تصنيفات مسرحية

السبت، 3 يوليو 2021

بيت الدمية.. صفقة الباب التي هزت أوروبا / حكيم مرزوقي

مجلة الفنون المسرحية

نورا.. "الأرنوبة" التي تستمتع بأن تجد من يداعب وبرها

بيت الدمية.. صفقة الباب التي هزت أوروبا

حكاية امرأة دمية تنتقل من كونها لعبة أبيها إلى لعبة زوجها.

منذ صدور هذه المسرحية حتى يومنا هذا لا يزال النقاد يقدمون دراسات وتحليلات حول حبكتها ومضمونها وطبيعة شخصياتها، وكل اجتهاد جديد يركز على اكتشاف رصيد هذا العمل والتعمق في عوالمه الغنية. باختصار إنها المسرحية التي هزت أركان المجتمع الغربي وعرّت زيفه.

 “بيت الدمية” للنرويجي هنريك إبسن، الملقب بـ”أبي المسرح الحديث” وسيد الدراما الواقعية، أدرجتها اليونسكو منذ عشرين عاما ضمن سجل الأعمال الخالدة لما تركته من أثر اجتماعي في وضعية المرأة الأوروبية التي ظلت تعاني على مدى عقود طويلة من سطوة التقاليد البورجوازية التي تُلزم المرأة بطاعة زوجها إلى حدود التماهي والذوبان، والتستر على جميع العيوب والنقائص.

“إننا معشر البشر مخلوقات ممتدة النظر من الناحية الروحية. نرى الأشياء أكثر وضوحا عن بعد، فالتفاصيل تربكنا، وإن خير وصف للصيف إنما يقدمه المرء في الشتاء”.

بهذه العبارة يقدم الكاتب النرويجي هنريك إبسن (1828 – 1906) نظرته للكتابة والحياة بصفة أعم، أي ضرورة البحث عن مسافة بيننا وبين الأشياء كي نتمكن من معرفتها وتوصيفها.

شكسبير عصره

"بيت الدمية" مسرحية إبسن التي كتبها عام 1870، كانت بمثابة صدمة كبرى وصرخة مدوية في محيطه الاجتماعي والأدبي

 كان إبسن ابنا لعائلة فقيرة، عاش في بلدة صغيرة بالنرويج. وعندما بلغ السادسة عشرة التحق بصيدلية في بلدة ساحلية ليتلقى أصول مهنة الصيدلة، فأمضى ستة أعوام في عزلة بائسة، وفي هذه الفترة قطع كل صلة له بأسرته ولم يعترف بوجود أحد من أعضائها باستثناء أخته الصغرى، وإن القسوة التي قطعت صلته بأسرته هي ذاتها التي قطعت صلته بالنرويج، وذلك بسبب الكبرياء الجريحة والحاجة إلى العزلة.

عاش إبسن الجزء الأكبر من حياته متنقلا بين المدن، قلقا وميالا إلى العزلة. امتزج في كتاباته الشعري بالدرامي، مما جعل بعض نقاد عصره يحتارون في تصنيفه ويتناولون أعماله بشيء من القسوة فأثر ذلك على نفسيته وكذلك على حالته المادية، لكن ذلك لم يمنع محبيه من اعتباره شكسبير عصره.

العزلة مصير وخيار وجودي قرره إبسن لنفسه كي يتمكّن من رؤية هذا العالم على نحو أشمل، لذلك انطلق من روح الشاعر في داخله نحو المفكر الفيلسوف، ومن ثمّ سار في اتجاه الكاتب الدرامي الذي تتمثل مهمته في الصدمة.. ولا شيء غير الصدمة.

“بيت الدمية” مسرحية إبسن التي كتبها عام 1870، أي في المرحلة الوسطى من حياته الفنية، كانت بمثابة الصدمة الكبرى والصرخة المدوية في محيطه الاجتماعي والأدبي، وسماها هو بأول مأساة حديثة من حيث تناولها لحكاية المرأة الدمية التي تنتقل من كونها لعبة أبيها إلى لعبة زوجها.

“نورا” سيدة جميلة، أنيقة، ناعمة ومتفانية في خدمة بيتها كما أراد لها زوجها أن تكون. تبدو من الخارج أنها تملك حياة سعيدة وهادئة، لكن في الواقع هذا الهدوء يخفي وراءه الكثير من الثورة الكامنة التي تنتظر أبسط احتكاك كي تنفجر وتشعل كل ما كان يبدو أليفا، هادئا ووديعا.

تخفي نورا عن زوجها حقيقة المال الذي اقترضته من أجل علاجه والسفر إلى جنوب البلاد. لكن عندما تتعقد الأمور ويكشف زوجها الحقيقة تظهر حقيقته هو، وهنا تكتشف نورا حقيقة حياتها التي كانت تجهلها فتخلع ثوب الدمية التي أراد لها محيطها أن تكونها وتطبق باب البيت خلفها وتغادر في مواجهة مصيرها مخلفة وراءها كما هائلا من الزيف، وكذلك الأسئلة المعلقة دون أجوبة.

“صفقة الباب” هذه سمعتها كل أوروبا الغارقة في زيف العلاقات البشرية، ووصل صداها إلى جميع الطبقات الغارقة في أوهام “الأخلاقيات الرفيعة” دون أن تدري أنها تتستر على الرذيلة وتقنع النفس بأنها تعيش السلام والطمأنينة.

“بيت الدمية” من المسرحيات الاجتماعية التي أراد إبسن من خلالها أن يكشف عصره ويظهر ما فيه من زيف وخداع، حتى قال عنه الناقد  إيريك بنتلي “هذا هو إبسن الذي فضح أوروبا”.

من أنا؟

أبو المسرح الحديث وسيد الدراما الواقعية
أبو المسرح الحديث وسيد الدراما الواقعية

تبدو المسرحية ذات الفصول الثلاثة في بدايتها عادية الأحداث والشخصيات داخل أي مجتمع برجوازي، فنورا متزوجة من هيلمر منذ ثماني سنوات ولديها ثلاثة أطفال. ونرى هذه المرأة المتزنة المنسجمة مع حياتها الزوجية فهي تحضر لعيد الميلاد وتهتم بإحضار هدايا وحاجيات الأولاد، كما تبدو محبة للمال وتعرف كيف تقنع زوجها بإعطائها المال فهي عصفورته وأرنبته التي لا يستطيع إلا أن يدللها، إذن هي تحمل وجهين: وجه المرأة التي تحب أطفالها وقادرة على إدارة منزلها وإطاعة زوجها، والوجه الثاني هو الطفلة التي تأكل البسكويت سرا أو تحب أن تكون هذه “الأرنوبة” التي تستمتع بأن تجد من يداعب وبرها.

هذا العام سيترقّى زوجها في البنك الذي يعمل فيه، لذلك تشعر نورا بأنه يجب أن يتمتعوا قليلًا. ثم تعلن الخادمة عن قدوم اثنين من الزوار؛ السيدة كريستين لينده وهي صديقة قديمة لنورا، جاءت تبحث عن عمل، والدكتور رانك الذي انتظر في المكتب وهو صديق مقرب للعائلة. لقد مرت كريستين بأوقات قاسية منذ وفاة زوجها. وأوضحت نورا أيضًا أنهم قد مروا بظروف صعبة للغاية؛ فقد مرض زوجها تورفالد هيلمر، وكان عليهم السفر إلى إيطاليا ليتلقى علاجه هناك.

إيريك بنتلي: هذا هو المسرحي النرويجي هنريك إبسن الذي فضح أوروبا

ثم قالت كريستين إنه عندما توفت والدتها كان عليها رعاية إخوانها، ولكن الآن بعد أن كبِروا تشعر بفراغ لا يُوصف. ثم تعدها نورا بأن تتحدث مع تورفالد من أجل إيجاد عملً لها، فتخبرها كريستين برفق أنها مثل الأطفال، فتستاء نورا، ثم تفصح عن أنها اقترضت المال من بعض المعجبين، من أجل علاج تورفالد، وقد أخبرت تورفالد بأن والدها أعطاها المال، ولكنها في الواقع نجحت في اقتراض المال بطريقة غير قانونية دون علمه. وطوال  هذه السنوات كانت تعمل وتدخر المال لسداد هذا الدين.

نتيجة حياتها المبرمجة على مثل وأفكار نموذجية تعيش أزمة حقيقية حين يخبرها كروغستاد الذي طرده زوجها من عمله في المصرف بأنه سيبتزه من خلال كشف سرها على الملأ، إن لم يعد له وظيفته.

وهكذا، تنهار نورا وتفكر في الانتحار مرات عديدة، إذ كان أهون عليها أن تضحي بنفسها كي تجنب زوجها الفضيحة. وقبل أن تتاح لها الفرصة لتنفيذ غايتها، بعد عودتها وزوجها من حفل ساهر أدت فيه رقصة ساحرة تذكر بأجواء “ساندريلا” وتلك الأجواء المخملية الساحرة، وبعد تعبيره عن سعادته بوجودها في حياته وحبه النقي لها وتجديده العهد بحمايته لها، يكتشف تورفالد بعد قراءة رسالة كروغستاد ما قامت به، فيعتبرها خائنة، وبلا تمهيد يتهمها بقلة الخلق وانعدام القيم وبأنها مصدر الفضيحة التي ستدمر مكانته وحياته، ثم يأمرها بترك البيت كونها ليست بأم تؤتمن على تربية أبنائها.

فجعت نورا بردة فعله، وفقدت القدرة على الإدراك. وفي حالة الذهول تلك وصلت رسالة أخرى إلى الزوج، وما إن فتحها حتى انفرجت أساريره. إذ كانت تحتوي على صك الضمان الأصلي الذي حرره من عبء الفضية. وهنا تبدل موقفه وقال لها إنه عفا عنها وسامحها.

لم تستطع نورا استيعاب هذا التناقض، وهي التي كانت تتوقع وقوفه إلى جانبها وتقديره لتضحيتها من أجله. وما كان منها إلا أن قالت له “سأغادر البيت الآن”. وحين توسل إليها أجابته “أريد أن أعرف من أنا”.. وصفقت الباب خلفها، بعد خروجها.

لا يستطيع الزوج تورفالد تَفهّم وجهة نظر نورا، لأنه يتناقض مع كل ما عَرِفه عن عقل المرأة في حياته. وعلاوة على ذلك هو نرجسي، أي أنه من المستحيل أن يفهم أنه يبدو لها الآن كأناني ومخادع ويكترث للسمعة أكثر ما يكترث للأخلاق الحقيقية. نورا تترك مفاتيحها وخاتم زواجها، فيما ينهار تورفالد ويبدأ بالبكاء مُتَحيّرًا مما يحدث حوله. تترك نورا المنزل وتغلق الباب وراءها لا تعلم ما إذا كانت ستعود أم لا.

النهاية العار

هذه النهاية عار على المسرحية الأصلية
هذه النهاية عار على المسرحية الأصلية

في هذا الصدد تقول الناقدة رشا المالح “كان لصفقة الباب تلك دوي ارتجت له أركان العالم، وأثارت مغادرة نورا البيت بعيداً عن زوجها وأطفالها وكل ما بنت عليه حياتها ثورة اجتماعية في أوروبا، على قيم الزواج التي كانت سائدة لدى الطبقة البرجوازية، والتي كانت محكومة بالمظهر الاجتماعي والاستقرار المادي وباعتماد المرأة الكامل على الزوج، فكراً وفعلاً، بصفتها عنصراً ضعيفا”.

على الرغم من أن معظم النقاد اعتبروا الشخصية الرئيسية في العمل نورا، وبنوا حولها نظريات عن تعاطف إبسن مع المرأة ومناصرته لها، كما هو الحال في الدراسة التي قدمتها الكاتبة لمى فرحان الخليل، إلا أن توجه إبسن في عمله بعيد كل البعد عما افترضوه، إذ قال لدى تكريمه من قبل “نادي سيدات كريستيانا” الذي اعتبرته عضواته صديقاً منحازاً للدفاع عن حقوق المرأة “لم يكن كل ما كتبته بوعي قصدي. كنت كاتباً أكثر مني فيلسوفا اجتماعيا كما يعتقد البعض. ما كتبته كان بدافع إنساني. كان هدفي وصف جانب إنساني يضيف إليه القارئ أو المشاهد مشاعره ومزاجه الخاص، تبعاً لشخصيته”.

وتجدر الإشارة إلى أن إبسن قد استلهم قصة مسرحيته هذه من المحنة التي مرت بها صديقته لورا كيلر، التي لجأت إليه ليتوسط لها عند زوجها. وبدلاً من تدخله كتب المسرحية بعد مضي عام. وإن اختلفت النهاية ففي الواقع طلق فيكتور زوجته لورا، ووضعها في مصحة للأمراض العقلية، وبعد مضي عامين سألها العودة إليه وإلى أولادها. هذه المحنة دفعت لورا لتصبح كاتبة ذات مكانة مرموقة. إلا أن شهرتها كملهمة للمسرحية فاقت تميزها في ساحات الكتابة والإبداع.

ولما شعر وكيل إبسون الألماني بأن النهاية الأصلية لن تتناسب مع المسرح الألماني اضطر إبسون إلى كتابة نهاية بديلة لتحظى الرواية بالقبول في ألمانيا. في هذه النهاية تذهب نورا إلى أطفالها بعد أن تتشاجر مع تورفالد، فتنهار بعد رؤيتهم، ثم يُسدَل الستار.

لم يكن كل ما كتبته بوعي قصدي، كنت كاتبًا أكثر منّي فيلسوفا اجتماعيّا كما يعتقد البعض

وقال إبسون في وقتٍ لاحقٍ إن هذه النهاية عار على المسرحية الأصلية ويسميها “الغضب البربري”. معظم الطبعات اليوم تستخدم النهاية الأصلية كما هو الحال مع إصدارات الأفلام.

قدمت المسرحية للمرة الأولى في “المسرح الملكي” في كوبنهاغن، في 21 ديسمبر عام 1879. وكتب عن أصالة العمل آنذاك الناقد الصحافي فولكيتس إفيس “ليس في العمل جملة تعجب، أو تصعيد درامي أو قطرة دماء، ولا ذرف دمعة واحدة”. وبالطبع، قامت الدنيا ولم تقعد في المجتمع الدنمركي، كون المسرحية أثارت جدلاً واسعا بين مؤيد ومعارض لموقف نورا. وبيعت جميع العروض بعد يوم الافتتاح، ما دفع المعنيين إلى تقديم العمل في المسرح الملكي بستوكهولم في السويد عام 1880.

ما زال العرض مستمرا

أما في ألمانيا فرفضت الممثلة هيدويغ تيمن رابي أداء دور نورا كما هو، واشترطت تغيير النهاية بحيث تقبل نورا، في مضمون حبكة النص، إعطاء زواجهما فرصة ثانية بعد توسلات الزوج. لكن عرض المسرحية في فبراير عام 1880 في فلنسبرغ وغيرها من المدن لم يحقق النجاح المطلوب، ما جعل المخرج نيمن رابي يعتمد النهاية الأصلية، ولتقدم في العام نفسه في ميونخ أيضاً.

وفي بريطانيا العظمى كانت الطريقة الوحيدة لعرضها عبر اقتباسها من قبل هنري آرثر جونز وهنري هيمن، تحت عنوان “انكسار فراشة”، فقدمت على مسرح “الأميرة” في لندن عام 1884. أما العمل الأصلي فلم يعرض كما هو إلا في عام 1889 على مسرح “نوفلتي”، من بطولة جانيت أشورس وتشارلز كارينغتون، ليذهب العرض إلى استراليا في العام نفسه.

أول عرض لها في أميركا كان عام 1883 في مدينة لويسفيل بكنتاكي، من بطولة هيلينا مودجيسكا. وعرضت بعدها على مسرح برودواي الشهير في ديسمبر عام 1889، إذ أدت دور البطولة بياتريس كاميرون. أما في فرنسا فكان أول عرض لها في عام 1984.

وقدمت “بيت الدمية” عدة مرات في السينما، وكان أهمها من إخراج البريطاني ديفيد ثاكر، ومن بطولة جولييت ستيفنسن وتريفو إيف.

-----------------------------------------

المصدر : العرب 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق