تصنيفات مسرحية

الجمعة، 26 أغسطس 2022

النقد المسرحي فى الصحافة السودانية قهر " الميديا" وشروط الكتابة

مجلة الفنون المسرحية 


د. اليسع حسن أحمد
أستاذ النقد بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا

مقدمة:
مما لاشك فيه أن الدراما بملامحها الأرسطية المتعارف عليها حالياً وفدت للسودان عن طريق الجارة الأقرب جغرافياً وثقافياً – مصر-وذلك من  حيث اللغة والمعتقد وغير ذلك من الروابط ، وعند ذكر كلمة دراما لابد أن يسبق ذلك الحديث عن المسرح بحسبانه سبق بقية أنماط الدراما الأخرى، والتى بالطبع لم تكتمل صورتها إلا فى الربع الثاني من القرن العشرين ونعني بها السينما والراديو ثم التلفزيون ، لدرجة إقتران مصطلح دراما فى أذهان العامة بمعنى المسرح ( هذا بالطبع قبل الجدل الكثيف حول مصطلحي الدراما والمسرح مؤخراً) والمسرح هو من الفنون الوافدة حديثاً ليس على السودان فحسب بل على مجمل دول الإقليم ، ففى السودان وثق لأول ممارسة – عرض - مسرحية مكتملة بمنطقة القطينة جنوبي الخرطوم وعلى يد مأمورها المصري حينها محمد عبد القادر وعرفت فى التاريخ المسرحي السوداني بمسرحية نكتوت فى العام 1909م ونكتوت تعني فى العامية السودانية المال ، ويذكر الدكتور خالد المبارك فى كتابه المرجعي المهم حرف ونقطة ( المسرحية حضرها جمع من أفاضل أعضاء الجمعية العلمية الدينية ، وقام فيها بالتمثيل المربي الشيخ عبد الله بشير سنادة ، على أن يذهب ريعها لجامع القطينة ).                                     
والإشارة المهمة هنا أن علماء الدين حضروا المسرحية وأسهموا بالتمثيل والتنفيذ فى عرضها وأن عائدها يعود للمسجد ،وأن فكرتها كانت تقوم على التبشير بفضائل التعليم ومحاربة عادة شرب المريسة المتفشية آنئذٍ ( والمريسة مشروب سوداني يصنع من الذرة غالباً وهي من أنواع الخمور البلدية ) إذاً الدافع أخلاقي وهذه البداية يكاد ينفرد بها المسرح السوداني ، والإشارة ملزمة هنا بحسبانها أثرت كثيراً فى مسيرة المسرح ثم الدراما عموماً ، سلباً وايجاباً ومن أكبر المكاسب فى هذه البداية أن المسرح بُني  على أرضية صلبة من الجدية والصرامة وأنه تحاشى الصدام مع المؤسسة الدينية مما سمح له بالإنطلاق مبشراً وداعماً لقضايا التعليم والتحرر والوطني ، وأكبر السلبيات أن المسرح لم يكن دعمه من قبل هذه الجهات من أجل أهميته كمسرح بل من أجل القضايا  التي حُمِّلت به وعند تحققها انصرف عنه داعموه الأوائل وترك يتيماً لأهله ، فعانى الفقر وانعدام الوجهه والهدف وتُرك للمجهودات الفردية فى أغلب الفترات ،وهذا الذي ذكرنا يُعتبر من أكبر المؤثرات فى مسيرة الكتابة النقدية فى الصحافة السيارة فى السودان.                                  
الصحافة فى السودان                                 
والصحافة بدورها عرفها السودان مع نهايات القرن التاسع عشر وهذا التاريخ يتفوق به السودان على معظم دول القارة ، والصحافة فى البدء كان على رأس إدارتها وملكيتها وحتى تحريرها ولحد ما قرائها أيضاً أشخاص غير سودانيين ومنذ العام 1898م وحتى صدور أول قانون لتنظيم مهنة الصحافة فى العام 1932م كان هناك ثلت عشرة صحيفة فقط ، وقد كان أثرها ضعيفاً جداً وخافتاً ، وهذا يعود لقلة المتعلمين من أبناء السودان من جهة، ومن جهة أخرى الحاجز النفسي بين المواطن السوداني والمستعمر الدخيل وهزيمته للدولة الوطنية ممثلة فى المهدية ، وقمعه لحركات التحرر الوطني، وأشهرها ماعرف فى التاريخ السياسي السوداني بثورة 1924م والتي قادتها الطبقة المتعلمة .إذ أعقبتها قيود صارمة قلت على إثرها الصحف وساعد على ذلك الجو القاتم والمحبط الأزمة الإقتصادية العالمية والتي عانى الناس آثارها عقب الحرب العالمية الأولى .                  
يمثل العام 1913م تاريخاً مهماً فى مسيرة الصحافة والنقد فى السودان وهو عام صدور صحيفة رائد السودان ومايميزها هو شخصية رئيس تحريرها الشاعر الأديب السوري مصطفى قليلاتي والذى يذكر حليم اليازجي فى كتابه السودان والحركة الأدبية أنه ( استكتب الأدباء من الداخل والخارج شعراً ونثراً وعرَف قراء صحيفته بأصول النقد الحديث الذي كان يمارسه أصحاب الديوان فى مصر ) لكن للأسف لم يستطع قليلاتي الاستمرار طويلاً فبعد أربعة سنوات فقط أعاده الإنجليز مخفوراً إذ لم يكن راضون عنه ولا عن الندوات الثقافية والحوارات الفكرية التي كان يقيمها بمكاتب الرائد .                                                                                      
محطات فى مسيرة النقد:
أن حضارة السودان كانت تمثل تاريخاً فارقاً فى مسيرة النقد والصحافة فى السودان إذ أنها كسرت حاجزاً نفسياً كان يحول بين القارئ والمتعلم السوداني وبين صحافة لا يملكها لأسباب سبق ذكربعضها ، وأبلغ دليل على ماذهبنا إليه هو أيلولة رئاسة تحريرها لأول صحفي سوداني ( داخل السودان على الأقل ) وهو المرحوم حسن شريف والذى بدوره واصل دعوته الجهورة لإصدار صحيفة سودانية السداة واللحمة ، وتوج مجهوده مع آخرين بإصدار حضارة السودان فى 25/2/1919م .                                                                                             
المحطة المهمة الأخري تأتى فى الثلاثينيات من القرن العشرين والتى شهدت مجلتي الفجر والنهضة، فبرزت أسماء لامعة فيى مسيرة الكتابة الصحفية فى السودان عرفات محمد عبد الله ومحمد أحمد المحجوب والهادي العمرابي ومحمد عشري الصديق وعبد الله حامد البدوي وعبد الله عشري وآخرين ويرى الدكتور عز الدين هلالي أن الفجر تمثل فتحاً جدبداً فى مسيرة النقد فى السودان إذ ( كان محرروها من الشبان الثائرين على التفكير التقليدي المتأثرين بالثقافة الغربية ، المطلعين على آدابها اطلاعاً حسناً، والمتتبعين عن كثب لكل ما كانت تخرجه المطابع فى العالمين العربي والغربي ، ولأن دورهم حسب اعتقادهم خلق تمازج بين الثقافة العربية والأوروبية يكون نتاجها ثقافة سودانية ترث أفضل المزايا للثقافتين ، ففى الأدب عزفوا عن الأسلوب التقليدي وفى التعبير طبقوا النظريات الحديثة فى النقد).                                                                
ومازالت تمثل مجلتي الفجر والنهضة مرجعا مهماً لتاريخ الكتابة الصحفية فى السودان ، وبعد النشاط المكثف لنادي الخريجين واتساع رقعة التعليم وبالتالي المتعلمين وأيضاً للإنفراح النسبي فى الحريات من قبل السلطات الإنجليزية تجاه المثقفين إزداد عدد الصحف وظهرت الصحف الحزبية والمتخصصة والإقليمية وكانت فترة الخمسينيات تمثل قفزة كبرى فى صدور الصحافة إذ صدرت سبعة وسبعون صحيفة وهي الفترة التي تمثل آخر العهد الإستعماري وعهد مابعد الإستقلال حتى إنقلاب 17 نوفمبر وبداية عهد الفريق إبراهيم عبود وهذه الفترة رغم الحماس والنشاط اللافت للكتابة والحوارات المتعمقة فى مجمل الشأن السوداني ، إلا أن دوامة التحولات السياسية العنيفة والدائرة المعقدة من تبادل الأدوار الحزبية والعسكرية على كرسي الحكم جعل استمرار الصحف فى كف عفريت، إذ يتم إيقاف الصحف بمجرد ( دق المارشات ) العسكرية إيذاناً باستلام العسكر للسلطة ويعتبر تاريخ 18/8/1970م يوماً عصياً فى تاريخ الصحافة ومن ثم الكتابة فى السودان إذ تم تأميم الصحف لأول مرة بقرار من حكومة نميري وداعموها وتم دمج الصحف فى دارين فقط هما الأيام والصحافة واللتين سبق وأن صدرا مطلع الخمسينيات والستينيات وتراكم للقائمين على أمرهما خبرات طويلة واستمرتا حتى مجئ الحكومة الحالية أواخر الثمانينيات ، وكان يمكن أن تؤسسا ممارسة صحفية راسخة لولا فترات التوقف القهري ، لاسيما وأن صفحاتهما شهدتا جدلاً وحواراً فكرياً رصيناً وبرزت أسئلة الهوية الثقافية خاصة بين تيار اليسار العريض والذى كفر بالإنقلابات على حد قول محمد أبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي الأسبق (عليه رحمة الله) وذلك بعد الأحداث الدامية عقب إنقلاب هاشم العطا أو ما عرف بثورة 1971م والذي فقد فيه الحزب أبرز قادته إعداماً ، وعقب المصالحة ( 1976م) ودخول الإسلاميون الساحة الصحفية ، وبدأ يتأسس فن حوار وجدل كان يمكن أن يمثل نموّجاً تستفيد منه حركة النقد والكتابة .                   
تجارب فى النقد والكتابة
فى الستينيات تبقى تجربة بخت الرضا فترة مهمة و يمثلها د.أحمد الطيب أحمد وجيله من الأساتذة ، الذي يربط النقد بالجمال (أو البحث عنه أو التوجه إليه,فهو سر فوق الأسلوب الكتابي)و أحمد المولود بمنطقة الغبش غربي بربر عام 1918م وتوفى عام 1962م له دراسات و صولات في مجال المسرح و يعتبر وأحد أشهر الذين ترجموا الروايات المسرحية العالمية و سودنتها خاصة مسرحيات شكسبير و مع ذلك أن المسرح هجره أهله,و بلهجة حادة مليئة بالسخرية ينعي المسرح في ذاك الوقت الباكر (الفنانون الخلاقون يهجرون المسرح,فيمتلئ المسرح بالمغنيين الحائرين و الخائبين,شعث الرؤوس,شعث الأفكار,و بالمجلات و الصحف التي تنشر الأذى,و بالقصص المسلية و كتابها المؤلمين فهم أصحاب عنّه عقلية,فهم لا يفيقون إلا بإبطاء، هؤلاء يسيطرون على الميدان,فلماذا إذن يكتب الناس و كيف يصنعون فناً راقياً و و لماذا ؟)                                    
و بعد هذا العنف النقدي من د.أحمد جاءت فترة إنتكاسة نقدية,و يبدو أن الذين قالو بالإنتكاسة قارنوا النقد في السودان بالنقد في مصر و هذه الفترة شهدت تدفق المطبوعات المصرية,لم يقارنوه بتطوره التلقائي و انتخابه المباشر,و يبدو أن بعد الفجر و النهضة (كمدرسة) لم يأت من يملأ الفراغ فشعر المبدعون بالردة النقدية,مع وجود كتاب كبار في مجال المسرح (و من الفنون التي وقفت عن التطور فيما أظن فن النقد الادبي).                                                                         
علما بأن العقد السادس و السابع من القرن الماضي شهدا أنجح مواسم المسرح القومي و نشطت حركة التأليف و النشر و ظهور الكتاب المتخصصين,و صار خريجوا معهد الموسيقى و المسرح و عروض مشاريع التخرج لقسم المسرح و كتاباتهم المتخصصة في النصف الثاني من العقد السابع في الظهور و التأثير,و لكن يبدو أن العهد هو عهد تفجير الأسئلة خاصة أسئلة الهوية (الغابة و الصحراء على سبيل المثال) و بالتالي الإحساس بعدم التطور و المواكبة (مستوى النقد مخجل) و المؤلم أنه ينطلق في أحيان كثيرة من مواقع ذاتية محضة و ضحلة)  ؟و هذا ما جعل ناقد و باحث مثل علي المك يطرح الأسئلة الجوهرية (و أين هم المثقفون؟ أين هي الصحف؟ سوء معاملة الصحف إذ تفضل المادة السياسية و التهريج الأجوف على الكلام في النقد و الأدب).                  
و يرى الدارس أن غياب النقد أمر طبيعي طالما غابت الصحافة الأدبية نفسها,و ظاهرة غياب النقد أصبحت في الواقع ظاهرة أكثر من أن تكون سودانية ,فقد تعقدت منابع التأثير الأدبي,و تنوع الأمر الذي يقتضي وجود نقاد يتتبعون الظواهر الأدبية الجديدة,و يحللون أسباب وجودها و أسرارها, (و مع ذلك فإن ظاهرة الأعمال النقدية تعاني من نفس أزمة الإمكانيات و الحاجة الى نشر بالإضافة الى قضايا الحرية التي يواجهها الأديب و الناقد معاً,الأمر الذي يجعلنا نعتقد ان الأدب و النقد لن يزدهرا إلا في ظل توفر إمكانيات بعينها,مادية كتوفير النشر,و معنوية كتوفير الحريات,ليسمح للإتجاهات النقدية المختلفة في إبداء وجهة نظرها و طرح مجمل مفاهيمها إذا توفرت تلك الشروط فإن حركة نقدية جادة ستظهر من خلال هذا الصمت الطويل).                                            
و الإحباط يلازم الكُتّاب و التباكي على الماضي و لا سيما أن حركة المسرح و النقد المسرحي شهدت فترة ازدهار (بدأت في عام 1967م و انتهت عام 1975م و بدأ العد التنازلي للمسرح الرسمي و العد التصاعدي للمسرح التجاري و مسرح القطاع الخاص  و استمر غياب النقد المسرحي في تواصل (و لأنه ركن مهم من أركان إنعاش الحركة المسرحية,و لغيابه تغيب الرؤيا الصحيحة,ففي السودان يشكل النقد غيابا تاما,(فنجد في بعض الصحف و المجلات نقاداً يمارسون شيئا لا يمكن ان نسميه نقدا).                                                                               
وملاحظ أن القائلين بتدهور مستوى الكتابة هم من الممارسين للفنون بمختلف مسمياتها ويرى مبارك المغربي( النقد عندنا يشوبه ضعف بيّن فى التناول المنهجي ، وذلك لغياب النقاد المقتدرين عن الساحة ، وترك الحبل على الغارب لكل من أمسك قلماً ليهدم دون وعي وإدراك، ولكيما يرتفع مستوى النقد عندنا وجب أن ينزل إلى الساحة المثقف القادر ، ولدينا من مثقفينا الكبار ممن نعتز بهم والواجب أن تفسح صحفنا المجال حتى نطمئن على نهتضنا الفكرية ، ونعمل على تطويرها ، والوقوف بها جنباً إلى جنب مع الثقافة العالمية )  ورأى المغربي تشوبه العاطفة والأمانى دون تحديد حلول مباشرة.وبالرغم من وجود كتابات فى هذه الفترة إلا أن كثيراً من المختصين يرونها بعيدة عن النقد بمفاهيمه العلمية والأكاديمية ، فهذه واحدة من المشاكل التى لازمت ولاتزال الحركة المسرحية والثقافية عموما ( لا وجود للحركة النقدية وسط حياتنا ، فالمسرح عالم زاخر و " حياة عامرة" لايكفي أن يخرج المرء منها مجرد إنطباع وللأسف  الشديد أن كل مايكتب اليوم مجرد إنطباعات ،من يريد أن يكتب عن المسرح يجب أن يبحث فيه وينقب ، يسبر غوره ، هذا الشخص يجب أن يكون متخصص فى المقام الأول ، ثم راسخاً وأمينا.                                            
ويتفق معه فى ذات المجلة المسرحي المعروف أبو العباس محمد طاهر ( نعم عندنا نقاد مسرح ولكن تنقصهم الخبرة .                                                                                       
ويبدو أن القادرين على الكتابة غير متخصصين ، والمتخصصون غير قادرين على الإستمرار فى الكتابة ، وهذا مشكل منهجي  فالكتابة السائدة فى الصحف والدوريات إما انطباعية تقترب من السذاجة ، أو متخصص يتعالى على القارئ                                                               
ورغم ذلك ظهر جيل تأسس علية منهج الكتابة المسرحية فى السودان وفتح الطريق أمام لاحقين  على سبيل المثال ، هاشم صديق ، طلحة الشفيع ، بدر الدين حسن ، خالد المبارك , سامى سالم , وخريجو المعهد الذين ظهرت أسماءهم فى منتصف الثامانينيات منهم أبو القاسم قور ، البشير سهل ، عمفريب ، ، شمس الدين يونس ، السر السيد والفاتح مبارك، وتشكيليون أيضاً بوب وغيرهم وأسماء ظهرت فى تتبع التوثيق كعبد الرحمن بلاص المغني الشعبي الذي عرفه الناس فترة السبعينيات ومابعده من القرن الماضي، فى كتابه "حواراتى معهم"(جل الكتابة بين قوسين الواردة اقتبسها الكاتب من بلاص فى حواراته مع مثقفين وفنانين) ، كما أسهمت مهرجانات التخرج لطلاب الدراما بمعهد الموسيقى والمسرح وطلاب وكتاب الدراسات الإضافية فى جامعة الخرطوم ،وكذلك المجهودات التى لم تنقطع من المشتغلين بالشان الثقافي عموما ،والدرامي والمسرحي على وجه الخصوص مثل : سعد يوسف وعثمان جمال الدين وفتح الرحمن عبد العزيز وعادل حربي وعز الدين هلالي ، والسنى دفع الله والطيب المهدى والشفيع ابراهيم الضو ، صلاح الدين الفاضل وغيرهم من الذين اسهموا فى إثراء الحركة النقدية إنتاجاً إبداعياً وتأليفا وحوارات فى الصحف والمجلات والندوات.                                                                                        
الكتابة فى الصحف:
فى إطار الحديث عن التوثيق يتحتم التطرق من وجهة نظرنا للصحف ونسبة لغياب وندرة الكِتاب والمجلات المتخصصة وتباعد صدورها كانت الصحف الماعون الأساسي الذى حوى الكتابة الراتبة والحوارات وتتبع أخبار المسرح .فأى رصد للملاحق الثقافية يمكن قراءة واقع الكتابة ومساراتها ،ولها تأثيرها على الكتابة نفسها ، فكل الصحف بلا إستثناء أفردت ملاحق ثقافية إسبوعية بين صفحة وقد يصل الملحق الى أربع صفحات ، ولكن للأسف لم تستقر الملاحق وهي أول من يهدده زحف الإعلان ، وإذا استقر لا يستقر به المشرف عليه وبالتالي لم تستقر للملاحق أعراف وتقاليد ، لضعف استمراريته ولخضوعه لميول واهتمامات المشرف عليه ,مع أن الملحق حظي بإهتمام القراء وبأعلى توزيع (نال ملحق الثلاثاء – صحيفة السودان الحديث- أعلى نسبة توزيع حسب إفادة مجلس الصحافة والمطبوعات للكاتب ) ، وكان به كتابة راتبة لأحمد عبد العال – يحي فضل الله – عمر الدوش، وأحمد الطيب زين العابدين ونظوره السودانوي ) وبالتالى لم نجد مشرفاً استقر لأزمان متطاولة غير اسماء عيسي الحلو ونبيل غالي ومجذوب عيدروس وصلاح التوم من الله .                                                       
ورصد الكاتب فى عشر سنوات (1985م-1995م) " 126" كاتبا فى خمس صحف نجد ، "25" فقط منهم تخصصوا فى النقد الدرامي أو الأدبي . والكتابة عن المسرح وعن الثقافة عموما غير ذات جدوى بحكم مردوده الإقتصادي ( وهي مهنة طاردة ولا توفر معاشاً مريحاً وأن الكاتب المهتم بالشان الثقافي قد يكون كاتباً من الدرجة الثانية لإهتمام الصحف بالشان السياسي والمصالح الإقتصادية أما الكتابة الثقافية فهي"مرض"يصيب المهتمين به فقط                  وبجانب ماذكره الأستاذ الحلو نجد أسباباً تتعلق بالكاتب نفسه بعدم استقرارة وقلقلة كما أن نزيف الهجرة الذى بدأ مطالع التسعينيات أفقد الكتابة والبلاد عشرات الأقلام التى غابت عن المشهد .                                           
                         والملاحظة الإخرى أن الكتابة المسرحية تأثرت بالحقل المسرحي وخلافاته وتعقيداته والإحساس الدائم باليتم والإهمال والتباكي على الحال والمآل ، فمن النادر أن نجد كتابة تهتم بقضية المسرح نفسه أو نقداً تطبيقيا على عروضه ، ولكن نجد مثلا حبراً كثيفاً يسال على عرض تم منعه من السفر أو نتائج لجنة نصوص أو إختيارعرض ليشارك أو ردود على حوار، وغالباً ما يكون من مخرج العرض المسرحي ، وبالرغم من تعثر العروض وقلة المشاركات الخارجية لكنها وإن وجدت لاتجد الكتابة والتحليل والمتابعة ويذكر بروفسير سعد يوسف المشارك فى مهرجان بالعراق آنئذٍ(وبالرغم من أهمية المهرجان بالنسبة للمسرح العربي عامة والمسرح عامة والمسرح فى السودان بوجه خاص لم نقرأ عنه شئ فى صحفنا السودانية أو نسمع أو نرى شيئاً من مناشطه فى من أجهزة الإعلام بالرغم من أن هذا الوفد الكبير " مايقرب من الخمسين فرداً"يضم بعض نقاد المسرح ومدعي النقد.                                                                                                 
وصراع العلمية والتخصص من جانب ،وغير المتخصصين من جانب آخر يبدو أنه صراعاً أزلياً ،وشائك وبه كثير من التعقيدات ، فالكاتب يدعي العلمية ويعتزر منها فى ذات الوقت ،فمثلاً فى صحيفة السياسة " فترة الديمقراطية الثالثة " شهدت أعلى معدل للكتابة المسرحية ورد مقال لعلي صالح أحمد ، عن مسرحية بيت بت المنى بت مساعد صراع المفاهيم بين الموروث والواقع شئ لابد منه (المسرحية متميزة فى صياغتها وإخراجها ولعل مايميزها أكثر جمال الأغاني المصاحبة للعرض التي أداها الفنان النور الجيلاني أداء ً جيداً، كذلك الإضاءة الممتازة والديكور البسيط المعبر ، مايؤخذ على المخرج فقط هو عدم مراعاته لاتساع وحدتي الزمان والمكان حيث جعل المسرحية تقف عند دورة شمسية واحدة وجعل أحداثها تدور فى مكان محدود) وهذه الكتابة تبدو مضحكة إذا حاكمناها بنظرية أرسطو مثلاً وهذا نموذج من عدة أمثلة 
ومع ذلك تظل الصحافة واحدة من أسس الكتابة عن المسرح فى السودان ، رغم تعقيدات الكتابة نفسها
وهناك ملاحظة هامة وهي أن الصحف الصادرة منذ مجلتي الفجر والنهضة لم توجد صحيفة تهتم بالشان الثقافي الخالص وإن وجدت لم يتسن لها الصدور إلا أعوام قليلة ( تجربة سنابل مثلا)وظل التناول للخبر السياسي هو سيد الموقف تليه الرياضة ومن ثم الإثارة الإجتماعية ولعل هذا يتعلق ببنية المجتمعات النامية والمتخلفة وترتيب الأولويات عندها وغياب الأفق الإستراتيجي وغلبة الهموم الأمنية وتثبيت السلطات والإستغراق فى اليومي المباشر وهذا مايذهب إليه الناقد والروائي عيسى الحلو ( الأمر يرجع لالتكوين المجتمع السوداني إذ أنه مجتمع مازال ينحو نحو المدنية ويغلب عليه الطابع العشائري والطائفي ثم الآيدولوجي فى مثقفيه ولم يكوِّن بعد مرجعيته الجمالية فى الأدب والنقد إذ أن إستهلاكه للكتابة يغلب عليه الآني واليومي المباشر )
والنقد على قلته تراوح مابين ادعاء التعالي الأكاديمي واللعب على المفردات والمصطلحات المنحوتة ومابين الكتابة الساذجة التى لا ترقى لمستوى النقد ولم تتوفر مشاريع إلا قليلاً تستجيب لشروط الكتابة الصحفية وترتقي بالذائقة النقدية والجمالية للقارئ العادي وإن توفر لا يستمر كشأن الكتابة نفسها.وقد يعود ذك أيضاً لضعف المنتج الدرامي المستفز الأول للكتابة فمسرح الدولة الوحيد – المسرح القومي – ضعف النشاط فيه وقلت وأنعدمت العروض الراتبة والتلفزيون اعتمد على الدراما الوافدة ودراما الراديو لايلتفت إليها أحد رغم إستمراريتها وقد يعود ذلك لخلل منهجي فى بنية الثقافة والصحافة ومركزيتها القابضة كشان التنمية المادية والإنسانية وكما هو معروف أن حقول سماع دراما الراديو هو الأقاليم القصية والتي لاييلتفت إليها أحد .
ونخلص أن النقد تأثر لحد بعيد بشروط الصحافة ومآلاتها ونقاط ضعفها واستجاب مقهوراً لتلك التقلبات رغم وجود نقاد تملكوا ناصية العلم والإبداع ترفد بهم المؤسسات الأكاديمية الساحة تباعاً ولكن !.
استفادت المقالة من المراجع التالية :-
1/ أحمد الطيب أحمد : أصوات وحناجر ، وزارة التربية والتعليم الخرطوم ، 1975م.
2/ اليسع حسن أحمد : النقد الدرامي فى الصحافة السودانية ، الخرطوم عاصمة للثقافة العربية ، 2005م.
3/ عبد الله ابراهيم الطاهر ، ببلوغرافيا الصحافة السودانية ، المجلس القومي للصحافة الخرطوم 
4/ حليم اليازجي : السودان والحركة الأدبية ، الجامعة اللبنانية بيروت ، ج2، 1985م.
5/ خالد المبارك : حرف ونقطة ، منشورات معهد الموسيقى والمسرح ، 1980م. 
6/ مجلتي الفجر والنهضة والصحف الواردة : دار الوثائق المركزية الخرطوم
7/ عيسى الحلو حوارمكتوب أجراه معه الكاتب .
7/ عبد الرحمن بلاص ، حواراتي معهم
الكاتب 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق