مجلة الفنون المسرحية
( التجريب ... سيولة )
محاولة نقدية لقراءة مسرحية (الراديو)
تأليف : كين تساور - ويوا واخراج: د. محمد حسين حبيب
تمثيل أحمد عباس, محمد حسين حبيب, مهند بربن, علي عدنان التويجري, حسنين الملا, علي العميدي.
مؤثرات صوتية : علي عادل
إضاءة : علي زهير.
فكرة العرض :
أربع جدران( غرفة) هي جغرافية بلد...بلد (يموت الفقير... ليعيش الغني) نعم هو العراق ... الوطن... لكي يعيش فيه ( الهامش) المهوس بالقيمية والأخلاق الموروثة وهذا عصياً عليه مغادرتها , فكان الاجدر به اللجوء وإذابة تلك القيم والأخلاق, والرفعة العلمية, والوقوف تحت مظلة القصور وهيمنة دعاتها. وإلا فالعيش محالٍ. فالفكرة جاءت صريحة الى الفساد المؤسساتي داخل المنظومة السياسية, ولن يغيب الفساد الاجتماعي منها ايضاً. عصر سائل يناهض الراكز. تهافتت فيه القيم والأخلاق.
نص العرض :
أبا المخرج أن يكون النص المقروء هو ذاته. بل أصر على أن يحل محله نص العرض, لتكون المغايرة والمغادرة للنص الأصلي هي ثيمة رئيسة في نص العرض مزجتها ماكنة أخراجية نابضة بالمزاج الشاعري التجريبي, الضاحك, المنفعل, ليرسم لنا جغرافية الوطن الذبيح في تلك الغرفة الصغيرة. كالتي يعيش فيها كمٌ هائل من الناس في ذلك الوطن, فقد أبانت لنا زوايا الغرفة بأن المخرج قام بعملية تفكيك النمط التأليفي, ليخلق مناخات مرتفعة وهابطة, بطريقة جُمعت فيها أساليب المدارس المسرحية كخيوط متناثرة لتصف مدى البؤس الذي يقبع فيه الهامش اليوم. فلم يتقيد المخرج بأسلوب سالف, بل خرج برؤيته التجريبية ليذيب تلك الأساليب وتصبح (سائلة) كما وصفها عالم الاجتماع ( زيجمونت باومان) , فالحياة السائلة هي تلك اللوحة التي جسدها لنا كادر عمل مسرحية ( راديو) من خلال آدائته. فلا يوجد ضابط للأداء غير ذلك الشعور السيكولوجي بالوجع الحياتي الذي ينطلق من المؤدي على الخشبة ( من الداخل الى الخارج) فالحياة بالنسبة لهم وخصوصاً العيش في تلك البقعة لا تعني لهم شيء فبالتالي هم قابعين تحت مفهوم ( المركز / الهامش). فالعرض عبارة عن تجريب لا ينتمي إلى أسلوب معين, وهذه هي أهم سمة جمالية من سمات التجريب.
التمثيل :
تجري الأحداث وتتحرك متسمة بكشف النقاب عن مكامن الخلل فمن اللحظة الأولى لرفع الستار وظهرت لنا وجوه الممثلان ( أحمد و حبيب) مباشرة على خشبة المسرح وهم يقطنون تلك الغرفة البائسة ويتحدثون فيما بينهم بحديث غير مجدي يحمل في طياته إلى دلالات تعبيرية. إذ نشعر بهم أنهم قد عادوا بنا الى أسلوب المدرسة التعبيرية, التي طرحت العواطف بشكل مباشر وفي صيغ مادية, أما فلسفة مسرح العبث وتشاؤمية الإنسان من طبيعة الوجود, فلم تكن غائبة, ولكن البحث عن الوجود هنا مختلف ومنظم, أختلف عن رؤية العبث واللامعقول, فالممثل (علي العميدي) الذي كان يجلس أما الراديو ويتلاعب بأنامله بموجات الصوت هي اللوحة التي توحي لنا مباشرتاً (بلامعقولية الحياة) معبراً بذلك عن يأسه, بآداء فلسفي عميق, قد حملت دلالات كثيرة بحاجة إلى فك رموزها المشفرة من قبل المتلقي فهو ينطبق مع مقولة الناقدة الفرنسية (آن أوبر سفيلد) عندما وصفت نص العرض( بالنص المثقوب). ليأتي المخرج ويعمل على لجم تلك الثقوب, فقد كشف لنا المخرج مؤخراً عن تفسير تلك الرؤية أو الإحساس لدى الممثل (العميدي) أما الحوار فنرى بين الحين والآخر تلك اللغة الحوارية ( الساخرة) التي ترتبط خيوطها بالفكرة الرئيسة (الأم). ليكون الهذيان واقع معاش لا مناص منه, فتلك الباحة الصغيرة هي واقعنا المرير, فنص العرض يبدو أن المخرج قد أجهز على اختيار هكذا طاقات تمثيلية مسبقاً, وكانه يسير على خطا المخرج (بروك), عندما كان يختار نصاً مسرحياً معيناً, يختار ممثليه للوهلة الأولى. وبعدها يطلب من ممثليه أن يتعشقوا روحياً مع النص بقوله ( أريد من الممثلين أن يتسرب النص المسرحي لداخل أجسادهم), نعم تسرب النص داخل أجسادهم, فقد اتحفنا الأداء الحواري وخصوصاً حوار الممثلين ( أحمد ومحمد) ذلك الحوار الساخر المتهكم ذات البوليفونية الناقدة. اما انتقالات ( حبيب وأحمد و بربن) المتكررة من الفصحى الى العامية, فقد لامست مشاعرنا, لأن هذا الخروج والتلاعب الممزوج بالسخرية يحمل دلالات كثيرة منها أن يقف الحدث الدرامي على فك شفرة من شفرات الفكرة الرئيسة لتكون واضحة للمتلقي فمثلاً كلمات الخروج ( فاسدون, سماسرة, محتال, وين الطابوكة) وهذا يعطينا انطباع أن الممثلين لم ولن يتقيدوا بالنص المكتوب ولا بشيء محدد سلفاً, بل حاولوا ايجاد طريقة تتناسب مع دوافعهم الخفية, والصورة السمعية لدى المتلقي وهذه هي طريقة ممثلي ( أغستوا بوال) فمعاني الكلمات وآدائها ماهي إلا لحظة تشخيصية وبأسلوب ساخر ناقداً لأداء المنظومة, ولا ننسى ( جائزة هينكن) فهي رسالة مهمة للانتهاك الصارخ لجغرافية البلد من قبل الآخر.
الجمهور:
لم يترك المخرج جمهوره عاجز, عن التأويل, بل راعى ورسم بشكل جميل آلية التلقي ليصبح عنصراً من عناصر العمل المسرحي , ليصبح مشاركاً في لجم وغلق تلك الثقوب الموجودة داخل نص العرض, فلم تكن آلية التلقي نخبوية فقط, بل تركها المخرج هي الأخرى( سائلة) على المتلقي البسيط, بل وضعه في موضع الصدارة لفك الشفرات الملامسة لواقعه الحياتي. فالمتلقي يجد نفسه في عالم ليس افتراضي يصعب تفسيره, بل في عالم واقعي, هو جزء لا يتجزأ من ذلك العالم, فالمخرج أراد كما أسلفنا أن يكون العرض مزيجاً بين أفكار وفلسفات مسرحية مختلفة, والهدف هو أيصال الفكرة لدى المتلقي باعتباره عنصر مهم وهذا لا يعني أن المخرج قد أوقع نفسه في خانة الأفكار السالفة لتلك المدارس المسرحية, كونه ينتمي لفضاءات ما بعد الحداثة التي اذابت الفعل الدرامي, بل كان يهدف لخلق مناخ تواصلي يقتحم قدرة المتلقي على استقبال ثيمة العرض, وهذا يسجل له, كونه سار على مفهوم ( هابرماس) في نظرية العقل التواصلي, القائمة على التداول والتواصل, ومغادرة (العقل الأداتي). فالأهم والمهم أن العرض قد تلقفته ذائقة المتلقي, الذي هو عماد المسرح.
السينوغرافيا :
هي الأخرى تصميماً وتنفيذاً تبدو منسجمة بكل عناصرها مع رؤية المخرج, فقد لعبت دوراً فاعلاً في تنامي الأحداث الدرامية ويبدو لنا أن هذ الانسجام والتفاهم بروحية الفريق الواحد, أنعكس على جمالية العرض المسرحي, فقد كان للموسيقى أهمية لا تقل أهمية عن باقي عناصر العرض, فمثلاَ الممثلان( احمد ومحمد) وعندما خاطب ( محمد ) الموسيقى بدء الأداء ينحى منحى الكوميديا الجميل ذات الانطباع النفسي بالمتعة لدى المتلقي فالموسيقى هي الأخرى جاءت مكملة لتشكل مع بقية العناصر
تكاملية في العرض المسرحي. ))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق