لا يبدو الجمعُ المثيرُ الذي إحتشد به متن نص عرض مسرحية ( خِلاف) بغريب إذا ما أخذنا بمساحة الإفتراض الفني وهي تحتشد دواخلها بما سيُحسبُ على سبيل القراءة والتداول النقدي على أنَّها إستعارةٌ لما هو كامن في عالم نعيش تفاصيل وقائعه من / سياسة/ هيمنة وبشراهةللسيطرة على الآخر/إستلاب تكنلوجي/آحتواء سلفي ديني قاهر لمقدرات الإنسان/تباين في الرؤى والمعتقدات/أفكار اليمين واليسار/إختلاط الموازين في المفاهيم والأفكار/سيادة ماهو مجاف لحدود القيم الإنسانية في التواجد والتعايش الآدمي/تداعيات الهجرة بكل مسمياتها ماديا وروحياً /صراع مابين صوت الشباب وما بين خيارات الثبات والتقوقع بين براثينها
فكل هذه التوصيفات وما تمخضت عنها من أسباب وتداعيات صارت مادةً طازجةً تشذرتْ أمامنا في عرضٍ مسرحي نهضَ بتأليفه وإخراجه الفنان ( مهند هادي) وقدمه على خشبةِ مسرح الرشيد في بغداد إعتبار من يوم 17/ شباط/2022 ومن إنتاج الفرقة الوطنية التابعة لدائرة السينما والمسرح في العراق
عن نص المؤلف
فمَن يدقق في قراءةِ النصِ الأصلي سيجدُ ثمة طريقةً قد عوَّل عليها المؤلفُ ( مهند هادي) تعتمدُ على إسلوبِ الفرشِ وإظهارِ أدق التفاصيل مستخدماً طريقة المزج والتداخل مابين السرد والإخبار العلني ومابين محددات الفعل الدرامي وأيضا كان يعمل على صهر ما هو واقعي بحت ليذهبَ به عبر إفتراضاتِ اللاواقع حين أبرز لنا بعضاً من ملامحِ الكابوسيةِ والتوهان الذهني عند الأم (أمل)فبتنا نقرأ مشاهدَ وحواراتٍ كان محورها في رأسها وعبر وسيلةِ الإسترجاع التي وُجِدتْ في بطنِ النص متناسلةً بيسر ومن دون أن يشعرَ القارئ وكأنَّه أمام تواترِ حالاتٍ من الأفعال والسلوكيات المغلفةِ بلغة السرد وحالةِ الإعلانِ الصريح من لدن كل شخصية وكذلك عمل على بناء ثلاث شخصيات يكاد القارئُ أو المشاهدُ أن يتثبتَ عن قربٍ الحالةَ أو المرجعيةَ الفكريةَ أو القيميةَ الثقافيةَ التي تحدرتْ منها يضاف لهم شخصيةُ الصوتِ والتي تشخصتْ عندنا كراوٍ ساعدَ هو الآخرُ في عمليةِ التحشيدِ في إزجاءِ ودفعِ كلِّ الأفكارِ والمفاهيم التي أراد المؤلفُ ان يعززَ بها محتوياتِ متنِ النصِ لديه ومن اجلِ الدفعِ بها وبتواترٍ كثيفٍ أمام القارئ أو المشاهد
فهذه الشخصياتُ تكادُ تتساوى في حدود منطلقاتِها الثقافيةِ والفكريةِ ومرجعياتِها المجتمعيةِ فالام( أمل) هي سليلة الوعي والتربية اليسارية اما الإبن (كامل - كاميلو) فهو إبن الذائقة الفنية ووليد العنفوان الشبابي الذي به صار يجادل ويتحاورُ وينطقُ بلغةِ المفاهيم والأفكار اما الضابط ( المحقق) فهو الآخر يستند على منظومة معرفية خبرها عبر تخصصه وعمله والذي يتوجب عليه الخوض والإطلاع على مفاهيم وقيم وسلوكيات تسود بمجملها في أوساط واقع يلامسه ويقترب من أدق تفاصيله
وبما أنَّ المؤلف قد خطا بنصه هذا عبر وسائل التعزيز والتحشيد فإنه كان يريد أن يعطي لمديات ما يؤمن به وما يريد التعبير عنه وبصراحة الوضوح الكامل ليقول بمبدأ الإختلاف كطريق وأسلوب يبتغيه في العيش والسلوك وفي مواجهة الآخرين ضمن حدود واقع مجتمعي صار يزخر بالتعدد وطرح مستجداتِ الحياةِ بروحٍ عمادُها القبولُ والتعايشُ مع افكارٍ ومفاهيمَ باتتْ تطرحُ نفسَها وبقوةٍ وعلى الآخرين التعاملُ معها بعيداـ عن ثقافة الإحتفاء والمصادرة والابوية غير الناجعةِ امام نوافذَ مانعيش من حياة قوامُها الصيرورةُ والتغييرُ المستمرُ إلى الامام
ومن هذه المنطلقات نرى أنَّ ( مهند هادي) قد أعطى مساحةً لحدود الأفكار لأن تتسيدَ وتصبحَ رهانَ الكاتبِ وهو يشرعُ بتأليفِ نصٍ تميزَ بارجحية التناولِ المبسطِ والسهلِ لموضوعاتٍ بدتْ في حضورِها وطغيانِ أثرِها واضحاً للعيان فأضحتْ مادةً ساخنةً للدراسة والتأمل والتبصر بها بكل معقولية وتدبر حصيف فموضوعات مثل هجرة الشباب - صراع الحاضر مع الماضي-فساد السلطات حيث هي تستثمر بعنونات الجهل والفقر والعداوة - صعود السلفية الدينية - ثقافة الإعتراف بالآخر - تخلخل وإنهيار الآيدلوجيات الشمولية لعدم نجاعة تواصلها الصحيح مع مستجدات ما يشهده العالم من تصورات ورؤى جديدة - وغيرها من مضامين لهي أولى لأن يحفل بها هذا النص عبر بناء كتابي يأخذ بسياحة أفقية تعتمد الشرح والتفصيل والتكرار والذي قد يصل عند بعض من القراء أو المشاهدين إلى درجة الملل بيد أنّه تفصيل وتكرار يعده المؤلف رهانَه الذي يطمح إليه في طرح وتصور متبنياته في نص كتابي يمكن أن يشكل علامة مضافة إلى رصيده على صعيد التأليف والإخراج معاً...
ممكنات فعل الإخراج
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ ساهمت عملية الفرش والتفصيل والتكرار التي تبناها المؤلف في كتابة النص لِتكون المهادَ الذي سارت عليه فرضية المخرج لتقديم خريطة شكلٍ هيمنتْ بحضورها الصوري وبابعادها الفكرية والفنية والجمالية ومفاد ما ترتب من أبعاد هذه الخريطة المقترحة فنيا من قبل المخرج يمكن لنا الوقوف عند مقترباتها والتبصر الدقيق بما فاحت أو نطقت به كل دواخلها وعندها ان نسير مع دقائق ما ظهر أمامنا لنكتب الآتي :
-- بدءاً المخرج ( مهند هادي) يُظهر لنا إهتماماً ملحوظا بدور المكان كبنية فاعلة اخذت لها مسارا كبيراً تكاد تهيمن على فرضيات العرض الأخرى والمقترحة لأن تلعب دورها المتمم في إبراز هيكلية العرض المسرحي على أتم وجه..
وقد بدا ذلك الإهتمام حين جعل من خشبة المسرح على هيأة بيت تُرصف ارضيته بمربعات شكلت بمرور الإشتغال المسرحي لتكون نوافذ مفتوحة تؤدي الى طرقات متعددة وأيضا لتكون كسكة حديد بدأت لنا مع بداية العرض المسرحي المُصاحَب مع تلك الأغنية الأغنية العراقية( يا ساعه يايوم)الباعثة على الألم ووحشة الأرواح..
ولتشكل هذه المربعات أيضا أرضية تُحركُ عليها هياكلُ خشبية كأثاث غرفٍ وصارت هذه الهياكلُ تؤدي بتحريكها وظائفَ متعددةً فمنها انها كنوافذ وأيضا حينما تقترب مع بعضها لتؤشر لجمع شمل العائلة من الإبن والأم ومنها أصبحت كتلفزيون ومكان لمراقبة ومكان للتحقيق وفي هذا العمل يبرز لنا مقدار الإنسجام والتوائم في الإنضباط لرسم حركة الإيقاع ما بين حركة الممثلين وعملية تحريك الهياكل ضمن حدود الرقعة المخصصة لجغرافية مكان العرض..
-- تكتمل حدود المكان المقدم بملامح سقف البيت بشكله المائل في إشارة إلى عدم الإستقرار وبإلوان الإضاءة التي حققت لها أثرا مميزا وبتعدد ظهورها فمرةً تظهر كمستطيلات حينما يكون الفعل الدرامي محتشدا بين الممثلين لتكون كاشفة ومرة تنفرد كقرص قمر يصاحب ما تلفظه الأم ( أمل) من تداعيات داخلية لوحدها ولعل مشهد حركة الغيوم الرمادية وهي تغطي ذلك القرص المشع بضوئه والذي يعد من المشاهد اللامعة في حضورها وأثرها الفني لدى الجمهور..
فالبحر شكل بحيازة مكانية مؤثرة هي الأخرى بعد أن صار هو الملاذ للهجرة وهو الوحل الكبير للخديعة حين تتلاشى تلك الطموحات وهي تصتطدم بإرادات تعمل على مسخ الإنسان وجعله عاريا من طموحات ما يرغب :
كاميلو : إنه البحر يا أمي. خدعني مَنْ في
البحر، أخذني بين أمواجه إلى
أن وصلتُ إلى الوحل...
-- يستند العرض على فواعل أربعة فالشخصياتُ الرئيسية هي أربعة وحتى الشخصيات المنشطرة من شخصية الإبن وكذلك الشخصيات التي تقنعت بلباس داعش وربما في هذا إحالة إلى كونية وشمولية ما يحدث من هجرة وإستلاب آدمي ومحاولة الهيمنة على مقدرات الآخرين رغم ان العرض في بدايته إنطلق من جذر محلي وطني بتلك الأغنية العراقية الباذخة في محليتها وإحالتها إلى مكامن الحزن وسيادة الألم في العراق..
- - فكرة العرض تقوم على الإختلاف الفكري والوجود الحياتي وصلت إلينا عبر منظومة الأداء التمثيلي والتي تمثلت بممثلين يحملون من الخبرة الأكاديمية والفنية الكثير
فالفنان ( هيثم عبدالرزاق) وفي اليوم الأول للعرض لم نشهد له ذلك الوهج الذي يتلائم وتلك الشخصية المراوغة والمدققة والنابهة كشخصية ( الضابط/المحقق) في حين شاهدنا له في اليوم الثاني اداءً تميز بالتركيز
أما الفنانة ( سهى سالم) فقد طُبِعَ أداؤها في بداية العرض بالرتابة إلا أنَّ ثمة تصاعداً قد حصل مع مشاهد فكانت فيها من التميز والفرز الواضح والإلتماع وهي ترتدي قبعة الثائر اليساري (جيفارا) وتردد نشيد الأُممية للشاعر الفرنسي (أُوجين بوتييه) لتنطق بصوت مؤثر :
هبوا ضحايا الإضطهاد
وأيضا في مشهد معبر حينما تقابل إبنها (كاميلو)
ويبدو الفنان ( مرتضى حبيب) اكثر وضوحا وتميزاً فيما قدمه من اداءٍ تمثيلي فقام بتجسيد مشاهد أظهر فيها قدرة واضحة ومختلفةً فيما بينها فتارةً نراه ذلك الشاب الحالم والطامح للهجرة ليحظى بمكان آخر اكثر إستقرارا وإحتراما للإنسان وتارة اخرى نراه يسخر من تفاوت القيم والمفاهيم وتارة يتلبس بلباس داعش المغسول القلب والضمير والمبرر لقتل الإنسان بكل قبح وهمجية
وأيضا ساهمت منظومة الإضاءة بتصميم الفنان( محمد رحيم) وساهم في تنفيذها الفنانون (جاسم محمد - علي المطيري-علي عادل) بدورها الفاعل والمؤثر والذي يُعد من الإلتماعات التي تميز بها هذا العرض
وكذلك شكل الديكور المسرحي بتصميم الفنان (محمد النقاش) أثرا صوريا مهيمناً في وجوده وفيما نتج عن هذا الوجود من دلالات فكرية متعددة..
-- وبعد هذه الحصيلة التي قدمها لنا هذا العرض فلابد من تسجيل بعض من المآخذ والتي نراها ضرورية حين يتم طرحها والأخذ بها من قبل المخرج ومنها :
- أنَّ شخصية الصوت والراوي والذي ساهم بمرافقة الأحداث كان يمكن أن تظهر كشخصية محورية تلعب دور الراوي الحقيقي ليعطي مشهدية مؤثرة اكثر وانجع من بقائها كصوت يشكل ثقلاً ورتابةً في عملية التواصل المطلوب من قبل الجمهور..
- كان لابد من الإنتباه لوجود الهياكل المتحركة فكان هذا الوجود يشكل نداً لوجود وفاعلية الممثلين حتى اصبحنا في مشاهد أن هذه الهياكل قد سحبت الاضواء من الممثلين بفعل هيمنة حضورها وثقلها الصوري
- نحن نعلم أنَّ سلاح الممثل هو جسده وصوته ولغته والذي شاهدناه وسمعناه أنَّ الملفوظ الحواري واللغوي لدى الممثلين في هذا العرض قد إمتلأ بأخطاء نحوية فاحشة لاتُغتفر ليدلل على عدم الإهتمام من قبل المخرج والممثلين على السواء بمدى دور الكلمة في عرض إعتمد اساسا على توصيل الأفكار والمفاهيم وكان الاجدى ان تحظى اللغة بوجود سليم نطقاً ونحواً....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق