تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 9 فبراير 2021

" عند مقهى الوجوديين " كتاب جديد عن الفلسفة الوجودية

مجلة الفنون المسرحية


حمد الزبيدي

صدر مؤخرا كتاب بعنوان (عند مقهى الوجوديين) للكاتبة الانكليزية سارة بيكويل، والكاتبة من مواليد العام 1963 تعمل حاليا في التدريس في جامعة اوكسفورد،يتناول الكتاب الفلسفة الوجودية منذ نشأتها والتأثير الذي احدثته في عالم الفكر،والكتاب الذي صدر ب449 صفحة يحتوي على تفاصيل كثيرة تتناول حياة مفكري الفلسفة الوجودية
وقد ركز على ثلاثة منهم على وجه الخصوص:جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار ومارتن هايدغر
يعود بنا الكتاب الذي صدر في شهر آذار الماضي الى العام 1933 حيث يلتقي ثلاثة اصدقاء في احدى حانات شارع مونبارناس في باريس، جان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وصديق قديم لهم هو  ريمون آرون،وعندما كان الثلاثة يتناولون مشروب البراندي بدأ ريمون آرون يتكلم بحماسة مفرطة  عن مفهوم فكري جديد بدأ يظهر في برلين يدعى الفينومنولوجيا (الظواهراتية). ثم ختم حديثه بالقول”وكما ترون إذا كنت  مستوعبا للفينومينولوجيا فيمكنك ان تصنع فلسفة من هذا الشراب) 
كانت هذه العبارة البسيطة هي التي إشعلت فتيل حركة فكرية، وألهمت جان بول سارتر في ان يدمج الفينومنولوجيا  في نظريته الانسانية العقلانية،، وبالتالي يخلق نهجا فلسفيا جديدا تماما مستوحى من موضوعات الحرية المطلقة، والوجود، والنشاط السياسي. هذه الحركة التي ستجتاح نوادي الجاز والمقاهي في باريس قبل ان تشق طريقها نحو العالم باتت تعرف باسم الفلسفة الوجودية.
تفترض المؤلفة في كتابها هذا وجود مقهى يجتمع فيه كبار مفكري الفلسفة الوجودية فهناك يجلس جنبا الى جنب كل من  جان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار،و موريس ميرلو بونتي، وألبير كامو، وكارل ياسبرز، ومارتن هايدغر والتاريخ هو بداية الثلاثينيات من القرن العشرين ، وكتابها يطرح أسئلة حول الطرق التي يفكر فيها هولاء الناس،اسئلة عن شخصياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين. وكانت إجاباتها تاخذ شكل سرد السيرة الذاتية لهولاء المفكرين، لأن الموضوع الرئيسي لكتابها هي أن الأفكار التي يطرحها المفكرين  في كتب الفلسفة هي أقل عمقا وتوهجا من الحقائق المتنوعة والمتناقضة التي نكتشفها في سيرهم الذاتية.
للكاتبة سارة بيكويل حكايتها الخاصة مع الفلسفة الوجودية،ففي عيد ميلادها السادس عشر قررت سارة بيكويل ان تنفق بعضا من النقود التي حصلت عليها في ذلك اليوم لشراء نسخة من كتاب جان بول سارتر (الغثيان) الذي ألفه عام 1938 وانغمست في قراءة  الرواية ثم ما لبثت ان ادركت انها تنتمي الى فلسفة تدعى الوجودية تتناول مفاهيم مثل الوجود والحرية والكينونة، و راحت تبحث في المكتبات عن الكتب التي تجعلها تفهم هذه الفلسفة بشكل اكثر عمقا
في ثمانينات القرن العشرين سيطرت افكار الحداثة وما بعد الحداثة وكذلك البنيوية على الساحة الفكرية والثقافية  واصبحت افكار الفلسفة  الوجودية خارج الموضة. حينها قررت السيدة بيكويل ان تترك جانبا الأفكارالتي أحبتها وانقضت عشرات السنين قبل ان تقرر ان تؤلف كتابا عن تلك الافكار التي احبتها في سني المراهقة.
"عند مقهى الوجودين”كتاب يقدم نظرة جديدة لتلك الأفكار الوجودية التي يصفها البعض بانها اصبحت موضة قديمة  و الى الوسط الاجتماعي  الذي نمت وازدهرت فيه تلك الافكار. ومنهج السيدة بيكويل في الكتاب  هو منهج تحريضي وغير تقليدي: انها لا تعتبرنفسها عالمة بكل شيء ولا تأخذ دور الناقد،او كاتب سيرة أو مرشد سياحي. انها تبدو كمن عاد إلى هذه الافكار وقام بإعادة قراءتها في فترة لاحقة  من حياته،
عندما قرأت لأول مرة مؤلفات هؤلاء الفلاسفة، كانت سارة بيكويل تعتقد أن كل ما يهمها هي افكارهم:وعن ذلك الامر تقول”لم تكن شخصياتهم مهمة بالنسبة لي؛ كانت الأفكار هي كل  شيء.”ولكنها الآن وبعد ان توافرت لديها الحكمة والمعرفة. فانها وبعد ثلاثين عاما، توصلت إلى استنتاج معاكس"، كما تقول.”الأفكار مهمة، ولكن شخصيات ونفوس اولئك المفكرين اهم منها الى حد بعيد جدا."
لذلك فقد حاولت نسج السير الذاتية والتاريخ الفكري  لتلك المجموعة المتعددة من الأسماء. من بينها: سارتر، سيمون دي بوفوار، ألبير كامو، ريتشارد رايت، هايدغر، موريس ميرلو بونتي، إدموند هوسرل، جان جينيه والكثيرين غيرهم. اما بالنسبة لايريس مردوخ فلم تتناوله الا بشكل موجز. وكذلك الامر مع  فاتسلاف هافل.
ورغم ان الكتاب يعتبر اللحظة التي شهدت  بدء النقاش بين سارتر ودي بوفوار حول  محاضرة مارتن هيدجر الموسومة (ماهي الميتافيزيقيا)في عام 1933 باعتبارها اللحظة التي ولدت فيها الفلسفة الوجودية، لكنه يورد روايات مختلفة لشخصيات متعددة، فنكتشف حينها تواريخ  مختلفة  للحظة مولد الفلسفة الوجودية:، كما إن السير الذاتية لمعظم الشخصيات هنا تكشف عن خلاف في من له قصب السبق  في ولادة الفلسفة الوجودية،  سارتر أم هايدغر، ام كلاهما سوية  - و كل شخصية  في الكتاب لها روايتها الخاصة للاحداث، وقد قامت  الكاتبة  بيكويل بتجميعها بشكل ممتع و ساحر للغاية.
هذا الكتاب مليء  بالتفاصيل الصغيرة عن حياة اولئك المفكرين.والتي قد يفاجأ منها  البعض، فمن يصدق  ان البير كامو كان ذا  شخصية بسيطة، وصاحب روح مرحة"، او ان سارتر كان بارعا في  تقليد الشخصية الكارتونية المشهورة في افلام ديزني البطة (دونالد)
القسم المهم في هذا الكتاب كان من نصيب مارتن هايدغر.. وتتحدث مؤلفة الكتاب  كثيرا عن المنافسة بين  هيدجر و معلمه وزميله في  الفينومينولوجيا، إدموند هوسرل. فهايدغر يصف هوسرل بانه شخص مثير للسخرية. وهوسرل، عندما  يقرأ مخطوطة لهايدغر عدة مرات، تكون هوامشه عبارة عن  علامات استفهام او تعجب”؟"“!”و”؟!"
اما سارتر فقد اخذ الحيز الاكبر من بين الفلاسفة الآخرين في هذا الكتاب لاهميته في صوغ افكار الفلسفة الوجودية،هذه الفلسفة المتميزة في طروحاتها عن الوجود والحرية وعن الحب والعاطفة تلك الفلسفة التي شغلت  سكان باريس اولا وفتنتهم ثم ما لبثت ان انتشرت في العالم،تاركة بصماتها على حركات التحرر في عالم مابعد الحرب العالمية الثانية وكذا تأثيراتها على انتفاضة الطلبة في عام 1968
يروي لنا هذا الكتاب قصة نشوء وتطور الفلسفة الوجودية،ويتجول بنا مابين مفكريها بداية من (الملك والملكة) سارتر ودو بوفوار حتى الحلقة الواسعة من الاصدقاء والخصوم،فنجد فيها البيركامو ومارتن هايدغر وموريس ميرلو بونتي وكثيرين غيرهم،هذا الكتاب رحلة ممتعة وثرية في هذه الحركة الفكرية وبالتنقل ما بين  السير الذاتية لشخصياته وبين  افكار تلك الشخصيات تاخذنا الكاتبة الى جوهر هذه الفلسفة وتعيد طرح اسئلتها في عالم اليوم،من نحن ومن نكون وكيف يجب ان نعيش؟
في عالمنا الذي بات خاضعا للتكنولوجيا بشكل لم يشهد له التاريخ البشري مثيلا من قبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق