طقوس التأويل الحكواتي: بدويّون في المدينة!
الحلقة الرابعة
كما أشرتُ في الحلقة السابقة لم يبق الحكواتي أسيرا للطقس المعروف. ولكي أكون عمليا سأتناول الموضوع بطريقة تطبيقية:
عام 1998م قدّم مُحترف صحراء 93 في بلجيكا عروضا حكواتيّة حملت عنوان “بدويّون في المدينة”، وترحّل بها في المُدن قاصدا “أيّ مكان”. فدخل بيوتا ومقاهٍ، وصعد مسارح، وحطّ في كنائس ومراكز ثقافية وصالات معارض تشكيلية.
حكواتي ومُمثلة ومُمثل ومُوسيقي انطلقوا في جولات باحثين عن كودات جديدة ووسائل عرض تصل للجمهور بلا مُبرمجين ثقافيين يلعبون كثيرا دور الرقيب على العروض الفنية ودور الوصيّ على المُشاهد الذي يحدّد له ما يجب أن يرى وما لا يجب. راحوا يترحلون طارقين الأبواب بحثا عن مكان يستضيفهم وقلب ينفتح عليهم بمُقابل أن يقدموا ما يملكون. ولم يكن ما يملكون سوى عروض “مسرحية” مُترحلة.
عرض سمر في مُقابل الضيافة. هكذا كان الشعار.
أكتب “مُترحلة” وأشدّد على “الترحّل”. ذلك أنّ الترحّل موضوع تطوّر عندي من جذور هجينة فيها من التأثيرات الثقافية بقدر ما فيها من خلفيات كاتب السطور وحياته الشخصية.
فتنقلي في المنافي من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى أخرى واستحالة بيتي ووطني وبطريقة حرفية من موقع ثابت على أرض إلى حقيبة مُتغيّرة ومُترحلة دفعني للبحث عما يعيد تأسيس نفسي كلما تأبطّت بيتي “حقيبتي” ورحلت. حالة الترحّل وتحوّل ما هو ملموس إلى رمز أو فكرة افتراضية؛ ألغى لديّ مبدأ الاستقرار المادي إلى الأبد ودفعني للبحث عن طرق إبداعية تقبل غياب المكان المُناقض لمبدأ أساسي في العرض المسرحي. فالمسرح “كان” يفترض مكانا ثابتا وبنية تحتية فيما ينفي الترحّل ثبات المكان ويجعل البنية التحتية مُستعصية.
كان ذلك الجانب الشخصي الأوّل من الترحّل. أما الجانب الثاني فهو الحالة الأسرية للكاتب.
لقد عمل والدي في مجال هندسة مساحة الأراضي في وزارة الإصلاح الزراعي العراقية مُنذ ثورة 14 يوليو عام 1958م، مما فرض عليه التنقل من مدينة إلى أخرى، ولفترات طويلة نسبيا حسب مُقتضيات المهنة. هكذا رأيت بيتنا يتنقل بحُكم عمل الوالد من مدينة إلى مدينة، ومن شاحنة نقل إلى شاحنة في حالة تركيب وتفكيك لا هوادة فيهما. فالانتقال يعني تفكيك أثاث البيت وإعادة تركيبه في منزل جديد. الحلة، التاجي، طوزخورماتو، الكاظمية، الخالص، اللطيفية، الحلة، الكوفة، بغداد، الحلة، كربلاء، بغداد.. المنفى!
الجانب الشخصي الثالث من الترحّل هو الحكواتي الديني. فقد أتخم هذا القصّاص المُترحّل طفولتي وفتوتي وشبابي.
بمُقابل الدوافع الشخصية الآنفة الذكر والتراتيل الدينية والصوفية والكراكوز، وإبداع فريق العمل والمُشاهد وجدت إبان دراستي وعملي في بلجيكا وشائج غربية مع مفهوم الترحل ومُعالجاته الفلسفية والجمالية، وأخصّ بالذكر هنا عربة ثيسبس الشهيرة “القرن السادس ق. م”، وترحلات موليير في أعماله المسرحية 1643-1658م وبعض مباديء الهابننج.
عودة إلى ترحّل المُحترف في بلجيكا وعروضه فقد قدّمنا عددا من الحكايات لقاء ضيافة منحها المضيّف. أعني أنّنا لم نكن نشترط عليه تهيئة مسرح ما. فالحكايات وضّبت بطريقة تسمح بتقديمها في مُختلف الفضاءات.
قدّم العرض الافتتاحي في بيت كاتب السطور وترحّل من هناك إلى مواقع تشكيلية- المتحف الوطني للفن الحديث Mukah، وجاليري De Zwarte Panter- وإلى مواقع ثقافية- مراكز ثقافية، المكتبات العامة- وعرّج على بيوت الناس- صالون بيت، مطبخ، فناء، غرفة نوم، حديقة- وغير ذلك.
عشرات العروض في عشرات المواقع في ترحلات اكتشفت كل موقع بطريقة أنتجت قراءة جديدة للعرض وللمكان وللمُساهمين في العرض.
لقد تعامل الفنانون مع الأمكنة باعتبارها كائنا حيّا مُتغيّر الأبعاد والقراءات. وكانوا يعيدون ترتيب مشاهدهم المسرحية بناءً على دراسة عضوية للمكان. أيّ أنهم كانوا يصغون صوتيا وصوريا وحسيّا ونفسيا للمكان وصاحب المكان ولا “يستخدمونه” كأداة لأغراضهم.
حينما تتأمل المكان من دون أحكام مُسبقة فإنّ الأخير يفتح لك ذاكرته وأسراره. فتتحول فسحة في نادٍ ليلي خارجة عن الفضاء الحميمي للحلقة مشهدا تتجسّد فيه حرب أدواتها المُوسيقى والأضواء والقناني والأقداح. أو يتحول مطبخ مفتوح على الصالة إلى قبّة مسجد. أو يتحول أطفال الجيران الذين تسلّقوا جدار الحديقة وراحوا يعاكسون الجمهور والمُمثلين إلى قبيلة من الجان تحت الرمال.
تسع حكايات أهملنا فيها المظاهر الحكواتية المتحفية بقدر ما أهملنا دراماتورجي الأسباب والنتائج الغربي وسلطنا فيها الضوء على الخصائص الشفاهية وتأويلاتها.
كان مصدر الحكايات هو القصص الشعبية، والميثولوجية، والتراثية الغارقة بالجن وبكائنات “خيال علمي” أوهمت الكثيرين بأنهم أمام قصص “ألف ليلة وليلة” أو فوق بساط ريح شاعري. لكننا في واقع الأمر كنا نترك عنف الميثولوجيا وسورياليتها تربض ما بين الطيّات.
لقد تقدم العنف والقسوة كبديل عن خيالات المرجعيات التقليدية في الشرق والغرب. كما تعاملنا مع الثقافة الشفاهية على أنّها أسلوب فني يتنكر للطرق القديمة للحكاية، طرقات النوستالجيا، والاستشراق والـ exotic. وحاولنا بذلك وضع المراجع المعرفية الغربية المُؤسسة على إرث الاستشراق عن الشرق في موضعها الصحيح حيث يتم اقتطاع الحكاية الشرقية من سياقها لوضعها في سياق آخر، أو يتم تبسيطها أو تسطيحها أو أدلجتها أو تقديمها بما يتفق مع الموضة، أو لكي تستجيب لحاجات وسائل الإعلام المشروطة بالتبسيط والوضوح.
لقد كان شعارنا هو الالتباس والترحل بين الإنسان ومرجعياته الثقافية وإشهار الأسئلة حول كوداته وكوداتنا الثقافية. لكن ترحلاتنا ما بين الإنسان وما يعتمل داخله لم تكن تدخّلا عنيفا ولا تربويا ولا علاجيا. لا. لقد كنا مسكونين بطريق السُخرية الشاعرية.
هكذا، ومن خلال التركيز النقدي على الحكايات الشفاهية وسياقاتها الثقافية كان ثمة حجر يسقط كل مرة ليهزّ ركود بحيرة التهليل الغربي للاستشراق، ويكسر زجاج الزنزانات الشرقية الدونية للغرب أو المُشبعة بالحنين. وبتلك الطرق ذهبنا بالمُشاهد إلى مفازات دراماتورجية لا متوقعة. ففي اللحظات التي كان يعتقد فيها أنّه بدأ يقرأ العرض مُستندا إلى مرجعية مُؤتمنة تمكّنه من فك الكودات يكون قد دخل في أزمة مع كوداته التي عرّفت الشرق بالجنس، والسحر، والغناء، والعالم الغرائبي.
بما أننا عملنا بمنهجية على مُخالفة تلك التوقعات؛ خلق ما قدمناه قراءة طازجة لمن لم يخضع للكودة الغربية، لكنّه ولّد التباسا لدى الجمهور المُدرّب على تلك المرجعيات. وبذلك واجهت الخيبة من أتى آملا أن يحلّق في أحلام ألف ليلة وليلة الإيروتيكية والغرائبية.
لنتابع تطبيقيا ما حدث في مسرحية “ساعات الصفر”.
المسرحية لم تبدأ.
فما أن وصل الجمهور حتى أدخلناهم فرادى إلى بيت كاتب السطور الذي أُحيل مدخله أنقاضا تقتضي منه أن يبذل جهدا ليشقّ طريقه إلى الداخل. حين تنتهي الأنقاض تطالعه ستارة عليه أن يفتحها ويدخل ليجد نفسه في فسحة مُعتمة تقود بدورها إلى فسحة أخرى مُضاءة بشموع وامرأة تقدم شايا بالنعناع بصمت، وابتسامة إيروتيكية فيما يتناهى إلى سمعه عزف وغناء غرائبي. بيده قدح الشاي يدخل صالون البيت الذي صمّم على منوال بيوت القصب القديمة الواقعة جنوب العراق ولم يكن لديه خيار سوى أن يجلس فيما يشبه الحلقة مع بقية المُمثلين وكان لا يتجاوز عدد المُشاهدين 20 بأيّ حال.
المسرحية لا تبدأ.
بل يستمر الغناء وكأنّ ما يحدث كونسرتا. أمرٌ أحال المُشاهد إلى الأكليشيهات التي اعتاد أن ينظر من خلالها إلى الشرق. وإذ لم يتوقف الغناء بعد فترة أصابته حيرة دفعته للتساؤل:
هل أنا في المكان المطلوب حقا؟
هذا كونسرت وأنا قادم لمُشاهدة عرض مسرحي.
ربما المُخرج/ المُؤلف “الأجنبي” لا يجيد اللغة وأعلن عن العرض بطريقة خاطئة.
آها! هذا هو الشرق الحقيقي حيث الأشياء عصيّة على التعريف والتجزئة الغربية.
أو بدأ بإضافة كودة جديدة تقول: إنّ “من طبائع المسارح الشرقية أن تبدأ بمُقدمة مُوسيقية طويلة”.
استغرقت المُقدمة المُوسيقية حوالي عشرة دقائق، تلاها المشهد الأوّل الذي وضع المُشاهد في لجةّ التصورات الغرائبية عن الشرق وبطريقة مُبالغة. بخور وضباب في صحراء وأشياء أخرى. ثم لحقته مشاهد أخذت على عاتقها تخريب تلك التصورات عبر إدخالها أقنية وهمية توحي له أكثر أنّ الشرق هو بالفعل ما تعلمه وفقا لمرجعياته قبل أن يجد نفسه في حالة تدفعه إلى وضع مرجعياته جانبا والانفتاح على الكودة الشرقية. وبذلك الطريق قدّمنا صورا لا تداعب تصوراته عن الشرق، لكنها لا تبعث فيه الإحساس بأننا نقوم بمُناظرة فكرية أو إلقاء بيان عن الشرق أو الاستشراق.
لقد تمتعنا مع المُشاهد بتبادل الحكي في إطار علاقات الشرق الحقيقية المُلتبسة في المجالات الغريزية، والسحرية، والشفافية، والشاعرية، والوحشية، والانفعالية، والتداعياتية وما لا يمكن وضعه في كلمات بل يمكن تقاسمه روحانيا.. إلخ.
أما على صعيد تأويل الراوي فقد بحثت المسرحية في العلاقات بين التداعي الشرقي الحكواتي وتراتبية الأسباب والنتائج الغربية في بناء الحدث. لقد اعتمدنا فيما اعتمدنا على العلاقة بين أنماط التمثيل البدئية وأنماط التمثيل المُعاصرة وما ينجم عن لقاء هذه الأنماط على المسرح. بمعنى أوضح أنّنا ركّزنا في بحثنا على الاتجاه الذي يسلكه الراوي وآليات تحوله إلى مُمثل، وآليات تمرده على أشكال التمثيل السائدة والأعراف والتقنيات المسرحية الأخرى، هدفنا في ذلك طرح الأسئلة التالية: هل من المُمكن أن “يموت” أسلوب تمثيل أو طريقة عمل ما؟ هل تتقادم الأساليب الفنية ويتجاوزها التاريخ؟ هل تبلغ الأساليب الفنية من العمر عتيا بحيث لا تعود مُناسبة للحاضر؟ ومن يحدد تقادم أسلوب ما وتجاوز التاريخ له؟ من ذا الذي يؤرخ لقوانين العمل الفني ويمنح هذه الطريقة في العمل لا تلك حق الخلود؟ عموما: من يحدد التطور الفني لفترة زمنية مُعينة؟ الموضة؟ الاقتصاد؟ السُلطة؟
عندما ننظر إلى الحكواتي العربي نرى أن بناء خط التوتر لديه لا يتم عن طريق توتر العلاقة بين الشخصيات، ولا تأزم الأحداث أو الصراع على الخشبة في مشهد أو حالة ما. في طقوس التعازي على سبيل المثال نحن نجد أنفسنا أمام قصة معروفة وقديمة تعاد روايتها كل عام عن طريق الراوي. الحبكة هي ذاتها عاما بعد عام، لذلك لا يتم التصاعد الدرامي عن طريق بناء الحكاية نفسها- وإن كان ذلك يحدث جزئيا- بل عن طريق علاقة الراوي بالجمهور وبالظروف المُحيطة بهما: السياسية أو الاجتماعية. بمعنى آخر أننا نجد تعريف التصاعد الدرامي للحكاية الحية المُعادة في كفاءة الراوي وشدّة انتباهه للحظة المُحيطة به.
في ساعات الصفر كان الأمر شبيها بذلك: فالتصاعد الدرامي لم يكن تصاعدا لتوتر العلاقات بين الشخصيات أو الأحداث أو تحوّلات أحد هذه العناصر. وإنّما كان يتموضع في مُفاجئة الانتقال الارتجالي الآني من حكاية إلى أخرى، وفي العلاقة اللامتوقعة مع الفضاء، وفي ثنايا الجودة الفنيّة للراوي وتحوّلات طرائق التمثيل التي كانت تتنقّل من الطقوسية إلى القصصية، إلى التشخيصية، إلى الاندماج في الشخصية، إلى الانفصال عن الشخصية، إلى التمرد على مفهوم التمثيل و.. إلى العودة إلى الراوي.
…
كان هدفي أيضا هو مُجابهة التراثي بالمُعاصر، والأصالة بالتأويل؛ مما دفعني أن آخذ منحى الإخلاص للأشكال الحكواتية القديمة “المينيماليّة” قدر إخلاصي لتأويلات العرض الحديثة: في الشرق حيث يتم تحديد قيمة العرض انطلاقا من جودة الحكواتي، وفي الغرب حيث تُعتمد التطورات التقنية كقيمة فنية. في ساعات الصفر احتلّت المُجابهة بين التراث والمُعاصرة فضاءات التطور الدرامي الذي لم يحدث من خلال النص أو الشخصيات أو الأحداث كما أسفلت، وإنما من خلال:
كشف الوعي الغربي للشرق.
أيّ أنّ تطور العرض المسرحي كان يتمثل في التحول من تقديم الكودة الاستشراقية إلى تقديم كودة الشرق. فمُنذ افتتاح المسرحية ينمو العرض عن طريق تقديم الشرق حتى الوصول إلى لقاء الشرق الحقيقي والتباساته الماثلة في العنف، والرقّة، والسحر، والعاطفية، والتقاليد الشفاهية.. إلخ.
قد اشتغلنا على تلك العناصر عن طريق التغريب لتتحول قصصنا الشرقية، بغواياتها الإيروتيكية وطقوسها الروحانية إلى سيرة ذاتية غرائبية مشحونة بالاغتصاب والتعذيب تدفع الجمهور أحيانا للاستمتاع بما لم يكن يتوقّع أن يستمتع به: مثلا يداهم المُشاهد نفسه على حين غرّة مُتلبّسا بالتمتع بمشهد تعذيب صورته الخارجية استشراقية إيروتيكية. وكان هذا يحدث لأنّنا حوّلنا حكايات “ساعات الصفر” عن الجن والإيروتيك والروحانية إلى سيرة ديكتاتور غرائبي مهووس بشهوات ممزوجة بالدم.
تحوّلات المكان.
تركّز خط التوتر الدراماتورجي في ساعات الصفر على العلاقة بالفضاء المسرحي أو اللاّمسرحي والتوتر الناتج عن تلك العلاقة. يومها لم يكن المُشاهد هو الوحيد الذي يلعب الدور الفاعل كسينوغراف وإنّما المكان أيضا! فمن ثنايا الفضاءات الحميمة التي يمنحها مضيّف ما كان المُمثل ينمو في الفضاء عبر التعرّف عليه، والحوار معه، ومن ثم الغوص في مُفرداته، و”التآخي” معه، وتغريبه، وتغريب نفسه عن الفضاء، ودمج عمليات التغريب هذه في آليات عمله. كان المُمثل يسائل الفضاء، مساءلة تترك آثارا واضحة على ما نسميّه “مسرحة” الحكاية.
تفاعلات البنية بين النص الشرقي المُرتجل والعرض الغربي الثابت.
بمعنى إيجاد وسائل تجعل الحوار مُمكنا بين الشرق والغرب كمثل تقارب تراث القرون الوسطى الغربي الارتجالي مع الفنون الشفاهية الشرقية وترجمة التقارب العملية إلى اتحاد الكوميديا دو لارتى مع فن الحكواتي!
توازنات ولا توازنات المستوى البصري والنصّي للعرض.
أي البحوث المُتركزة على تفاعل المُمثل الجسدي corporal والحواري verbal الذي ركّز على الهارموني بين الصمت والحركة- في السرد وفي الفعل- وتحوّلاته اللاحقة إلى لا توازن، أو افتراق أو تجاور أو تناقض، أو مُجابهة. إنّ أشكال السرد التي أعرفها والتي طلبتُ من الراوي تشخيصها كانت تتوازن مع البعد التجريدي للمُمثل الجسدي ولا تتوازن أيضا.
فمثلا كان كل صخب الحكواتي التشخيصي يتوازن موضوعيا مع “مينيماليّة” المُمثل الجسدي التجريدية. فالأخير كان يتعامل مع طاقاته الداخلية الباطنية، الجنسانية وعلاقاته الكيمياوية بطريقة لا تضع الجسد في موضع الأداة التعبيرية أو الوسيط بين كودة وأخرى. إنّ طغيان السحرية والجنسية على خشبة المسرح هو المُعادل الموضوعي الذي أردناه للكلام. أمّا تأويل هذه العلاقة فلم يكن تأويلا حرفيا، ولم يأخذ طابعا عدوانيا أو تعليميا، بل طابعا شاعريا ساخرا يسمح للمُشاهد الغربي بالدخول آمنا إلى المادة التي أردنا تقديمها.
***
بعد أن ترحّل الحكواتي في المُدن والقرى، وانفتحت له القلوب والبيوت، وبعد التعامل العضوي مع المواقع اللامسرحية وطاقاتها الخفيّة حصلنا على مفاتيح جديدة لحكاياتنا أغنت وعينا للعرض وأخرجت المُشاهد من معطف المُتلقي السلبي.
كيف اغتنينا؟ كان لا بد لنا في ترحلاتنا أن نكتشف كل موقع للعرض بطريقة تسمح للمشهد المسرحي أن يولد في ذلك الفضاء بطريقة عضوية أو طازجة. ولم نكن مُنفذين سلبيين لما يقترحه المُشاهد/ المُخرج ولم نفرض سُلطتنا المعرفية. بل تعاملنا معه كما يتعامل مُمثل مع مُخرج. فأصغينا ونفذنا واقترحنا وكيّفنا أنفسنا شعارنا هو أنّنا كمثل الماء نأخذ شكل الإناء الذي نوضع فيه. وهذا سمح للعروض أن تكون بكرا في كل مرة رغم أنّها تقدم ذات الحكاية المُعادة.
كيف خرج المُشاهد من معطف التلقي؟
عندما ذهب المسرح خارج مكانه المعهود تولّدت لدى المُتلقي “المضيّف” الذي منح المسرح فضاءاته رغبات في أن يكون خلاقا وأن يلامس دواخل لم يختبرها في ذاته من قبل. وقد لعب المُتلقي يومها دورا أساسيا كسينوغراف ومُخرج مشهدي! أمرٌ ولّد لديه فرحا ودهشة وهو يقرأ فضاءاته الحميمة قراءة جديدة كأن يؤثثها بما لم يفكر به من قبل أو أن يسمح لغريب بدخولها ومُلامستها. أما رغبته بتوزيع العرض ليلائم الفضاء الذي كان في ذهنه فقد دفعته لأن يصبح سينوغرافا، وما ساعده في تحديد الأماكن التي ستجري فيها المشاهد المسرحية هو نحن المُترحلون الذين منحناه باقتناع تام سُلطة المُخرج، أما دراسته لأسباب اختياره فضاءات المشاهد فقد جعله في موقع الدراماتورج.
المُشاهد إذن أصبح مُخرجا وسينوغرافا في عروضنا “بدويون في المدينة”!
طقوس ترحال الحكي:
ليس الكلام شفاهيا فقط. الفضاء شفاهيٌ أيضا!
اعتمدت فلسفة الترحّل لدينا على موضوع أساسي سمّه المقاومة! مقاومة التوطين أو التدجين أو الاحتواء أو الثبات أو التأطّر في مُؤسسة، أو داخل نوع فني، أو مُحدّد ثقافي أو جمالي.
إنّ المُثقف الحر، الذي أفضّل تسميته بالبدوي، يرفض الخضوع لقوانين مفروضة عليه أو تعيق تدفق عمله الإبداعي. لا تفعيلات الشعر ولا تقينات المسرح القابلة للاختفاء أو نوتات المُوسيقى أو إطارات الجنفاص أو زيت اللوحة. البدوي أو المُثقف الحر يعيش كما الطبيعة البكر ولديه إيقاع تلقائي يدفعه للتنقل لا إلى الركون، للحركة لا إلى السكون، للتنوع لا للواحدية، ويدفعه للتشابه كما الاختلاف. وهو بهذه الصفات يتمرد على سكونية المكان الجغرافية أو المعمارية وينتقل من فسحة إلى فسحة أو من واحة إلى أخرى. أحيانا قد يثبت في مكان ما لفترة أو يتوطن بشكل مُؤقت إذا ما وجد شراكات تشدّه إلى مُحيط عابر أو إذا التقى شراكات روحية أو عضوية أو عاطفية أو عقلية. وقد يرتبط أحيانا حتى بالمُؤسسة الرسمية- الجمالية أو المدنية أو الدينية أو السياسية- فيعمل معها، أو بالأحرى يعيش تجربة داخل ذلك الإطار. لكنها في كل حال تجربة مُؤقتة. لأنّه لن يرضخ لوباء التدجين المُؤسساتي. أنت تعرف أن البدو والغجر يجوبون الصحارى ولا يصبحون كائنات مدينية. الترحّل والهيام هي فصيلة دمهم المفقودة في “المُختبرات” الثقافية المُتمدينة. أمّا إقامتهم وثباتهم في مكان أو موقع ما فهو ثبات مُؤقت على الدوام. شكل من أشكال تذوّق الحياة من بعد آخر، أو شكل من أشكال الصمت في مسرح صخبت فيه الصور والخيالات والأصوات.
الحالة البدوية هي حالة حركة جغرافية وجسدية وروحية وطقوسية. بحث دائم في كينونة اللقاء مع الآخر. مع عادات أخرى، ومع أديان أخرى، ومع جنس آخر، ومع فضاءات أخرى ومع مواقع أخرى.
من يبحث في المسرح عن فضاءات لا عرفية للواقعة المسرحية وعن جمهور غير مُستعد وغير راغب في الخضوع لغسيل دماغ الكودات المسرحية الشائعة نطلق عليه اسم “الباحث في الحلقات البديلة أو الطليعية أو التجريبية” وهي حلقات تسمح له أن يحتج وبطرق جذرية على الأشكال والمضامين كما أنّها حلقات ذات أفكار وتساؤلات تخص أساسات العملية الإبداعية ونتائجها. بحيث يستطيع الإنسان- فنان أو مُشاهد- أن يعلن عن موقفه من “الحلقات التقليدية للمسرح”.
يجب أن أسارع هنا بالقول: إن تسميات “تقليدي.. بديل.. طليعي” التي تفرّق بين مدارس واتجاهات الفنون المتنوعة هي تسميات كاريكاتورية إلى حد ما، وتؤكد على التفكير بطريقة الأسود والأبيض الأحادية. إذ من يقرر أن هذه المادة الفنية أو الإنتاج الإبداعي هو أفضل من ذلك الإنتاج؟ ولهذا أرجو أن يفهم استخدامي لهذه التسميات على أنّه تحديد تقني فقط.
إذا ما وضعت فكرة البداوة الجوانية إلى جانب الفكرة الجوانية للمسرح الطليعي والحلقات البديلة للبحث في الفضاء ستصل إلى مُحترف صحراء 93 ومشروع “بدويّون في المدينة”.
الفضاء البدوي:
إلى جانب إنتاجات المُحترف على خشبة المسرح بأشكالها المُعاصرة، بحثنا في فضاءات “لا مسرحية”. في مواقع تسمح لمُختلف أنواع الكودات أن تكون، أو أن تتكون، أو أن تلتقي، وأن تتفاعل. عملنا على خلق مسرح مُتنقل مطواع في الحركة قادر على تكييف نفسه في أيّ موقع ويحاور المُحيط حوارا خلاقا مُنسجما مثل ماء يأخذ لون وشكل الإناء: لونه أزرق أو ضبابي، عميق أو طويل أو قصير، قدحا كان أم كشتبان، سطلا أم كيس نايلون، دمية أم فراش مائي. وبهذه الطريقة عملنا على أن يخلق العرض المسرحي نفسه من جديد في كل موقع مكاني عام أو خاص، جماهيري أو غير جماهيري.
تركّز الموضوع على كيفية التعامل العضوي اللاّ تسلطي مع حيوية أو ديناميكية الفضاء، وديناميكية الجمهور وديناميكية الزمن. وركّزنا على كيفية منح النص مرونة وبلاستيكية في بناء نفسه عبر علاقته مع المُمثل، ومع المُشاهد، ومع الفضاء بحيث تعطى فسحة كبيرة للارتجال في العرض. ارتجال المُشاهد، والفضاء والعارض- مُمثل أو مُوسيقي أو راقص.
يمكن مُقارنة هذا الموضوع مجازا بالجنين في رحم الام.
إذا أراد الجنين أن يسيطر على الفضاء في الرحم ويقرر له ما يجب أن يحدث فهو في الحقيقة يخرّب عملية الحمل بما فيها نموّه وصحته. وإذا جرّب أن يخضع خضوعا مُطلقا لفضاء الرحم عندها سيعيق تطور نفسه الطبيعي إلى طفل ويتقوقع في فجوة ما من الرحم. ولكنه حين يصغي للفضاء “عضويا، نفسيا وغريزيا” فسيفتح الفضاء له أسراره وسينمو الاثنان ليأخذا شكل بعضهما البعض. فالرحم يتسع والجنين يتمدد بمقدار ذلك الاتساع.
في تلك التجارب كانت اسئلة المُحترف تتمحور حول العلاقة بين الفضاء اللاّ مسرحي واللقاء الحميم مع الآخر ومواد عرض المسرحية القابلة للتفكيك.
قدمنا مسرحية “ساعات الصفر” في مهرجان المسرح العالمي في انجلترا عام 1998م الذي نظمته جامعة ويلز في مكتب الملكة المتروك مُنذ أزمان. ولدى دراستنا للفضاء المتروك اكتشفنا أنّه من المُمكن لنا أن نبدو كمُهرجين في حضرة ضيوف سيدخلون لزيارة مكتب الملكة، وتحول العرض إلى رقص وغناء وحكي يريد أن يذكّر المُشاهد بتاريخ ذلك العرش والملكة. ولكن حين قدمنا العرض في المتحف الملكي لوسط إفريقيا Royal Museum for Central Africa في بروكسيل اتفق العارضون على أن يختبأوا في جوف التماثيل أو خلف الأقنعة العملاقة وفي البيوت الصغيرة أو الخيام فبدا وكأنّ التماثيل والأقنعة والبيوت هي التي تحكي وتغني. في جاليري الفنون التشكيلية Zwarte panter صار العارضون شخصيات داخل إطار اللوحات المعروضة في الصالة وكانت لوحات كبيرة جدا.
***
بين الإقامة والترحال تلتقي أصول مسرحية شرقية وغربية. البدو يحطّون في أحد المقاهي. وإذ ما تزال القهوة دافئة، يشرعون في البحث عن نقطة لقاء مع الفضاء الجديد.
“مقهى قطار التمهّل” The train of slowness التي كانت مُلتقى المسرح الڤلاماني الجديد- مُختبر التأليف المسرحي الڤلاماني المُعاصر- في سبعينيات القرن الماضي أصبحت مركز اللقاء.
في ذلك المقهى ستأخذ القصص طابع التأويل.
لن تبقى الأصالة الشرقية أسيرة الطقوس والسياقات الشفاهية فقط. فمن خلال تقسيم العروض الشفاهية إلى عروض في موقعين في آن واحد سيمنحان الشفاهية طاقة جديدة. في الفضاء الأول سيكون هناك حكواتي وفي الآخر سنرى فضاءً يزخر بمُختلف العارضين وبأساليب متنوعة يتعاملون من خلالها مع لغات جسدية متنوعة تسمح للتأويل أن يأخذ مساراته الخاصة: تأويل جسدي للحكايات تجد فيه تشخيصا يعتمد لغة الصم إلى جانب تجريدي يقدم الرقص المُعاصر بالقرب منه حركة عارضة هائلة السمنة والحجم تقدم جماليات “لغة الشحم” وإلى جانبها راقص بوتو يعرّي الروح يقابله مُمثل كوميديا دو لارتى التوازن بتوازنه الخطير وإيماءات مُمثل المايم الجسدي والتأويل البصري لمُهرج سيرك يحاور راقصة شرقية. باختصار مُختلف المدارس الجسدية إلى جوار بعضها البعض وهي تنسجم، وتتماهى، أو تعيق عمل بعضها أو غير ذلك.
يتكون “مقهى القطار العاطل” من طابقين: الأرضي والأوّل.
في الطابق الأرضي ثمة عربة قطار خشبية قديمة سيتم فيها مُقابلة مُختلف الأنظمة المسرحية الجسدية التي أسلفت، حيث يقدم كل نظام تأويله الخاص لحكايات “ساعات الصفر” الشفاهية. في تلك المقطورة القديمة ثمة كابينات مُتقابلة تمنح المُمثل إمكانية التعامل مع المُشاهد باعتباره فردا وليس جماعة، وخارج المقطورة ثمة فضاء مسرحي هو طاولة مشرب طويلة جدا خلفها بائع المشروبات والمُوسيقي، وجزء من عربة القطار.
تستطيع عين المُشاهد أن تركز على مُمثل واحد وأسلوب جسدي واحد كما تستطيع أن تتابع بقية المُمثلين من خلال تليفزيونات صغيرة موضوعة في كل كابينة داخل المقطورة وهي تنقل حينا مشاهد حيّة مما يحدث في الفضاءات الأخرى، وتقدم حينا مُونتاجا بصريا لمُختلف المشاهد، كتعقيب على الحدث الجسدي، أو كنقد ساخر، أو كإضاءة بطريقة تجعل الفضاء المسرحي يضيء الطابع التكنولوجي للقطار العاطل. لا إضاءة سوى إضاءة التليفزيونات أو البروجكتورات التي تعرض مشاهدا مُختلفة.
في الطابق الأوّل ثمّة صالة صغيرة تُقدم فيها الحكايات الشفاهية الطقسية التي يتم فيها التأكيد على أصالة القص الشفاهي وخصائصه الأصلية التي سبق وأن تناولتها. يتم استقبال المُشاهدين في هذا الفضاء كما يحدث ذلك في المضايف العراقية، فيجلسون بدون كراسي في فضاء طقسي، و في حلقة صغيرة مع المُمثلين.
ما يربط كلا الطابقين هو الموضوع الذي يلتقي ويفترق، والمُوسيقى والفيديو. في الاستراحة يتبادل الجمهور المواقع، فمن كان في فضاء الحكواتي يذهب إلى فضاء المسرح الجسدي وبالعكس وهكذا تُعاد الحكايات مرة أخرى.
الموضوع الرئيسي الذي عملناه في “مقهى القطار العاطل” هو التدخل المُباشر في التعامل مع الفضاء اللا مسرحي ومُداخلة الأنظمة الفنية مع بعضها البعض بهدف مُساءلة الأصالة: فهل تزول مدرسة فنية أو نوع فني؟ وهل نحن مُخلصون حين نقول هذا العام: إن طريقة دوكرو تقادمت وفي العام الذي نحتفل بمئويته نقول: إنّه حي؟ المسرح السياسي ميت في هذا الموسم لكنه حيّ في الموسم القادم؟
بيت القصب:
بيد أنّ حلم البدوي لم يتوقف. لقد ولّدت الضيافة التي حصلنا عليها حاجة لردّ كرم الضيافة؟ موقف الشرقي في ردّ الجميل دفعنا إلى التوقف عن الترحال والتفكير بطريقة لاستقبالهم في بيوتنا.
ثمّة حاجة لفضاء ينتمي لنا يدعى إليه أهل البلد أو الوافدين إلى البلد لتبادل العروض معهم بعد أن منحونا إمكانية تقديم تجاربنا: ساعات الصفر، وشجرة الأحزان، والعدّادة.
يومها قرعت طبول الحرب في العراق فأيقظت فينا طريقا آخر!
من أتون التحضيرات لغزو العراق والتناقض المروّع في المواقف من الغزاة انبثقت فكرة مُتناقضة مع نفسها: أن نسمح للآخرين أن يدخلوا بيتنا، دون أن ننسى أنّنا سنصبح مُضيّفين في مكان نحن ضيوف فيه!
فتح كتاب السطور بيته فصار “تكية” تستقبل المُعزّين في مأتم يرحّب بولادة طفل اسمه تفسّخ ذلك الوطن. “المأتم” كانت اسم تلك السلسلة من العروض التي ابتدأت يوم 22 مارس 2003م وتوقفت يوم 30 يونيو من نفس العام. وهي سلسلة عروض يومية تفاعلية انفتحت على كل شيء ولم تقتصر على الأدب والفن فقط.
تعاملت العروض مع فضاءات البيت بكل الطرق المُمكنة. غرف النوم استحالت إلى قاعات كونسرت، صار الحمام صالة عرض سينمائي، المطبخ صار شيئا والحديقة شيئا آخر… إلخ. ردّ الفعل الفني ذلك أوصلنا سريعا إلى فكرة بناء شيء يعود إلى أصالة تراثنا لنفتحه للغرب كمضافة. فبنينا “بيت القصب” وجاء قصاصون، وراقصون، ومُمثلون، ومُوسيقيون وتشكيليون وسينمائيون وشعراء.. إلخ.
عندما بنينا بيت القصب في قلب المركز العالمي للفنون والثقافات “دو سينجل” كان هدفنا موجّها لاستضافة أهل المدينة وتبادل حكاياتنا وحكاياتهم. وحين حلّ فنانو المدينة ضيوفا علينا حصلوا على أولوية تقديم عروضهم وتأويل بيت القصب وما يحيط به جريا على العادات العربية التي تقول: “يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل”.
لم تكن عروض بيت القصب امتدادا فقط “للمأتم” في مهرجان المسرح السنوي البلجيكي الهولندي 2002-2003م. فبيت القصب هو “أقدم نموذج للمعمار المدني في التاريخ”. إنّه أوّل مدرسة في التاريخ، وأول محكمة، وأول مُستشفى، وأول مكان لسرد الحكايات وتبادل الآراء وفضّ الخصومات. وبيت القصب هو ذات البناء الذي ناداه جلجامش والذي محاه صدام حسين يوم جفّف الأهوار. بيت القصب أثر فني بحد ذاته وليس ديكورا لمسرحية. هكذا رأيناه وهكذا أضاءه الآخرون وأعطوه موقعا في قلب مركز الفنون العالمية “دو سينجل” ليكون لقاءً معماريا بين تاريخين يمثلان الأصالة: معمار قديم من القصب، ومبنى يمثل أصالة ما بعد الحداثة.
في باحة المركز استقبلنا الجمهور كما استقبلهم السومريون في المضافات. فقدم الضيوف عروضا من مُختلف الثقافات والاتجاهات، وكيّفوا فضاء البيت في الاتجاه الذي أرادوا، وافترشوا الأرض، أو جلسوا فوق سجاجيد، أو اتكأوا على وسائد أو تمددوا فوق أرائك مغربية… كلّ عرضٍ بما حمل!
هنا تكثيف تطبيقي لأحد عروض بيت القصب وهو مسرحية “العدادة”:
هذه المسرحية هي تأويل للحكواتية النسوية في فضاء رجالي وضعت فيه سريّة الطقوس الأنثوية في علنية طقوس بيت القصب الذكورية وجها لوجه، في تساؤل عن علاقة المكان الذكوري بالحكايات الأنثوية. لهذا جاءت مساءلة المُمثلات للفضاء عضوية وما يناقض العضوية. مُساءلات دفعت ببعض المشاهد أن تخرج من بيت القصب أو أن تقتحمه. أقامت العدّادة لنفسها منبرا على منوال منبر الراوي وقامت بالكثير مما يخالف طقس الحكواتي لاختبار شعور المرأة عند التعامل عضويا مع مثل ذلك الفضاء. تعاملت مع أدوات بيت القصب حينا بطريقة تغريبية وحينا بطريقة عضوية، حينا بسُخرية وحينا باحترام وجديّة. وقد حضر الجنس بقوة في العرض كناية عن اللطم وتمزيق الثياب وكناية عن تحدّي عالم الرجل. بيد أنّ النساء تلفّعن بما يناقض التعرّي وبطريقة أوحت أنهنّ حيوات مُكفّنة تروم تمزيق ما يكبّلها. وقدمت مشاهد ساخرة عن شخصية الرجل بيد أنّها استعارت أسلوب “عرس القاسم” في التعازي. تحوّلت بعض طقوس العدّادة “كالجولة، وهزّ الرأس، ونثر الشعر وغير ذلك” إلى حركة واسعة تخرج من بيت القصب إلى الفضاء الخارجي تمردا على سريّة الطقس النسوي وسجنه خلف الجدران. باختصار استعارت العدّادة الكثير من صفات الحكواتي وأبعدت الكثير من صفات العدادة. أما جمهور العرض فقد كان صنفين: صنف داخل بيت القصب وآخر لم يكن يعرف ما يجري داخل البيت. فكان يسترق السمع ثمّ النظر ليؤثر بمُجريات العرض ويتأثر به.
خارج بيت القصب كانت تقابل عرض العدادة عروض اقترحنا لها تكوينات معمارية تكنولوجية قدمت ذات حكايات العدادة ولكن بتأويلات جسدية وتكنولوجية تؤكد على العلاقة بين خصوصية الفضاء الطقسي والتكنولوجيا من جهة وبين الجسد والتكنولوجيا من جهة ثانية.
في تكوينات زجاجية تشبه كابينات التليفون أعاد فنانون إنتاج الحكايات أثناء تقديمها داخل الفضاء السومري وبتأويلات جسدية “صورية، صوتية” وكانت تنقلها مُختلف وسائل الاتصال.
تسع كابينات وضعت بطريقة عشوائية مُضاءة بطريق متنوعة داخل كلّ منها راوٍ يقصّ الحكايات التي حدثت داخل المضيف بأسلوب تعبيري يبعث في الحكايا حياة جديدة: حكواتي يشخّص بلغة الصم، حكواتي يرقص بشكل تجريدي، حكواتي يشخّص إيمائيا، حكواتي أكروباتيكي، مُهرّج، بوتو، إيماء جسدي، مُوسيقي، تشكيلي.. فكانت أن تحوّلت العروض الحميمة داخل بيت القصب إلى عروض تعهدت التكنولوجيا بخلقها من جديد.
ففي ذات المكان وجدت شاشات سينما تعرض للعابرين ما يجري في الفضاء السومري وفي الكابينات. وكان ثمة فنان يقوم بمُونتاج مُرتجل يقدّم من خلاله عرضه وتأويله الشخصي لما يجري في بيت القصب وكيف يرى ما يحدث في الكابينات.
كما يلاحظ القاريء فتلك كانت خطوة مُؤسسة على مشروع مقهى القطار العاطل.
لقد كان خيارنا هو أسلوب المسرح مُتعدد الأنظمة multidisciplinair الهادف بشكل أساسي إلى اختبار علاقة الأصالة بالتكنولوجيا: أصالة الشرق وأصالة الأنواع الفنية.
فالأصالة محور يجابه العالم الذي يقترح علينا التقليد وإعادة إنتاج أنفسنا على مقاسات الاستهلاك والموضة. والتكنولوجيا كما نرى تنحو إلى الحوار مع أصالة الماضي. إنّنا نرى في التكنولوجيا شخصية مسرحية تفاعلية أكثر منها سينوغرافيا تطوّر المفاهيم السينوغرافية القديمة. فهي أخذت على عاتقها مُجابهة مُختلف المدارس الفنية ووضعها في هارموني، أو في تعارض، أو في توازي، الأمر الذي يضيء كل نوع فني ومدرسة أو اتجاه فني من زاوية نظر جديدة طازجة. بمعنى آخر أنّنا حاولنا أن نسلّط الضوء على كل نظام مسرحي أو فني باعتباره فضاء للتنوع لا فضاء للانغلاق على نفسه. وكان شعارنا: يجب أن يرحل الزمان الذي يشتم فيه ستانسلافسكي مايرخولد، والذي يدير ظهره فيه جروتوفسكي لبريخت، والذي يخاصم فيه المسرح الجسدي مسرح النص، والذي يطرد فيه أتيان دوكرو تلميذه العظيم مارسيل مورسو، والزمان الذي يعرّف المسرح الغربي باعتباره الحقيقة الكبرى في عالم المسرح.
بيت القصب هو الجزء الثاني من “بدويّون في المدينة”. وهو رغبة في الإعلان أنّ الحوار بين الثقافات والأنواع والأجناس مُمكن وهو حوار ليس من طرف واحد ولا حوار تسلّطي.
كونسبت، سينوغرافيا وإخراج: حازم كمال الدين
دراماتورجي: راف فان تويكوم
صانعوا بيت القصب:
كارل ريدرز تمثيل (المدينة)، إعداد وإخراج (الشريفة)
كارلوس تيوس كونسبت، ترجمة وإخراج (المدينة)
إيريك وليامس مهندس تنفيذي
تانيا پوپه إعداد، تمثيل
تينيكه كالس تمثيل
ليزا بويتارت تمثيل
جونيور ميتومبني تمثيل، موسيقى
أسامة عبد الرسول موسيقى
كارولين باسان إعلام
پول دو شييڤره إنتاج
عاتكة ضاري تمثيل
يكايل آرخوس موسيقى
فرانك اولبريختس ترجمة
قدمت عروض بيت القصب في المهرجان المسرحي البلجيكي الهولندي السنوي في المركز العالمي للثقافة deSingel من يوم 29 أغسطس حتى الثامن من سبتمبر 2003م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق