مجلة الفنون المسرحية
آي مـيديا: مـن فضاء الهـجنة إلـى الفـرجة الخـلاسية
مدخل: سؤال الحدّ وتوطين العرض
أكّد سليمان البسام في عمله الأخير أن شخصية ميديا - النائمة في بطن الآثار التراجيدية مع يوربيدس-، من الممكن أن تكون شرارة مسرحية عبرها يتكوّن السؤال عن الوضع ما بعد الكولونيالي من جهة "المهاجر الذي تعاد منه كتابة تاريخ الحداثة". إنّ هذه المرأة القوقازية من كولشيش والقادمة من وراء البحار و "غير الشرعية في كورنثيا" هي تلك العلامة الجذرية على الإنسان المنبوذ في أرض ليست وطنه فقرّر الانتقام وتشغيل النّار، ولهذا فهي مؤهّلة للاستدعاء من جديد على الركح المسرحي شريطة تدمير النص الأصلي الذي امتلكه يوربيدس، وإعادة توجيهه على نحو تنتهي فيه نقاوته، ويعتمل فيه ذلك السؤال: هكذا يدعونا سليمان البسام منذ بداية عرضه "آي ميديا" إلى رمي الأسطورة الأصلية عرض الحائط، مؤكّدا أنّه باستعادتها سيقول شيئا مّا غير الذي قيل سابقا. نعم، يوحي لنا صاحب هذا العمل أنّه يتعكّز على نصّ تراجيدي غابر قصد تصريف عرضه المسرحي، ولكنّه في الحقيقة يستدرجنا إلى السكن في فضاء بينيّ متداخل أشبه بمنطقة "القلق والهجنة والانشطار"، من خلاله "تخلق إمكانية الاستنارة والتدبر والمقاومة، بل وإمكانية الهدم، من العيش عند التقاطع والتجاذب". ربّ فضاء كان قد وسمه المفكّر الانجليزي "هومي بابا" بالفضاء الثالث من سماته من تخطّي السائد الكولونيالي، وتخريب الرّاهن الثقافي والاندفاع من سلطة الثابت إلى فعل الانقطاع عنه، ومن سماته أيضا الاختراق كما لو أنّه إحدى ضروب خلخلة الساكن بين الأنا والآخر: إنّه ذلك اللقاء على حافّة الحدود أين تتلاقى الهويات والأعراق والثقافات وتتنازع في الآن نفسه، وأين يمكن للهامش والحواف التكلّم لتنهار سلطة المركز، وأين يتمّ فيه استدعاء الأصل بغاية تدمير نقاوته وتهجينه، وأين ينشأ فيه التفاوض بين الاختلافات على نحوٍ متوتّر.
ضمن هذا الاستشكال من الإقامة الحدودية التي استدرجنا إليها سليمان بسّام سيبدو العرض كما لو أنّه ضرب من تقطيع أوصال الأسطورة الأصلية (ميديا) بإعادة تمثيلها على نحوٍ يتمّ فيه تشغيل السؤال عن المشترك التي تؤسسه الأطراف في ضوء النزاع الدائر بين شمال الماء وجنوبه ومشرقه، وعلى نحوٍ يتمّ فيه استدعاء القديم/ الأصل قصد تدمير نقاوته من منطلق إعادة الاعتبار للتجاذب الثقافي ووضعه في مقام التهجين، وعلى نحوٍ تتمّ فيه مساءلة كافّة أشكال التمركز من زاوية خلخلة سلطتها، وعلى نحوٍ يصبح فيه العرض برمّته عرضاً مسرحيّاً حَدِّياً. ليس الحدّ ما ينتهي عنده الشيء، "الحدّ كما أدرك الإغريق، ما يبدأ منه شيء مّا حضوره"، هكذا وقّع هيدجر. فمرحبا بميديا يوربيدس إذ منها تبتدأ ميديا سليمان البسام، ومرحبا بكورنثيا إذ منها يبدأ الحديث عن الفضاء ما بعد الكولونيالي، ومرحبا بالتراجيديا الغابرة إذ منها يبدأ الأداء بدل التمثيل.
1- الاستدعاء والتدمير : تقطيع الأوصال
على أيّ نحوٍ تمّت عملية استحضار النص الأصلي ليوربيدس؟ كيف قدّ ككيان دراماتورجي جديد في عرض "آي ميديا" لسليمان البسام؟ كيف تمّت عملية خصي فرادته وتلويث نقاوته؟ ما الذي تبقّى من ميديا الأسطورة في اللّحم المسرحي الذي نشاهده الآن؟ هل لميديا القديمة كلّ هذه القوّة في الحاضر حتى يتمّ استحضارها الآن؟ هل يمكن الاطمئنان لحضورها الراهن بوصفها طاقة ترميزية هائلة تشير إلى تكرار الماضي في نسخة آنية؟ هل يمكن سلخها عن انتماءها الأوّل مع يوربيدس وتحريرها بتحرير أبعادها وتشغيلها على نحوٍ جديد؟ ما الذي يوجد تحت جلد ميديا حتّى تأتي الحاجة لاستدعائها؟ أيّ قولٍ مسرحيّ في الحاضر يمكن تشغيله في الفرجة على لسانها؟ ما هي رمزية كورثنيا كمكان لهجرة ميديا إليه؟ هل لكورنثيا الحديثة مكانة حالية من حيث إعادة تشغيل انتقام ميديا القادمة من وراء البحر؟ هل ثمّة مسلخ دموي تجري عملية تصريفه الآن في فضاء كورنثيا؟ هل لميديا نفس الدور القديم من حيث تشغيل المجزرة في كورنثيا؟ على أيّ نحوٍ سيحضر كريون وجاسون في مسرحية "آي ميديا"؟ هل لهما نفس الدور القديم أم أنّهما سيضطلعان بأدوار أخرى من خلالها نكتشف شبكة علاقات جديدة بين الشخصيات مع سليمان البسام؟ هل ستلعب ميديا في هذا العرض نفس الدور القديم بوصفها مغدورة في حبّها أم أنّها ستقذف في قول جديد ووضعيات مغايرة؟ ما مصير الكورس والحال أنّه هو الذي أوصل إلينا نبأ قتل ميديا لطفليها؟ ما الذي يحدث في كورنثيا الجديدة فيعيدنا إلى استحضار ميديا يوربيدس؟ وهل وجود ميديا الحالي مع سليمان البسام إحالة جندرية على انتقام المرأة أم أنّ له طابعاً مغايراً من شأنه تدمير الفضاء السياسي لكورنثيا الجديدة؟ هل يُعَدُّ عرض "آي ميديا" ضرباً من "كتابة المحو على أنقاض كتابات أخرى سابقة" مثلما هو الحال في مسرح ما بعد الدراما؟ هل يعدّ سؤالا عن مقدار الدقّة التي من خلالها نعرف الماضي أمام هول ما يجري الآن في الحاضر؟
لقد سبق أن ناحت ميديا مع يوربيدس: "ليت الموت يطويني/أمّا أنا فوحيدة ولا وطن لي"، وقرّرت الانتقام حين أراد كريون نفيها من كورنثيا نتيجة خوفه منها: "إنّني أخافك"، وكانت النهاية أَنْ أتى "الدمار على البيت كلّه". إنّ قاتلة أخاها التي هاجرت إلى كورثنيا بسبب الحبّ مطعونة الآن بعد أن قرّر زوجها جاسون طلاقها وزواجه بابنة كريون، وهكذا تحوّل فعل القتل معها إلى قتل مضاعف بعد أن ذبحت طفليها انتقاما، وبعد أن تخلصت من زوجة زوجها وأبيها بشكل متوحّش لا يطاق. قد تبدو هذه هي القصّة الحقيقية التي مَسْرَحَهَا يوربيدس وقدّمها إلى الإغريق القدامى، ولكنّها قصّة تمتلك من الفاعلية ما يجعلها تخرج عن مرماها الأصلي المتعلق بالانتقام الجندري الذي تمارسه المرأة كردّة فعل على الرجل، وهذا الخروج هو ما يتحقّق في الموقف الكورنثي من المهاجر إلى أرضه بوصفه بربرياً ومتوحشاً، ولهذا لم تكن ميديا شخصية مأساوية بالمرّة، بل شيطانا مدمّرا وقاتلا تمتلكه شهوة الدم وتقطيع الأوصال وتشغيل الجريمة، ولهذا أيضا يتعاطف الجمهور مع زوجها بعد موت طفليه وزوجته الجديدة ولا يرى في ميديا إلا تلك الغريبة التي روّعت الوجود السياسي لكريون المقتول سيّد كورنثيا.
من هذا الغسيل الدموي الذي وجد مع يوربيدس ولدت ميديا الجديدة لسليمان البسام. ربّ ولادة هي الآن تضعنا في مقام مدلولات جديدة، تصبح فيه ميديا سؤال الهجرة من الأطراف إلى المركز، وسؤال المجزرة حول ما يحدث ضدّ المهاجرين على حافة كورنثيا الجديدة: أولئك الذي عبروا البحر، وأولئك الذي طردتهم الحروب، وأولئك الذين ردمت أجسادهم رمال الصحراء الإفريقية، وأولئك الذين تمّ صيدهم من قبل أكلة الله الإسلامي في أفغانستان. إنّنا ننتقل من "ميديا يوربيدس" القادمة إلى كورنثيا إلى آلاف النسخ من "ميديا سليمان" البسام تحت عنوان المهاجرين إلى هناك، ولهذا فميديا "المرأة غير الشرعية في كورنثيا" تعبّر بشكل سافر عن مساندتها وتضامنها مع المهاجرين الأفغان والسوريين والعراقيين والأفارقة المعلّقة شرايينهم على السواحل بالقرب من الحدود الكورنثية. ضمن هذا المقام الذي اجترحه سليمان البسام يصبح الغرب هو البديل المتعالي عن كورنثيا القديمة وموقفه السياسي من قضية اللاجئين أو المهاجرين ممثّلا من قبل شخصيتي كريون وجاسون، أما الكورس الذي كان يردّد علينا جرائم ميديا مع يوربيدس فممثّل الآن من خلال صوت المهاجر الإفريقي الزاحف من فلوات الصحراء حيث أغاديس البعيدة.
2- فضاء الهجنة
على هذا النّحو من الاستشكال المسرحي، كان سليمان البسام يجرّ ميديا يوربيدس إلى عرضه المسرحي قصد تدميرها بتدمير نقاوة النص الأصلي وإعادة مسرحته في ضوء قضية جديدة. إنّ إضراب ميديا عن الطعام ووقوفها في وجه كريون وجاسون أمام حالة الاختناق التي تمرّ بها كورنثيا بسبب المهاجرين ما هو إلا علامة جذرية على السكن في ذلك الفضاء الثالث أين يبدأ السؤال عن "خلق أشكال تثاقفية جديدة داخل نطاق الاحتكاك الذي يخلقه الاستعمار"، وأين تنشأ ثقافة حدودية "مبنية ليس على غرائبية التعددية الثقافية أو تعددية الثقافات، ولكن على نقش هجنة الثقافة والتمفصل حولها". لقد قفز سليمان البسام إلى نقطة اللاعودة، فالماضي الذي يعود لن يكون كما كان، ولميديا أن تأتي على نحوٍ مربكٍ ومخاتلٍ وغريبٍ غيرَ الذي كانت عليه، ولن يمكن معها التبجّح بنقاء النص الأصلي ليوربيدس، كما لا يمكن إطلاقا النظر إلى النصّ/ المنتج النصي الجديد للعرض على أنّه نصّ نقيّ هو الآخر: إنّه حصيلة مفعول الهجنة أين تستقرّ ثقافتين متنافرتين على نفس الحدّ في كورنثيا. إنّ ماهية السؤال عن الجدوى من إحياء ميديا مجدّدا، هو ما تمتلكه من طاقة رمزية هائلة في التعبير عن جحيم الراهن، ولذلك فإنّ عملية تقطيع أوصالها ما هي إلا حدث جمالي يرسم استشكال الرّاهن في ضوء مصاحبة التاريخ المتكرّر، ولهذا أيضا سيصحّ القول مع ليندا هتشيون: "إن معرفة الماضي تصير مسألة تمثيل،أي، مسألة إنشاء وتأويل، وليست مسألة تسجيل موضوعي".
ما الذي نعثر عليه في فضاء الهجنة من داخل اللحم المسرحي لعرض "آي ميديا" إذن؟ كم ثمّة من شيء آخر حلّ في هذا العرض ومارس تقويضا للخطاب المسيطر؟ أن نسافر مع هذا العرض يعني أنّنا نكتشف أكثر من عرض مضمّن من داخله، إنّنا نصطدم بقصّة ميديا المضربة عن الطعام مساندة للجهة الأخرى من العالم، ونصطدم بقصّة امرأة مات طفليها نتيجة القصف فالتجأت إلى انتظار القصف الثاني بعد أن عجزت على حمل التابوت، ونصطدم بقصّة ماريا كلاس وأسطورة علاقتها بالمليادير اليوناني أرسطو أوناسيس، ونصطدم بقضية المهاجرين من العراق وأفغانستان وجنوب الصحراء الأفريقية، ونصطدم بقصّة السوريين أمام مسالخ الدم التي قدّها داعش؟ ونصطدم بقصّة الخليجي العربي في الفضاء الغربي، ونصطدم بقضايا الميز العنصري والصدمات الاستعمارية. نعم، لقد تمّ تغميس قضايا المستعمَر في فضاء المستعمِر وذلك من جهة استدعاء ميديا وإعادة توجيهها من جديد في الحاضر: "تخيّلت ميديا في غضبها الحيواني الرهيب وهي تأخذ السكين لأطفالها كمفصل منحرف لانتقام ما بعد الاستعمار".
في فضاء الهجنة هذا، يستحيل الإقرار بمعنى واحد يضفيه العرض، لأن شخصيات الحاضر تنزّ مثل الدم من جسد الماضي، والقصة بقدر ما تبدو كما هي مع يوربيدس تنشطر قلقة في عوالم ومناخات جديدة وتنفجر إلى قصص جديدة متنافرة، فيختلط معها الثابت بالمتحوّل والمفكّك بالمركّب والأصيل بالهجين، ويتشابك فيها الزمن الأسطوري بالزمن الواقعي، ويحدث إذ يلتقي الطرف المناهض لطرف آخر على نفس الحدّ فيحصل الانفجار ويولد الهجين بوصفه اختلاطا غير شرعيّ بين الأجناس أو امتزاجا بين مركبات ثقافية متناقضة منها يولد كيان جديد أين يكون للهوية ذلك الإحساس بالحضور المزدوج في الوجود.
ما يقدّمه فضاء الهجنة مع سليمان البسام، هو ذلك الالتقاء بين "الهويات الهاربة" أين يحدث التصادم بينها وبين هويات أخرى فتتم عملية تدمير كليها، فهنا في زمن هذا العرض ينشأ السجال بين ميديا وجاسون وكريون حول مصير المهاجرين العالقين على الحدود: سجال مصدره ثنائيتي المواطنة الكورنثية والبربرية القادمة من الشرق أو جنوب الماء، وسجال توغّل في التشابك مانحا هذه الهويات والأعراق أن تتكلّم على نفس الحدّ مبدّدة أسطورة التفوّق والتمركز من خلال إعادة تنسيبها ورفع الحصانة عنها.
وما يقدمه فضاء الهجنة مع سليمان البسام، هو ذلك الحضور في تخوم الحدود أين تلتقي الثقافات مجرّدة من نقاوتها ومدعوّة للمساءلة، فهنا في زمن هذا العرض يحتدم التعارض حول مسألة النقاب وأبعاده وخلفياته، وتتكلّم الشخصيات بأكثر من لغة ولهجة كعلامة فريدة على ضياع اللغة الأصل وانصهارها في لغة مهجّنة وجديدة، وتمتزج فيه الأغاني بروح أكثر من شعب تحت جلد موسيقيّ واحد غريب ومنشطر.
وما يقدمه فضاء الهجنة مع سليمان البسام، هو ذلك الاستدعاء المريع لنصّ تراجيدي غابر أين تتمّ عملية محاكمته من زاوية تقطيع أوصال حقيقته المطلقة التي ارتكزت عليها قيم التراجيديا. نعم، لقد كان للتراجيديا أن تتأسس على القيم المطلقة التي قدّها العقل الإغريقي، لكن ها هي الآن في زمن العرض مجزّأة ومتلاشية كعلامة جذرية على انهيارها بالكامل: لقد أصبح الإنسان المعاصر في مرحلة الشكّ، الشكّ الذي يزعزع يقينه، ويقذفه من زمنه التراجيدي إلى أفق زمن جديد هو زمن النسبية والتلاشي، ولهذا فإنّ ما ينبني عليه هذا العرض هو تلك المراوحة بين الانجذاب إلى النص الأصلي والهروب منه في الآن نفسه، والمراوحة على هذا النّحو هي ضرب من إعادة تخصيب المعنى على نحو لا تكون فيه المحاكاة مجرّد إنتاج للشيء الأصلي بل "ليس هو بالضبط" وفقا للتحديد الذي صاغه "هومي بابا".
3- لحم العرض أو في الفرجة الخلاسية
ما معنى أن ننظر إلى مسرحية "آي ميديا" بوصفها عرضا خُلَاسِيّاً؟ كيف يمكن قراءة لحمه الفرجوي من زاوية تقول بتحرّر المسرح من كلّ نظام مغلق؟ أليس الحدّ - بعبارة عمر العلوي-، "موضع سكنى مستحيل"؟ كيف نقرأ هذا المستحيل بوصفه إعادة تركيب أو نسجا للعلاقات والأطراف المتنافرة؟ وبأيّ معنى يمكن النظر إلى الفرجة المسرحية في هذا العرض بوصفها خلاسيّة؟
لتحصين الأجوبة حول مختلف هذه الأسئلة سنستدعي استعاريّا كلّ من كلمة الرحم وكلمة المنيّ. الرحم بوصفه طينا مؤهّلا للعجن وإعادة التشكيل، والطين في هذا المقام هو مجموع المناخات والمرجعيات التي اعتمدها العرض كنقطة انطلاق قبل تصريفه فرجويا، تلك المتمثلة في الاشتغال على نصّ تراجيدي غابر والزجّ به في أطروحات جديدة وقضايا شائكة هي قضايا المهاجرين على الحدود الغربية.أما المنيّ فبوصفه طاقة التخصيب التي من شأنها توليد العرض من ذلك الطين نفسه. وفقا لهذا المعجم الجنسي سنستضيف مفهوم الخلاسية، ومفردة الخلاسيّ كما يحدّدها معجم المعاني الجامع تعني "من ولد بين أبوين أبيض وأسود"، أو هي ذلك الخليط بين عنصرين متنافرين من عناصر الطبيعة، أو هي علامة جذرية على مولد جنس خلاسيّ غير نقيّ من الناحية العرقية. على هذا النّحو سيصبح جائزا القول بأن الخلاسية هي إنتاج كيان ثالث هجين، وعلى هذا النّحو أيضا سيجوز القول بأنّ طين العرض/ رحمه هو مجموع قطرات المنيّ مختلفة المصادر التي أفرزت هذه الفرجة.
نعم، إنّنا نلاحظ هذا الخلاسيّ من خلال تغميس جملة من الشخصيات في الجسد الواحد للممثّل أين يصبح فيه مبتورا عن المعنى الواحد، ومنشطرا في أبعاد مختلفة: ها هو الممثل سليمان البسام في دور كاتب النص، وها هو في دور جاسون، وها هو في دور كريون، وها هو في دور منشط المقابلة التلفزيونية مع ميديا، وها هو في دور سليمان البسام أيضا أين يبدأ الحديث عن مسرحة الذّات أو عن "الانعكاس الذاتي داخل الفرجة". لقد قفز هذا الممثل على الركح على نحو ساخر وبارد لكن متهكم وعنيف، وعلى نحو حربائي إذ مهمّته الرّقص على الحدّ الفاصل والواصل بين شخصية وأخرى، فلا هو هذه أو الأخرى. إنّ هذه الإقامة الحدّية للممثل هي ما تجعل منه مفردا بصيغة الجمع. وبالأحرى، هو مجموع ولادة الطين الفرجوي الذي قدّ من خصوبة الشخصيات المتنافرة، وهو هذا الكائن الثالث/ الخلاسيّ حمّال المتنافرات. ولذلك، فإنّ ما يجوز قوله في هذا العرض هو ذلك الانتقال من تمثيل المغامرة إلى مغامرة التمثيل. لم يتوقف سليمان البسام عند هذه الحدود بين الشخصيات التي لعب أدوراها فحسب، بل توغّل فيما هو أخطر وذلك من خلال مسرحته للعملية الإخراجية مانحا المخرج -الذي هو ذاته- إمكانية الحضور على الركح ، وهذا ما نكتشفه من خلال علامات أدائية وشذرات نصية لامعة من داخل العرض سواء عبر تدخّله في تغيير أمكنة المصادح والكراسي أو إعطائه الأوامر التوجيهية للمؤدين الموسيقيين في خلفية الركح، أو اعتراضه على أداء الممثلة حلا عمران بالقول: "أدّي جيّدا، كوني واقعية". هكذا يكون على وعي بِتَمَسْرحه الخاص، وهكذا يصبح العرض عرضا مسرحيا مفكّرا فيه، وعرضا تأمّليا خاضعا لمرآوية المبدع.
نعم، إنّنا نلاحظ هذا الخلاسي من خلال الوضع الانشطاري الذي رمتنا إليه الممثلة حلا عمران لاعبة دور ميديا، وهو وضع مسرحي يعيدنا إلى طرح السؤال حول ما إذا كنّا إزاء حالة من الكتارسيس الأرسطي أم إزاء حالة غضبية تثويرية بريشتية بالأساس. هذه المراوحة بين الخطاب التحريضي لهذه الشخصية في مواضع عديدة من مشاهد العرض والخطاب المغمّس في حالات الهلع والخوف والوحدة في مواضع أخرى من المشاهد، ما هو إلا علامة مسرحية تخترق المسافات بين مناهج التمثيل والأنواع المختلفة من المسارح بوضعها على نفس الحدّ من خطوط التماسّ أين يخرج شكل ثالث من الحضور في الأداء بتصدّع الفواصل الحجرية للأنظمة المسرحية المغلقة.
نعم، إنّنا نلاحظ هذا الخلاسيّ من خلال ثنائيتي الوهم والحقيقة، إذ في اللحظة التي نشاهد فيها مسرحة النص الأصلي كما هو مع يوربيدس يكون حينها قد انقلب إلى نصّ مغاير. فلا الأصل هُوَ/هُوَ، ولا نصّ العرض هو الآخر هُوَ/هُوَ، بل ثمّة اختلاط بينهما أنتج هذه الفرجة الخلاسيّة المريعة. نعم، إنّنا نشاهد شبكة العلاقات بين ميديا وكريون وجاسون هي ذاتها، لكن في وضعيات مختلفة وأهداف جديدة متباينة عن النص الأصلي، ولو أنّ النتيجة هي نفسها من حيث تشغيل الروح الانتقامية: لكأنّ الأسطورة تمنح نفسها الحقّ في التجدّد عبر الزمن بحضورها المدوي في الحاضر، والخروج من طينها الأوّل إلى منيّ اللحظة الراهنة، واستنبات روحها الأزلية على ركح الحياة المعاصرة المجزّأة فلا وجه لها غير هذا الوجه الخلاسيّ الجديد.
نعم، إنّنا نلاحظ هذا الخلاسي من خلال مولد الموسيقى الواحدة من ثقافات متباينة ومختلفة، تلك التي قدّت من أهازيج الصحراء الإفريقية والترانيم المشرقية والطابع الحداثي للموسيقى الغربية، وتلك التي احتكمت في تصريفها إلى المقدرة الأدائية المريعة للممثلة حلا عمران مقابل الهيجان الغضبي لأغاديس -مع الممثل أسامة الجامعي- حيث التجأ في مأساته إلى المراوحة بين موسيقى "الراب" والـ"SLAM". لم تأت هذه المراوحة بين الأنماط الموسيقية من عدم ومحض بفعل كن فتكون، إنّما هي وليدة الحضور على الحدود أين تنشأ جملة التباينات والاختلافات في الفضاء الثالث سالف الذكر. وعلاوة على كونها كذلك، فقد ساهمت المؤثرات الصوتية للعرض - سواء من حيث لحظة زفير التنين من حنجرة حلا عمران أو حركة السكين على خصلات شعرها-، أن تمهّد لذلك الحضور الأوموفاجي لشخصية ميديا وانفجار فضاء العرض بالتوازي مع انفجار العلاقات بين الشخصيات أين استقرّ الوجود الدموي على الحدود بين الأطراف. لقد كان الأمر محسوما من خلال اللحظة الأولى من العرض أين دارت سكين المرأة على البرتقالة حين مات طفليها نتيجة القصف، ومحسوما طيلة العرض أين تشابكت السكاكين وأحدثت صليلها بين أكفّ العازفين في آخر الركح حيث تكدّس البرتقال كوجبة آدمية مؤهّلة للعجن وتقطيع الأوصال.
خاتمة: صلصلة الوجود
لقد أجبرت ميديا على تعليق إضرابها عن الطعام أو هي تتوقف عنه نتيجة الهرسلة والتهديد، أجبرت أيضا على الانحياز لثقافة دون الأخرى، وفي ذلك تدليل صارخ على ما يحدث عند خطوط التماسّ بين الحدود حيث ينشأ النزاع أو الالتقاء بين الأنا والآخر. ولكنّها فزعت إلى انتقامها بجعل تلك الحدود صلصالا آدميا يُطْحَنُ طحنا أمام استحالة الاعتراف بالمهاجر. ربّ انتقام نراه الآن من خلال تدحرج البرتقال على الركح كعلامة جذرية على رسم صورة المهاجرين في فضاء كورنثيا، وكعلامة جذرية على مولد التصادم بين مختلف الأطراف على نفس الحدّ: هكذا تحضر ميديا زارعة مخالبها في حبّات البرتقال لتعيد إلينا مشهد قتل أبناءها، وتحيلنا إلى الحاضر المرعب أين يغمّس لحم المهاجرين في آلات الغرب الاستعماري، وهكذا تنتصب على الرّكح بشكل عَوَّاءٍ تُعَاوِي فيه الوجود.
ما الذي يحدث الآن وهنا على الحدود؟ لا شيء سوى روح الاستئصال التي تعارضها روح الانتقام بعد أن أصبحت للمهاجر إمكانية القول، ولكن في الآن نفسه ثمّة دون شكّ لقاء ينبئ بمولد روح جديدة خلاسيّة وهجينة منها يبدأ الحديث عن نهاية أسطورة الأصل. نعم، إننا نحيا على حدود تكشف عن ضياعنا العنيف والفظيع وعن رعبنا الكوني كما لو أنّنا بعبارة - إيهاب حسن- ، ننزع إلى استحضار الهيولي الأوّل أمام ظلمات السؤال الدائر حول "تشتت لغة الإنسان في كلّ مكان، عودة إلى لحظة الخلق (الانفجار الكبير، نزوحا إلى حافة الانحسار في الكون (النجوم الزائفة)، داخل الثقوب السوداء في الفضاء أو اللاوعي (لاكان) –بديلا عن محايثة العقل والخطاب في المرحلة الحداثية". ونعم مرّة ثانية، إنّنا نحيا في أزمنة الصرخة الأولى للإنسان وهو يتهجّى الكون شعريّا، ونحيا سديمنا البكر حيث يختلط فيه الوجود الحيواني بالآدمي أين يكون الجميع في سكرة الولادة المربكة والمؤلمة، ونحيا في الآن نفسه داخل الحاضر أين نتحوّل فيه إلى طين مؤهّل للعجن والتكوين من جديد على نحو كائنات خلاسيّة يدمّر فيها الحدّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق