مجلة الفنون المسرحية
الممثل والخيال
إن الخيال هو جوهر عمل الممثل، فهو الذي يساعده على تفسير المواقف الدرامية من خلال بناء حياة كاملة للشخصية في مخيلته، وبناءً على هذا التفسير يحدد منهج الأداء التمثيلي، إن العرض المسرحي يبدأ وينتهي في خلال ساعتين أو ثلاثة على الأكثر، ويجسد الممثل تاريخًا كاملًا للشخصية من خلال ربط المعطيات المتاحة بمعطيات أخرى يكونها في خياله، الأمر لا يتوقف عند استكمال الظروف المعطاة، وبناء تاريخ اجتماعي وفكري ونفسي للشخصية، إن استخدام الخيال يصل لأهميته الكبرى في تحقيق حالة الصدق الفني، إن قيام بعض الممثلين برسم ملامح على وجوههم للتعبير عن الحالة الشعورية للمشهد هو تصرف يؤدى في الغالب لتصدير حالة شعورية غير حقيقية لن يصدقها الجمهور، خاصة إذا ما تلازم رسم الملامح مع حركات جسدية تتسم بالميكانيكية، وأداء صوتي مزيف، إن الحل يكمن في الخيال، فالممثل الموهوب هو الذي يستطيع أن يحول الأداء التمثيلي إلى نتيجة وليس وسيلة، وبمعنى أدق لا يجب أن يسعى الممثل لاتخاذ الأداء التمثيلي كوسيلة ينقل بها كلمات النص، ولكن يتحتم عليه أن يجعل من هذا الأداء نتيجة حتمية للمشهد الذي كونه في مخيلته فيأتي الأداء فطريًا يخلو من الزيف وبالتالي يصدقه الجمهور، ولتوضيح هذه الفرضيات سوف أعرض تجربتين من مسرحيتين مختلفتين قمت بإخراجهما:
- التجربة الأولى كانت في مشهد من مسرحية بيت دمية للكاتب النرويجي "هينرك إبسن" ...
كروجشتاد ثقى أننى لو فقدت مركزي في البنك فستفقدين مركزك أنت أيضًا. (ينحنى لها و يخرج من الصالة وتظل نورا مستغرقه في أفكارها بعض الوقت ثم تهز رأسها)
نورا كلام فارغ (تشغل نفسها بترتيب الأطفال) ... مستحيل ... لقد فعلت ما فعلت بدافع من الحب
الأولاد هل خرج الضيف؟
نورا نعم ... ولكن لا تخبروا أحدا بمجيء الضيف الغريب ... هه؟ ولا حتى بابا
الأولاد حاضر ... هل نعود إلى اللعب؟
نورا ليس الآن
الأولاد ولكن وعدتنا يا ماما
نورا لدى أعمال كثيرة جدًا هيّا إلى غرفتكم ... هيّا (تتوجه إلى الشجرة) .. شمعة هنا ... وقليل من الورد هنا ... يا لجرأة الرجل ... كلام فارغ ... الحكاية في منتهى البساطة ... ستبدو الشجرة آية في الروعة سأبذل قصارى جهدي في سبيل رضاك يا تورفالد سأغني وأرقص من أجلك يا تورفالد"
إن جوهر هذا المشهد يقوم على الخيال، فـ "كروجشتاد" خرج من بيت نورا وهو ينوي أن يكشف لزوجها "هيلمر" أمر تزويرها للكمبيالة، وهو ما يتعارض بقوة مع المبادئ التي طالما أعلنها هيلمر، من هنا فإن كروجشتاد يمضي ويترك نورا في حالة نفسية سيئة. إنها مترددة بين أن تصدق أن هناك مشكلة حقيقية تواجه استقرار بيتها، وأن تأخذ الأمر ببساطة، وبالتالي جاءت الأفعال في النص على مسارين أحدهما تريد به نورا طمأنة نفسها، فهي تطلب من الخادمة شجرة الكريسماس لتزيينها، وهو ما يعني التركيز في عالم من البهجة (الحكاية في منتهى البساطة – كلام فارغ – سأغني وأرقص من أجلك يا تورفالد)، أما المسار الآخر فيتمثل في حالة القلق التي انتابت نورا من جراء قلقها من رد فعل هيلمر على التزوير والاقتراض. على الجانب الآخر، كان الأطفال ينتظرون وفاء الأم بوعدها لاستكمال اللعب في ليلة الكريسماس، إلا أن الأمور كلها تعقدت، والجو النفسي العام أصيب بالتوتر البالغ، هذا هو حال النص كما كتبه "هينرك إبسن"، فماذا فعل الإخراج؟
إن التصوير التخيلي كان هو البطل في هذا المشهد، فلا يمكن أن تعبر الممثلة عن تلك الآلام التي تعتصرها دون أن تكون في مخيلتها مجموعة من الصور الثابتة والمتحركة لكل فعل من الأفعال التي تجري بين أسطر النص، خاصة أن الإخراج كان تفسيريًا يتفق مع النص ويحاول استخدام عناصر العرض لتأكيد هذه الأفكار المتفق عليها. كان لابد من تأكيد حالة التماوج بين القلق والاطمئنان، فبعد أن يغادر "كروجشتاد" البيت، تقف نورا مشدوهة للحظات، كانت الممثلة هنا ترسم في مخيلتها صورًا للأحداث التالية، كانت تدريبات التمثيل تقضي بأن يتماوج خيال الممثلة بين منطقتين؛ إحداهما على اليسار وفيها كادر يتحرك في داخله هيلمر وهو يقرأ خطاب كروجشتاد، وبالتأكيد سوف ترى نورا في هذا الكادر قمة الغضب الذي ينتاب هيلمر، ثم تنتقل إلى الجانب الأيمن حيث تشاهد نفسها وهي ترتدي الفستان الذي صنعته بمدخراتها خصيصًا ليوم الكريسماس، سوف تتأمله، وترتسم البسمة على وجنتيها من فرط إعجابها بنفسها، وبالتالي رؤية صورتها في عيني زوجها، ثم سرعان ما تعود إلى الكادر الأيسر لترى هيلمر منفعلًا بعد أن يفض الخطاب، ثم يتوجه إليها وهو يعنفها، وقد تتطور الأمور فيصفعها على وجهها، وسريعًا تعود للكادر الأيمن فترى نفسها وهي ترقص بصحبة زوجها في احتفالات الكريسماس، كما تراه وهو يبث إليها كلمات الغرام، ويتبادلان لمسات رومانسية حانية. إن رسم الصور في الكادرين بهذا التتابع يستتبعه بالضرورة تأثيرًا مباشرًا على أفعال الممثلة على خشبة المسرح، فالتناقض بين الصورتين يأتي بانفعالات تلقائية من الممثلة تترجم في صورة أفعال درامية يراها الجمهور. إن استخدام التصوير التخيلي هنا يساعد الممثل على بناء الأفعال الداخلية بالشكل الذي تتصاعد فيه بنية هذه الأفعال حتى تترجم إلى أفعال خارجية يؤمن بها الممثل فيصدقها الجمهور.
الأمر ذاته ينطبق على مشهد من القرد كثيف الشعر:
يانك تقول إن البنات في انتظارك ؟ ... كلام فارغ ... هن لا ينتظرن أحدًا ... هن على استعداد لخيانتك في مقابل شلن ... هن خائنات ... كلهن خائنات .
إن يانك هنا يرد على منطق بادي ... الرجل العجوز الذي يحلم بأن يعود ليرى حبيبته التي تنتظره على الشاطئ وقد بنت بيتهما المشترك، إن منطق يانك يعاكس منطق بادي، وهذا المنطق المعاكس لابد وأنه قد بني على تجربة حياتية وليس مجرد فلسفة أو ما شابه، إن يانك وقاد من الطبقة الدنيا، لا يتحدث إلا من واقع تجربة، لذا، فإن الخيال هنا في هذا المشهد لابد أن يلعب دورًا كبيرًا في تحديد طريقة الأداء التمثيلي، كانت التدريبات مع الممثل تقضي بأن يكون يانك صورًا تدعم الأفكار التي ينادي بها، إن يانك يؤمن بأنه لا توجد فتيات ينتظرن الرجل لأنهن خائنات، وهذه الفكرة التي تحتوي بالقطع على تعميم مخل، متغلغلة في أعماق يانك، لذا، كان لابد من أن يتم بناء ظروف لم يتحها النص، فطرحت – بوصفي مخرجًا – مجموعة من الأسئلة على الممثل - بوصفه يانك
- هل مررت بتجارب عاطفية كثيرة جعلتك تؤمن بأن جميع النساء خائنات؟ .. أم أنك تصدر حكمك من مجرد تجربة واحدة؟
- لا يمكن أن يحكم الشخص على أمر من مجرد تجربة واحدة، فقد تكون التجربة عارضة، لقد مررت بتجارب كثيرة آخرها كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير
- لماذا؟
- لأنني صدقت أنها تحبني إلى حد الجنون؟، كما أنني صدقت أنني المرادف الوحيد لكلمة رجل، لم يخطر ببالي أبدًا أنها يمكن أن ترى أي ملمح للرجولة في أي شخص آخر
- وما الذي جعلك تغير موقفك؟
- خانتني
- كيف
- غالبية الأوقات أكون في البحر ، أحيانًا نظل في البحر لشهور طويلة، كانت دائمًا تنتظرني لأنني كنت أعلم زمن الرحلة مسبقًا، قررت أن أفاجئها يومًا، أخبرتها أنني سأعود بعد شهرين، وعدت بعد أسبوعين، ووجدتها في حضن شخص آخر ....
- من كان هذا الرجل؟
- لا تسمه رجلًا ...
- من كان هذا الشخص؟
- وهل ستحدث كينونته أي فارق؟ .. كان شخصًا ... آخر ... آخر ...
- هل تعتقد أنها عرفت شخصًا آخر غير هذا الآخر؟
- عرفت أشخاصًا ... فالمرأة لا تخطئ أبدًا مرة واحدة
- وماذا فعلت هي؟
- ألقت باللوم على لأنني أتركها وحيدة لفترات طويلة ... وهي لا تستطيع أن تعيش بلا رجل ...
- وماذا فعلت أنت
- كنت كمن أصابه الشلل ... لم أقو على الحراك ... فهربا معًا ... وابتلعهما الظلام
هذا المشهد التخيلي كان الأساس الذي تأسس عليه الأداء التمثيلي، فوفقًا للاتفاق مع الممثل يقوم برسم كادر في الفراغ يقوم مقام شاشة السينما، وبداخله يكون مجموعة من كادرات الصور الثابتة والمتحركة والأصوات والمؤثرات الصوتية والبصرية التي تجسد الحوار السابق، إن هذا التصوير التخيلي يساعد الممثل في أن يؤمن بكل كلمة ينطقها وبالتالي يصدق الجمهور أن رأي يانك هو رأي مدعوم بتجرة حياتية، وأثناء أداء الممثل للمشهد خاصة في لحظة قوله إن النساء كلهن خائنات يتحتم عليه أن يرى لحظة الخيانة بكل تفاصيلها التي كونها الممثل في الكادر المشار إليه، هنا يخلق الفعل الداخلي الذي يمثل مبرر الفعل الخارجي الذي يأتي صادقًا لأن الممثل عاش اللحظة بصدق وآمن بها بفضل تقنية التصوير التخيلي التي تعتمد كلية على الخيال.
مصممو العناصر المرئية
يبدأ عمل المصمم من إدراك الرؤية الإخراجية. ففي المرحلة التخطيطية يعمل المخرج على أن تصل رؤيته الإخراجية إلى جميع المصممين المبدعين، ويجب أن نعلم هنا أن خيال المخرج له حدود يقف عندها وخيال المصمم له حدود أخرى، فخيال المخرج فيما يتعلق برؤيته الإخراجية هو خيال عام يختص بالأمور الكلية على مستوى الصوت والصورة، فعندما يتناقش المخرج مع مصمم الإضاءة مثلًا فهو لا يتحدث عن تفاصيل تخص نوعيات الأجهزة وأماكنها وألوانها وزواياها، إنه فقط يتحدث عن جو عام يراه هو وحده في خياله، أما مصمم الإضاءة فيلتقط هذا الجو العام ويترجمه إلى تفاصيل تقنية قابلة للتنفيذ المادي، فيقرر نوعيات الأجهزة ومساقطها وقوتها واتساع بؤرتها وألوانها، ويشارك المخرح بالقطع في توقيتات التنفيذ لكل حركة إضاءة. ولكن على الجانب الآخر يمكن أن يعمل خيال المخرج في تفصيلة دقيقة في الإضاءة، هذه التفصيلة تكون مرتبطة بالغالب بتفصيلة مهمة تتعلق برؤية المخرج، فمثلاً في عرض "القصة المزدوجة للدكتور بالمي"، كانت خشبة المسرح مقسمة لمنطقة علوية في النصف الخلفي لخشبة المسرح، وهي المنطقة المخصصة للبوليس ومنطقة سفلية يمينها عيادة الطبيب، ويسارها منزل الضابط دانييل، كان الدكتور بالمي يتحدث مع دانييل عن حادثة تتعلق بتعذيب أحد المساجين السياسيين، وفي معرض حديث دانييل عن واقعة التعذيب يذكر اسم ب"بابا"، وهو الأمر الذي يستوقف الدكتور بالمي فيتساءل متعجبًا:
بالمي بابا؟!!!!
دانييل مساعد وزير الداخلية ورئيسي في العمل
وقد رأيت هنا أن يكون هناك حركة إضاءة محددة التفاصيل، إن باولوس يجلس على مكتبه في المستوى العلوي يرتدي نظارة القراءة ويتفحص ملفات المتهمين، وعندما يعرفه دانييل يسقط شعاع ضوء على وجه باولوس لمدة زمنية لا تتجاوز المدة الزمنية التي يستغرقها دانييل في جملته التعريفية، هذا النوع من حركات الإضاءة لا يملك فيها مصمم الإضاءة أي تصور، على الجانب الآخر يطلب المخرج من مصمم الديكور طلبات عامة، ففي القرد كثيف الشعر طلبت من مصمم الديكور أن تجري المشاهد في سفينة تمثل عالم يانك، ولكن المصمم هو من حدد شكل السفينة وحجمها وتفاصيل سطحها وباطنها واتجاهها، وفي بيت الدمية طلبت أن تكون الأحداث في منزل شفاف مصنوع من الزجاج دلالة على هشاشته من حيث المضمون وحتى أتمكن من إظهار صندوق البريد وممرات المنزل لوجود أحداث تفرضها الرؤية الإخراحية في هاتين المنطقتين، لكن مهندس الديكور هو من أعمل خياله لتحديد طبيعة المواد المستخدمة وطريقة تنفيذها، والحال نفسه ينطبق على جميع العناصر المرئية والمسموعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق