة كثيرة تربعت في عقلي،
لِمَ مصيري مجهول!؟
المرأة: كثرت الأسئلة والخطايا يا ولدي، من يجيب على تلك الاسئلة؟ من يمنع النار من
التهام الحطب؟ من يكفر عن تلك الخطايا؟
الرجل: هل نكفر عن خطايانا بتقديم الذبائح والحملان يا أماه؟
المرأة: أجل يا ولدي تتوارثون الخطيئة
الرجل: تقصدين أن نتوارثها؟ ألا يكفي تلك القرابين التي هدرت على حدود الوطن لأكثر
من ربع قرن؟.. بل حولتنا الى حطب حتى يومنا هذا
المرأة: الخطيئة دخلت العالم يا ولدي بواسطة آدم! فقد توراثها الأحفاد والآباء من
الأجداد، منذ عهد إبراهيم فأورثها لأبنه مديّن فأورثها مديّن لشعيب وبدروره الى
موسى
الرجل: لكن بالنهاية كانت الخطيئة بَصلبِ ثم قتل عيسى ابن مريم العذراء!
المرأة: ما قتلوه ..ما صلبوه يا ولدي. بل اخذوه الى الجلجة وأكلوه
الرجل: إذاً طريق الموت يصنع الحياة
المرأة: لماذا تجعل صورة الموت تحيط بنا دائماً؟
الرجل: لأنه أصبح الأخ يقتل أخاه! وأخ يسكت على قتله. الإثنان يحملان السلاح.
القاتل يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. والمقتول يردّد:
اشهد أن لا أله إلا الله محمد رسول الله.
المرأة: لكن ليل الظالم اطول من ليل المظلوم!
المرأة: ماذا تقصد يا ولدي من كلامك هذا؟
الرجل: أقصد الخلاص من تلك الخطايا مثل ما قام سيدنا عيسى أبن مريم، حدثت ظلمة
أثناء صلبه .
[يحمل على ظهره عمود خشبي بشكل مستقيم وهو يهذي ، تتغير الإضاءة]
إذا كان موت سيدنا عيسى على الصليب هو بمثابة ذبيحة لمغفرة الخطايا!
أنا سأصلب نيابة عن الجميع! وأن كنت حطباً هيا أيتها النار أحرقيني
المرأة[تدور حوله متعبة] لماذا يا ولدي؟
الرجل[يقف خلف عمود خشبي وضع بشكل ٍ عمودي قرب الملجأ ليستند أليه]
ليتحرر الجميع ويتخلصوا من تلك الخطايا
المرأة: كلا يا ولدي
الرجل :لماذا؟
المرأة: لأن هناك ما هو أكبر للخلاص من تقديم القرابين
الرجل[غير مصدقا] ما هو؟
المرأة: بالحب يكون الخلاص.
الرجل: حُبْ.. حَربْ. كلمتان كلاهما تبدأ بحرف الحاء، لكنهما على نقيض.
المرأة: صدقت يا ولدي، وعندما نزرع الحُب لم نعد حطباً وإياك أن يكون الحطب من
أغصان أشجار الزيتون.
الرجل: نزرع الحب وأغصان الزيتون معاً؟
المرأة: نعم ،حتى نكون أغصاناً مورقة لا حطباً يابس.
الرجل: اريد ان امسك برأس خطوط النور الفضي الذي سيتشعب ويتوالد محولا تلك
الخطوط المتشابكة في حياتنا الى خطوط مستقيمة.
المرأة: نعم خطوط مستقيمة ومتساوية ومتوازية ومهما امتدت لن تستطيع النار أن
تأكلها وتحولها الى حطب.
(تسدل الستارة )
* abdllah610074@gmail.comhgfvd
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق