المخرج محمد مؤيد يجسّد مآسي العراقيين بالرقص الدرامي
الرقص الدرامي، أو الرقص التعبيري (الكوريغرافيا) فن يعبّر بالحركة الجسدية المنظمة للمؤدين أو الراقصين عن صور ولوحات جمالية ومفاهيم وأفكار وأحداث، ويستبطن خفايا النفس الإنسانية متخذا من الدافع الداخلي منطلقا لإنشاء الشكل الخارجي/الحركي بمصاحبة الموسيقى وعناصر فنية أخرى، فهل يمكن لهذا النمط المسرحي أن يعبر اليوم عن أكثر القضايا العربية تعقيدا؟
أصبح فن الكوريغرافيا، الذي يعتمد على لغة أو خطاب الجسد، أحد أشكال المسرح الحداثي وما بعد الحداثي، وله قواعد تميزه عن المسرح الإيمائي ومسرح الصورة.
وعرف المسرح العربي الرقص الدرامي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من خلال تجارب عدد من رواده، مثل الفنان وليد عوني مؤسس فرقة الرقص المسرحي الحديث في مصر، والكوريغراف ناصر إبراهيم مؤسس فرقة أورنينا للرقص المسرحي في سوريا، والمخرج والكوريغراف العراقي-السويدي طلعت السماوي، ثم حديثا المخرجة والكوريغراف كريمة بدير التي تولت قيادة فرقة “فرسان الشرق” للتراث والرقص المعاصر في مصر، وكانت قبل ذلك المساعدة الأولى لوليد عوني. إلاّ أن طلعت السماوي يؤكد أنْ لا تقاليد عربية في هذا الفنّ، وأن تجربته هي الأولى.
الكوريغرافيا في العراق
دخل الرقص الدرامي إلى المسرح العراقي أول مرة على يد السماوي عام 2000، حين عاد إلى بغداد وقدم عرضا بعنوان “خطوات إنسان”، يقوم على الحركة ولغة الجسد بوصفها لغة مصاحبة للغة اللفظية التي يستخدمها البشر، بمعنى أن العرض لا يفصل الكلمة عن الجسد، لكن الجسد فيه لغة أساسيّة، ويستخدم النص من دون الاشتغال على الحكاية أو السرد داخله، بل بالاشتغال على ما يسميه “الاختزال” ليصل إلى حدود الرمز.
وليس في هذه العروض شخصيات محددة، وإنما رموز تشتغل فوق الخشبة، وترسل علامات حركية أو لغوية تمنح المتلقي مجالا للأسئلة، وتدفعه إلى التفكير والتفكيك والتحليل. كما صمم السماوي مجموعة عروض، منها عرضان هما “وجوه القمر”، و”صفر زائد صفر يساوي صفر”، اللذان قدمهما في المعهد الثقافي الفرنسي ببغداد عام 2012.
عروض محمد مؤيد ركّزت على المحن التي عاشها العراق جراء الحروب والاحتلال والاقتتال والتطرف الطائفي والسياسي
وقد تبنى هذا الشكل الفني بعد السماوي بعض تلاميذه وعدد من المسرحيين الشبّان في بغداد، برز منهم محمد مؤيد، علي طالب، أنس عبدالصمد، عماد نافع وعلي دعيم، وقدموا عروضا مسرحية شكّلت موجة في المسرح العراقي، وكانت مدهشة في بداياتها، لكنها حسب رأي المخرج المسرحي الراحل سامي عبدالحميد، خفّت تدريجيا بسبب التكرار في الحركة والتعبير الجسدي الذي التزموا به، ولم يحاولوا تطويره.
أسس المخرج محمد مؤيد فرقة الرقص التعبيري عام 2010، وتولى تدريب أعضائها، وجلّهم طلبة في معهد الفنون وكلية الفنون في بغداد، وكانت أولى تجاربه معها عرض بعنوان “أنا” (2011) الذي قُدّم في المسرح الوطني ببغداد، ومسرح الطليعة في القاهرة.
وأعقبته تسعة عروض منها “وهم” الذي قُدّم في مهرجان منتدى المسرح التجريبي السادس عشر (2011)، وفي المسرح البلدي في تونس بسوسة، و”تذكّر أيها الجسد” في مهرجان بغداد لشباب المسرح العربي، و”لم أزل أتلو وتب” في مهرجان بغداد الدولي الأول للمسرح، و”رأيت بغداد” الذي افتتح فعالية بغداد عاصمة الثقافة العربية، و”طلقة الرحمة”، و”سيلفون” الذي عرض في بغداد، ومهرجان المسرح الأردني الثالث والعشرين، وأعيد عرضه في بغداد بإنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل بعد إجراء بعض التغييرات عليه.
وقد ركّزت هذه العروض على الكوارث والمحن التي عاشها العراق، جراء الحروب والاحتلال والاقتتال والتطرف الطائفي والسياسي. كما أقامت الفرقة ورشا ومختبرات تدريبية تأهيلية لفن الجسد.
الحكي بالأجساد
حاول مؤيد في عرضه “تذكّر أيها الجسد”، الذي صمم له السينوغرافيا فلاح إبراهيم، وأداه 32 ممثلا وممثلة، الكشف عن المستور في الشخصية العراقية التي صدمت بواقع الفقر والقتل، وتراكمت عليها المعاناة منذ السبعينات وصولا إلى فترة ما بعد الاحتلال التي صارت أشد وطأة.
جسد العرض في نصف ساعة مجموعة من الشبان والشابات يرتدون ثيابا حمراء، ويتجمعون بحلقة دائرية حول فتاة ترتدي ملابس بيضاء، وتحمل دمية طفل تلاعبها وتراقصها بألم، وكلما ثارت مشاعر الفتاة تحركت حلقة الشبان كأنها تعكس ما في داخلها من ثورة، وفي عمق المسرح بئر عميق ورجل عجوز تغويه فتاة راقصة رغم امتناعه، وثمة جسر خشبي من طابقين يسير عليه المؤدون ببطء كمن يذهب إلى الحرب أو إلى الموت أو إلى العدم، ثم يزحفون أسفل الجسر.
وفي لوحة أخرى تقف الفتاة قرب جنازة شاب تشاركها فتيات في مراسم العزاء، وثمة فتاة ثانية تحلق شعر رأس شاب. وقد حاول المخرج من خلال أداء الممثلين تصوير ثورة هؤلاء الشبّان والشابّات في بلد يخرج من حرب ليدخل في أتون حرب أخرى، لكنهم يكتمون هذه الثورة في دواخلهم، في حين تتطاير أحلامهم وتمضي بعيدا من دون عودة.
وحملت ثيمة عرض “لم أزل أتلو وتب”، وهو من تأليف مؤيد أيضا، وتمثيل الفنانات ميلاد سري، رؤى خالد وهبة صباح، إلى جانب أعضاء الفرقة، دعوة إلى نقل الإنسان العراقي من العتمة إلى النور، من الحرب إلى السلام، ووجهت اللعنة تلو الأخرى على ما جرى للعراقيين من ويلات بسبب الحروب والتطرف الديني والطائفي والسياسي، وبينت أن الإنسانية أعظم ما في الوجود، وحثت على أن يتعامل البشر على أساس إنساني وليس على أساس العرق أو الطائفة أو المصالح السياسية.
الزمن الأول بين عامي 2006– 2007، وهو زمن الاقتال على الهوية الطائفية، والثاني مذبحة سبايكر، التي راح ضحيتها نحو 1907 جنود متدربين من الجيش العراقي (في قاعدة سبايكر الجوية) أسرهم تنظيم داعش عام 2014، والثالث رحلة الهروب الجماعية عن طريق البحر إلى أوروبا عام 2015.
أخذت الأزمنة الثلاثة العراقي إلى موت عبثي، بعد أن عاش حياته مضطربا ومتأرجحا بين الحياة والموت، فكان على الجسد أن يعيد تشكيل الحكايات الفردية للموتى بما تحمله من تفاصيل مختلفة ما بين حكاية وأخرى لكل شخصية من شخصيات العرض، قبل أن تلقى مصيرها وتغادر الحياة في لحظة غير منتظرة. بمعنى أن جميع الشخصيات كانت غائبة عن الحياة وهي تسرد قصصها عبر تعبيرات جسدية، في لحظات احتباس أرواحها داخل أجساد مطلية بمادة السيلفون، وفي محاولاتها الخروج إلى واقع افتراضي.
وقد ذهب العديد من النقاد إلى أن العرض حمل رؤية إنسانية شفافة إزاء ما يتعرض له العراقيون من تحديات وجودية، وكان بمنزلة صرخة احتجاج في إطار جمالي ضد صور الموت التي تواجههم، وتقتل أحلامهم وحكاياتهم قبل أن تكتمل.
وربما من المناسب أن أشير إلى أنني دونت في صفحتي بالفيسبوك، بعد مشاهدتي للعرض في عمّان، أنه عرض مدهش ينتمي إلى مسرح ما بعد الدراما، جمع في لوحاته بين جمال الأداء الحركي والتكوينات البصرية والثيمات المشحونة بدلالات صادمة ومثيرة وجدانيا.
لقد قُدّم العرض بأداء جسدي وراقص، متقنا نماذج من الفواجع العراقية: سبايكر، القتل على الهوية، الاغتيال بالكاتم، وردود أفعال الأمهات الثكالى اللواتي فقدن أبناءهن خلال سنوات الجحيم الذي لا ينتهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق