مجلة الفنون المسرحية
في مسرحية "الروبة"، تصبح خشبة المسرح المكان الذي تنظر فيها شخصيات الخرافة إلى نفسها أولا، قبل أن تكون مُشاهدة من العالم الذي في الجهة المقابلة لها، أو ربما في نفس الوقت، طالما أن المتفرج في الصالة يعتبر بصاصاً لا يرحم، وطالما أن خشبة المسرح، هي مكان اللعب، والأقنعة، والتنكر، والوهم الذي يذكرنا بالوهم الذي نعيشه، وبوهم العالم المحيط بنا، وبوهم مشاعرنا، وبوهم الآخرين. لكن هذا الوهم غالبا ما يقود إلى الحقيقة. ومن مفارقات المسرح، أن وراء كل أقنعته، وتنكراته، ومؤثراته البصرية، وهذه الأوهام، هناك الحقيقة التي تكشف عنها شخصياته، فهو المكان الذي تضخم فيها معاني الكلمات التي يكتبها المؤلف. وبالتالي، فإنه استعارة للعالم واكتشاف الحقيقة والحياة.
رسم مؤلف مسرحية "الروبة" ومخرجها، حمادي الوهايبي، شخصيات لا تخلوا تصرفاتها من القبح، والبغض، والرياء، بل ذهبَّ بها الحال إلى حد ارتكاب جريمة قتل والتستر عليها، لأنها أيضا جبانة وسيئة النية، ورغم أنها تنتمي إلى فئة اجتماعية يفترض أن تكون محترمة وتتحلى بثقافة وأخلاق عالية وتمثل القانون، لا تنفك عن جلد وتعرية بعضها البعض وشر غسيلها الوسخ امام الملأ رغم الظرف الخاص الذي تعيشه. حالما تدخل هذه الشخصيات خشبة المسرح، يًعلّق الوقت مساره، فهذه الدقائق القليلة من النعمة الفرجوية، تبدو وكأنها ترنيمة مسرحية سوف تعطي ثمارها لمعنى العرض. حيث قام المخرج ببناء إطار لتمثيل لا يفتقر للطموح، يتضارب فيه التناقض، الازدواجية، الاحلام والرغبات بعيداً عن الحشمة، والبراءة، وهكذا، بات الالتفات لهذه الفترة، ولهذه الفئة الاجتماعية القانونية يستدعي الحاضر والمستقبل، الذي يريده المؤلف المخرج أن يُلخص هنا في سلسلة من المشاهد، والصور الغاضبة المتسائلة، ليس بعيدا، بكل تأكيد، عن استجواب المتفرج حول التبرير المحتمل للعنف وحدوده، وبعيدا عن إثارة التعاطف مع الناس التي عليها أن تعيش بحرقة غضبها الحميم وتناقضاته. وكأن المخرج يريد أن يمرر لهم هذا الموضوع بقوة قبل فوات الآوان، وقبل أن نشهد السقوط العظيم. ومع ذلك، فإن الوصول المتوهج فجأة له وربما المتأخر سوف يلقي حتماً الضوء عليه، بعبارات المسرح، وصوته، وصوره، وحضوره البارع كمملكة للتناقض، والاسئلة التي ليس بالضرورة أن يجيب عليها.
إن العرض الذي قدمه حمادي الوهايبي، كثالث عرض لثلاثيته المسرحية، بعد "الصابرات" و"جويف"، يعتبر بالنسبة لنا، اولا وقبل كل شيء، فرصة للغوص ثانية في قلب قلق عصر التطرف، الذي بلغ ذروته في السنوات المظلمة التي حدثت بعد فترة التحول في تونس. ولكنه أيضا، فرصة لاتخاذ خطوة إلى الوراء، والنظر بنوع من التأمل، إلى مجتمع العدالة والقانون، لاسيما أن اتخاذ مسافة إزاء سمات هذه الفترة وفسادها، يسمح لنا أخيرا بأن نفهم هذا العرض مثلما هو عليه حقاً، ونكتشف أسراره المعقدة والثرية جدا، بكل أبعاده الكوميدية والتراجيدية، وجودته الأدبية والدرامية، وآثاره الجمالية البحتة. فالعرض بالنسبة للجمهور العريض، يمكن تناوله أو الاقتراب منه على مستوين: الأول باعتباره عرض مسرحي لفترة مأساوية يعيشها بلد في حالة تحول وتغير وتدهور، وثانيا، كعمل دراماتيكي يسلط الضوء على العدالة الغائبة والمغيبة. عندما سؤل مؤلف ومخرج العرض "حمادي الوهايبي"، في صحيفة الشروق التونسية، بتاريخ 27 ديسمبر2020، عن سبب تقديمه لمسرحية" الروبة"، أجاب: (في تقديرنا، الأزمة التي تعيشها البلاد ساهم فيها المحامون والقضاة (...)، خاصة عندما نعلم ان مجلس الشعب الحالي فيه 69 محامياً من النواب، فإن ذلك يثير كثيراُ من الاستفهامات والتساؤلات). بلا شك، أن هذا الجواب بقدر ما هو دقيق، فهو مبني على الوثائق والبحث الميداني الذي يدعم أحداث العمل الواقعية منها والمتخيلة. فلا أحد يحكم ببراءة، مثل ما يقول سانت جوست.
يبدأ العرض في محكمة، حددتها السينوغرافيا بمستطيل تنتهي تخومه باللون الأبيض، وبإضاءة خافتة شاحبة أضافت غرابة إلى مساحة العرض، التي ستضاء لا حقاً، وتفضح ما هو مسكوت عنه بطريقة قاسية. حركة ذهاب وإياب قاضية وأربعة محامين ومتهم (محمد شوقي خوجه، نور الدين الهمامي، عواطف العبيدي، سامية بوقرة، لطفي المساهلي، خلود بدبيدة)، ما قبل وبعد مرافعاتهم القانونية، وهم يتهمون، يستنكرون، يحتجون، أصواتهم تتعالى لدرجة الصراخ الذي يمتزج فجأة بصوت انفجار وانهيار سقف المحكمة، رسمت أجوائه بقع ضوئية متناثرة هنا وهناك (طه الجياري، غسان جاء وحدة، وعمر الفارسي)، فضحت الشخصيات واغرقتها في وحدتها ومتاهاتها وألمها، ترافقها موسيقى (قيس بن مبروك) وعويل وهلع وخوف، وخطى سريعة متخبطة، مضطربة، عمقت من حالة الهرج والمرج التي ابتدأت هادئة ورزينة، ثم تحولت شيئاً فشيئاً إلى فوضى عارمة. وهكذا، ومن دون مقدمات، نجد أنفسنا في دهاليز الطابق السفلي للمحكمة مع ست شخصيات تبحث عن مَخرّجٍ، يهدد وجودها جحيم جهنمي، يفرض عليها العيش معاً في نفس المكان إلى أمدٍ غير معلوم، بعد أن بات كل شيئ أمامها مغلقاً، معتماً، وفوضى يصبح القاضي فيها متهماً، والمتهم قاضياً، والرأس أسفل وبالعكس، فكل شيء قد انقلب رأساً على عقب فجأة، وهذا ما يطالعنا به المشهد الأول للعرض تقريبا بعد انهيار سقف المحكمة، حيث نرى القاضية خديجة محاصرة في قبو المحكمة مع المتهم خميس، في مكانه الطبيعي الذي اعتاد ان يكون فيه قبل اصدار أي حكم بحقه، ومهما تحاول القاضية الدفاع عن نفسها من خلال تشبثها بموقعها ومكانتها الشرعية، لكنه يفرض عليها هذا الأخير قانونه الشخصي بالقوة والخداع، لا سيما انه سيد المكان، ويعرفه جيدا مثلما يعرف جغرافية جرائمه المتكررة، هذا بالإضافة إلى أنها لم تنزل إلى هذا المكان من قبل، وكانت دائما فوقه، وليس تحته، مما تضطر للخضوع إليه. بهذه الطريقة تبدأ المسرحة، في جحيم يصوره لنا حمادي الوهايبي وليس دانتي، حشرّ فيه ستة أشخاص، وقذف بهم في رحلة من العذاب بسبب فسادهم وشرورهم، وساوى ما بينهم وما بين متهم، صار يقود خيوط مصيرهم موهما إياهم بأنه يعرف الطريق إلى الخلاص، النعيم، أو الفردوس إن صح المعنى، حيث توجد الحياة التي تركوها فوق هذا السقف الذي انهار على رؤوسهم. وهنا يكمن القسم الأكثر تشويقاً من الاحداث، التي يصبح الجميع فيها وجه لعملة واحدة. وهم يتحركون في دهاليز هذا العالم السفلي، بشكل غير مريح وغير طبيعي، مرة يركضون وأخرى بخطوات بطيئة مذعورة، أجسادهم شبه مائلة، منحنية، غادرها انتصاب غطرستم، يرسمون من خلالها ممرات وأروقة جدران تحطمت فبرزت صخورها الناتئة التي صارت تحاصرهم، وتحكم الخناق عليهم، فيضطرون للتنقل بينها بحذر، وخوف قادهم للتبول بشكل جماعي، مما يجعلنا المخرج نضحك بمرارة على هذا الخوف الذي انتجه عالمهم، فشلهم، وفسادهم. وبما أن الأصالة الهزلية تنبثق من الحياة الواقعية، وتقترب من الفن، " فكيف لا تقول لنا هي أيضا كلمتها في الفن والحياة"؟"، (هنري برغسون)، فالخوف شعور، وإحساس، وهناك أسباب مشروعة لحدوثه، ويجب العيش معه. كل هذا يحدث بشكل إيحائي، من خلال عصا المسرح السحرية. فالمكان في حقيقة الأمر كان خالياً من الصخور، ولم نرى آثار للحطام ولكننا مع ذلك نعيش فيه من خلال حركة الأجساد واشاراتها، واللغة وأصواتها، بمجرد ما تجتمع، وتفترق، وتختلف مساراتها. فحمادي الوهايبي يفضل كعادته الفضاء الخالي الذي يجب ملئه بالمادة الإنسانية وليس قطع الديكور، وغالباً ما يعتمد في تأثيثه للفضاء على السينوغرافيا التي أصبحت الإنارة في هذا العرض بطلا من خلال ظلالها التي راحت تطبع الأمكنة اللعبية بأشكال زخرفية مختلفة، مرة تكون خطوطها بالعرص، وثانياً بالطول، الشخصيات خلفها وأمامها وكأنها في أقفاص الاتهام، بعدما كانوا في العادة أمامها، في الزمن الواقعي وليس المسرحي، وثالثاً محبوسة ببقع خافتة معتمة تحيطها الظلمة والتيه، ورابعاً مضاءة فاضحة ولكنها عازلة، وخامساً كنوافذ عالية منعكسة على أرضية الخشبة، الضوء المتسرب منها خافت، غائم، لا يحيل إلى النور، ترافقها مؤثرات خرير ماء وقطرات تتناهى أصواتها من غير ما مكان. لقد صورت لنا هذه السينوغرافيا الضوئية، إن صح التعبير، مناخات غير مألوفة بالنسبة لحياتنا اليومية، تشبه الجحيم نوعاً ما، لا يسكنها مؤقتاً إلا المتهمون واللصوص والقتلة قبل أن يساقون إلى السجن أو المشنقة أو الاعدام، والتي أصبحت في الزمن الحقيقي للعرض المكان الوحيد الذي ستخوض فيه الشخصيات معارك وصراعات تجعلهم يدركون معنى الحياة والموت، ويتساءلون عن لعناتهم المختبئة تحت أقنعة سوء النية، رغم تحالفاتهم التي تصبح شيئا فشيئاً مستحيلة، مما يضطرون إلى تسليم مصيرهم لمتهم غامض، ولجحيم لا يعرفون متى وكيف سينتهون منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق