المنفى والفنان الجزء الأوّل
في المنفى.. لا وطن لك سوى نفسك!
اللا أب!
لقد قرر المنفى مصيري!
لقد قرر المنفى مسار عملي المسرحي!
فلو لم يقتلعني المنفى من العراق لكنت الآن مقلّدا للمسرح الأوربي لا أكثر!
لقد فرض عليّ أن أخوض في لجج الأصالة، وأجبرني على البحث عما أضعت: أرض الوطن، ودرجة الحرارة، والمناخ، والجسد، والصوت، والأحاسيس.. والحنين.
لقد قرر المنفى مصيري!
رحلتي الأولى اتّجهت إلى معهد الفنون الجميلة عام 1970.
في تلك الأيام نصح أحد الأساتذة لجنة اختبار المرشحين للقبول برفضي في امتحان الدخول للمعهد. وهو بتلك النصيحة أراد الحفاظ على علاقاتنا الأسريّة. فالتمثيل بالنسبة لقوم مثل عائلتي كان يقارن بفن الدعارة، ودراستي فن التمثيل كانت تعني النفي خارج الأسرة والقطيعة معها.
رحلتي الثانية ابتدأت عام 1974.
حين تجاوز الطفل الذي هو أنا سنّ البلوغ وقرّر اختيار القطيعة مع العائلة، حفرت خطواتي طريقها إلى أكاديمية الفنون الجميلة، وتوغّلت في الطريق إلى فرقة المسرح الفني الحديث، ثمّ المنفى.
رحلتي الثالثة انغرست مع المرحوم إبراهيم جلال عام 1977.
إبّان التمارين على مسرحية (رحلة في الصحون الطائرة) أشهرت القطيعة مع أكاديمية الفنون الجميلة ومع فرقة المسرح الفني الحديث. ذلك أنّي تعلمت من إبراهيم جلال، خلال پروڤات على مسرحية واحدة، ما لم أتعلمه لسنوات ثلاث في (الأكاديمية) و (المسرح الفني الحديث)!
والآن، بعد كل ذلك الزمن، حينما أنظر لمعنى القطيعة، لا أجد مصطلحا بديلاً عنها سوى (المنفى). فالمنفى هو اللاّ عودة، أو استحالة العودة. وأنا لم أعد إلى العائلة، ولا الأكاديمية.. ولا العراق!
هل كانت قطيعتي الجسدية والمعرفية أمر حتمي؟
في المنفى اختطت قطعيتي وسائل البحث عن الجسد، عن الصوت، عن الأحاسيس، عن الإيمانات الحقيقية، لكنني لم أكن في قطيعة تامة. فقد بقيت متشبثاً بالنص الكبير، مأسوراً بتصميم الديكورات الواسعة، وغارقا بالموسيقى الكونية وشلالات الضوء.
شيئان كانا ينموان ببطء في الاتجاه الصحيح وهما معنى الرؤية الفنية، وجوهر العرض المسرحي.
لقد علمني المنفى أنّ العملية المسرحية ليست اتجاها مسرحيا واحدا، وأرشدني إلى ضرورة استقبال معارف مسرحية جديدة بالاحترام اللازم. أما عن جوهر العرض المسرحي، فقد بصّرني أن أعمل مع الممثل والمشاهد باعتبارهما مركز الحقيقة المسرحية، وهداني إلى حقيقة أنّ معرفتي المسرحية لا تنتمي لثقافتي الشرقية، فقد درست في العراق نسخة بسيطة من بريخت وأخرى مشوّهة عن ستانسلافسكي.
لقد رماني المنفى عام 1979 في بيروت، مع مسرحيين ممنوعين، يريدون أن يقدموا مسرحاً مهما كلّف الأمر وفي أيّ مكان: في غرف، أو في ملاجئ، أو تحت القصف.. لا يهم! فأولئك كانوا يرون في المسرح هواءهم وعقد حياتهم، وكانوا مؤمنين أنّ الممثل قادر على تحقيق حضوره أينما وقف.
بيروت كانت محطّتي الأولى في المنفى والمحطة الحاسمة.
هناك ابتدأت المجابهة الذاتية مع مفاهيمي المسرحية اللاّ أصيلة، أو المكتسبة، حتى أجبرتني أن أبحث عن نفسي، لا كما أرادت (الثقافة والأعراف والتربية) لي أن أكون، وإنّما كما هي حقيقة نفسي.
في بيروت جابهت تقليديّة مفاهيمي المسرحية بجملة من الأسئلة من بينها:
هل المسرح محاكاة فعل أم أنّه فعل بحد ذاته؟ ما هو الإخراج في علاقته بالنص؟ تفسيرٌ للنص؟ تأويل له؟ تأليف جديد؟ أم علاقة أخرى؟ وبعلاقته بالتقنيات المسرحية، هل هو تجسيد لما يحدث في النص، بناء معارض له، موازي لما يحدث فيه، أم في علاقة هارمونية مع النص؟ وعلاقات التقنيات مع بعضها البعض، هل يحكمها مركز اسمه المخرج أو النص أو الحدث أم هل ثمّة علاقات داخلية تربط هذه العناصر مع بعضها البعض؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي هذه العلاقات؟ هل لها علاقة بالجذور أم بتطوّر تقنيات المسرح اليوم؟ ما هو دور النص في العرض Spectacle؟ العرض في خدمة النص المسرحي، أم النص في خدمة العرض، أم هل ثمّة علاقة ثالثة؟ ما هو الأساسي في العرض المسرحي؟ الحوارية Verbal؟ الصورية Visual؟ الجسدية Corporal؟ أم هذه العناصر جميعا؟ وما هي علاقة هذه العناصر ببعضها البعض، وكيف تجتمع؟ من خلال توليفها/تنسيقها؟ تفاعلها؟ أم لصقها (في كولاج) إلى جوار بعض؟ ما هو التمثيل؟ اندماج أم تشخيص أم مسافة من الشخصية أم شيء آخر؟ هل ثمّة حاجة حقيقية للديكور وللتقنيات في المسرح؟ هل ثمّة حاجة للنص المسرحي المكتوب على الورق؟ هل المسرح في خدمة (سين) من الأهداف؟ هل هو هدف بحد ذاته؟ هل هو وسيط؟ هل هو وسيلة أم غاية؟ ما هي علاقة المسرح بالتراث: عملية إسقاط على الواقع، أم تحليل ونقد للبنية التي أنتجت الواقع؟ هل علاقات هذه العناصر مع بعضها خارجية/شكلانية، أم داخلية/بنيوية؟
باختصار، لقد وضعتْ تلك السنوات في بيروت جلّ معرفتي المسرحية في سؤال، أو بالأحرى وضعتها في أسئلة أجبرتني على العزوف عن العمل في المسرح.
***
عمليا توقفت عن الإنتاج المسرحي منذ عام 1985 حتى 1990. ذلك التوقف كان رحلة قاسية في غابة نفسي. تأمل، ومراجعة، ونقد.. وإعادة ترتيب للذات.
لقد أجبرت نفسي أن أنظر في المرآة كل يوم، لا لأستمتع بملامح وجهي، وإنّما للبحث عن شخصي الذي أضعته تحت ركام كثير.
في بيروت عملت مع فرق مسرحية فلسطينية، ولبنانية، وعراقية. وبما أنّني كنت منفيا سياسيا اشتراكيا فقد كانت شريعتي الأولى هي بريخت.
كانت بيروت هي الاختبار الأوّل لرؤاي المسرحية، أو بالأحرى لمفاهيمي المسرحية، التي تجمعت بحكم الخبرة والدراسة. ذلك أنّي تعرّفتُ هناك على ستانسلافسكي، وجروتوفسكي، وآرتو.
في بيروت الحرب الأهلية لم يكن العقل من يلعب الدور الأوّل في البقاء على قيد الحياة وإنّما (قوة) الجسد و (مجسّات) الأحاسيس.
عندما تتعرض للقصف كل ساعة في بيروت 1982 تصبح الاتفاقات المسرحية غير الأساسية ثقلا على كاهل المسرحي والمتلقي والرسالة، وتغدو كل بهرجة بمثابة انشغال بما هو ثانوي. في الحرب لا يمكنك أن تنشغل بما هو ثانوي. عليك أن تختزل وتكثّف إلى الحدود القصوى، وقد ترسل بالاتفاقات المسرحية إلى الجحيم إذا اقتضى الأمر. اتفاق مسرحي واحد يظلّ هاجسك الأبدي وسبب وجودك وهو عفوية وحميمية اللقاء مع الجمهور. رسالة (اللقاء) التي تؤكد للمسرحي وللجمهور أنّهما مازالا مفعمين بالوجد الذي لا يعرف أحد ماذا سيحدث بعده إذا ما انقضى!
الممثل
لاحقا، بعد الخروج السوريالي من بيروت، وبعد التجارب العملية المعلمية في بلجيكا والتأملات وغيرها اكتشفت أنّ ما توصلت إليه إبّان الحروب في بيروت يشكّل أساس المسرح على الرغم من تبسيطيته الظاهرية. فالممثل والمشاهد هما الجوهر.
أمّا على صعيد الممثل فيجب إعادة توظيب عمله لكي يشعر أنّه حي وفي حالة تواصل دائمة مع المشاهد، ولكي يكون في علاقة منزّهة عن (مقاصد) ما يحدث بعد العرض.
أمّا إعادة التوظيب هذه فهي مؤسسة على تفكيك وتركيب عناصر ثلاثة أو حيوات ثلاث مرتبطة ومنفصلة عن بعضها البعض ويتكون منها الكائن الإنساني. أعني بها العقل والعاطفة والجسد.
ومنذ تلك الأيام أصبحتُ أؤمن أنّ التمارين الأولى للسلطة أو التسلط بدأت منذ أن بدأ الدماغ يعقلن: فالعقلنة تمارس الهيمنة، وتسيطر تدريجيا على الإحساس، ثم تستعبده متواطئة مع المجتمع والتاريخ والأعراف. ومن خلال تواطؤ العقلنة مع الإحساس يمارس الاثنان قمعا منظّما على حياة الجسد.
إنّ الجسد الذي يمتلك من الطاقات ما هو خارج سلطة العقلنة والعاطفة، ويتجاوز قدرته الذاتية كما في الطقوس، لا يستطيع أن يمارس كينونته خارج كونه (أداة) بيد العقلنة أو العاطفة.
لذلك ولكي يتحرر الجسد من عبوديته ينبغي إلغاء السلطة الأولى، سلطة العقلنة، وبناء علاقة تكافؤ وصراع غير متسلطة معه. وهذا لا يتم إلاّ من خلال تحرير الإحساس كمرحلة في هذا الطريق.
ولكي نحرّر الإحساس ونربطه بطريقة متوازنة مع الجسد ينبغي إخراج الصوت عن مدلوله أو مداليله اللغوية، وإلغاء اللباس الميت للجسد؛ حركته اليومية المؤدبة.
ولأجل الوصول إلى هذا الهدف، اعتمدتُ منهج (المعاناة) أسلوبا للعرض المسرحي، الأمر الذي دفع منطلقاتي جميعا إلى التركيز على البحث الداخلي (العودة إلى الذات) وصولا إلى مركز الطاقة في الممثل، حيث أقضي فترة طويلة وأعبئ تمارين متنوعة تحثّ الممثل على ملامسة ذلك المركز (الذات). وعندما يعثر عليه أو يشعر به، أبدأ بالتعامل مع أدوات أخرى تقويّ المركز وتدفعه للحضور المجسَّد من خلال تطويره الداخلي وربطه بعلاقة فيما هو خارج الممثل.
***
في هذا السياق بدأ عملي يتنكّر للأساليب التي يرتديها الجسد اليومي أو الجسد المستخدم كوعاء لتجميع المعارف.
وفي هذه المرحلة لم أعد أعتبر (المشاهدين) مجموعة عناصر استقبال أستخدمها لإيصال فكرة، أو لإرضاء غروري، أو للبحث من خلالها عن الشهرة، أو أمارس عليها سلطة ما، أو أقول لها أو أعلّمها شيئا.
لا.
إنّ علاقة عملي المسرحي بالجمهور هي الأخرى علاقة امتداد، تواصل، ومجابهة. وهكذا، فإن العلاقة مع المشاهدين لا تتم إلاّ عبر اكتشاف المركز (مركزنا) ثم تقويته وتطويره حتى يصل مرحلة الاستعداد للوقوف وجها لوجه أمام العنصر الجديد: المشاهد.
أما في مرحلة التركيز على اتصال المركز (الذات) بما هو خارجها، فإنني أعمل مع جملة عناصر أهمها: الممثل الآخر، الفضاء المسرحي، والنص.
إن علاقة الممثل بما هو خارجه، في هذه المرحلة، هي علاقة شرطها الأساسي العري (كشف الذات) وملامحها الامتداد، والتواصل، والمجابهة. كما إنّ هدف هذه المرحلة يكمن في توحيد ذات الممثل العارية مع عناصر العمل المسرحي الأخرى لكي يصبح الجميع (ذاتا) واحدة لها مركزها الخاص الذي نوظّبه بحيث نتعامل مع عناصر جديدة خارج تلك الذات؛ أعني المشاهدين.
ولأجل الوصول إلى نتائج مرضية في هذا الصدد، نحاول جميعا أن نتعلم بجديّة كيف (ننسى ما تعلمناه) لكي نسمح للتجربة الجديدة أن تتغلغل في كياننا. ذلك أننا إذا ما استخدمنا معاييرنا التي تعلمناها لن نغتني إلاّ بعدم الفهم لسياق التجربة، مما يدفع إلى الملل والكراهية الناتجتين عن محاولة إجبار التجربة الدخول في آليّات تفكيرنا وليس في بنيتها الذاتية. لهذا فنحن نفترض أنّ من يأتي إلى المسرح عليه القدوم بقلب دافق ورأس لا تكبّله تصورات مسبقة عن أسلوب عمل أو عن زملاء آخرين أو عن نفسه أو عن حلول فنية معينة. نحن نبحث في عملنا عن أنفسنا في سياق صيرورة مراحل العمل المسرحي لأجل اكتشاف (الأنا) ولا نفعل ذلك في التمثيل، أو الحلول الأجمل، أو التساؤل عن الـ (كيف)، أو تساؤلات من مثل كيف ألعب الدور، كيف ألقي هذه الجملة، كيف يبدو شكلي من الخارج؟ بمعنى آخر نحن لا نبحث في تطبيق استخلاصات نظرية/أكاديمية على تجربتنا المسرحية، لأننا لا نبدأ من البعد النظري ولا ندرس مدى تحققه في التطبيق العملي. بالعكس. نحن نحاول أن نتعلم من خلال التجربة العملية. إنّ تجربة حالة محددة وإعادة اكتشافها وصقلها وبلورتها والسماح لها بالتغلغل عميقا في ذاتي، هو الذي يمنحني المعرفة. فأنا لا أدعي المعرفة قبل التجربة. أنا أؤمن وبشكل قاطع أنّ التجربة هي من يقودني إلى المعرفة.
في هذا السياق يتنكّر عملنا للأكليشيهات التي يرتديها الجسد اليومي أو الجسد المستخدم كوعاء لتجميع المعارف. كما ويرفض عملنا استخدام الحواس كمتنصّت أو كناقل للمعلومات عن العالم الخارجي. إنّ الحواس (النظر، السمع.. الخ) ليست مجرد وسائط نقل معلومات بالنسبة لطريقة عملنا. إنّها عناصر تواصل/توازن بين العالم خارج الذات وبين والذات. إنّ الإنسان الشرقي ذو طبيعة استقبالية أكثر مما هو ذو طبيعة إرسالية. فنحن كشرقيين نستمع ولا نتسمّع. والقرآن يحذّر من التنصت من وراء في الحجرات.
نحن لا نشغل أنفسنا بالمشاهدين، في هذا القسم من عملنا، ولا نثير تساؤلات من مثل كيف سيستقبل المشاهد ذلك الحدث؟ أو: هل هذه المعالجة واضحة بالنسبة له؟ أو: أليس هذا معقّد عليه؟ إنّ مثل هذه الأسئلة وأسئلة كثيرة في ذات الاتجاه تُخرج عملنا من سياقه (مبدأ المعاناة) لتضعه في سياق آخر (مبدأ العرض) الذي يشترط أوّلاً كيفية إيصال المادة المسرحية إلى المشاهدين من قبلنا نحن الذين لا نعتبر في نهاية المطاف، بالنسبة لهذا الأسلوب، أكثر من ناقلي معلومة، أو مروّجي أفكار، أو أدوات تُستخدم لإيصال مقولات محددة.
نحن لا نمثل شخصية (نندمج فيها أو نحافظ على مسافة محددة بيننا وبينها). إنّ هذين المفهومين يدفعان الممثل للبحث خارج ذاته عن ملامح شخصية ما (تاريخها، أبعادها) وبالتالي تطويع الممثل لارتداء تلك الملامح أو دفعه للاندماج في كيان مؤسس خارج ذاته. إنّ هذا، مرة أخرى، استخدام للممثل هدفه محاكاة الحالة الداخلية للشخصية المسرحية.
نحن نبحث في إطار آخر يدفعنا لأن نتعامل مع الشخصية المسرحية باعتبارها ملامح موجودة في الذات لكنّها غائبة عنا بسبب القمع الواعي أو اللاّ واعي الذي نمارسه عليها أو بسبب إهمالنا لها أو لأسباب أخرى. بحثنا هنا يريد تحطيم القيود أو العوائق التي تمنع ظهور ما هو كامن فينا. كذلك نتعامل مع الشخصية المسرحية (في أحيان أخرى ولأغراض محددة) باعتبارها مشرطا يقودنا إلى ذواتنا، يكشف لنا من نحن بالضبط، ما الذي تخفيه أرواحنا، وأين تكمن العوائق التي لا تسمح لنا بالإجابة عن سؤال؛ من نحن؟
إنّ النزعات الشريرة، مثلا، موجودة داخل كيان كل ممثل، وما عملية الإلغاء لتلك النزعات أو محاربتها رغبة في انتصار الخير، إلاّ شكل من أشكال العوائق التي تعيق الممثل من أن يكون كما هو مكوّنا وحدته الكلية. إنّ كشف الحالة الداخلية للممثل والتطهّر منها هي بالضبط ما نعنيه بإزالة العوائق. ذلك أنّ إماطة اللثام عن عناصر يريد الممثل أن يخفيها هو ما يدفعه للاعتراف بوجودها وبوعيها، وللتحرر أو التطهر منها.
نحن لا نمثل الشخصية المسرحية. نحن نبحث عن ملامح الشخصية في دواخلنا، أو في طيّات تجاربنا الشخصية. ونحن نبحث ذلك بمستويات عدّة لا تقتصر على بعد واحد؛ البعد المرئي. نحن نعمد إلى التأويل، والبنيوية، ونعمد للبحث في الأبعاد المرئية وغير المرئية. وأخطر ما في عملنا هو تفسير كلماتنا ومهماتنا ببعد واحد، أو إعطاء صفة القطعية على تفسير محدد.
كذلك نحن لا نبحث في كيفية إلقاء الحوار. نحن نبحث عن تغلغل الحوار إلى الداخل (مراكزه الجسدية) ومن ثم نبحث عن انطلاقه إلى الخارج. ولهذا فنحن لا نشخص الحوار. نحن نحسّه من الداخل. عموما، إنّ التشخيص بالنسبة لنا هو إعادة أو تكرار لحالة واحدة أكثر من مرة وعلى أكثر من بعد. ونحن نعتبر هذا هدرا للطاقة بدلا من توزيعها بشكل يمنح الكلام أبعادا أخرى، إضافة إلى أنّنا نرى في التشخيص اتهاما للمشاهد بأنه قاصر عن استيعاب شيء ما إلاّ بعد تكراره.
نحن لا نبحث في عملنا عن نتائج. النتائج لا تشغلنا لأنها تحصيل حاصل. نحن نبحث بصدق عن الطريق إلى أنفسنا. ومثل هذا البحث يشبه إلى حد بعيد مغامرة الدخول إلى غابة كثيفة الأدغال ومليئة بالوحوش. نحن نركّز أولا على مدخل الغابة. وفي الطريق، نثبّت لأنفسنا علامات بحيث لا نضيع، إذا ما حدث لنا حادث ما (ضعف التركيز، أو تعقّد وتشابك المهمات). إننا نعتبر معرفة الطريق وإضاءته بالعلامات هو ضمان السلامة إذا ما ضللنا الطريق في غابة البحث عن الذات.
بمعنى آخر إننا نؤكد دائما على العودة إلى القواعد الأساسية كلّما اكتنف بحثنا الغموض.
حيوية الممثل
هذه الطريقة من العمل تشترط أيضا على الممثل أن يتعامل مع الفضاء ومعطيات العرض المسرحي الأخرى بعفوية وتلقائية وعمق أدواته الجسد والإحساس والخيال والتجربة. إنّه لمن واجبه الفني والإبداعي أن يكيّف نفسه في كل عرض لكي يلتقي مشاهدا جديدا وأدوات مختلفة وكأنّه يصنع العرض للمرة الأولى.
إنّها تشترط أيضا أن يكون متحسّبا طوال الوقت لكل صغيرة وكبيرة في المعطيات الجديدة الحبلى بدلالات جديدة للعرض. أيّ أنّ عليه التصدي للتعامل مع كل ما هو غير متوقع بما في ذلك الأخطاء الناتجة عن تغييرات اللحظة الأخيرة والتي يجب عليه أن يستوعبها ويحتويها ويعيد إنتاجها وكأنّها جزء أصيل من العرض.
نعم.
تنتاب عملنا الكثير من لحظات فقدان البوصلة الناتجة عن اللقاء الحيوي التفاعلي مع عناصر عرض متغيرة لكنها ذات مكانة موازية للممثل.
يحدث مثلا أن ينسى الممثل أو يتشتت تركيزه. في مثل تلك الحالة يقود الممثل العملية الإبداعية إلى منحى جديد عماده الارتجال الآنيّ.
ذات مرة نسي توني دو ماير الحوار فابتكر عملية بحث (حرفية) عن النص بين الجمهور وراح يقلّب عنه تحت سجاجيد جلس عليها الجمهور وخلف الستائر وظلّ يبحث حتى أُصيب المشاهد بالحيرة: فهل ما يجري تمثيل أم حقيقة؟ هل عليه أن يساعد الممثل في إعادة ربط الحكاية أم هل سيبدو متدخلا في مجريات أحداث محددة مسبقا؟ ثمّة مشاهد أشار إلى قفل الحكاية فتحول بالطبع إلى عنصر فاعل في العرض وليس مجرد متلقي. في تلك اللحظة أعاد توني دو ماير ترتيب الحكاية مع المشاهد في حوار صار مشهدا جديدا.
في أحد مشاهد مسرحية (شجرة الأحزان) لعبت تانيا پوپه دور شهرزاد، وقد كان زيّها المسرحي عبارة عن كفن طوله 60 مترا ينفرش على الأرض بطريقة حلزونية ويجلس فوقه المشاهدون بينما هي تجلس في مركز الحلزون. كان المشهد يعنى بمحاولة هروب شهرزاد من ملاحقة مجموعة رجال يريدون اغتصابها، بيد أنّها تقع في النهاية بين أيديهم.
قفزت (شهرزاد) وسط الجمهور في محاولة للهرب من الرجال.
تانيا پوپه، ونتيجة تغييرات اللحظة الأخيرة والطريقة التي انفرش فيها الكفن في ذلك الفضاء الجديد، لم توفق في القفزة، فتمزق كفنها وسقطت عارية وسط الجمهور. في تلك اللحظة فقد المشاهد دوره كمتلقي محايد. واحد أراد أن يساعدها فأمسك بفخذها. آخر أراد أن يجنّبها السقوط فتلقّفها في حضنه. البعض أرادوا أن يبتعدوا فتسبّبوا بفوضى ظلّت تترافس تانيا وسطها. الملفت للانتباه هو أنّ مجموعة المشاهدين البعيدين عن شهرزاد رأوا في ما حدث مشهدا يصوّر اغتصاب شهرزاد. بعض المشاهدين أدرك اللعبة متأخرا، ولكن بعد أن أصبح ممثلا شريكا في الاغتصاب المسرحي. لقد حدث كل ذلك لأنّ تانيا پوپه تعاملت عبر الارتجال مع الجمهور باعتباره شخصيات مسرحية.
التباس اللقاء مع الآخر
أنا هو الأنا المتخيّل عن نفسي!
هذه المنطلقات، أو قل المتن الأوّل من العرض المسرحي أصبح واضحا لي (نوعا ما) من خلال التجربة. بيد أنّ هذه الخبرة جعلتني أغترب عن نفسي أكثر من اغترابي في المنفى. أين مفاهيمي القديمة، أين حجر الأساس في هويتي المسرحية الذي تعلمته في أكاديمية الفنون الجميلة وفرقة المسرح الفني الحديث؟ أين شلالات الضوء وكارمينا بورانا وتشايكوفيسكي والستائر الشفافة الساقطة من عليّ لتؤثث ظلالا وأشباحا وسحرا مطلقا؟ لم يبق لي بعد بيروت الحرب الأهلية سوى المشاهد وسوى حازم كمال الدين (الممثل المخرج المؤلف) ومشروع حربي المفتوحة ضد اغترابي.
أصبح ابتعادي عن جذوري المسرحية أمرا واقعا، واتضّح أنّ ابتعادي أمسى اقترابا من أصول أخرى، من جذور نسغها فيّ أنا؛ في جسدي، في ذاكرتي، في طفولتي، في ملامحي الغائبة عني، في صيرورتي ثمّ تمردي على ما هو سائد.
جسدي قادني إلى الطاقة اللا لغوية والتابو بأنواعه، والذاكرة قادتني إلى الحنين! أما الطفولة فقد أحالتني إلى حضن أمي وحكايات ما قبل النوم. وأما الملامح الغائبة عني فشجعتني على نبش قبور الموروث القديم والطقوس الإسلامية، التي رضعتها وتعاليت عليها واعتبرتها أثرا أصوليا أو لا حضاريا. الصيرورة جرأتني على النظر إلى هويتي البيولوجية والأخلاقية، صوب ما هو غائب عن الوعي أو مغيّب، إلى ما هو شرير داخل نفسي، وإشهاره على المسرح بهدف تحويله إلى طاقة إيجابية، بمعنى أنّي اختبرتُ العملية المسرحية كمعطى علاجي نفسي. وبعد هذا وذاك التمرّد الذي ساقني إلى مناكفة الغرب (كديدني طوال عقود عمري الخمسة) والإصرار على التنقيب عن هويتي في طيّات نفسي وتأويل كل ما تعلمت باتجاه تعميق ذلك البحث، لا تمريغ هويتي بالوحل أو العدم.
هذا الاقتراب أدخلني فضاءات تفكيك (لا أوربي) للموروث الشرقي، وتركيبه (أوربيّا) في هياكل وبنى عملي. فانفتحت أمامي، بشكل مباشر وغير مباشر، كهوف التاريخ والتراث الذي لم يدوّن بعضه إلاّ تحت سطح جلودنا وفي (التكايا). وجدت إرثا شفاهيا طقسيا حيّا يلتقي بالغرب بنفس قوة الافتراق عنه. فاقتربت بدوري وابتعدت بنفس القوة، واقتربت وابتعدت.. لكنّني لم أحسم أمري. لقد كان التجاذب بين الاقتراب والابتعاد يعود بشكل رئيسي إلى أنّني لم أكن أريد أن أختار، ولم أكن أريد أن أرى الأشياء كمفكر (فيلسوف، منظّر...) لقد أخذت على نفسي أن أكون رجلا عاديا ولد في مكان ويتوجب عليه أن يقضي حياته في مكان آخر. وهذا ما فرض عليّ البحث في كيفية الدفاع عن أصالة ذاك الذي ولد هناك، وتكييف ما موجود هنا لتشييد مسيرة فنية قابلة للحياة.
***
أوغلت في الغابات والمتاهات: هنا أسئلةٌ، وهناك بحثٌ عن وشائج فنية، وعن لغة وذاكرة جمعية. وبعد إحباط وإصرار أُسقط بيدي واعترفتُ بحقيقة أنّنا لا نتحدث لغة مشتركة، رغم اعتقادنا المعاكس والمدبّج بشعارات الشمولية، والعولمة، والذاكرة الجمعية.
أوغلت أكثر فوجدت حتى أنّ بعض المصطلحات المتشابهة إنّما هي متناقضة في الجوهر:
وجدت أنّ مفهوم (العاهرة) في الغرب يقترب من الأداء الاجتماعي المحترم (يشابه عمل المساعدة الاجتماعية) وهو ما يصطدم مع مفهومنا عن المومس (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). اصطدمت كذلك بالقتل وهو يأخذ صفة الرحمة (الموت الرحيم) لا قول (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ).
بعدها واجهتُ تباين (الأساس الميثولوجي) بيننا والمتمثل بثقافة الشعور المسيحي بالذنب الغربية مقابل ثقافة العيب العربية. ونظرت إلى (الخنزير) الذي حرّم الله لأرى أنّه كائن محترم. بل وجدت أنّ العمل الإبداعي مؤسس غربيا باعتباره (سلعة) product للاستهلاك، بينما يتّخذ الخلق في الشرق صفة الهبة والثواب (الفعل المنزّه عن الغرض) أو التعبّد وأشكال القرابين الرامية للتطهر والوجد والتوحّد؛ تجويد، أذان، طقوس صوفية، تعازي، حكواتي.. إلخ.
عالمان أو كودتان يا ما وضعاني في أتون تساؤلات عن ماهية الطريق:
هل يجب أن أذوّب كودتي لكي أقترب من كودة الآخر وننسجم؟ ألا مناص إلاّ من قبول الغرب باعتباره مركز العالم، وما تبقّى (وأنا منه) ليس سوى هامش على مشروع تهجين الغرب؟ هل يتوجّب تكسير رأسي لتكون العقلانية هي الحقيقة المركزية الوحيدة؟ هل لزامٌ عليّ إقرار أنّ البشرية مؤسسة كما كتب ديكارت (أنا أفكّر إذن أنا موجود) أو (في البدء كانت الكلمة)؟ وهل عليّ الخضوع وترتيب بيت نفسي لإقرار المعلوماتية باعتبارها الأسلوب الأمثل للتطور المعرفي وأدثّر (الفعل والتفاعل) وأضعهما في قفّة أدفعها لتخوض أمواج بحر متلاطم؟
وبمقابل كل هذه الأسئلة سؤال مركزي مقلوب: هل الشرق / أنا / الحسيّة /ا لجسدية هي الخلاص؟
كنتُ انفصلتُ عن ستانسلافسكي وبريخت وولجت مسرح الطقوس والينابيع مفتونا ومتيقنا أنّ هذا الاتجاه هو صاحب مفاتيح التوازن النفسي المناسب لي.
وهكذا ثلاث سنوات من (الحيوية الحركية)، و (الپلاستيكس)، والفعل الجسدي، والطريق السلبي، والبحوث في الصوت وأساليب الارتجال. وبعد تلك المتابعة اليومية العملية لمنهجي جروتوفسكي وأتيان دكرو عبر مريديهم رينا ميريسكا، ويان روتس، ولودو ڤان باسل، فزّت الاسئلة من نومها العميق فأحالت الليالي إلى أرق لا فكاك منه.
لقد كانت أسئلة كثيرة منها: هل منهج جروتوفسكي هو التوازن المطلوب لي؟ أين أنا، الشرقي، مما درست وأدرس في الينابيع، وفي الطقوس، وفي التوحّد والوجد؟ أليست وجهة نظره بحثٌ أوربيّ ينظر إلى الشرق من الخارج رغم محاولاته الصادقة أن يغوص في الشرق؟ هل ثمّة وئام حقيقي بيني وبين الكودات التي كنتُ أتعلّمها كل يوم؟
أسئلة توطّنت نفسي لأعوام ثلاثة ودفعتني إلى تفحّص الآخر الذي أعاد إنتاجي وقرّر أن أعيد إنتاج نفسي بناء على ما رسمه عني لأصبح أنا هو الأنا المتخيّل عن نفسي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق