تمظهرات احتفالية في مسرحية (عناكب في الرأس) للمسرحي الطيب الوزاني
رضوان احدادو :
تجربة مسرحية جديدة، محمولة إلينا بطعم آخر، بثبات ثابت يطرق أبوابها، وبيقين راسخ وكفاءة عالية يقتحم مشاهدها سبرا لأغوارها باحثا ومجليا أصدافها ولآلئها، هاته التي ركب أمواجها الكاتب المسرحي الأنيق الدكتور الطيب الوزاني.
لا أخفيكم، هي مغامرة غير محمودة العواقب.
لماذا؟
أقول لكم، هي عن قرب وحتى عن بعد كالسهل الممتنع، وربما أكثر إغراء، هكذا تبدو أول الأمر، وضاءة، لمّاعة، ولذلك تغري بالاقتحام والركوب، فاستهان بمناعتها الكثيرون فركبوها هنا وهناك.. عندنا وعند الآخرين، والقليلون جدا جدا كانوا الواصلين، والكثيرون جدا جدا لم تطاوعهم السواعد، ولم تسعفهم لا الأشرعة ولا المجاديف فظلوا سائرين ماكثين عند خط الانطلاق معتقدين أنهم وصلوا.
لا أريد الحديث عن (المونودراما) تاريخا وروادا، ولا أريد مناقشة ما أصر البعض على أن يطلق عليها نشوة أو غرورا (المسرح الفردي)، تغييبا ونبذا للآخرين من منطلق:
«وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد»
أريد الوقوف عند لحظة من لحظات ميلاد كاتب مسرحي احتفالي بامتياز من خلال عمله الجديد (عناكب في الرأس) نص هو خارج المألوف.
والسؤال
ما المألوف؟
المألوف اختصارا هو أننا عشنا أعمارا متعاقبة من التيه المسرحي، مستسلمين مقلدين.. محكومين بنص الآخر، مشحونين بفكر الآخر، وهموم الآخر، واهتمامات وأحلام الآخر، حتى شغلتنا همومه عن همومنا.
والمألوف أيضا أن نظل دائما أسارى التوجه الأرسطي والمعمار الإيطالي الخانق، فكان لابد من التمرد بمعناه الإيجابي، وذلك لإعادة تشكيل (المقدس) من أجل (النحن) المختلف عن الآخر والمغاير له.
من هاته القناعة تولدت (عناكب في الرأس)، وتتجلى لنا أولى ملامح هذا التمرد البناء على مستوى الشكل بإقدام المؤلف على تجاوز المتحفي المحنط كالضربات الثلاث الآذنة بانطلاق العرض، من قناعة أن الاحتفال لا يحتاج إلى إخبار، ولا يحتاج إلى إعلان، هو تلقائيا قائم بوجود الناس، وحيث يوجد الناس يكون الاحتفال.
يلغي الوزاني الستارة التي تقوم مقام الجدار الفاصل بين عالمين متباينين مختلفين.. بين الأستاذ والتلميذ.. بين شيئين اصطلح عليهما بـ (الخشبة) و(القاعة) أو الممثلين والجمهور، وهو بهذا يقدم لنا قناعته: لا شيء هنا اسمه الخشبة والقاعة، ولا وجود هنا لشيء اسمه الممثل والمتفرج، فالكل من جانبه يؤثث الاحتفال.. يصنع الاحتفال، إذن فالاحتفال هو الكل، فلا معنى للحواجز المألوفة، وهكذا نوحد كل العوالم في عالم واحد، وهكذا يوحدنا الاحتفال في الاختلاف.
يصر المؤلف ألا مسرح في المسرح اسمه المسرح الفردي عندما يوسم عمله ويجنسه إبداعيا بـ (المونودراما) – أي مسرحية الممثل الواحد – ويتجلى هذا الإصرار في الصفحة 19 حينما يقدم لنا شخوص المسرحية الذين اختصرهم في (حائر وحائر آخر افتراضي لا نراه طيلة العرض – والثالوث المادي المكون من: كرسي وعصا وبوصلة ثم الجمهور).
هؤلاء هم المحتفلون وعندي ليس كل المحتفلين إذ هناك مساهمون آخرون كانت لهم بصمات مميزة في هذه الوصلة الاحتفالية: إنارة، ديكور، شاشة، مؤثرات سمعية بصرية..الخ.
يؤكد هذا الاحتفالي أن كل الذي ذكره والذي لم يذكره.. وأن كل الذي فوق الركح وبالقاعة، كل الذي يرى ولا يرى لم يحضر عبثا ولم يذكر اعتباطا لأن كل الذي يؤثث بالضرورة هو يشخص حتى هذا (الجمهور) - الذي من بينه من يعتقد أنه لا أكثر من متفرج - ليس ببريء، إنه متواطئ ومتورط بحضوره.
وعلى مستوى الصياغة الدرامية عمد المؤلف إلى تكسير نمطية الأحداث وتراتبيتها المؤلوفة في المسرح التقليدي القائمة على ثلاثية (المقدمة – العقدة – الخاتمة) ليحضر مسرح القضية بدل مسرح العلاقات الأسرية والاجتماعية، وبذلك تبقى المسرحية مفتوحة على كل التأويلات والاحتمالات، إذ هناك خيط حريري رفيع، خيط ناظم يسري نشيدا ناعما.. متصاعدا، تقوده لغة أنيقة مسترسلة تمنحك متعة القراءة قبل المشاهدة.. مشاهدة العرض.
الاحتفال حركة، والحركة عنوان الوجود، أصل الحياة والحيوية، وبذلك فليس الاحتفال أشياء جامدة، وما يتراءى للناس جامدا يراه المؤلف ويراه الآخرون حيا يرزق، العصا، الكرسي، الإنارة..الخ يرونه حيا مفعما بالحيوية، في هدوئه المرئي هو يتكلم ويغني، يرقص بتفاعله مع الأحداث، يسير بيننا، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ولعل أقوى الإشارات وأجملها دور (العصا) في المسرحية وهي تتحرك على الركح حاملة عدة دلالات.
(عناكب في الرأس) مونودراما ماتعة، مكتملة الجوانب الفنية، مسبوكة بلغة شاعرية ناعمة، أنيقة، تفصح عن عمق ثقافة صاحبها الدرامية، وعن اطلاعه الواسع الواعي لمختلف الاتجاهات المسرحية من عبث ومرتجلة وغيرهما.
أعلن لكم عن تنامي إعجابي بهذا العمل مع كل قراءة له، وأتمنى أن تتضاعف متعة القراءة بمتعة المشاهدة على الركح إنصافا للمسرح الجاد.
(عناكب في الرأس) أولا وأخيرا إعلان صريح عن ميلاد كاتب مسرحي احتفالي بامتياز.
هنيئا
تطوان في 17/08/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق