تصنيفات مسرحية

الخميس، 18 مارس 2021

"فستيفار" مسرح تونسي يعيد الأمل إلى الأحياء المنسية

مجلة الفنون المسرحية

سهام عقيل -  العرب 

"لا يكفي أن يسمع المتفرج كيف تحرر بروميثيوس، بل يجب أن يتدرب على التحرر والغبطة بهذا التحرر، يجب أن نعلّمه في مسرحنا بفرحة المخترع وبكل النصر الذي يشعره الفائز على الطغيان"، هكذا قال المسرحي الألماني برتولد بريخت، مقولة كانت رهانا لبعض الفضاءات المسرحية الخاصة التي بدأت في الظهور في أماكن غير اعتيادية في تونس.

في ضواحي مدينة تونس العاصمة، وتحديدا في منطقة "سيدي حسين السيجومي"، تحتفي هذه الضاحية المقصية عن التاريخ الرسمي بولادة فضاء مسرحي يؤسسه المسرحي التونسي ناجي قنواتي صحبة رفيق طريقه الفني والوجداني ياسين الفطناسي تحت اسم "فستيفار".

عودتنا أجهزة الدولة الرسمية بالنسيان، فالمتبصر لحالة الوهن الفكري في التركيبة العمرانية للمدن التونسية المحيطة بالعاصمة والبعيدة عن دائرة الفعل، يكتشف هول من يعيش من ثمار الدولة الرسمية، التي همشت أطرافها وجعلتها تقتات من قشها المبثوث على الطريق. والذي حتى هو لم يعد متاحا.

ضد الاحتقار الرسمي
عوّدتنا الدولة الرسمية طيلة عقود من مرحلة الاستعمار إلى ما بعد الاستعمار بمبدأ واحد سماه الشهيد شكري بلعيد “الحقرة” (أي الاحتقار)، وهو مفهوم تونسي أصيل اللهجة والروح.

نرى المسرح البلدي المتربع في الشارع الرئيسي للعاصمة على ملك بلدية تونس حكرا على العروض التافهة التي تهدف إلى النسيان، يحتكره من يقتات من أفكار الأنظمة التي مرت، رغم أن المسرح البلدي شهد صراخ الشعب أمامه، لكن صدى الصراخ لم يجد مكانه بين جدران هذا المسرح الرسمي، فقرر فنانان الانفتاح على أماكن جديدة بروح جديدة.

في سيدي حسين السيجومي، قرر قنواتي قرارا خطيرا، بأن يبرر انتماءه التاريخي لجهته الخارجة على التاريخ الرسمي، فينشئ مسرحا وحيدا وحدة نار بروميثيوس.

قنواتي، وهو مسرحي برتبة ساحر، كل ما مرّ بالركح إلا وأذهل الجميع بميكانيزمات التمثيل الحي والحقيقي حدّ الكذب الصادق، تمكن من فك شيفرات المنظومة التمثيلية ليقتنص ذاكرتها، التي هي ذاكرته وذاكرة مدينته، لا يفاوض الفنان الصدق المسرحي، ولا يغادر الممثل الذي يحتويه، بألوانه الحقيقية ففي كل شخصية مسرحية قدمها إلا ويقدم وجعه الحقيقي بجروحه ودمائه ودموعه.

يعيش الفضاء العمومي الرسمي للدولة التونسية على بعث منشأة ثقافية كبيرة تسمى “مدينة الثقافة” لتكون وجهة الحالة الثقافية الرسمية، كما يعيش هذا الاغتراب المسرحي الثقافي التونسي اليوم بعد الثورة، عملية دحر لكل ما هو مختلف لتعتبره الوجهة الرسمية “الخطأ”.

نشأة هذا الفضاء المسرحي هي ردة فعل على ما يقدم للذهن التونسي اليوم من بلادة وتنميط واحتقار للشعب

نعيش اليوم على وقع صراخ جيل الخطأ والغضب، لأنه جيل تمعّن جيدا في النفس الحر تحت وطأة القمع المتجدد.

يأتي فضاء “فستيفار” ليجدد الموعد مع عمران المدينة الرسمي لينقضه ويواجهه بقوة ضد الرجعية العمرانية التي رسخت ألوان الوهن والفقر في هذه الأحياء، وتبرر علنا عدم استحقاقها لهوية مسرحية تؤسس لقيم التحرر الكونية. حيث تقرر افتتاح الفضاء المسرحي الجديد بالتزامن مع اليوم العالمي للمسرح الذي يوافق 27 مارس من كل عام.

يتبنى قنواتي صحبة الفطناسي يقينا ثابتا بضرورة التغيير والمقاومة ضد الأسوأ والانحطاط، فالوعي المسرحي – السياسي الذي يحمله مشروع هذا الفضاء هو تشييد لخارطة مسرحية تنهل من الذاكرة الحقيقية لأوطان الهامش ضد البؤس الذي كرسته المؤسسات الرسمية.

ويأتي الفضاء تأكيدا للمسار المسرحي للفنانين، الذي يرفض الوحل الثقافي، وترفض الواجهة الرسمية التلفزية تصوراته للفن كفعل مقاومة، بل نشأة هذا الفضاء المسرحي هي ردة فعل غاضبة عما يقدم للذهن التونسي اليوم من بلادة حقيقية تضمر الشرّ السياسي.

أمام جبروت الآلة المعتمدة على خطاب التفاهة، يكون التأسيس هو المعول الحقيقي داخل نسق المقاومة النضالية، فإيمان قنواتي والفطناسي بمسرح ممكن وبديل، هو في اعتقادهما الأشدّ صدقا ونجاعة، فالفضاء المسرحي بسيدي حسين هو بطاقة هوية لهذا المكان القصي عن التاريخ الرسمي، سيحتوي هذا الفضاء المسرحي معاناة الهامش ليتحول من خلال الفعل المسرحي ذاته إلى فضاء يشمل مهجة تونس الحقيقية.

يعتقد المسرحيان في السحر الحقيقي، لأنهما استبشرا من خلال مواجهتما الركحية لأبناء شعبهم بأن الفن المسرحي لم يستقل يوما عن الدفاع عن الإنسان في إنسانيته وعن التونسي في تونسيته.

في حديث المسرحي الألماني برتولد بريخت عن حقيقة الصراع الطبقي يؤكد أن وجهة المسرح أمام المتفرج هي بداية دحض وجع هذا الصراع بغاية إلغائه حتى تتحقق المتعة لتصبح تحت طائلة المساواة الحقيقية للذّة المسرحية كمبدأ كوني يجمع الإنسانية مثلما تجتمع العائلة على الموقد بغاية الدفء.

وتحت هذه الرؤية سيعمر فضاء “فستيفار” في “سيدي حسين السيجومي” وسيبعث دفأه الخاص والحقيقي لمنطقة أوحى لها التاريخ الرسمي بأن تكون محكومة بالظلم واليأس.

احتفالية ديونيزية


تحيط منطقة سيدي حسين “السبخة” وهي فضاء ليس بسياحي، كما كذب الفاعل السياسي الرسمي ووعد بتحويلها إلى قطب سياحي لافتكاك أصوات ناخبيها، بل هي مكان يقصده كل منسي من أهل المدينة ليرمي بغضبه وحزنه إلى الملح.

يقول عبدالرحمن منيف في مدن الملح إن “أي إنسان يموت، لا ينتهي بنظر الذين يحبونه إلا إذا غسلوه بالدموع، الدموع هي ذرات التراب الأخيرة التي تجلل الميت وتقول إنه انتهى”، وسبخة السيجومي هي لملمة دموع البلد الحزين نتيجة الخيانات المتكررة والوقحة، هي مجمع الدمع الأخير المضمخ بالدم، كل من غادر خطأ هذا البلد، تلتئم دموع السبخة المالحة لتشيد نسيانه الرسمي.

لكن الفن المسرحي لا يتوانى عن كشف الزيف، فيستمد حقيقته من الآن وهنا ليتربص بمن يريد أن يبتكر حياة جديدة لجهاز الدولة الظالمة.

ويفتتح هذا الفضاء المسرحي الجهة الأخرى من النور، ليفتك شمسه الخاصة به فيسطع نورها الحارق ضد تواطؤ الكل ضد منطقة “سيدي حسين” وبقايا جهات الخارطة التونسية.

اعترضني ناجي قنواتي يوما في الشارع الرئيسي قبل الثورة، ليخبرني وهو مذهول بأنه رأى شابا تونسيا مخمورا يسائله عن سفارة تونس الشقيقة في العاصمة التونسية، فذهل من سؤاله.

كيف يبحث مواطن تونسي في عاصمة بلده عن تذكرة عبور لمدينته الغريبة عن حزنه؟

وتؤكد روح الممثل عند كل من قنواتي والفطناسي على جمال الدعابة والمتعة والمرح والمهجة، فهم يبشرون بفن مسرحي يشمل ولع الإنسان الأول بالحركة الصارخة وبالشعور الطيب، فمن يعرفهما جيدا، يعرف أنهما على خطى الشهداء السعداء.

داخل مفهوم الدولة الحديثة أي دولة ما بعد الاستعمار، نرى أن افتكاك الفضاء المسرحي لبس لغته الخاصة بفن نبيل وكامل هو من أبجديات التحرر المستحق للآخرين. وفضاء “فستيفار” هو فضاء ضد هيكلة ومكونات الفضاء العام الرسمي، فستخسر الدولة الرسمية بنشأة هذا الفضاء المسرحي عملية بناء السجون الجديدة لأن هذا الفضاء سينشأ ضد ملح السبخة ليؤسس من جديد الزهور التي وعد بها الشهيد شكري بلعيد وهو ما تتفوق به ذاكرة المدينة المسرحية خارج التاريخ الرسمي.

 رغم السقوط المدوي الذي تعيشه تونس اليوم، وخاصة بعد الوباء الذي كشف هزال الشبح الرسمي أمام الفايروس الخفي، فإن أصوات المقاومة الحقيقية والصادقة هي الوحيدة القادرة على رجّة هذا الشبح الرسمي برسم طريق جديد بروح أخرى حتى تبرأ المدينة ممن أضاعوا الطريق نحو فؤادها الحق، وتحاكم المدينة تاريخها الرسمي الذي نشأ على المقابر وأرواح من ذهبوا هباء، فتعتذر لناسها عن الكم الهائل من النسيان والبؤس ليرحبوا بها في احتفالية مسرحية ديونيزية كاللحظة الأثينية الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق