مجلة الفنون المسرحية
الفنان والكاتب سعد هدابي.. رحيل بطعم الإبداع والأصالة النادرة
متوالية الخسارات العراقية تتواصل في وقت يتجهم فيه وجه العراق بأفعال شراذم الفاسدين والمفسدين الذين يتسيدون المشهد دون أن يرف لهم جفن أمام كم هذه الخسارات التي تخطف منا مبدعاً اثر آخر ممن قدم ويقدم المنجز تلو المنجز المضمخ بعبير الإنتماء للوطن وناسه الموجوعين..
لقد كان الفنان والكاتب سعد هدابي، الذي رحل عنا سريعاً دون تلويحة وداع عن عمر ناهز الستين عاماً فجر الإثنين 18/4/2022، واحداً من هؤلاء المبدعين الأصلاء الذين رسموا فضاءات الأبداع محلياً وعربيا ودولياً بروائع ابداعاتهم المتنوعة المسكونة بالجمال والمحبة والأمل..
منذ نعومة أظفاره عشق سعد هدابي المسرح وبدأت أولى خطوات هذا العشق من أول ممارسة مسرحية كان يجريها طلبة السادس ابتدائي كًوسيلة تعليمية من يوم كل خميس في العام 1969 لتشكل عنده هاجساً عجيباً لازمه كظله، فانضم الى فرقة الفن الثوري في الإعلام الداخلي في مدينة الديوانية ليمثل في مسرحيتي(مساء التأمل) للمخرج يحيى داوود و(فرح شرقي) للمخرج صباح عطية، وفي العام 1979 قرر الدخول الى معهد الفنون الجميلة ليفك طلاسم هذا الفن النبيل ويصقل موهبته على أيدي نخبة فذة من أساتذة وفناني المسرح ورفقة زملاء مهووسين حتى النخاع بـ(أبو الفنون) ليتخرج من قسم الإخراج المسرحي ويحصل على شهادة الدبلوم عام 1985، وكان مشروع تخرجه مسرحية (كيف يتم تخليص السيد موكينبوت من آلامه) للكاتب بيتر فايس، وليحصل، فيما بعد، على شهادة البكالوريوس في التربية الفنية من الكلية التربوية المفتوحة عام 2017.
المتتبع للسفر الإبداعي لهذه القامة المسرحية العراقية الكبيرة يجد أن سعد هدابي واصل مشواره المسرحي بتنوع وتعدد في كم ونوع من التجارب التي تكاملت فيها مكانته وعطاءاته الابداعية التي أهلته لمعرفة واعية وعميقة لأسرار اللعبة المسرحية، والتي بدأها ممثلاً في أكثر من أربعين مسرحية من أهمها (رسالة الطير) للكبير قاسم محمد ومسرحية و(بستان الكرز) لمهند طابور، ومن ثم خاض تجارب إخراجية لعدد من المسرحيات المميزة، ليخوض فيما بعد غمار تجربة تأليف النصوص المسرحية، مكرساً جل وقته وعطاءاته لتأليف نصوص مميزة شكلاً ومضموناً كان فيها امتدادا حيوياً لعمالقة كتاب المسرح في العراق فكان تلميذاً نجيباً حافظ فيه على الأسس والمشروعية في حمل راية التأليف المسرحي وهو مجايليه من كتاب المسرح العراقي الراهن وفي مقدمتهم الكاتب المبدع المثير للجدل علي عبد النبي الزيدي.
معظم نصوص سعد هدابي لم تتوقف عند حدود العراق بل امتدت الى الكثير من البلدان العربية فاستقطبت العديد من المخرجين العرب في من الخليج الى المحيط الذين قدموها برؤية متباينة لأنها كانت تعبر عن رؤى وتطلعات وهموم الإنسان العربي بل الإنسان في كل مكان بل وحازت هذه الأعمال على جوائز ومراكز متقدمة في أكثر من مهرجان، فكما كان نص سعد هدابي تنويعاً على هذه الهموم والتطلعات فإن النص المنتج بصرياً من هؤلاء المخرجين عراقيين كانوا أم عرباً اشتغل على التنويعات التي احتملها النص الاصلي الذي كان على درجة عالية من الإجادة والحرفة المسرحية الأصيلة شكلاً ومضموناً، إنطلاقاً من أن " المسرح ليس صورة عن المجتمع إنما هو رؤية توجه المجتمع وتواجهه "، حيث إعتاد هذا الكاتب المعطاء أن يقدم سرداً مسرحياً شفيفاً يغوص في موضوعات إنسانية تصلح للمحلي والعربي في آن واحد، لما إنطوت عليه من صراع درامي جوهره الإنسان أينما يكون حيث الهموم والألأم والآمال المشتركة.
وهكذا نجد نصوصه ،كما أنها أخذت طريقها الى أبرزالفرق المسرحية في العراق وفي مقدمتها الفرقة القومية للتمثيل وكبار مخرجيها فضلاً عن بقية مخرجي العراق، فأنها أخذت طريقها الى الطبع وكانت المجموعة الأولى تحت عنوان (أبصم بسم الله) وصدرت عام 2018 عن دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة والسياحة والآثار في 120 صفحة، وضمت نصوص: (أبصم بسم الله)، (بنيران صديقة)، (ذات دمار)، ( كوليرا )، (العباءة)، (حدث غداً)، (رماد)، وقد اشار الراحل في مقدمتها مفخراً:(أعز أولادي ... كتاب يفخر به أحفادي).أما المجموعة الثانية (قصة حب وثنية) فقد صدرت عن دار نيبور للطباعة والنشر في العراق وضمت سبع نصوص مسرحية:( الوقاد )، (شرفات)، (أرواح جائحة)، (النباشة)، (نساء في عاصفة)، (صهيل)، (قصة حب وثنية)، ودارت كلاهما في فلك التطلعات والهموم والغربة الكبيرة بقواسم مشتركة تميزت بها عادة نصوص هذا الكاتب الذي بات أحد أيقونات التأليف المسرحي عراقياً وعربياً، ولهذا ليس غريباً أن تحصد مسرحيته (نزيف المومياء) جائزة الابداع الكبرى في مسابقة الابداع العربي في الشارقة عام 2000.
وامتدت ابداعات سعد هدابي الى كتابة العديد من المسلسلات والأفلام والبرامج التلفزيونية فضلاً عن عديد الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة، التي حققت حضوراً متقدماً ونجاحاً باهراً عبر الشاشات الفضية لاسيما قناة العراقية الفضائية، وعبر المهرجانات المحلية والعربية والدولية الرصينة التي حصد فيها أكثر من جائزة متميزة، عالج فيها الكثير من المشكلات والمعضلات مستلهماً الواقع العراقي والعربي والإنساني بتمظهراته المختلفة، ومسلطاً الضوء الكاشف على ملحمة الوجع العراقي الطويل، وقام على اخراجها نخبة من أبرز المخرجين العراقيين والعرب..
وفوق هذا وذاك أن كل هذا السفر الذهبي الذي تتوج بهذا الكم الكبير من الابداعات كان مفعماً بخلق عال ورفيع وتواضع جم عرف به راحلنا الجليل في كل المحافل والأوساط التي تناغم معها وعايشها دون منة أو إدعاء أو جعجة فارغة اعتاد عليه (الأدعياء) الذي نابتلينا بهم ليس في السياسة حسب، بل وفي أوساطنا الثقافية والفنية ..
عزاؤنا .. وعزاء كل سفراء ومريدي الإبداع، أن رحيل المبد ع الكبير سعد هدابي كان وسيظل رحيلاً معجوناً، بطعم الإبداع والأصالة النادرة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق