مجلة الفنون المسرحية
كتابة جديدة لحضور متجدد
في هذا البدء الجديد، من هذه الكتابة الجديدة، وفي هذا الزمن الاحتفالي والعيدي الجديد، والذي هو زمن ما بعد مأتمية الجائحة القاتلة، أرى من الضروري أن أقول لكل الناس ما يلي:
إن هذه الاحتفالية، في حضورها البعدي الجديد، والذي دشنته من خلال (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) ترى ضروريا أن تؤكد ـ ومن جديد ـ على روح الاحتفال العيدي، والذي هو روح الاحتفال الصادق، وأن تقول بكل اللغات، الحية كثيرا والحية قليلا: ربنا ما خلقت هذا الاحتفال الجميل، في ملكوتك الجميل، باطلا سبحانك يا الله، ويمكن أن نضيف، بانه ليس بعد ذلك الخوف الذي كان بالأمس، إلا هذا الفرح الممكن، اليوم وغدا وفي كل يوم سوف يأتي.
وهذه الاحتفالية الحية، ولأنها أساسا لحظة إنسانية متحركة، في هذا الزمن الوجودي المتحرك، فهي ترى أن من واجبها أن تحرض الأجساد والأرواح الحية من أجل أن تحيا وجودها، وأن تحضر في كل موعد احتفالي، وأن تصر على الحضور؛ جسدا وروحا، وأن تغيّب الغياب بحضورها، لأن الغياب في المنطق الاحتفالي خيانة وجودية، وأن تواجه الموت أيضا، بالإصرار على الحياة والحيوية وعلى الجديد والتجدد، وأن تسجل هذا العبور الوجودي في لوح الحياة، وأن تكتبه على لوح الأيام والليالي، وأن تحفره في لوح الوجود والموجودات، وهل خلقت هذه الكتابة، إلا من أجل أن تؤكد على الحضور في الغياب، وعلى الحياة في الموت وبعد الموت؟
وهذه الاحتفالية، بفكرها وفنها، وبعلمها وفقهها الوجودي، وبعنفها وعنفوانها، وبقوتها السحرية الناعمة، أيضا، قد حرضت دائما على أن تكون تأسيسا متجددا، وأن تكون نقطة البدء في فعلها التأسيسي هذا، هي نقطة الكتابة الحيوية، وهي كتابة تعشق الحروف، رغم أن عددها محدود، ولكن معانيها لا يمكن أن تحدها الحدود، وهي تؤمن بالمكتوب، أو بـ (المكتاب) كما هو في المعتقد الشعبي، والذي (لا يمحوه ماء) والذي قد ينكتب على جبين الأحياء، حتى (تراه العين) مما يدل على أن هذه الكتابة، في أحد معانيها هي أخت القدر، وقد تكون هي القدر نفسه ونحن لا ندري، أو لا نريد أن ندري، ومنذ أقدم الكتابات في هذا المسرح، وإلى حدود هذا اليوم، كان التساؤل التالي حاضرا، لدى الكتاب والقراء ولدى المتفرجين أيضا، والذي هو:
ــ ألا تكون هذه الحياة، في معناها المضمر والخفي، مجرد مسرحية وجودية مكتوبة بحبر الحياة، مسرحية عاقلة أحيانا، ومجنونة في أغلب الأحيان، وجادة مرة وساخرة في أغلب المرات، مسرحية بحكمة، وأن تلك الحكمة لا يعلمها إلا العالمون من أهل الحكمة والعلم؟
نحن إذن، في هذه المسرحية ـ المسرحيات، ومن حيث ندري أو لا ندري، مجرد حروف انكتبت، والتقت مع بعضها البعض، وتشكلت في كلمات، والتقت الكلمات مع الكلمات، وكونت فيما بينها عبارات لها معنى، وأين هو القارئ الذي يمكن أن يستخرج المعنى من المعنى، ويمكن أن يستخرج المعنى من بطن المبنى؟
وإن نفس هذه الاحتفالية، هي التي تستكتبنا اليوم لنكتب لها وعنها كتابة أخرى جديدة ومتجددة، كتابة صادقة ترضي الحق، وترضي الحقيقة، والتي قد تغضب بعض الناس وبعض الجهات، ولكنها أبدا لا يمكن أن تغضب الحق والحقيقة، أو أن تخون الفن الجميل والنبيل في أي شيء
كتابة حرة لإنسان متحرر
وهذه الاحتفالية، بفنها وفكرها وعلمها، هي التي (تلزمنا) بأن تكون هذه الكتابة ـ كتابتنا ـ فيها وعنها، مختلفة ومخالفة، وأن تكون دوما بأعمار وبحالات وبمقامات جديدة ومتجددة، شكلا ومضمونا، وأن تكون حية وصادقة وشفافة وعنيفة وصادمة وواضحة وفاضحة وسحرية وشعرية وحقيقية وحيوية وزئبقية ومسئولة دائما، وأن تكون مثيرة ومدهشة، وأن تصل بالإنجاز الأدبي والفكري والجمالي فيها إلى درجة الإعجاز، وأن تكون قريبة جدا من هموم واهتمامات الناس، وأن تعيد صياغة كل تلك الأسئلة الحقيقة (القديمة) والتي قد يحدث أن ننساها، أو نتناساها، أو نتحاشاها، أو نقفز عليها، أو نهربها إلى مناطق الظل والنسيان، كما (تلزمنا) هذه الكتابة، بأن نشتغل على المسائل الوجودية والاجتماعية والفكرية والعلمية والجمالية والأخلاقية الحقيقة، وألا ننشغل بالمسائل البسيطة والسطحية والهامشية والصغيرة والعرضية عن المسائل المركبة والمعقدة والأساسية والحيوية في الحياة اليومية.
وهذه الاحتفالية، هي وحدها التي حرضتنا دائما على أن نكون صوت الحق والحقيقة، وعلى أن نكون صوت الصدق والمصداقية، وعلى أن نكون صوت الجمال والجمالية، وليس صوت أي صنم من الأصنام البشرية، أو صوت أية جهة من الجهات النافذة، وهذه الكتابة، المشاغبة في الحق وبالحق، هي التي أوحت لنا بأن نكتب المعاني الجميلة بعبارات جميلة، وأن نقول في هذه الكتابة كل ما نشاء نحن، وليس ما تشاء أية سلطة خارجية، والتي قد تكون أحيانا كتابة أخرى نابعة من نفس جنس الكتابة التي نكتبها، ولكنها كتابة بحرس وعسس ودرك وجمارك، ولها معابد وكهنة، ولها تعاليم وطقوس لا يخرج عنها إلا هالك وابن هالك، ونعرف أن هذه الكتابة الاحتفالية هي أساسا حرية وتحرر، وبغير هذا فإنه لا وجود لشيء يمكن أن نسميه الاحتفالية أو المسرح الاحتفالي، وفي بياناتها التأسيسية الأولى عرفت هذه الاحتفالية نفسها بأنها (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر) وبأنها لا يمكن أن تخرج في مسرحها وفكرها عن ذلك المثلث الذي تمثله (إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة)
والإنسانية، في المفهوم الاحتفالي، تفيد ما يقابل الوحشية، وهي درجة عليا في العقلانية وفي الإبداع الفكري والجمالي، وفي السمو الأخلاقي، وفي العلاقات الإنسانية السليمة، أما الحيوية فهي التي تقابل الآلية، وهي تفيد معنى أن يكون الإنسان روحا وخيالا قبل كل شيء، وأن يكون وجدانا ونفسا أيضا، وأن يكون في عصر الآلة والآلية حياة وحيوية، وليس مجرد لولب في ماكينة المجتمع، وأن يكون حرية ومسئولية قبل كل شيء، أما المدينة والمدنية فهما يفيدان ما يقابل الغاب وشريعة الغاب، وما يفيد العمران البشري قبل العمران الحجري – نسبة إلى الحجارة – أولا، أي إلى الناس الأحياء قبل الإسمنت وقبل الحجارة.
وتؤكد الاحتفالية على أنه لا يكفي أن يكون التعبير الاحتفالي تعبيرا حرا، إذا لم تساهم هذه الاحتفالية مساهمة جادة في إيجاد فنون وآداب وعلوم أخرى جديدة وحرة ومستقلة، لأن التعبير المقصود هو تعبير عن الامتلاء وليس عن الفراغ، وعن الوجود وليس عن العدم، وعن الحقيقة وليس عن الزيف، وعن الممكن وليس عن المحال، ونحن بالتأكيد، في هذه الكتابة الاحتفالية نكتب ما نشاء كما نشاء، ونقول ما نريد كما نريد، ونحن بهذا ضد المدرسية، بكل مقرراتها الجاهزة وبكل دروسها القبلية، ونحن أيضا ضد الاتباعية المذهبية، بشعاراتها وإملاءاتها الميكانيكية، ونحن ضد التكرار والاجترار، في الكتابة والقراءة معا، ونحن ضد الصنمية السياسية، بكل زعاماتها الكاذبة، ونحن ضد الوثنية الإبداعية، والتي تعطي القيمة للأجساد التي بلا قيمة حقيقية، ونحن نؤكد دائما، في كل أدبياتنا، على أن تكون مرجعيات هذه الكتابة موجودة بداخلها وليس خارجها، وهي بهذا كتابة جديدة ومتجددة دائما، لأنها تبدأ فعل وجودها في الوجود من ذاتها الجديدة تحديدا، أي من نقطة الصفر في الكتابة، وليس مما انتهت إليه الكتابات الأخرى، وذلك في الأمكنة الأخرى، وفي الأزمنة الأخرى، وفي الثقافات واللغات الأخرى، وهي بهذا كتابة ضد النموذج الفكري والأدبي والجمالي الجاهز، وهي ضد القوالب القديمة والبالية أيضا، والتي يمكن أن نصب فيها الأفكار والحالات والمعاني والتصورات الجديدة، والتي لا يمكن أن تكون جديدة، بشكل حقيقي، وذلك مع وجود القوالب القديمة، ومع وجود القواعد البالية، ومع وجود التعليمات الخارجية والفوقية، وبهذا فإن ما يكتبه الاحتفالي ليس بالضرورة مسرحية، وذلك بالمعنى الشائع والمعروف والمتعارف عليه، وليس ملزما بأن يكون ما يكتبه الاحتفالي نصا مسرحيا، وذلك بمواصفات مدرسية متعارف عليها، وعليه، فإن ظلال النص وأصباغ النص وحدود النص الثابتة لا تعني بالنسبة للاحتفالي أي شيء، وبالتالي فهي لا يمكن أن تؤسس نصا مسرحيا حقيقيا جديدا، والذي هو أساسا روح وجسد، وأنه حالات ومواقف، وأنه أحلام وتصورات، وأنه فرضيات ونبوءات، وليس مجرد شكل في الكتابة، أو مجرد بنيات أساسها الحروف والكلمات والعبارات والحوارات وليس أي شيء آخر.
والكاتب الاحتفالي لا ينطلق من فراغ، وهو يبدع ما يبدعه من داخل ثقافة معينة ومحددة، أو من داخل ثقافات متعددة ومتنوعة، والتي هي الثقافة العربية والثقافة الأمازيغية والثقافة الأفريقية والثقافة الموريسكية والثقافة المتوسطية، ونحن بهذا نكتب نصنا المسرحي انطلاقا من موروثاتنا الرسمية والشعبية، وانطلاقا من ذاكرتنا الجمعية، وانطلاقا من وجداننا الشعبي العام، ونحن نبدع ما نبدعه من مسرحيات أو احتفالات مسرحية انطلاقا مما يختزنه وعينا ولا وعينا من صور ومن شهادات ومشاهدات ومن تخيلات ومن تمثلات ومن حكايات ومرويات ومن أمثال وحكم بعدد لا يحصى.
ولقد حرص الاحتفالي دائما من أجل أن تكون (الكتابة المسرحية جزء أساسيا من كتاباتنا الأدبية ـ الشعرية والنثرية ـ وأن يكون لها انتماء حقيقي إلى أساليب هذه الكتابة وتقنيتها ومناهجها ومصادرها الكبرى، والتي يأتي القرآن الكريم على رأسها ، وأن تجعل من المسرح ـ البناية شيئا شبيها بالمساجد والصوامع والجوامع والبيوت والمقاهي والأسواق والحمامات والأبواب التاريخية، وبذلك يهتدي هذا المسرح إلى هندسته المعمارية وإلى ألوانه وأثاثه وملحقاته وأشكاله، وإلى آلياته التقنية) هذا ما كتبه الاحتفالي في بحث أعطاه عنوان ( المسرح والأعياد الشعبية وحدود الاختلاف والهوية) والذي قدمه ضمن فعاليات ملتقى عمان الثقافي الثامن ـ دورة العقبة 9 ـ 11 ـ 1999.
جديد الكتابة وتجديد القراءة
في كتاب (اعترافات الحكواتي الجديد) والذي صدر من مدينة ابركان، ضمن منشورات ديهية، يقول الاحتفالي متحدثا عن الكتابة والكتاب (وهكذا هم معشر الكتاب دائما، واحد فيهم مجنون جدا، وآخر عاقل اكثر مما بلزم، وواحد ثالث بينهما، لا هو عاقل تماما، ولا هو مجنون بشكل كامل، وهذا عندي، هو أسوأ كل الكتاب، لأنه لا يشقى بالفكر الشاق، ولا ينعم بنعمة الجنون الخلاق.
أما أنا، بين كل قبائل الكتاب وعشائرهم من أكون؟
ذلك هو السؤال – المسألة، فهل انا صاحب فهَم ومعرفة، ام صاحب قلب ووجدان؟
هل أنا كاتب عمومي يكتب رسائل الناس؟
أم انني رسول يحمل للناس رسالة الحياة، وياتيهم برسائل الوجود؟)
لقد كان ذلك الاحتفالي الذي يسكنني وأسكنه، وعلى امتداد عقود طويلة جدا،على وعي تام بأن فعله في الكتابة وحده يظل ناقصا وغير مكتمل، وبأنه لا أحد في الوجود يمكن أن يكتب وحده كتابة حقيقية وتامة وشاملة ونهائية، ولقد كتبت، أنا الاحتفالي، كل ذلك الذي كتبت، وكنت دائما مقتنعا بأن هناك أياد كثيرة خفية، غير يدي، تكتب معي، وبأن أسعد كل السعداء هو من يكتب معه روح المكان، وهو من يكتب معه روح الزمن، وهو من روح التاريخ، ولأنني كائن ثقافي،، ولأنني صوت واحد، في مجتمع متعدد الأصوات، فقد اقتنعت دائما بما يقول الناس في بلدي، من واحد من الناس يحسب وحده، لا بد أن يكون حسابه خاطئا ومغلوطا، وبأن أي فعل، إن لم يكن تفاعلا، ولم يكن مقتسما ومشتركا مع الآخر، فإنه لا معنى له ولا قيمة له ولا مصداقية له، ولقد أكدت دائما، في كل بياناتي ومسرحياتي، على القناعة الأساسية التالية، وهي أن أية كتابة أكتبها أنا الكاتب الآنـ هنا/ لا يمكن أن تكتمل إلا بقراءة ذلك الآخر الموجود هناك، في المكان الآخر وفي الزمن الآخر وفى الثقافات الأخرى وفي اللغات الأخرى، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفالية، والتي هي بحث صادق عن المجتمع الآخر الصادق، تؤكد دائما على النحن الصادقة وعلى النحنية السعيدة، وذلك في مقابل الأنا المغلقة، وفي مقابل الأنانية التعيسة، وتؤكد الاحتفالية أن الكائنات الحية تحيا داخل مناخ واحد مشترك ومقتسم، وعلى أن الاحتفال المسرحي هو طقس قبل كل شيء، وعلى أن هذا الطقس المسرحي هو طقس جماعي جماعي، وعلى أن الفرح فيه هو فرح جماعي، وعلى أن الضحك فيه هو ضحك جماعي، ولعل هذا هو ما يجعل فعل تجديد الكتابة فعلا ناقصا، وذلك عندما يكون فعل كتابة فقط، من غير أن يكون فعل قراءة جديدة ومجدة ومتجددة أيضا، وبخصوص هذا المعنى قال الاحتفالي في كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة) الكتاب الأول ما يلي ( إن تجديد المسرح ـ ككتابة أو كتابات ـ لابد أن يصطدم بالآخر القارئ، لأجل هذا كان ضروريا أن نقول (إن الكتابة الجديدة تتطلب بالضرورة قراءة جديدة) ولهذا ركزت الاحتفالية على تأسيس مستقبلي، وعلى أن تكون كتاباتها متجهة بالأساس لهذا القارئ).
تأسيس الكتابة وكتابة التأسيس
وذلك التأسيس المستقبلي، للكتابة والقراءة معا، والذي بدأناه في السبعينات من القرن الماضي مازال متواصلا لحد هذا اليوم، ومازال البحث مستمرا فيه من أجل لإيجاد الكاتب الآخر، ومعه إيجاد الكتابة الأخرى، ولإيجاد القارئ الآخر، ومعه إيجاد القراءة الأخرى.
(المسرح يبدأ بالكتابة، وما كان قبل هذه الكتابة، في تاريخ المسرح، قد كان تمرينا على حب الكتابة، وكان عشقا للكتابة، وما يبدأ بفعل هذه الكتابة لا يمكن أن ينتهي بالكتابة، لأنها النواة التي تخبئ داخلها حياة المسرح، وتخفي فيها مستقبله، ومعرف أن تاريخ المسرح كله هو تاريخ الكتابة، ولولا هذا النص المختبئ في جسد هذه الكتابة، فهل كان من الممكن أن نتحدث اليوم عن المسرح اليوناني وعن المسرح الروماني وعن المسرح الكلاسيكي، وعن كل المسارح التي عبرت في التاريخ؟ وعليه، فمن الضروري أن نؤكد على الحقيقة البسيطة والأساسية التالية، وهي أن هذا المسرح العربي، اليوم وغدا، لا يمكن أن يكون له وجود حقيقي إلا بوجود نص مسرحي حقيقي، نص له كيانه، وله هويته، وله لغته، وله بلاغته، وله مناخه، وله طقسه، وله أسئلته وقضاياه، وله جمالياته، وأن يكون بهذا قوة اقتراحية، وذلك لتأسيس عروض مسرحي آنيا ومستقبليا.
إن هذا الزمن اليوم، هو زمن الأكل السريع، وهو زمن أخذ الطريق السريع، وهو زمن الافتتان بالأشياء الصغيرة والتافهة، والتي قد لا يكون لها أي معنى، وهو زمن يراهن على استعمال الأشياء في لحظتها، ثم المرور إلى غيرها، وليس هذا هو حال المسرح في معناه الحقيقي، والذي هو فكر وعلم وفن وصناعة دقيقة وخطيرة جدا.
ثم إن المسرح أساسا هو المواجهة، وهو التحدي، وهو الفعل والتفاعل وليس الانفعال السلبي، الآني والعابر، وهو لقاء مخرج قارئ، لنص مسرحي مكتوب بشكل مخكم، والعرض المسرحي هو نتيجة هذه المواجهة ـ التحدي، وأغلب المخرجين لا يقدرون اليوم على هذا الفعل الخلاق، ولهذا نجدهم يكتفون باللا نصوص، أو بما يشبه النصوص، أو بالنصوص بعد الإعداد أو بعد التكييف، أو بعد التقطيع أو إلى ما يسميه البعض إعادة الكتابة، وهل من مهام المخرج أن يكون مخرجا كاملا وحقيقيا، أو أن يكون فقط شبه كاتب أو نصف كاتب؟)
ولعل أسوأ شيء، بالنسبة للكاتب المسرحي دائما، هو أن يكتب هو نصه بلغة جادة وجديدة رصينة، وأن يقرأها القارئ الآخر، بلغة أخرى مخالفة ومناقضة، وأن يكتب هو تراجيديا مسرحية، ليجدها لدى ذلك القارئ المخرج مجرد كوميديا هزلية، أو العكس، وفي هذا المعنى يمكن أن أذكر بواحدة من مسرحياتي، والتي هي مسرحية (قراقوش الكبير) والتي كتبت وقدمت في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وأخرجها إبراهيم وردة في المسرح الطلائعي بمدينة الدار البيضاء ولقد قدمت في مهرجان دمشق للمسرح العربي، ولقد وضعت لهذه المسرحية الاحتفال عنوانا تعريفيا يقول (قراقوش الكبير) احتفال مسرحي شبه جاد، ولقد كان من سوء حظ هذه المسرحية، والتي هي (شبه جادة) أن (كل الذين حاولوا قراءتها، سواء من المسرحيين أو من النقاد، أو من الباحثين الأكاديميين، أو من الجمهور المسرحي، قد قرءوها قراءة جادة جدا، وذلك لحد التجهم والتزمت، وبذلك فقد ضيّعوا جوهر هذا الاحتفال المسرحي، وفاتهم أن يدركوا حقيقته (الكراكوزية) أو (القره قوزية) الموغلة في الإغراب والتغريب وفي الجنون والإدهاش).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق