قراءة في كتاب التوليد الدلالي للمخرج المؤلف في المسرح المعاصر
جواد الأسدي أنموذجا تأليف د.صميم حسب الله يحيى
إعداد: الحسين الرحاوي/المغرب
لقد كان المسرح على الدوام ملتقى للفنون المختلفة، وحاضنا لوسائل التعبير المتنوعة، يبيد كل الأنساق في نسقه الخاص من خلال فعل التمسرح، ناهيك عن كونه، فن مفارق، أو فن المفارقة ذاته؛ كما تذهب إلى ذلك آن أبرسفيلد في كتابها قراءة المسرح، معتبرة إياه إنتاجا أدبيا وعرضا ملموسا في آن واحد، كما أنه أبدي (يمكن إعادة إنتاجه وتجديده باستمرار) وآني أيضا (لا يمكن البتة إعادة إنتاجه بوصفه مطابقا لذاته)... هذا الأخير الذي يعد فضاء تتكامل فيه كل عناصر الظاهرة المسرحية: الكلمة -الإطار التشكيلي(الديكور الملابس الأقنعة الإكسيسوار والإضاءة) كلها أمور لابد منها في فضاء العرض المسرحي، لكن درجة الاهتمام بكل جزء من هذه الأجزاء هي التي تختلف بحسب الرؤية والتوجه والظرفية؛ كما يشترك في إنتاجه كل من الكاتب والجمهور والممثل والمخرج والمهندس والتقني لكل من هؤلاء دوره الخاص في هذه الممارسة.
لذلك اتخذه الإنسان على الدوام؛ وسيلة يعبر من خلالها عن هواجسه وتطلعاته تجاه الحياة وما يطرأ عيها من تغيير، عبر محاكاته للظواهر الحياتية التي كانت تبدو له مهمة/مبهمة، فيرقص ويفرح محاولا تجاوز التحديات المفروضة عليه من قبل الطبيعة. وهكذا حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من تعدد في المدارس والرؤى.
والكتاب الذي طرحته الهيئة العربية للمسرح من خلال برنامجها الشهري اقرأ كتب الهيئة؛ للكاتب د. صميم حسب الله يحيى الموسوم ب التوليد الدلالي للمخرج المؤلف في المسرح المعاصر [جواد الأسدي أنموذجا] والمنشغل أساسا بقضية الإخراج عالميا وعربيا؛ مقتفيا تجلياته وتمظهراته المختلفة باعتماده على الكرونولوجية التاريخية بدءا من الإغريق حتى العصر الحديث من خلال نماذج قسمها اعتبارا للحضور -الواعي من عدمه-إلى المؤلف المخرج/المخرج المؤلف.
المسرح كعرض منذ بداياته وحتى القرنين السابع والثامن عشر كان مرتبط ارتباطا وثيقا بالأعراف/التقاليد (مكان الجلوس ووضعيته-شكل المكان-الذوق...) ومن ثم فالقواعد التي تمت صياغتها تنبني على هذا الأساس، أي عن تلك التقاليد/الأعراف؛ ويظهر ذلك جليا من خلال الانقلابات المتوالية على نسيج أرسطو العنكبوتي، الذي نظر في نهاية المطاف بناء على تلك الأعراف، واستنادا كذلك على مآسي أولئك الثلاثة الكبار اسخيلوس، سوفوكليس، يوربيدس...
على مستوى الخشبة وعلى الصعيدين المعماري والأدبي شكل المسرح اللاتيني حلقة وصل مهمة بين المسرحيين اليوناني والمسرح على الطريقة الإيطالية. وهو المعطى عينه الذي يفسر طرح الكاتب، خاصة عند وقوفه في الفصل الثاني المعنون ب المؤلف المخرج في المسرح الروماني عند سنيكا sénéque الذي يمثل نموذجا حيا لتلك النقلة النوعية من التراجيديا اليونانية إلى التراجيديا الكلاسيكية، ليغذو سينيكا نموذجا للمسرح القديم، ومصدر إلهام لكل من شكسبير وكورناي.. وإلى جانب سينيكا نجد بلاوتس plaute الذي ستشكل كوميدياته نواة مسرح شكسبير، وموليير الذي دأب على تحيد نوعية الديكور وحركات الممثلين وملامحهم... هذا الامتداد سيعجل بظهور كل من كوميديا الحبكة والدراما البورجوازية، وعموما، فقد شهدت مرحلة القرن السابع عشر تحديدا إقبالا كبيرا على فن الإخراج المسرحي.
وعليه، لقد كان ينظر إلى المسرح في روما على أنه فن دخيل، وكانت السلطة تعتبره شكلا من أشكال الاحتجاج، يدفع بهذه الفرضة وضع الممثلين في روما، وعلى العكس تماما من وضع الممثلين اليونانيين الذين كانوا يحظون باحترام يماثل احترام الناس للمحتفلين بالطقوس الدينية، ظل الممثل الروماني على هامش المجتمع محرومين من حقوقهم المدنية، بيد أنه من جماليات المسرح الروماني هو ذلك الفصل بين التمثيل والغناء. أما فرجويا فقد كانت المسرحية تبدأ ببرولوج وفي الخاتمة المغناة فتعلن من خلال صيغة مماثلة تقريبا العودة إلى الواقع.
أما في الفصل الثالث من الكتاب، وهو فصل مهم، تطرق لسطوة الكنيسة على الممارسة المسرحية، وبشكل متساوق مع دراسات عدة، قاربت هذه الحقبة فرجويا، أو ما يعبر عنه في العديد من الدراسات بالانتقال من المقدس إلى المدنس، اعتبارا لكون العصور الوسطى لم ترث شكلا دراميا حيا، اللاهتمام الذي قوبل به الممثل الروماني، عجل بضياع الفن المسرحي وسط ألعاب السيرك الفخمة أو على الأقل يمكن افتراض ذلك؛ لكون فرضيات عدة تذهب إلى أن الدراما الرومانية لم تقرأ بشكل صحيح ومن ضمنها دراسة فلورنس دوبون في كتابها أرسطو مصاص دماء المسرح الغربي (فكل مسرح قديم ينظر إليه اليوم كقصة مسرحية، وقد تم فهم كوميديا بلوتس وتيرينس من قبل معاصرينا انطلاقا من الحكاية...(ص13))
لكن الدور الذي لعبته الكنيسة وتعويضها للاحتفالات بالشعائر الديونيزوسية كأصل للتراجيديا والكوميديا اليونانيين، تمثل في منحها معنى ومبررا آخر للمسرح الكلاسيكي، بحيث نشأ هذا الأخير –وكإطار عام لما ذهب إليه الباحث-في ظل طقوس القداس وتنامي الفرجات المستوحاة من الكتابات المقدسة. وفي الفصل الثالث نماذج عديدة لهذا التحول. ارتباطا بقضية الإخراج التي يبحثها الكتاب موضوع المناقشة، وكإضافة، ومن خلال العروض المسرحية التي كانت تقدم تحت اسم الأسرار والعجائب، فقد كان [مسير التمثيل] يضطلع بمهمة المخرج في المسرح الوسطوي.
أما في الفصل الرابع؛ فسيتوقف الباحث عند كوميديا ديللارتي التي تطورت على حساب الكوميديا الأدبية خلال النصف الأول من القرن السادس عشر (عصر النهضة)، وما لاقته من استحسان من قبل البورجوازيين والأمراء، على اعتبار أنها تشكل امتدادا للكوميديا السابقة التي كانت تحتفل بها روما. كشكل هي مسرح بسيط مفعم بالحياة، انفتحت على أفضية عديدة: أزقة ملاهي ليلية، صالونات حدائق... دون نسيان مدى التأثير البالغ الذي مارسته على عبقري الملهاة "موليير" وكتعريف مبسط لهذا الشكل الفرجوي(الكوميديا)؛ "هي إنتاج جماعي متجدد باستمرار لفرقة من الممثلين، تقوم انطلاقا من موضوع محدد بإعداد نص مرتجل مستعينة في ذلك فيما يخص الشخصيات ببعض النماذج المحددة سلفا والمعروفة من طرف الجمهور."
سيتوقف الباحث بتفصيل عند كل من شكسبير وموليير، وكذلك عند المسرح الاسباني... سيزيد الإقبال على فن الإخراج كما ذكرنا سابقا، مع إيلاء الأهمية لتجسيد المكان المسرحي الداخلي استجابة حتمية ميل المؤلفين الدراميين إلى تحليل شخصياتهم من الداخل. وعلى صعيد معمارية الفضاء، فقد تم تشييد أول مسرح على الطريقة الإيطالية بفرنسا سنة 1641م
وأمام طفح الواقعية التي جثمت على الممارسة المسرحية وخلال مرحلة نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، تعالت أصوات داعية للقطع مع المسلمات واليقينيات، مبددة شعار أرسطو الذي أنهك الممارسة لقرون "ليس بالإمكان إبداع أبدع مما كان"، وهي المرحلة التي اعتبرها د.محمد أبو العلا بأنها "مرحلة تشكل وعي علمي بالممارسة المسرحية بالغرب، من مؤشرات هذا الوعي إدماج أطروحة العرض، وقد ساعد على بلورة هذا الوعي، تزامنه مع انتعاش الخطاب الفلسفي بنظريات تلتقي على اختلاف تياراتها ومصادرها الايديولوجية والفكرية عند فكرة رفض أية حقيقة مطلقة مع الإيمان بالنسبية المدعمة بالقياس والتجريب"(ص)
من عمق هاته الرجة انبثق مفهوم جديد ووظيفة جديدة، مفهوم الإخراج شخص مستقل، ظهوره غير مسار العروض ومن مسار الكتابة كذلك؛ بحيث صار الاهتمام منصبا حول لغات درامية أخرى كالحركة، وجسد الممثل، والفضاء، والإضاءة، والديكورات، عموما صار الاهتمام بارزا بكل ما نعته أرسطو بالعرض ووصفه بالابتذال Phortikon. والباحث قد تعقب بدايات الإخراج منذ العصر الإغريقي إلى الآن بشكل تفصيلي/تحقيبي رصين. إذ من أبرز التحولات التي رافقت ميلاده، بمفهومه الحديث، وتماشيا مع نزعة مساءلة الثوابت، سيصبح النظام الهندسي(الخشبة الإيطالية) موضوعا لمساءلة ساخنة من قبل مؤلفين ومنظرين ومخرجين....
ومع القرن العشرين، وارتباطا بالمبحث الثاني الموسوم ب(تحولات العلامة في تجارب (المخرج المؤلف) عالميا) وهو بداية التأسيس للعبة الانقلاب المفهومي التي تأسس عليها الكتاب، أي قبل القرن التاسع عشر كان (المؤلف المخرج) وبعد القرن التاسع عشر (المخرج المؤلف) سيتحدث عن تجارب كل من برتولد بريخت وفورمان...
ردا على الفصل التام الذي حدث بين قطبي الخشبة والقاعة، وتلك القطيعة النهائية بين عالمين: عالم الممثلين وعالم الجمهور. سينتقد بريخت في مسرحه الملحمي وبشدة مبدأ الواقعية الإيهامية/الإيهام بالواقع الذي يجعل من المتفرج مجرد متلق يسلبه سحر الإيهام، الذي يحد من قدرته الإدراكية ويلغي مشاركته في العرض المسرحي... هذا المنحى كان ديدن العديد من المخرجين أمثال كريج، أبيا، مايير هولد... كانت الرغبة خصوصا عند هؤلاء تنحو لإصباغ الطابع الاحتفالي على الفرجة المسرحية.
ليبقى الهاجس إذن؛ هو البحث الدؤوب لإيجاد أفضية وأماكن مشهدية أخرى ترضي رغبتهم الملحة في بلوغ دروة التواصل المباشر مع الجمهور..
لينتقل الباحث في المبحث الثالث والأخير (تجارب(المخرج المؤلف) في المسرح العراقي) لمقاربة تجارب كل من قاسم أمين المنشغل بمسرحة الحكايات والانفتاح على عوالم التراث، وعقيل المهدي؛ الذي يجاوز بين التأليف والإخراج، وهو من الجيل الثالث، من خلال مشروعه المسرحي/مسرح السيرة، دأب على مسرحة شخصيات تاريخية كمادة درامية للاشتغال... أما الثالث سعدي يونس فقد انفتح على أفضية خارج حدود بنية المسرح التقليدي المغلقة (مسرح الشارع) بشكل متساوق مع التجارب المسرحية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.
والاشتغال على تخوم مترامية هو ما أكسب الكتاب قوته/ وراهنيته... اعتبارا للتقديم الذي جعله فرشا للانتقال من السياق العالمي (من الإغريق إلى ما بعد عصر الصناعة) إلى السياق العربي؛ الذي بحث فيه المشترك معتبرا أن اختلافات الحضارات لا يلغي تشابه عدد من الشعوب الإنسانية في العادات والتقاليد/الاحتفال، مرافعا باحتفالات أعياد تموز في بلاد الرافدين التي قرنها باحتفالات ديونيزوس عند اليونان، داحضا بذلك الأطروحة القائلة بأن الذات العربية ذات لا فنية، ومثبتا في الوقت نفسه مقولة جيل دلوز(لنمثل بصيغتين: وحده الشيء الذي يماثل ذاته يختلف، ووحدها الاختلافات تشبه بعضها بعضا)
أما في الفصل الثاني والأخير، الفصل التطبيقي من الكتاب، فقد اشتغل الكاتب على ثلاث مسرحيات من تأليف وإخراج جواد الأسدي (مسرحية ليالي أحمد بن ماجد/ مسرحية حمام بغدادي/ مسرحية نساء في الحرب)
اعتمد الباحث على مداخل هامة لاستكناه المتواري والخبيء في هذا الاختيار الإخراجي؛ من ذلك معمارية المكان بين التأسيس النصي واشتغال المغادرة في العرض، وقبل الإشارة –بشكل مقتضب-إلى رصانة المقاربة من قبل الباحث، وجدة الاختيار من قبل المخرج/المؤلف، نعود للتأكيد على هاجس المخرجين خلال فترة القرن العشرين، بخاصة-والمتمثل في بحث إمكانية إيجاد أفضية وأمكنة مشهدية أخرى ترضي الرغبة الملحة لخلق تواصل حقيقي مع الجمهور بعيدا عن شرنقة الإيهام الذي فصل بين عالم الممثلين والجمهور زمانا.
وهو الهاجس الذي تجلى بوضوح من خلال الرؤية الإخراجية ذات النزوع التجريبي، التي استفادت من إمكانات النظرية الملحمية عبر سلسة من الاختيارات الإخراجية كتوظيف التراث والأناشيد والأغاني... ناهيك عن انشغالات سينوغرافي (الدخان الاصطناعي) إضافة إلى مؤشرات سمعية/بصرية تحقيقا لثراء دلالي (الامتلاء البصري) تحقيقا لعنصر التغريب، ودرءا لأي تماهٍ مرفوض، مع التأسيس لمساحة مشهدية دائمة التحول والتغير. كما أن المسرحية لا تخلو من تيمة الانتظارية كاستمداد لمقومات مسرح العبث، وغير مستبعد كذلك حضور بعض تقنيات المسرح الفقير تدفع بهذا الافتراض طريقة التعامل مع الركح (الاقتصاد).
أما على مستوى التمثيلي، فقد استثمر المخرج لغات درامية كثيرة حيث الاقتصاد اللغوي في مقابل طفح حركي ديناميكي، أي الدفع بالعنصر اللعبي من خلال الرقص والإيماءة... وما يوفره ضبط المؤثرات الصوتية من توليد دلالي باذخ.
طبعا؛ هذا بعض من كل، من الصعب الإحاطة بكل تشعبات الكتاب وطروحاته، لثراء مادته، وحتى لصعوبة القراءة إلكترونيا... انتفاء التحام حرارة الورق وحرارة الركح بسيلان المداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق