تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 29 ديسمبر 2021

قراءة نقدية : ثيمة (الشهادة) في مسرحية (حرب العشر دقائق) / أ.د. عقيل مهدي يوسف

مجلة الفنون المسرحية 
قراءة نقدية 
ثيمة (الشهادة) في مسرحية (حرب العشر دقائق)                              
 
إن ثيمة (الشهادة) تمثل بالتأكيد رفعة الوطنية الحقة بخلاف تلك المزورة للإرتزاق بدوافع متردية، يرى الجمهور منذ استهلال العرض شخصيات يتنقلون في (عربة) الى (حي الشهداء) إذ يجري التأكيد على ما تعنيه سفرة الحياة بين (الملهاة) و (المأساة) لتحيلنا الى اختلاف الصدق عن الرياء. ولا نعدم أن نقرأ تداعي عنوانات مسرحية عالمية لدينا. مثل : (عربة اسمها اللذة) و(عربة مهاجر بريسبان) و (عربة الأم شجاعة) وعربة (النخلة والجيران) وانتهاءً بمسرحية العربانة مع أخرى بإسم (بقايا) التي شاهدناها في مهرجان بغداد منذ وقت قريب. هذه العربات تصبح هي (المنصة الإخراجية) التي يتم فيها تشكيل عناصر العرض، ومشاهده المتنوعة بتفكيك العربة الى قطع وأطر ديكورية وزعها المخرج في فضاء العرض وهي تعبر عن كيفية هذه السفرة الخاطفة وما يتعلق بركابها بإتجاه (حي الشهداء) استذكارًا لرحيل هؤلاء الفاجع عبر (زمنين) بمرايا ايدلوجية متعاكسة ومتصارعة في تحديد تداولية اجرائية لمفهوم ( الشهادة) بتفصيلات مفارقة ومتقاطعة تبعاً لتجربة كل شخصية الخاصة بثلاثة رجال وامرأة. فالعرض يبسط (موضوعة) مهمة عانت منها الشعوب الحرة قاطبة ومنها الشعب العراقي الذي مازالت ذاكرته ضاجة بوقائع لحروب سالفة وأخرى مستجدة جعلت فريقي الصراع مستقطباً حد التنافر، أو القطيعة أو الوفاء والاخلاص ما بين زوج وزوجته وابن وأبيه فيما يخص مفهوم (الشهادة) بين من يستحق هذا (اللقب) المشرف المتعالي على آخر منتحلاً ومنافق لاسم الشهادة. بهذا الاختزال الدال لثيمة العرض المركبة يطلعنا على أبعاد ايدلوجية ودينية وعائلية إذ يجري انعكاس مواقف الصراع من داخل بيت الأسرة ليفصح عما تركه الماضي من آثار وتبعات على أجيال الحاضر. يلتقط هذا العرض دراماتيكياً وجوه هذه الصراعات الثنائية إذ يبقى الشهيد قريناً لبطولة انسان كريم ضحى بروحه الانسانية السمحة غير المزيفة انتصاراً للحياة الحرة. بخلاف الغريم الذي ينطوي بأفكاره الهدامة على غل وجرائم لاستعباد الاخرين. يتصدر البطل الإيجابي في مظاهر هذا النص والعرض بوجوه متنوعة اجتماعياً سواء كان ذلك واضحاً في سلوكه بتهذيب رفيع أم بعدم تماسكه قيمياً. يصل بنا العرض الى ذروة تجليات متعاكسة ما بين مواقف جريئة للبطل الحقيقي المتصدية وغير المهادنة لرموز الطغيان والتخلف لتبقى الشخوص الإيجابية متعالية على خيارات خصومهم الزائفة والمتنكرة للوجود الانساني الواعي والمقترن بسلوك أخلاقي ملتزم. مستنيراً بفكره وانفعالاته وعواطفه النبيلة على قدرته السليمة بتجسيدا حي وسلوكي لمثله الخلاقة. استطاع المخرج (ابراهيم حنون) الإمساك بزمام النص والحفر في أعماقه بتحقق (مادي) على خشبة المسرح متواصلا في بحثه مع تجربة عروضه السابقة التي تحمل في طياتها رؤية واضحة للتعامل مسرحياً مع الواقع الوطني في جدل مستمر مع الذات والانسان والعالم متتبعا ً في منظوره الاخراجي مراحل انتقالية حصلت في العراق - بالذات- في مرحلة ما بعد الاحتلال، وما قبله. لكي يقارب متغيرات التطور والنكوص على المستويات السياسية والثقافية والابداعية في الفنون والعلوم وسواها. بهدف تكريس روح الديموقراطية بخيارات اجرائية ونوعية حاسمة في معمار اخراجي ملتزم كالذي دأب عليه المخرجون الملتزمون بمسارح العالم ومسرحنا الوطني. حيث يشهد الجمهور طبيعة أوضاعهم الحضارية وكيفية انعكاسها على المسارح. فلا يمكن أن تلغى شرور بعض الناس بالأماني العذاب إنما تنتظر بعين فاحصة لتكريس امكاناً بديلاً وموضوعيا قادرا على تلطيف السلوك وتحسين الأداء من غير تعال للانسان على أخيه الانسان. بمثل هذه الموضوعات المؤداة فعلياً فوق خشبة المسرح للتعمق لدى المتفرج في أبعاد تجربة يخالها مجردة لكنها باتت بصورة فنية واقعية في حضورها العيني الملموس والمشخص الذي جسدته طرائق التعبير المسرحي الشامل في لغة بصرية ولسانية وبتعضيد من علامات أيقونية تتطابق وشكلها الواقعي أو إشارية اقترانية مزدوجة في كناياتها وصولاً الى رمزيات تعنى بمعنى المعنى والدلالة. وبذلك تنتصر الدلالة المسرحية بعرض اناس ابطال لتميزهم من سواهم بافعالهم الملتزمة وتلك المنحلة في قيمها ومواقفها اللفظية. استطاع المخرج بطريقته الخاصة فنياً أن يقنن حوارات ومشاهد النص الدرامي لينقلها من بعدها الأفقي المكتوب الى بعدها المادي (الحي) ينمو ويتطور برهن مشاهدة آنية لجمهور متقابل يتفاعل بما يراه ويسمعه فوق خشبة المسرح وهو يتأمل بلذة التقنيات الفنية المترابطة في فن صناعة المشهد في مظهره ومخبره ولكل تأويله بطرائق تخصه بجدلية التفسير والتحليل وفهم المغزى بكفاءة او بدونها في التلقي الجمالي وبالتالي يتعرف المتفرج على نفسه من خلال العرض المسرحي اكثر مما كان يظنه . حيث بات تلقيا جمالياً محايثاً لوجوده المعاش. 
علاقة النص بالاخراج:
لا يمكن الاستهانة بدور (النص الدرامي) عند الإخراج فهو حتى في أكثر العروض التجريبية تطرفاً يسهم بأريجه في تضاعيف المشاهد التي تبدو صيرورتها متناقضة على ماكانت عليه (مدونة) حروفياً في (ملاحظات المؤلف) مثلاً توصيف لطبيعة الدخول والخروج، أو التركيز على (بؤرة) مكانية محددة او (خطاطة) يشرح فيها ابعاد المنظر او (الجو العام) (...) لكن النص الدرامي في كل الاحوال هو المصدر الرئيس لرؤية العرض الذي يستبطن منه (المخرج) رؤية خاصة به ويحولها من (كيف مكتوب) الى ثمرة يانعة في (عرض حي) يجمع البعد (الافقي) للمدون (كتابياً) الى جدل يخوضه مع البعد (الرأسي) لتتكامل تشكلات الصورة الفنية- الاخراجية، ببؤرة مكتنزة الدلالة تستقطب تركيز (المتفرج) وتعمق اسلوب تلقيه بشكل فعال ومثير، حافل بمتغيرات العرض وديمومتها المستمرة غير الثابتة. 
شاهدنا في العرض أنماطاً متنوعة من الشخصيات المختلفة في (هويتها) الخاصة. وتكاد تكون (متناقضة) ومتقابلة بعنف وصدود صارخ مع سواها من الشخصيات المسالمة او بتلك المهادنة في اقل تقدير - حتى لا يغيبها " العدم " من وجودها ويحجب عنها الواقع في المكان والزمان ويقذف بها الى وجود وهمي زائف ميت وهامشي، وبالتالي آثر المخرج على تأكيد هذا الاختلاف في الهويات لابطال العرض، وشخوصه الثانوية ، مثلا : سائق العربة وزوجة شهيد وابن شهيد وأب شهيد يعود ثانية. ليربط نتائج سلوكية ببعد الشخصية الاساس سواء في ثباتها او حركاتها الموضعية او في الدخول والخروج، متنقلة من هذا الطرف الى ذاك متواصلة مع المتفرج الذي يستدل عليها بما تبدو عليه (مظاهرالشخصية) مفصحة عن دواخلها ومشاعرها المتجلية في (افعالها) النابعة من (ماهيتها) المضمرة التي باتت (هويتها) متجلية للنظارة بتنوع اتصالي (وتواصلي) مع شفرات العرض.
حرص (الممثلون ) في العرض على تعميق النقائض ما بين الشخصيات في الطباع والفكر والسلوك فوق الخشبة ساعين الى ترابط (أحاسيسهم) الفردية و (تجربتهم) الخاصة مع قدراتهم العقلية ومواهبهم الفنية، مع ابعاد الموضوع الشائك للربط بشكل استثنائي مابين "شخوص"، من رجال  "امرأة " واحدة جمعتهم (المصادفة) في (باص) للنقل - وكل يبوح بمكنونات روحه، وخفاياها، أو يتصادم خارجياً بمحكات بشرية ساخرة سطحية ولكل منهم ردود أفعاله الاستثنائية المرتجلة غير (المتريثة) التي تمثل عوائده السلوكية اليومية المكرورة في نوعية استجاباتها. للمثيرات الخارجية في (باص) بمثابة قدر يجمعهم ليحتكون مع بعضهم بعض، لكنهم تبعاً لنمطهم الحياتي والشخصي يصدرون عن (مآرب) متنوعة تجتمع خيوطها في (نسيج واحد) هو (الشهيد) وذكراه والموقف منه عملياً . 
هذا العرض يتناغم (اخراجياً) بجديته مع كل عرض مسرحي نرى فيه مقترحاً خاصاً لاعادة تشكيل العالم الذي يقترحه (الفنان) بصورة حرة مستقلة : تنبع من المتفرد الخاص مصلحة (جمعية) للشعب، ومصالحه العليا، بأرادة يحتمها الواجب الوطني المستنير بمفاهيم اخلاقية ، متضادة مع بؤس العادات المتخلفة غير العقلانية وهذا الخيار المسؤول ما يحققه فن المسرح بنهجه الجمالي- الابداعي- بما يوظفه من (مجازات) واستعارات ، تضفي عليه " مظهراً " جمالياً ملهماً للعقل الجمعي (للجمهور المسرحي)، من غير مثاليات زائفة تموه هوية الواقع الحقيقي المؤكدة على ضرورة النضال من أجل سعادة البشر، وتكريس القانون الذي يكفل حقوقهم وحرياتهم بتبني ايديولوجيات ديمقراطية وليست قهرية استعبادية وفوقية طاغية.
حرص الاخراج على (فكرة) الشهادة التي تدعو بوضوح في بعدها الأيديولوجي التقدمي الى عدم الانقطاع عن حاجات الانسان الروحية وهو يتفاعل (بوجوده) معها، في تضافر متحد بينهما بمركب سلوكي حقيقي، ملموس في أوضاع الحياة الإستثنائية لمكابداتها الدامية المعاشة وليس مجرد تجميع (لانطباعات) عابرة، غير متجذرة في (الواقع). وحسب هيدجر لا يمكن للانسان أن يظهر دون اقترانه بالوجود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق