تصنيفات مسرحية

الاثنين، 30 مايو 2022

مساهمة سترندبرك في المسرح الحديث

مجلة الفنون المسرحية
الصورة من عرض مسرحية الأب اوغست سترينبرغ في مدينة ستوكهولم


مساهمة سترندبرك في المسرح الحديث

عباس منعثر

منذ منتصف القرن التاسع عشر، كانت تتنافس على مسارح السويد رومانسية (كوتة وشيلر) المثالية بالضد من دراما الصالون الفرنسية. وكثورة على الرومانسية انطلقت الواقعية الفرنسية ثم اجتاحت الساحة المدرسة الطبيعية، بعدها انتفضت التعبيرية على الواقعية، ومثلت شكلا من أشكال الرومانسية الجديدة كمذهب (يرفض مبدأ المحاكاة الارسطية، ويحل محلها التعبير عن مشاعر الفنان في تناقضاتها وصراعاتها، ويتخذ من هذه الرؤى الذاتية والحالات النفسية موضوعا مشروعا للابداع الفني)( ). وقد عاصر (اوغست سترندبرج) هذه الحركات، بل ساهم أيضا فيها (خاصة الطبيعية) قبل ان يختط لنفسه طريقه الخاص( ).
في مرحلته الطبيعية كان سترندبرج قد تحول الى مذهب "داروين" فهو يميل الى تصوير الشخصيات وفقا لبقاء الاصلح، والانتقاء الطبيعي، والوراثة، والبيئة، و(علمه تفسير "باكل" النسبي للتاريخ ان يرتاب في جميع الحقائق المطلقة. ولم يشجعه اهتمامه بالعلوم التجريبية على اختبار الصفات الكيميائية للمادة فحسب، بل حتى على ان يرى في الكائنات البشرية مادة للفضول العلمي تجري عليها الاختبارات بدون شعور او شفقة)( ). وقد اختلف التكنيك الدرامي عند سترندبرج عندما انتقل من الطبيعية من ناحية فكرية وتخلى بذلك عن الطبيعية الدرامية، فتحول من القالب المحكم الصنع في "الانسة جولي" وحلت محله سلسلة من الاحداث المتدفقة، بلا قالب، من اجل اختراق مادية الحياة وصولا الى حقائقها الروحية عن طريق الخيال( ).
وجد (سترندبرج) في التعبيرية ملاذا له كي ينقل تجربته الخاصة، فابتعد عن الحقيقة الموضوعية ليعبر عن رؤيته الذاتية، (اعمال سترندبرج تمثل في مجموعها تطورا من الطبيعية في البداية – مثل مسرحية الاب 1887 والانسة جولي 1888- إلى الرمزية- كما نجد في مسرحيات بعد الحريق وسوناتا الشبح 1907)( ). ومن خلال (مسرحية الحلم) المكتوبة عام 1902 بلور (سترندبرج) التعبيرية في المسرح. وقد ساهمت هذه المسرحية في تحريك الثورة التعبيرية في الكتابة والممارسة الدرامية الاوربية. اخذت مسرحياته هذه شكل "القالب الحر" فيها المكان مبهم والزمان نسبي، والتتابع الزمني متقطع، والاسماء تحمل طابعا رمزيا مثل "الغريب، والطالب، والشاعر والحالم"( ). ومن اجل ان يمسرح اللاشعور، اقترب (سترندبرج) من شكل الحلم فأصبحت بذلك زاوية نظر القارئ او الجمهور هي زاوية نظر الحالم.
اتسمت المسرحية التعبيرية بسمات محددة من قبيل ان الجو العام كابوسي في الغالب، وأن الصورة مبسطة تبتعد عن الايغال في التفاصيل( )، ويقترب الشكل العام من اللوحات التي تتضمن أحداثا عرضية تترابط من خلال البطل الحالم، من اجل اثارة المشاعر. بذلك تفقد الشخصيات فرديتها وتتحول إلى رموز، ففي معظم الاحيان تتركز الصراعات في وجدان شخصية منعزلة تمثل في العادة وجدان شخصية المؤلف نفسه، والحوار عنده شاعري وحماسي قد يأخذ شكل مونولوج طويل من اجل الحصول على تعاطف مباشر، أما الانماط البشرية فتصبح عامة تفتقر للخصوصية، ويستغنى عن الحبكات التي تبدأ بمقدمة وذروة وخاتمة، ويتفتت الحدث كليا إلى اجزاء متناثرة ومتباعدة( ).
وكمساهمة أخرى في المسرح الحديث تضاف إلى مسرحياته الطبيعية والتعبيرية أضاف (سترندبرج) مسرح الحجرة كنمط جديد. ان مسرحيات الحجرة هي مجموعة من المسرحيات القصيرة كتبها بوحي من سيرته الذاتية، وقدمها على (المسرح الحميمي) الذي شيد خصيصا لهذه العروض في عام 1907 في استوكهولم( ). لا يعتمد المسرح الحميمي على الامكانيات المادية الضخمة ولا يحتاج إلى صالة كبيرة بل هو (مجرد مستودع مستأجر يتسع لمائة وواحد وستين مقعدا)( ). هناك جو حميمي يجمع الجمهور بالممثلين في مسرح الحجرة الذي لا يقوم على عروض مكلفة او انتاج ضخم او جمهور كبير. يخلق جو المكان هذه الالفة بمساعدة المتفرج وقد يصدر عنه ملاحظة او مشاركة من نوع او اخر اثناء العرض( ). اعتبرت مسرحيات الحجرة (منحطة)( ) لأنها تسيء إلى المسرح برأي بعض النقاد أثناء عرضها؛ بينما يمتدحها (ايفرت سبرنكورن) بقوله (سترندبرج ابتكر تعبيرا دراميا جديدا استطاعت من خلاله الصور المجازية الاستمرار في الحياة)( ).
الغاية من مسرح الحجرة هو البساطة في الموضوع وفي العرض. وفيه يتم التحرر من تقاليد الحبكة والشخصية. ولأن الموضوع جديد فإن الطريقة والشكل ايضا سيكونان جديدين. الوحدة والتماسك لاسلوب العرض هما من الخصائص التي طالب بها (سترندبرج) في مسرحيات الحجرة. ويعزو (ستيان) اسباب كتابة (سترندبرج) لمسرحياته التعبيرية التي تفرض متطلبات قليلة على مخيلة المشاهد إلى كونه لا يهتم بالحقيقة الخارجية في سنواته الاخيرة. مما جعل مسرحياته تتسم باللغة التراتيلية الغنائية، بشكل موسيقي، تعتمد الايماء والايحاء البصري، والوقفات والصمت، مع تشويه الزمان والمكان، والتوجه نحو التجربة الداخلية( ).
ان معظم مسرحيات (سترندبرج) كتبت بالنثر، اي ما يقارب ستين نصا مسرحيا. وقليل منها بالشعر بينما يتمازج الشعر بالنثر في مسرحيتين( ). هناك حيرة عامة في تصنيف اعماله المسرحية في كونها واقعية، طبيعية، رمزية، سريالية، وجودية، لامعقولة. وهذا ما يجعلها متعددة الجوانب قابلة لقراءات وتصنيفات مختلفة، فيما يخص التجنيس كنوع ادبي. ومن المحير ايضا ان العمل نفسه يصنف بتصنيفات مختلفة. كتب (سترندبرج) في الكوميديا، والكوميديا السوداء، والمسرحيات التاريخية، مسرحيات الحلم، المسرحيات الخيالية، ومسرحيات الحجرة( ). هذا التنوع هو احد خصائص مسرحه، وأهميته بالنسبة إلى المسرح الحديث لا يمكن نكرانها والتي ترجع إلى (مسرحياته التعبيرية التي من بينها "لعبة الحلم" و"رقصة الموت" و "انشودة الاطياف")( ). عدد قليل من الكتاب الدراميين لم يتأثروا به. اعتبره (يوجين أونيل): الاكثر حداثة من كل الحداثيين، وعدّه (مارتن لام) أجرأ المجربين في الدراما الحديثة، بينما يذكر (انغمار بركمان) انه حاول أن يكتب مثله، الحوارات والمشاهد وكل شيء، وأنه شعر بأن حيوية (سترندبرج) وغضبه تعتمل في داخله( ).
ورغم محاولاته المتكررة لتقديم مسرحياته للجمهور، فقد احتاج (سترندبرج) وقتا طويلا حتى تم الاعتراف به في السويد. إذ تأخرت مسرحية (سيد اولوف) تسع سنوات قبل تقديمها على المسرح، وتأجلت (الانسة جولي) 18 سنة، وفشلت (مسرحية حلم) فشلا ذريعا في اول عرض لها، ولم تقدم نصوص الحجرة الا في مسرحه الخاص المسمى المسرح الحميمي. لقد نال (سترندبرج) نصيب معظم الرواد: الاعتراف بهم بعد وفاتهم( )، حينما قدم المخرج (ماكس راينهارت) عروضا من مسرح الحجرة العام 1906، و(سوناتا الشبح-1907) و(الطريق إلى دمشق-1910)؛ فقد اعاد اكتشاف (سترندبرج) في المانيا والسويد، بحيث أصبحت أعماله المسرحية هي الاكثر تقديما على المسرح بعد الحرب العالمية الاولى بعد اعمال شكسبير( ).
ومن النقاد من يعد مفتاح عظمة (سترندبرج) تكمن في ثورته ضد الله( ). وعندما بعث (سترندبرج) الى (نيتشه) بمسرحيته "الاب" اجاب الفيلسوف الالماني بأنه سر سرورا بالغا برؤية "صورتي الخاصة للحب.. الحرب وسيلته، والكراهية المميتة بين الجنسين قانونه الاساسي.. والتعبير عنه بهذه الطريقة الرائعة)( )، في حين ان (سترندبرج) سبق (بيرانديللو) في التسليم بأن العالم الذي يكمن وراء مخيلته ليس له شكل او حقيقة ثابتان)( ).. وبذلك يعد (اوغست سترندبرج هو اكثر الارواح ثورية في المسرح الثوري)( ).
من هنا تتضح مساهمة (اوغست سترندبرج) في المسرح الحديث تلك التي يُعد احد ركائزها المهمة بالاضافة إلى (هنريك ابسن) و (برنارد شو) إذ انه يواصل تأثيره بعد مائة عام من موته، (إنه مبتكر ورائد عصره ولا يزال يثير إعجاب المشاهدين في المسارح حول العالم)( ).

عينة التحليل: مسرحية الأقوى
مسرحية (الاقوى) من اكثر مسرحيات (سترندبرج) تقديما على المسارح العالمية. فرغم قصرها ومحدودية الحدث الخارجي فيها؛ إلا انها تنطوي على كشف عميق لما تعانيه الشخصية الانسانية في العصر الحديث بأسلوب لم يسبقه اليه أحد. ومن خلال اعتماد الباحث على الطريقة القصدية بالإضافة إلى ان هذا النص حمل في مضمونه واسلوبه تأثيرا في حركة التأليف المسرحي عالميا، تم اختيار مسرحية (الاقوى) كعينة للدراسة.
كتبت مسرحية (الاقوى) عام 1889 كي تقدم ضمن عروض مسرح الحجرة، التي عادة ما تتكون من فصل واحد او فصلين او ثلاثة وتمثل بفريق عمل محدود العدد في مكان صغير. اما التسمية فقد اخذت من الموسيقى (موسيقى الحجرة) التي تؤدى بعدد محدود من الموسيقيين وفي صالة صغيرة. هذا القالب ابتدعه (سترندبرج) لمسرحيات مكتوبة للقراءة لا للتمثيل( ). شخصيات المسرحية ثلاثة نساء، الخادمة التي لا تقوم إلا بجلب الشاي، و(السيدة س- سندعوها السيدة) وهي ممثلة متزوجة، (والآنسة ي- سندعوها الانسة) وهي ممثلة غير متزوجة. اما المكان فيمثل مقهى للسيدات، والزمن يتحدد في ثمانينيات القرن التاسع عشر.
تبدأ المسرحية وتنتهي بمونولوج طويل للسيدة، بينما تلتزم الآنسة بالصمت ولا تنطق بكلمة واحدة. كل المعلومات والحالات والاستذكارات تردنا على لسان السيدة وهو بناء مسرحي أذهل النقاد لما فيه من غرابة وتجريب. مسرحية (الأقوى) من ناحية البناء فريدة من نوعها، فلا يماثلها في تاريخ المسرح نص سابق عليها، وتعتبر ايذانا بنمط ظل مؤثرا حتى الوقت الراهن حيث قلده يوجين اونيل في مسرحيته (بعد الافطار) وغيره من الكتاب.
للمقدمات (او المبدأ كما سماها أرسطو) ضرورات وخصائص، وهي تهتم بعرض الموضوع، ويشترط فيها أن تكون كاملة وقصيرة وواضحة ومثيرة للاهتمام، على ان تحتوي على جميع العناصر الدرامية الضرورية لفهم الاحداث، منها التعريف بالشخصيات وبالمكان وزمان الحدث وعناصر واطراف الصراع التي تشكل عقدة المسرحية. اما في المسرحيات التي تتطلب كثافة درامية فتبدأ المقدمة بأقرب نقطة من التعقيد، وبعدها تتشابك الاحداث( ). والمقدمة عند (سترندبرج) توحي من خلال غموضها بحالات ستتضح لاحقا.
تُستهل مسرحية (الاقوى) بوصف المنظر (ركن في مقهى للسيدات في ستوكهولم، في الثمانينات من القرن التاسع عشر. منضدتان من الحديد المطروق. أريكة ذات ظهر وبضعة مقاعد)( ). حددت هذه المقدمة مكان الحدث وزمانه، وبقيت أسماء الشخصيات بلا تحديد. وبينما تجلس الانسة، تدخل السيدة. في مسرحية الاقوى ليس هناك تمهيد او مدخل. منذ الوهلة الاولى تعبر السيدة عن شيء غامض بقولها للانسة: (اتجلسين هنا وحدك في اليوم السابق لعيد الميلاد..؟)( )، من زاوية نظر نفسية، تحاول السيدة تعميق وعي الانسة بوضعها كإنسان وحيد يستحق الشفقة. يتأكد ذلك أكثر في المقطع الاخير من المسرحية حينما تعاود تذكيرها أنها (أي السيدة) ستذهب إلى زوجها واطفالها بينما الانسة ليس لها من تذهب اليه. من الناحية التركيبية، لا تستهلك مسرحيات الحجرة عند (سترندبرج) الكثير من الوقت او الاستطرادات او المداخل؛ بل تذهب إلى الازمة مباشرة لأن مسرحية الفصل الواحد بطبيعتها مقتضبة ومكثفة ومضغوطة من ناحية الزمن بحيث أن كل جملة وكل عبارة لا غنى عنها في مسار الاحداث.
ومن خلال ديالوج السيدة نعلم أن الليلة هي ليلة عيد الميلاد. ومنذ اللحظة الاولى تلمح السيدة إلى تعاطفها مع الانسة حينما تقول:
- السيدة س: أتعلمين أنني أشعر بالحزن حقا حين اراك وحيدة.. وحيدة في مقهى، وفي مثل هذا اليوم بوجه أخص .
تزداد عدائية السيدة بمرور الوقت، خاصة حينما تحشو المسدس اللعبة وتطلقه صوب الانسة. وتنكشف بعض الخفايا التي تربط المرأتين، بقولها:
- السيدة س: أنت ما زلت تظنين أنني دسست لك لاخراجك من المسرح الكبير ولكنني لم أفعل ذلك. لم افعله مهما بالغت في الظن بأنني فعلته( ).
تصور السيدة زوجها بصورة متناقضة بين رضاها عنه وسعادتها به وبين تلمحياتها الساخرة منه. لكنه حسب قولها (حلو على كل حال، وزوج طيب عزيز)( ). يزداد انفعالها من قهقهات الانسة، وتزداد بوحا بمرور الوقت. خاصة حينما تذكر الاولى ان زوجها مخلص لها، رغم محاولات الممثلات، وبضمنهم الانسة، على اغرائه بسبب مركزه في اختيار اعضاء الفرقة.
وبمشاعر مركبة، تعترف السيدة بأنها لم تحبب الانسة ومع ذلك اصبحت صديقتها، وان زوج السيدة لم يحبب الانسة ايضا. بل ان الامر يزداد تعقيدا حينما تسرد السيدة كل تصرفاتها وسلوكياتها بالقياس إلى الانسة، خاصة حينما تذكر أنهم اسموا ولدهم (أسكيل) لأنه اسم ابي الانسة.
- السيدة س: هذا هو السبب في انه كان علي ان ألبس نفس ألوانك، واقرأ نفس كتبك وآكل من الاطباق التي تحبين وأشرب ما تشربين( )..
وبطريقة انفعالية تخفي توترا داخليا عميقا، تعلن السيدة انها طرزت زهور الخزامى بنفسها على خفي زوجها، وانها تكره الخزامى، بينما يحب زوجها الخزامى لا لسبب الا لان الانسة تحبه. تشعر السيدة بتعذيب الانسة لها حتى في صمتها.
- السيدة س: انت لم تنطقي بكلمة كل هذا الوقت. واكتفيت بأن تدعيني اواصل الكلام. جلست هناك، وعيناك تستفرغان مني كل هذه الافكار التي كانت مستقرة في باطني كالحرير في الشرنقة( ).
تشي عذابات السيدة من خلال تعبيرها ان الانسة هو دودة نخرت قلب التفاحة ولم تبق منها إلا القشرة ولبابة صغيرة سوداء( ). وهي حين تحاول ان تطير ترجع إلى الارض بقوة قاهرة.
- السيدة س: أرقد في الماء وقدماي موثقتان، وبقدر ما أكافح بذراعي أهبط ثم أهبط حتى أصل إلى القاع، حيث ترقدين متربصة كالاخطبوط الضخم لتنشبي فيّ مخالبك( ).
هنا تعبر السيدة عن شعورها الحقيقي بقولها اكرهك، والاسباب عديدة لديها من بينها عدم مبالاة الانسة بالاخرين، وبالزمن، وبكونها لا تعرف كيف تكره او تحب. هذه الصورة البشعة جدا عن الانسة تحيلها إلى حيوان مفترس. في اللحظة نفسها تعبر السيدة عن أسفها من اجل الانسة لأنها تعيسة في قرارة نفسها، وشريرة. لكنها في الوقت نفسه ترسم صورة اخرى عن علاقتها بالانسة التي تعلمت منها كيف تسلك، وكيف تلبس كي يتعلق زوجها بها وتحتفظ به لنفسها. وفي ختام حديث السيدة ترد كلمة الاقوى التي هي عنوان المسرحية، وتستنتج أنها هي الاقوى لأنها ظفرت بما خسرته الانسة( ).
تختلف التفسيرات في تحديد من هو الاقوى. إذا اعتمدنا على جانب من اعترافات السيدة من كونها تقلد الانسة في كل شيء، وإن زوجها يحب الانسة، ستكون الانسة هي الاقوى. اذا نظرنا إلى الامر من زاوية فقدان الحبيب وفقدان الزوج فإن الانسة قد فقدت زوجها بالانفصال وفقدت الحبيب المتزوج من السيدة التي تصبح هي الاقوى. لكن الرأي المعاكس يرى أن السيدة فاقدة لزوجها لأنها لم تمتلك قلبه؛ بل تدعي ذلك. ومن خلال الغوص في اعماق كلامها يستدل على انها فقدت حبه بالفعل ولم يبق من زواجها منه الا الاسم. في الحالة هذه ايضا تصبح الانسة هي الاقوى. السؤال عن كينونة الاقوى في المسرحية يذهب بنا إلى تحديد الذات الفاعلة داخل النص المسرحي. قد تكون الذات الفاعلة حسب تقسيمات (كريماس) غائبة او مجردة او شخصية جمعية. ويكون للذات الفاعلة هدفا او مجموعة اهداف يقوم عليها وجودها. على وفق هذا التحليل يبقى الامر بالنسبة إلى سؤال من هو الاقوى في مسرحية (الاقوى) قائماً لأنه سيشمل السيدة على اعتبار قيام البناء الحواري بالكامل عليها، وسيشمل الانسة في الوقت نفسه على اعتبار ان غيابها (من ناحية الملفوظ) لا يعني عدم فاعليتها. إذ ان الفاعلية تحدد بجملة عوامل، (نقول ان الذات الفاعلة في النص الادبي هي تلك التي يتمحور حول "رغباتها" الحدث، أي النموذج الفاعلي، وهي التي نعتبرها موضوع الجملة الفاعلية، تلك التي تؤدي إيجابية الرغية لديها أمام العقبات التي تواجهها إلى تحريك النص كاملا)( ). على وفق هذه الرؤية، لم تكن الانسة سلبية من خلال ملاحظات المؤلف التي تصف حالتها الانسة او حركتها او انطباعاتها. بل أن مركز اهتمام القارئ يتحول تارة من السيدة إلى الانسة وبالعكس. ويذهب البعض –كما ذهبت السيدة- إلى أن الانسة تقودها إلى حيث تريد بردود افعالها.
وفي ذروة درامية مؤثرة، تختم السيدة المونولوج الطويل بإعلانها الانتصار لأنها عائدة إلى بيتها، والى زوجها بينما ستبقى الانسة حيث هي: وحيدة في ليلة عيد الميلاد.. لكنها تنطق بكلمات الشكر لها وتسميها باسمها:
- السيدة س: شكرا لك يا أمليا على كل دروسك الطيبة. شكرا لأنك علمتني كيف أحب زوجي، أنا الآن ذاهبة إلى البيت.. اليه( )..
اهم سمات مسرحية (الاقوى) الكثافة والبلاغة في قول الشيء الكثير بكلمات قليلة، فالعالم الذي خلقه المؤلف أوسع من الكلمات. وكذلك، المواجهة والصراع الحاد في المسرحية الذي يتضح شيئا فشيئا ويؤدي إلى شد الانتباه حتى النهاية.
من خلال تحليل مسرحية الاقوى، ومن خلال قراءة مسرح سترندبرج، تتضح بعض الاستنتاجات التي قد تضيء موقعه من المسرح العالمي، ومنها:
1- البحث عن اسلوب جديد: المسرحيات التعبيرية التي كتبها (سترندبرج) ومسرحيات الحجرة هي نمط جديد في كتابة النص المسرحي يتجاوز الواقعية والطبيعية ولا يلتزم بقوانينها الانية الصارمة. فالحوار مكثف كي يوصل الاحاسيس والمشاعر في ذروتها، والاحداث رمزية غامضة، والشخصيات معقدة وذات وجوه وطبقات، والمعنى غير واضح تماما، وليس هناك التزام بمحدودية خشبة المسرح او صالة العرض. يتجسد ذلك خاصة في مسرحياته الرمزية مثل (الطريق إلى دمشق) ومسرحيات الحجرة مثل (سوناتا الشبح ومسرحية حلم ورقصة الموت والاقوى).
2- الحوار هو جوهر الفعل المسرحي: فالمعلومات والافكار تصلنا عن طريق ما تنطقه الشخصيات بطريقة شعرية ومجازية تجعل المسرحية قابلة للتأويلات. نجد ذلك في مسرحية (الاقوى) القائمة على مونولوج طويل (للسيدة) مع ملاحظات شحيحة جدا للمؤلف وهو ما يؤكد دور وأهمية الحوار في البناء المسرحي ككل.
3- التركيز على الانفعالات النفسية وكشف المناطق المظلمة والسرية من النفس البشرية: ينحو (سترندبرج) نحو دراسة الشخصية الانسانية والتعمق في لاوعيها كاشفا عنه بقوة. وتمتاز شخصياته بعمقها النفسي وتناقضها، وصراعها عادة ما يكون داخليا بينها وبين دوافعها واحلامها وانكساراتها، وليس مع المجتمع (عدا الانسة جولي والاب في مرحلته الطبيعية). وهو احد الاسباب التي جعلت مسرحياته تتجاوز زمن كتابتها.
4- العلاقة الحميمية مع الجمهور: احدى منطلقات (سترندبرج) التي صرح بها اكثر من مرة، أنه يريد ان يكون الاتصال بين المسرحية والجمهور مباشرا وحميميا بلا قطع عن طريق الاستراحة او ما شابه، لأنه يؤمن بأن تأثير المسرحية يتعرض للانتهاك اذا قطع التلقي اي شكل من اشكال الاعاقة. وقد لجأ إلى المسرح الحميمي حتى يحقق هذا الهدف من خلال مسرحيات قصيرة مركزة وعدد ممثلين محدود وصالة صغيرة أنشأها خصيصا لعرض مسرحيات الحجرة التي كان يكتبها.
5- التركيز على موضوع علاقة المرأة بالرجل: في جميع مسرحياته تلعب المرأة دورا مهما في تحريك الاحداث، كما في مسرحية (رقصة الموت) ومسرحية (حلم) وكما في عينة دراستنا (الاقوى)، التي تكشف خبايا المرأة وهواجسها بطريقة درامية متميزة.
6- الغموض في اتخاذ موقف من الشخصيات: يتضح ذلك بالاخص في مسرحياته التعبيرية وفي مسرحية (الاقوى) بشكل خاص، إذ ان القارئ والمشاهد لا يقرر من هو الاقوى في المسرحية، هل هي السيدة ام الانسة ام الزوج؟ بل ان حالة الغموض قد تسيطر على مسرحية بكاملها مثلما يحدث في ثلاثية (الطريق إلى دمشق) التي تعد من اكثر مسرحياته تعقيدا وغموضا.
7- الاعتماد على السيرة الذاتية: (سترندبرج) من الكتاب الذين يستثمرون حياتهم في كتابة مسرحياتهم، وافكاره الخاصة وحوادث حياته موزعة على شخصيات بعينها في جميع اعماله. شخصية الغريب في (الطريق إلى دمشق) مثلا تشابه شخصية المؤلف في افكارها وفي نمط حياتها وبعض الحوادث المشتركة.
من كل ذلك، يمكننا أن نتوصل الى الاستنتاجات التالية سواء فيما يخص دور سترندبرج في تطوير الفن المسرحي، او مسرح الحجرة كنمط جديد من اختراعات هذه المؤلف الاستثنائي:
1- لسترندبرج مساهمة فاعلة في المسرح الحديث من خلال انشائه لقالب جديد، تأثر به العديد من الكتاب ونسجوا على منواله، ينسحب ذلك على (لويجي بيرندللو ويوجين اونيل وصموئيل بيكيت وجان جينيه وهارولد بنتر) وغيرهم من رواد مسرح اللامعقول.
2- نصوصه تعبر عن مديات زمانية تتخطى عصره إلى العصر الحديث من ناحية الموضوع والأسلوب. ودليل ذلك استمرار تقديم معظم مسرحياته التعبيرية وتحول بعضها إلى افلام سينمائية واعادة تقديم مسرحيات الحجرة بالأخص (الاقوى ورقصة الموت)، بشكل متواصل في مختلف بقاع العالم.
3- محاولة اكتشاف دهاليز النفس الانسانية من خلال القاء الضوء على جوانب لم يلق عليها الضوء سابقا، ولذلك عد أحد كبار المؤثرين في تيار الوعي متجسدا بـ(جيمس جويس).
4- شخصية الكاتب حاضرة بقوة في نصوصه لأنها في معظمها تعبر عن تجربته الخاصة وسيرته الذاتية.
5- عاش الكاتب في تناقض مع عصره، وجسد هذا التناقض في اعماله التي لم يحتفى بها في حياته؛ لكنها بقيت حية ومثيرة للاهتمام والتجسيد على خشبة المسرح.
6- التأكيد على أن النجاح الوقتي في حياة الكاتب ليس دليلا على عمق واهمية كتاباته: فقد كان يقال ان (ابسن) هو الجبل وبقية الكتاب كانوا السهل بسبب كثرة تقديم اعمال (ابسن) في المسارح العالمية وبسبب انتشاره الاعلامي. لكن الزمن اثبت خطأ هذه الفرضية حيث تجد ان (ابسن) بدأ يقبع في تاريخ الادب؛ بينما انبثق نجم (سترندبرج) من جديد بصفته المجدد الحقيقي في المسرح العالمي، والذي تدشنت على يديه الحداثة المسرحية الاصيلة.

المصادر
1- آن ابورسفيلد، قراءة المسرح، ترجمة: مي التلمساني، (القاهرة: وزارة الثقافة، مطابع المجلس الأعلى للاثار، 1982).
2- ج. ل. ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق. ترجمة: محمد جمول. دراسات نقدية عالمية (28)، (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995).
3- روبرت بروستاين، المسرح الثوري: دراسات في الدراما الحديثة من ابسن الى جان جينيه، ترجمة: عبد الحليم البشلاوي، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ب ت).
4- فرانك م.هوايتنج، المدخل إلى الفنون المسرحية. ترجمة كامل يوسف وآخرون، (القاهرة: دار المعرفة، 1970).
5- ماري الياس، وحنان قصاب حسن، (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 1997).
6- منشورات المعهد السويدي، في مارس- آذار 2012، إف أس.
7- من المسرح العالمي، سترندبرج-3، (الكويت: وزارة الاعلام، 1972).
8- نهاد صليحة، التيارات المسرحية المعاصرة، العدد97، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مهرجان القراءة للجميع، 1997).
9- Egil Törnqvist & Birgitta Steene, Amsterdam Universityon Drama and Theatre. Amsterdam University Press, 2007.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق