مجلة الفنون المسرحية
جوهر السينوغرافيا / أ.د حسين التكمه جي
لعل مصطلح السينوغرافيا أضحى يأخذ اتساعا واضحا وجليا في مجال الدراسات المسرحية فضلا عن العروض المسرحية , وبما أنه مصطلح حديث العهد لدى المسرحيين العرب , لذا شكل في هذه الآونة اختلافا ت وأراء متضاربة حول مفهوميته ,فقد طلب الكثير من المسرجين تديد السمكات المميزة لمفهوم السينوغرافيا .
ولعل البعض لم يعد إلى جذره ومرجعياته العلمية , أو ربما سقطت بعض الآراء بالذاتية المفرطة , وربما اندرج بعضها في بث أراء مجردة ليس إلا , مما أفاض علينا بتحديدات تباينت كثيرا دون تحديد المصطلح بشكله العلمي الدقيق , ذلك ما جعل المصطلح معوما نوعا ما , فعدم التحديد الإجرائي يضع الباحثين والدارسين في متاهة , لذا صار لزاما أن نبحث في تحديد ماهية المصطلح بعد أن نطرح كل الآراء التي جعلته عائما وكما يأتي :
1 – الرأي الأول ينحصر من أن السينوغرافيا هي الإخراج.
2 – والرأي الثاني يرى أن المصطلح يجمع بين العنصر السمعي والبصري .
3 –والرأي الثالث يرى أن المصطلح يصب في الجانب التشكيلي بوصفه يستخدم نظام الكولاج .
4 – والرأي الرابع يعتقد أن المصطلح هو بصري بحت .
نحن أمام أربعة أراء مختلفة ومتنوعة وقد يبدو للوهلة الأولى أن كل منها يصب في المسار الصحيح , غير أن عملية البحث والتقصي العلمية ربما تقودنا إلى الاستنتاج الصحيح وتحديد ماهية المصطلح , وعلى وفق ما تقدم ينبغي أن نناقش كل رأي على حده لبيان صحته من عدمها .
بدءا ذي بدء نؤكد بأن مصطلح (scenegraphic) هو مصطلح فرنسي ورد إلينا من السينما الفرنسية بوصفه ( منظر ) فهو مصطلح لا يعني الإخراج المسرحي , ذلك لكون الإخراج يعني في اللغة الانكليزية ( direction ) كما أن كلمة مخرج تعني ( director ) في حين أن كلمة اسم مصمم السينوغرافيا تعني سينوغرفر
scenegrapher) ) ومن هنا يظهر أن المصطلح لا يعني الإخراج المسرحي كما يعتقد البعض . إذ أنهم يرون أن المخرج المسرحي هو من يرسم الفضاء الصوري .
أما بخصوص كونه سمعي فسنبين أدناه أن الأمر خطأ شائع يمكن مناقشته بكل روية لبيان صحته من عدمه .
إن الفرق بين السمعي والبصري , هو أن الأول يسمع عن طريق الأذن ويتسلم الدماغ الذبذبات الصوتية السمعية ليحولها إلى عملية إدراك حسي أي فهم ويترجمها إلى دلالة أو صورة مجردة لا يمكن رؤيتها من قبل الآخرين ويمكن رؤيتها فقط من قبل الشخص الذي أصغى إلى السماع , وهذه الصورة الحسية في علم النفس مختلفة على مستوى التصور والتخيل لدى جميع الأشخاص أي أن الفرد الذي يجلس بالصالة بجواري سيسمع ما اسمعه أنا إلا انه سيتصور صورة غير الصورة التي أتصورها أنا ومختلفة كليا عن الصورة الذهنية المجردة التي يتصورها مجاوري في السماع ويأتي هذا وفقا للصور الذهنية التي يستحضرها الدماغ في ذاكرته والتي لا يمكن على الإطلاق تحديدها أو عدها أو تحديد نوعها وشكلها , وبهذا سيحول العنصر السمعي من (الأنغام والألحان والمؤثرات الصوتية ) إلى صور حسية مجردة في الدماغ , فصوت القطار مثلا سيجعلني أتخيل قسرا صور حسية لمحطة قطار أو شكل القطار القادم , إلا أن ما أتخيله أنا لا يتخيله غيري من المشاهدين في الصالة ,وهذا اختلاف بالضرورة العلمية لا يشكل رؤية ثابتة لدى كل الأفراد , أنما فقط يحدث نوعا من الإحالة التخيلية إلى مكان مفترض وليس مادي من الذاكرة ,لكن له جذور واقعية وهو ليس حقيقيا بالمرة , ربما قد يورد عددا لا متناهي من التأويلات الصورية لذات المكان المقصود .
كما هو الحال في الموسيقى أو المؤثرات الصوتية كصوت المطر أو البرق أو صرير الباب , كل ذلك يخضع لمفهوم مهم وأساسي هو ( الإحالة - referral ) * والإحالة هي تخيل حسي قسري ذلك لن التخيل قسري اما الخيال فهو ابداعيو فالتخيل يفرض على الذات من الخارج إلى الداخل فهو شكل تحدده الذات الفاعلة لنفسها , فكل ما يورد إلى المخ من قصص أو موسيقى أو أصوات أو مؤثرات سمعية يحيلها المخ إلى صور مجردة , مما يعني أن الجانب السمعي لا يشتغل إطلاقا على المستوى السينوغرافي , ذلك أن الفعل المعروض على خشبة المسرح فعل قصدي بصري ومادي يمكن للعين رؤيته دون تخيل مسبق , وليس اعتباطي فالمخرج والمصمم هنا لا يضع الأشياء والمفردات إلا بشكل قصدي كونه يعالج فكرة أو ثيمة بعدة عناصر مجتمعة تصب في مجرى الكل لإيصال المعنى , وبهذا نكون قد أسقطنا الجانب السمعي من السينوغرافيا لكونها تخضع إلى الإحالة السمعية وليس إلى الصورة البصرية المادية فكلام الممثل وحديثه عن الطعام والقصص يحقق استجابة سمعية وفق النظام الإشاري الموجود في الدماغ فهي إحالة , فكل فرد يسمعه يضع في ذهنه نوع الطعام وأكيد هو ليس نوع الطعام الذي يتخيله الممثل البتة و المقصود أصلا .
سيما أن الموسيقى والمؤثرات الصوتية بحسب رأي ( شوبنهاور ) " تمثل عالم الزمان الخالص , وهي لا تعبر عن شيء في هذا العالم , أنما تعبر عن أعمق ما في القوة الباطنية لحركة الكل في الدماغ " (1) .
في حين يذهب ( جورج سانتيانا ) إلى أنها " عمليات لا شعورية مرتبطة بالتخيل واللذة لا تحددها قوانين عقلية وإنما غايتها في ذاتها " (1) .
أما ( ستونليتز) فيرى أن الموسيقى والمؤثرات " تحفز المدرك على تذكر حادث سابق " (1) . أي أن تقوم مقام الإحالة في استذكار زمكانية متخيلة فوق الواقع لا شعورية مرتبطة بالتخيل أي قوة باطنية , فهي بهذا الوصف ليست صورة مرئية مادية تستقبلها العين بمفهوم ( الآن وهنا ) .
في الجانب الأخر نناقش أهمية المصطلح من كونه ( تشكيلي ) . وذلك أمر مهم بوصفه يطرح عدة نقاط التقاء واختلاف , تتصدر نقاط الاتفاق بأن المصمم السينوغرافي ( السينوغرفر ) ينبغي أن يملك رؤية تشكيلة للصورة البصرية بوصفه شكل يؤدي إلى معنى أو محتوى كونه بصري بحت , والمسرح يستدعي على الدوام حضور المصممين التشكيلين في بناء المنظر المسرحي , غير أن الصورة البصرية للعرض المسرحي لا تستند فقط على التشكيليين , أنما هناك عناصر أخرى مهمة في بناء الصورة منها ما هو تقني أو ميكانيكي أو تكنولوجي او فيزيائي,أو فيزيقي كجسد الممثل مثلا , كونها متممات أساسية في بناء الصورة البصرية.
أن الصورة البصرية في العرض البصري التي يحددها مجال الرؤية في المسارح المغلقة أو المسارح المفتوحة هي في الحقيقة مجال رؤيتنا وخبرتنا الإدراكية لما يحتويه الفراغ أو الفضاء المسرحي بشقيه السلبي والايجابي , وأن ترابط هذه المفردات المنظورة داخل الصورة هو ما يحدده المخرج ومصمم السينوغرافيا معا , وقد يثار تساؤلا عن ما هي الأسباب التي أدت إلى بناء الصورة حصرا بين المخرج والسينوغرفر, والجواب ينحصر في أن المسرح التقليدي كان يتطلب عددا من المصممين والمنفذين من العاملين في المجال التقني من اللذين يمكن حصرهم كمصممين ( الإضاءة , المنظر المسرحي , الأزياء . الماكياج الموسيقى , المؤثرات الصوتية والحركة) هؤلاء جميعا هم من يعتمد عليهم المخرج في بناء الصورة , وهم يشكلون أكثر من رأي وربما تكون رؤاهم الفنية متضاربة أحيانا مما يخلق مشكلات عديدة على مستوى الإيقاع البصري أو اللوني أو عدم التوازن أو توافر شكل مسرحي يغيب عنه المعنى الخ , مما تطلب وجود شخص واحد مهني وفني يقوم بكل هذه المهمات التصميمية والتنفيذية ضمن رؤية مشتركة واحدة بمعية المخرج , دون وجود مشكلات تؤثر على سير العرض , وللسبب ذاته استبدل الكل بشخص واحد هو مصمم السينوغرافيا الذي أطلق عليه ( السسينوغرفر stenographer) . عليه فإن المصطلح من الناحية العلمية ليس تشكيليا بحتا على الأعم الأغلب .
إذن ما ذا يعني جوهر السينوغرافيا , أن هذا المصطلح ورد عن طريق السينما , وان أول من أورده هو ( لوي دي جانيتي ) في كتابه ( فهم السينما ) والسينما تعني الصورة المرئية , فالمصطلح يتكون من مقطعين ( scene ) وتعني المشهد , و
( graphic ) وتعني ( التصوير ) فالمصطلح يعني ( تصوير المشهد ) (3)
ويمكن تعريفه من كونه : فن معالجة الفضاء المسرحي ألقصدي بالأشكال المتعددة الأغراض والمعبرة عن الفكرة الدرامية , إذ أنه ينطوي على الاختيار الدقيق الواعي لخطوطه وألوانه وأضاءته ومساحاته وكتلته وعناصر التنوع والتوازن والتركيز والتنافر بين أجزائه , كما انه لا يخلو من إشارات ورموز ودلالات توحي بالمعنى أو تشير إليه .
وعلى وفق ما تقدم يتضح جليا أن السينوغرافيا تعني رسم المشهد أو صورة العرض البصرية , بمعنى أدق فأن جوهر السينوغرافيا ( بصري بحت ) فهو كل ما يسقط على شبكة العين من عناصر الصورة المرئية والتي تتكون من ( الممثل الزي الماكياج المنظر الأثاث الضوء واللون والظل والظلال والحركة ) أي كل ما هو مرئي على خشبة المسرح وليس كل ما هو متخيل عن طريق السمع .وبهذا يمكن القول إنه صورة العرض الإيجابية في الفراغ ,انه بصري بحت بكل معنى الكلمة , على الرغم من أن كل عنصر من عناصره يحتفظ بقيمته الفنية , وان اختلاف الصورة في المسرح عن الصورة التشكيلية يؤدي إلى وجود خصائص لكل منهما , الصورة التشكيلية أو اللوحة مبنية على سطح مستوي هو سطح القماش أو الكنفاز , كما إنها تعتمد على الوهم من خلال قواعد المنظور والظل والضوء والظلال وتدرجات اللون , فضلا إنها تفتقر إلى العمق الفراغي من كونها ليست ثلاثية الأبعاد إلا من خلال قدرة الرسام , أن الصورة البصرية في المسرح حقيقية وليست وهمية, و الشخصيات تسبح في فضاء العرض بلحمها ودمها , لها عمق فراغي حقيقي , بل أنها تنبض بالحياة , وهي ليست جامدة بل متحركة وسيالة على الدوام كونها تخضع لزمن معين ومكان معين وحضور جمالي متحول .
نستنتج مما سبق أن جوهر السينوغرافي هو الجانب البصري الذي تشاهده العين . فهو إذن ليس سمعي وليس تشكيلي وليس إخراج مسرحي إنما هو صورة بصرية مكتنزة بالمعنى والدلالة .
كما يمكن لنا أن نحدد العناصر المرئية ضمن مفهوم السينوغرافيا ( المنظر المسرحي , الفراغ المضاء من الخشبة , الممثل وأزياءه وماكياجه وأكسسواراته , الضوء واللون والظل والظلال , الشاشات بأنواعها "الداتشو " والسايكلوراما ,الأثاث بما فيها السجاد والموكيت , الصور المتحركة والثابتة , المعلقات في فضاء الخشبة ,الحركة المسرحية وتشمل الإيماءة والإشارة والجسد والرقص والبانتومايم والشغل المسرحي , الفراغ والعمق الفراغي , المصابيح الضوئية بأنواعها والايقاع البصري .
*جامعة بغداد / كلية الفنون الجميلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق