تصنيفات مسرحية

الأحد، 27 يونيو 2021

العرض المصري «المسيرة الوهمية للتفاهة»: سيرة السلطة التي لاتنتهي / محمد عبد الرحيم

مجلة الفنون المسرحية


العرض المصري «المسيرة الوهمية للتفاهة»: سيرة السلطة التي لاتنتهي


 على مسرح الهناجر قاعة هدى وصفي في دار الأوبرا المصرية في القاهرة، أقيم العرض المسرحي «المسيرة الوهمية للتفاهة» للمخرج طارق الدويري، الذي استمد دراما العرض من عدة نصوص مسرحية لوالده الكاتب والمخرج رأفت الدويري (1937 2018). ناقش العرض العديد من القضايا التي كانت تؤرق مؤلفها منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، إلا أن هذه القضايا نفسها تفاقمت فأصبحت أزمات يعيشها المصريون، ويبدو أنه لا فكاك منها إلا بفعل خارج عن حدود العقل. ويُعد الخروج عن حدود هذا العقل، سمة العمل المسرحي، متوسلاً طقوساً وتراثاً شعبياً، وأسلوباً تجريدياً إلى حدٍ كبير، من خلال شذرات وحكايات متقاطعة لا رابط بينها سوى حالة من الرثاء لحاضر أكثر بؤساً وقسوة من زمن كتابة النصوص نفسها. العرض أداء أكثر من ثلاثين ممثل وممثلة، اختلفت أدوارهم ما بين التمثيل والرقص والغناء، منهم.. حمادة شوشة، سهام عبد السلام، حنان نور الدين، آدم يوسف، إسراء عبد السلام، جرجس أنور، وهالة صلاح. ديكور عمر المعتز بالله، إضاءة أبو بكر الشريف، موسيقى فريق سي بي مول، مخرجان منفذان بكر محمد علي، وباهر فتح الله. إعداد وإخراج طارق الدويري. مدة العرض 140 دقيقة.

مسرح رأفت الدويري

لابد من إضاءة بسيطة على مسرح صاحب النصوص، التي استمد منها العرض مادته الأساسية، والتي جاءت عبارة عن شذرات ومقاطع، وأحياناً حالة طقسية كإطار عام للعرض. تميزت كتابات الدويري باستلهام كل من التراثي والطقسي، إسقاطاً على واقع مُشوّش غاية في الاضطراب وعدم المنطقية، دون أن ننسى أنه ورفاق جيله منهم .. يسري الجندي، محمد أبو العلا السلاموني، ونبيل بدران عانوا من لحظة فارقة في التاريخ السياسي والاجتماعي المصري، كالتحول من النظام الاشتراكي أو هكذا شُبه لهم إلى الاقتصاد الحر، أو ما أطلق عليه (عصر الانفتاح) وهو ما أصاب المجتمع المصري بأمراض لا يزال يعانيها حتى الآن، وإن كانت بشكل أكثر قسوة. ومن سمات مسرح الرجل المحاولات الدؤوبة لإحياء الطقوس الاحتفالية الشعبية المتوارثة، كما في مناسبات الميلاد والزواج والموت، إضافة إلى الموالد وطقوس الزار. كما تخلو هذه النصوص وعروضها من الحكاية التقليدية، وبالتالي تجريد الزمان والمكان، كذلك أسلوب التغريب البريختي، حتى لا يتوحد أو يتورط المُشاهد مع الحدث، بل دائماً هناك مسافة تجعله يتخذ موقفاً نقدياً مما يراه. ويأتي عرض (المسيرة الوهمية) ليحافظ تماماً على هذه السمات، مستمداً منها أفكاره ورؤيته المسرحية.

الحض على التفاهة

يبدو مفهوم التفاهة هنا، وكأنه معيار السلطة الوحيد الذي تعتمده لوجودها، فوجودها هو الصورة الفعلية لهذا المعيار، وبالتالي لا بد من تصديره كنغمة عامة تنتهجها السلطة ولا تحيا دونه. هذه الحياة التي تتجدد من خلال حالم جديد يريد أن يصبح على رأس هذه السلطة، ربما كان دجالاً يوهم الجميع بأنه يستطيع أن يجلب لهم المطر، رغم النهر الذي كان، والذي جف الآن، أو آخر ينتظر دعاء أمه في ليلة القدر، هذا الأبله الحالم بقيامه بدور السلطان، وهو في ذلك يستند إلى العديد من الأعوان، كرجال الدين الذين يزينون للفقراء وأبناء السبيل الموشكين على الجوع والموت، بأن هناك حياة أخرى جديرة بالعيش، حياة فيها الأنهار التي لا تجف، والنساء المختلفات المخلوقات من نور. أوهام يحلمون بها لحظات قبل موتهم الفعلي الوشيك، كذلك رجال التعليم المدرَبون على غسل أدمغة الصغار، حتى يخلقون نسخاً متشابهة ومشوّهة من جيل لا يعرف سوى رؤى وحياة الزعيم، حتى يتوصلون إلى أحد الأطفال أكثرهم غباء ليكون جديراً بزعامة تنتظره، والذي يطلقون عليه (المحروس بسلامته).

دنيا آدم والمحروس بسلامته

يبدأ العرض بمجموعة الممثلين والراقصين عند الباب الخارجي للمسرح، في حالة رقص ونداء على الجماهير المُنتظرة الدخول بكلمات «قرّب.. قرّب» كما في عروض الموالد الشعبية. وبعد الدخول خلفهم إلى المسرح، يقف رجل أشبه بالراوي الشعبي يؤكد على أنه كل يوم يحكي حكايته دون أن يمل، رغم عدم سماعها منذ سنوات رغم فرصة التغيير الوحيدة التي أصبحت سراباً الآن لكنه يُصر على الحكاية، حتى لا تضيع وتُنسى كما كل شيء، حكاية الناس والنهر الذي جف، والحياة التي انتهت، وأصبحت حكاية قديمة يمل الجميع سماعها، وينفضون من حولها.
ويأتي إطار الحكاية الشذرات المتداخلة من خلال زوج وزوجة عجوزين لا يزالان في ملابس العُرس ينتظران مولوداً. هذا المولود الذي يرفض النزول إلى العالم، دون ضمانات تتعلق بمستقبله. فيأتي أشباح السلطة وكأنهم مخلوقات فضائية يريدون من والده التوقيع لهم على بياض، فالسلطة هي التي ستتولاه وتصوغه وفق مشيئتها مشيئة التفاهة وتأخذه من والديه بالفعل بحجة المستقبل الأمثل المضمون، فيصبح «المحروس بسلامته» هو الحالم بهذه السلطة، والمُمَثل المُنتظَر لها. وحتى يغيب عقله تماماً بعدما غاب ضميره، تأتي له (دنيا آدم) التي تنبأت يوم مولده بأنه سيسعى خلفها ما دام حياً، هذه المرأة/الحياة التي يتوافد عليها كل ذي سلطة، ولا يرى غيرها، وفي ليلة الزفاف الوهمية تُفقِد المحروس رجولته، ليصبح أكثر شراسة، ويستنزف حياة الشعب، حتى يُفارق الحياة، وفي المأتم نفسه، تضع (دنيا) عينيها على حالم جديد محروس آخر لا يرى سواها. يتم تجسيد رجل السلطة هنا من خلال عدة مراحل عُمرية، منذ الميلاد وحتى الموت، وكأنها حياة واحدة ممتدة، أو عقيدة لا تختلف باختلاف مُمَثلها.

العرض المسرحي

ولا تأتي الحكاية في شكلها التقليدي، بل شذرات تتواتر وتتداخل، تأكيداً لحالة الشخوص وتحولاتهم، فخشبة المسرح المُقسمة تحكي عدة أحداث في وقت واحد، تبدو للوهلة الأولى منفصلة، إلا أنها تتشكل كلما تقدمت الأحداث، وتصبح أكثر ترابطاً، وبالتالي تم إسقاط الزمان والمكان، من خلال تداخلهما بداية، أو تجريدهما تماماً، فما يحدث أمامنا كان وكائن وسيكون، وتأصيلاً لوقوعه كحدث في وعي المُشاهد أولاً، بغض النظر عن مكان معين محدود. كما اعتمد العرض على عدة أشكال أدائية، كالتمثيل والرقص والغناء والاستعراضات الجماعية، بجانب بعض المنولوجات القصيرة التي تؤديها الشخصيات التي تتحول حالتها، من شاهد على ما يحدث، إلى حالم جديد بالسلطة، إلى آخر يدّعي النبوءة ككُهان الزمن الغابر، إضافة إلى كاتب لا يعرف وسط كل هذا الهراء كيف وماذا يكتب، وبالضرورة لمن سيكتب، حتى يصبح بدوره ساعياً وراء (دنيا آدم) فالتفاهة هي سمة العصر، وهي السبب الوحيد لتحقيق الثروة، فليلحق بالركب قبل فوات الآوان، إضافة إلى اعتماد عدة أساليب تشكيلية لا تقرب الواقع، لكنها تسخر منه وتختلق مسافة لوعي المُشاهد، كما في مشهدي ميلاد الطفل، فالأم العجوز في فستان زفافها ولم تزل مُمسِكة بباقة الزهور المعهودة، وهي على وشك الولادة، وحيث سرير الولادة في وضع رأسي، فهي واقفة والسرير كخلفية لها. كذلك مشهد القضاة الثلاثة، وكأنهم بهلوانات في سيرك، يهبطون من أعلى لتقرير مصير الطفل المُختار.. السلطوي الجديد.
وفي الأخير.. لا تخفى دلالة العرض وحكايته، ويُحسب لمخرجه وممثليه رغم الإطالة وتزاحم الأفكار النجاح في تقديم مثل هذا العرض المصري في مثل هذا التوقيت.

--------------------------------------------
المصدر : القدس العربي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق