صور الفرجة الشعبية في فن «اعبيدات الرمى» في المغرب
عز الدين المعتصم
يجسد فن اعبيدات الرمى تنظيما اجتماعيا وثقافيا متجانسا، يحضر داخله البناء القَبَلي في تفاعله مع مختلف الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للقبيلة، لكونه يرتبط ارتباطا وثيقا بالعادات والأعراف الزراعية والرعوية الضاربة جذورها في القدم.
وتتشكل مجموعة اعبيدات الرمى في العادة من صغار الفلاحين والعمال الزراعيين والرعاة، وغيرهم من هُواة خَرْجَات الصيد ومباهج التجول في الغابة وراء موكب القناصة والرماة. وعندما تجمعهم المناسبات ومواسم الأولياء يتحولون من تلقاء أنفسهم إلى فنانين شعبيين، يتغنون بأحوال ومقامات الأولياء والصالحين، ويطَعمُون فرجاتهم ببعض المرتجلات والنوادر الهزلية التي يتطرقون فيها إلى مواضيع بسيطة، يستمدونها من صميم حياتهم اليومية وواقعهم المعاش، من قبيل مكائد الزواج والصراع التقليدي بين البدوي والمَدَني والنزاعات المألوفة لديهم حول الحدود وأماكن الرعي وبيع وشراء الدواب، وما ينجم عن ذلك من دسائس ومقالب.
اعبيدات الرمى: النشأة والتسمية
يرجع ظهور اعبيدات الرمى إلى القرن الحادي عشر الميلادي، إذ أسهمت طبيعة المجال الغابوي في بروزهم، حيث كانوا يرافقون السادة في النزهات والصيد، وقد يدعى لحضور فرجتهم أعيان القبائل والوجهاء وبعض رجال المخزن، وأحيانا بعض المعمرين ممن تستهويهم الفُرْجَات الشعبية، فضلا عن عامة الناس الذين يقطعون المسافات الطويلة لمشاهدة هذه العروض الرائعة من التمثيل والغناء والرقص، وكل ما يخرجهم من رتابة العمل المُضني في الحقول والعزائب، ليتوجهوا بعد ذلك إلى الأسواق والقرى، ومواسم الأضرحة، قصد العمل على إحياء احتفال دوري وموسمي في القبائل، يدوم أياما تزخر كلها بأنواع التسلية ترويحا عن النفس.
ويرى عامة الناس أن اعبيدات الرمى من الدراويش المتصوفة، الذين يجب على الناس احترامهم وذكرهم بالخير حتى لا يلحقهم أذاهم، وتنطلق هذه الفكرة من المكانة التي يتخذها شيخ «الرمى» في ذاكرتهم، فهذا الشيخ كانت له مكانة مقدسة عند القبائل، وكان يزوره الناس على رأس كل سنة، فتقام الولائم والاحتفالات على شرفه يحضرها الرجال والنساء بفرح عارم. وقد اشتقت فرقة اعبيدات الرمى من المراسيم المتعلقة بشيخ الرمى واحتفالاته بين القبائل، إذ كان لهذا الرجل عبيده؛ أي خدامه، ومنهم فنانون شعبيون يُسَلونَه في جلساته العامة والخاصة. وكان الرجل الشيخ يفرض على الناس احترام عبيده وإكرامهم. ولما مات آخر الشيوخ ظلّت هيبته في نفوس البدو، فحفظوا وصاياه، وبات لعبيده في متخيلهم المكانة ذاتها، إذ اعتقدوا أن عبيد شيوخ الرمى، بعد وفاتهم، تفرقوا واحترفوا تسلية الناس في الأسواق والساحات والتجمعات العامة. ومن هنا، استمر هذا التقدير لعبيدات الرمى.
موسم اعبيدات الرمى
تقام مواسم ومناسبات فرجة اعبيدات الرمى بشكل دوري، وفي فترات غير منتظمة تحددها السلطة، وتكون عبارة عن مَحَجات ضخمة من الناس والباعة لمدة أسبوع غالبا، وعادة ما تنظم هذه المواسم في فصل الصيف، حيث تتزامن وفترات جمع المحاصيل من لدن الفلاحين، والغلل المختلفة، فيكون الفلاحون في حاجة ماسة إلى نوع من التسلية، دفعا لرتابة العيش والمَلل، ورغبة في استعادة الحماس والنشاط المتطلبين لبداية موسم فلاحي جديد. ويتضمن الموسم فرجات مختلفة، فلكلورية ورياضية وروحية وسحرية. ويؤكد حسن بحراوي على أن تسمية اعبيدات الرمى (عبيد الرماة) تدل على أن الأمر يتعلق بجماعة من المولعين بمصاحبة الصيادين والقائمين على خدمتهم في الحل والترحال، سواء «كحَياحَة» أثناء عملية الصيد، أو كندماء ومسلين للرماة في أوقات الراحة وساعات السهر، حيث ينصرفون إلى إعداد الأطعمة والشاي، ويجهزون البنادق لاستقبال يوم جديد يقضونه في تعقب الطرائد والإيقاع بوحوش الغابة.
وقد انشقت مجموعة اعبيدات الرمى عن العرس الفني الذي كان يقام كل نهاية موسم فلاحي يستقبل فيه شيخ الرمى، حيث تبنى الخيمات وتنصب الولائم، ويسرع الناس رجالا ونساء لملاقاة هذا الشيخ المبارك، الذي يعتبر مجيئه إلى القبيلة حدثا لا يتكرر، لذلك يسهر مبدعو القبيلة وفنانوها الشعبيون على حشد مواهبهم وشحذها ثم صقلها ليتهيأ لهم تقديم مواد في مستوى الحفل، وعرض وصلات تليق بمستوى الرجل. وتكون مواد الحفل متنوعة، حيث يجتهد أهلها بغية إرضاء الرجل (شيخ الرمى) بدون الرغبة في تحقيق أهداف أحادية، ما عدا رغبتهم الملحة في أن ينالوا دعوات الشيخ وبركاته، حينما يضع بُرْدته/ سلهامه الأخضر على رؤوسهم ويشملهم به، فيشعر كل واحد منهم بالدفء حين يضع يديه على رأسه.
أما مواضيع مجموعة اعبيدات الرمى فكانت متنوعة، إذ كان المنشدون يسردون قضايا متباينة، تتعلق بما هو سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي وديني وصوفي وتاريخي.
يعد فن اعبيدات الرمى من الفرجات الأكثر شعبية في العديد من المناطق المغربية، وهو نوع من مسرح البساط الجماعي الذي يتكون من جماعة محددة من اللاعبين والمنشدين، ينحدرون من القرية أو القبيلة نفسها مثل: مجموعة « إمذيازن» ومجموعة» إنشادن» ومجموعة الطقطوقة الجبلية. وتنتشر اعبيدات الرمى، هذه الظاهرة الاحتفالية الشعبية في بلاد المغرب، وبالضبط في الحوز وعبدة والشياظمة ودكالة والشاوية وزعير وقبائل زمور.
ومن هنا تعد فرجة اعبيدات الرمى من أكثر أشكال الفرجة ذيوعا؛ لكونها ترتبط بفضاءات متعددة يرتادها الناس في كل وقت وحين، كالأسواق والمواسم والمزارات وغيرها، بل إنها كانت تدخل البيوتات والخيام، حيث كان يعمد البعض إلى استدعاء العبيدات إلى دورهم ومنازلهم لصنع جو فرجوي عائلي بعيدا عن العمومية، وبالتالي أتيح لها؛ أي فرجة اعبيدات الرمى أن تغزو الزوايا والبيوت والساحات العمومية والأسواق والمداشر. آية ذلك ما نلاحظه من مظاهر دالة على أن هذا الشكل الفرجوي ما فتئ يقدم لوحات عن الواقع الاجتماعي بقصد التوعية به مهما تكن إيجابياته وسلبياته، أو بهدف التسلية والإمتاع عبر موضوعات هزلية ساخرة، إلا أنها لا تخلو من غايات تربوية توجيهية.
والجدير بالذكر أن مجموعة اعبيدات الرمى، ظلت وفية للغة العامية (الدارجة) بشتى أصنافها تبعا لاحترام مستوى المتلقين الذين ينتمون إلى الطبقات المشكلة لقاع المجتمع، الذين يسحقهم الفقر والفاقة، وتتفشى فيهم الأمية والجهل، لذلك نقر بأن طقوس اعبيدات الرمى عند المغاربة هي أكثر من معرض فرجوي ترفيهي، وأكثر من فضاء لعبوي، بل إنها ترتبط بعامة الناس جذريا وأصليا، وتسري في دمائهم مثل طقس ديني أو اجتماعي آخر. ومن ثمة فإن الإقبال الكبير الذي تعرفه فرجة اعبيدات الرمى، يأتي من كونها توفي المتعة التي تنطلق من الواقعي واليومي والقريب من الهم الجمعي، إنها المتعة الممزوجة بهواجس الذات في علاقتها بخطوب الحياة ومصاعبها.
أما مواضيع مجموعة اعبيدات الرمى فكانت متنوعة، إذ كان المنشدون يسردون قضايا متباينة، تتعلق بما هو سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي وديني وصوفي وتاريخي؛ أي يتناولون مواضيع محلية ووطنية وقومية، مثل قضية فلسطين السليبة وموضوع الهجرة السرية ومعاناة المهاجرين، بالإضافة إلى قضايا الزواج والطلاق والفقر والجفاف. كما يتطرقون إلى مواضيع أخرى كوصف الصيد والحيوانات، ورصد مظاهر الطبيعة الحية والجامدة، والوقوف على الأطلال على غرار قصائد الشعر العربي القديم، والتغزل بالمرأة، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناول الرثاء، وتصوير المجتمع القروي ومقارنته بالمجتمع الحضري، ما جعل حياة مجموعة اعبيدات الرمى تتجسد في إطار ما يسمى بالميتا مسرح.
وعلى هذا الأساس تهدف فرجة اعبيدات الرمى إلى إثارة فضول الجماهير واستقطاب اهتمام الحاضرين، ولهذا الغرض يزينون رؤوسهم بقلنسوات مزخرفة بأصناف الحلزون زخرفة مضحكة، ومن ورائهم يتدلى ذيل الثعلب. وقد يرتدي الواحد منهم كسوة نسائية، كما أن المشاهد بصفة عامة تتوالى فيها الأدوار التمثيلية والموسيقية بحيث يتخلل الأدوار الهزلية ضرب المقص والنقر على التعريجة والنفخ في الناي. وكانوا يختمون حفلاتهم يوم الجمعة بقراءة الفاتحة في محفل كبير، يؤدونها أمام بساط مفروش عليه برنس، ويقف حوله المقدمون والشرفاء ثم يلقون بهداياهم وعطاياهم. وبعد نهاية الفرجة يحمل اعبيدات الرمى بنادقهم ويؤمون شط النهر، حيث نصبت أهداف الرماية، فيشرعون في تصويب بنادقهم نحوها، ثم يوشحون الرامي المتفوق على عمامته.
--------------------------------------------------
المصدر : القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق