مسرحية «العشاء الأخير» للمغربي عبدالله الساورة: الانتصار لحضارة العقل
ناصر الحرشي / كاتب مغربي
يشكل عنصر الزمن في هذه الافتتاحية المكانية ذات الطابع الاحتفالي بمنجزات النهضة الأوروبية في مسرحية «العشاء الأخير» (2020) لعبدالله الساورة، ركنا أساسيا للأحداث كلوحة خلفية مؤطرة لموضوع النهضة الأوروبية بؤرة هذا العقد المسرحي الفريد. لذا نرى من الضرورة الإشارة إلى أن الكاتب التزم بالترتيب الطبيعي والمنطقي للأحداث الواردة في ه، الذي يتقاطع فيه التاريخي بالتخييلي والفكري بالفني، وكذا السياسي والجمالي، ميزته تحرير الحاضر من الماضي مع الحضور التشاكلي للتراث الأوروبي بأطيافه الفكرية والسياسية والدينية.
عنوان فرعي
فالفكر الديني المسيحي مرجع هذا الحدث النهضوي، يناقض عقلانية الثيمة المولدة لهذا الجيشان الحواري اللافح بدلالاته الثقافية ومناخاته وفضاءاته على امتداد سواحل هذا النص المسرحي، الراشح بالصراع المحموم بين الفتوحات الفكرية للنهضة الأوروبية والميثولوجيات القديمة التي سادت أوروبا لقرون عديدة.
وقد توزعت المسرحية عبر أربعة مشاهد تداخل فيها الزمن بالكائن العاقل، ثم التأثيث المكاني والإشكالية الناشئة عن هذا التداخل ومسوغاته. هذا العمل التاريخي والفني يحتوي ويدافع عن الكينونة البشرية، بمساحتها وسقفها وجدرانها، وهو يحيط بوعي الإنسان وإرادته، حيث يدخل الدليل الأيقوني متمثلا في العنوان «العشاء الأخير» محور لوحة الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي، عنصرا مركزيا تبنى عليه العمارة الفكرية للمسرحية، وهي تجسد اللقاء الأخير الذي جمع السيد المسيح بحوارييه الاثني عشر، ثم جريمة الخيانة التي تلوح في الأفق من لدن أحد التلامذة، ويدعى يهوذا الأسخريوطي، مما عبد الطريق لتدفق سيل الأحداث في سيرورة زمنية نفسية وسياسية وفكرية، حيث يبدو منزل فنان هذه النهضة ليوناردو دافينشي، وبمناسبة إنهائه للوحته الخالدة «العشاء الأخير» الذي حضره رتل من الشخصيات النهضوية (مايكل أنجلو، ليونادو دافينشي، كوبرنيك، الأمير لورينزو دي ميديشي، رفاييل، ميكافللي، فليبو برونيلسكي، باري أمبراوز، غاليللي، يوحنا غوتنبرغ) فضاء يعج بالدلالات ويتمتع بأبعاد عدة، بحضور أساطين هذا الحدث الكوني الجلل، كحدث فاصل وحاسم في التاريخ. وهي الغاية التي تنشدها أحداث المسرحية، واكتشافات هؤلاء العلمية التي على إثرها انبثقت حضارة العقل. فالحفاوة الفنية لهذه المسرحية القلقة والمقلقة، المسائلة والمتسائلة انتصرت لعبقرية العقل الإنساني وبطولاته العلمية الفائقة. فقد تضمنت بشكل مباشر تفسيرا جديدا للكون، مع ذكر الأسباب ومناقشتها. فالتوتر والهواجس العميقة للشخصيات وسجالها وتصادم أفكارها، هي حجر الزاوية لهذا الصرح المسرحي.
إن معضلة العلاقة الخاصة بين مسرحية «العشاء الأخير» المقتبس عنوانها من المدونة الإنجيلية الرسمية، والتراث الفكري النهضوي، تفجر أعمق المعاني لتصبح مساحة المسرحية مادة لبناء عالم إنساني محرر من قيود الماضي ولا عقلانياته ومن الفانتازيات الفكرية المبتذلة، لتظهر عارية مكشوفة. فالأصوات النهضوية المتحاورة والصادحة بأفكارها، بدءا باسم النهضة ليوناردو دافينشي مرورا بحاميها الأمير لورينزو، وانتهاء بمخترع المطبعة العبقري الألماني يوحنا غوتنبرغ، دليل على ممارسة ثقافية جماعية محصلة ونتيجة لمجتمع أوروبي انفتح أخيرا على العالم بوعي جديد، تخلص من نظام ونسق فكري قديم واتسعت الفجوة بين نمطين من التفكير. كان هذا التقابل بينهما حادا، لأن هذا الجديد قد خرج من سياق التطور الطبيعي المتدرج متكئا على ثقافة ممارسة تنهض على العقل والتجربة، بدل المغامرات الميتافيزيقية التي كبلت العقل. لقد رصدت المسرحية ردود الأفعال الفكرية للشخصيات كل في مجاله، فحاولت منذ البداية تأطير الأحداث بالمقابلة والمحاورة، التي جرت بين الرسام الإيطالي وفحول هذه النهضة التي خرجت من أحشاء مدينة فلورنسا المضطربة سياسيا والساخنة فكريا، وذلك في بيت هذا الأخير.
حوار مثير
وفي حوار مثير بين أقطابها، وبعد الوصول إلى الذروة تم اختيار يوحنا غوتنبرغ رجل هذه النهضة الأول بلا منازع، الذي بفضل اختراعه للمطبعة سافرت الأفكار وحلقت وصار صوت العلم والمعرفة مسموعا. وإذا كان الانعزال عن العالم قد طبع الحياة في الزمن القديم قبل بزوغ عصر النهضة فإن هذا الاختراع/ المعجزة بفضل القدرات الإعجازية لهذا العبقري الألماني، قوضت جدران العزلة والانغلاق، وقربت المسافات الثقافية بين الأمم. وتأسيسا على ما سلف إن ما تقدم كان استعراضا سريعا للنظام الفكري الذي حكم النهضة الأوروبية على لسان أبطال هذه المسرحية «العشاء الأخير» التي بشرت بميلاد عالم جديد على أنقاض عالم قديم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق