تصنيفات مسرحية

الخميس، 23 مارس 2023

ثنائية الملحمي والدرامي في ضيم زيدون داخل

مجلة الفنون المسرحية


ثنائية الملحمي والدرامي في ضيم زيدون داخل

يوسف السياف 

ما يتعذر تنضيــــره ينبغي ســــرده جملة للمفكر والفيلسوف الايطالي (أمبرت إيكو) تقدمت مقالتي النقدية عن عرض مسرحية (ضيم) للمخرج (زيدون داخل), اعتكزت فلسفة العرض على الحركة التعاونية أو النقابية (الآناركية) اللا سلطوية, بأسلوب احتجاجي للبوح المفرط لمكنونات الذات العراقية وفق معالجة اخراجية متذبذبة, فما العناصر المادية المتمثلة بمجموعة من المؤدين تنسلخ من بينهم شخصيتين رئيستين تحملان ثقل الاداء, الجميع يتواجد بزمكان يسع الوجع العراقي لاسيما حقبة ما بعد (2003م), إذ يحاولوا كفرقة تقديم عرض مسرحي وسط بيئة تكبح جماح الحرية والابداع والجمال, بيئة غير مؤهلة ومهيئة لطرح الإسالة والعيش بكرامة وبث الوعي والمفاهيم الحق, مجتمع متمأسّس ضمن عرض مفترض, فما يحمله خطاب العرض من ظلال متجانسة وتضاد للهيمنة والبحث عن الحقيقة وقمع للوجود الاجتماعي والذات الانسانية من خلال اللعب على المفهوم الغروتسكي, والاحتجاج, والكولاج, والتغريب, والتحريض, والنقد؛ وانطلاقاً من عتبة العنوان (للفرقة وللعرض)(ونين / ضيم) بمجرد المرور على هاتين الكلمتين سندخل ببنية تواصلية (سيميائية) لا تبدوا كأنها اعتباطية بل العكس قد اخذت مكان الهدف انطلاقاً من (نظرية المعنى المقصود), (ضيم) دالة قصدية وعلامة ارجاعية. ولكون العنوان بطبيعته دال على العمل بذاته فهو مرسلة صادرة من مرسل الى مُرسل اليه, وهذا ما يجعلنا نضع العنوان تحت مادتي (الــعنا / والعنن) كونه يحمل معاني (الوسم) و(الأثر), ونـــــــــــــين (حسين نعمة / يا حريمة) ونين (داخل حسن/ يميه يا يمه) ونين (منضفر النواب/ حن وانا حن) ونين (نصر حكيم/ لو عاشرتهم) ونين (حسين الهلالي/ بروايته درب الحطابات, واركلوجيته للموروث الشعبي وارجاع الونين للحضارة السومرية), ونـــــــــــين باحه المخرج عبر (ضيم) في عرضً (كُلاني) بني على مشاهد فاقدة لخط الفعل الرئيس والحدث الاعلى بقصدية نتيجة التماسف البرختي, وطغيان الانفرادات الغنائية التي اجد انها قد شوهت جنسه العرض لكثرتها, عرض مسرحي اشبه بالذاكرة الدفترية انطلاقاً من صوت الونين اثناء دخول الجمهور وضيم المجموعة مروراً بالتقديم وصولاً الى اللوحة الاولى (الإستسلام) وديالكتيكية الفعل الانهزامي وتوارثه رغم انقلاب الفعل في المشاهد اللاحقة وثورة ابطال العرض على المفاهيم الخاطئة, وتأييداً لطروحات (المجموعة) الجيل الشبابي الثوري الرافض لفعل الاستسلام منذ الوهلة الاولى لضهورهم على خشبة المسرح ومحاكات وجعهم وضيم حياتهم بفواصل تخللت المشاهد الرئيسة للعرض وتداخلهم مع بعض المشاهد الاخرى بطريقة تقترب للنمطية. اذ انه لا يمكن تخيل عرض دون معنى كامل ووحدة معينة بين الدال والمدلول, بدايتين للعرض ونهايتين له ايضا, فعل ديالكتيكي بامتياز. 
النص المسرحي الدرامي المعاصر باعتباره رقاً ممسوح, يعد نص هذا العرض من النصوص الباليـــــمبستية, اي النصوص التي تعتمد على إعادة كتابة النصوص ووضعها في سياقاتها اللغوية والثقافية, بحيث يكون النص الورقي ممسوحاً وباهتاً, إذ سمح (المخرج) بإصدار نص جديد مع بقايا بعض الشظايا من النصوص الاصل مرئية, الا ان إبتعاد الارتباط الجزئي بالمتن الحكائي وتشظي الفعل في العرض يدعونا لطرح الأسالة, (هل ننظر الى النص المسرحي على إنه خطاباً جمالياً ايديولوجياً؟, أم إنه تجربة تاريخية؟, ام تصوراً مثالياً خالي من الخطاب؟, ام وصفاً إثنوغرافياً؟, ام نسيجاً كولاجياً متداخلاً, أم تمثلاً ثقافياً), ومتى ما تُدرك تلك الاشارات ستتعدد القراءات ويتضاعف ويكتنف المعنى وفقِ حجاب لوغوسي وخمار تجريبي, لاسيما وان انتماء النصوص الدرامية الحديثة لمفهوم التمثل الثقافي, اذ ان النظر الى النص المسرحي الدرامي على انه خطابا ثقافيا يشاكس الخطاب اليومي ويتمرد عليه يعد منطلق اليوم رغم تذبذبه بعيداً عن تمأسس الفكر, انطلاقا من موت القيم الجمالية مقابل الوظيفة الثقافية والايديولوجية, الا ان المبالغة في قوة الدفع الذاتي للظاهرة بهذا العرض واسلوب المخرج وتعامله مع الموجودات هو ما جعلنا نرى العرض على هذا النحو وفق تشظي هارمونية الحركة والإشارة واللون الادائي, وفتور التشكيل الجماعي وضياع الوجود الحقيقي لها رغم امكانيتهم الادائية العالية, وهاذا ما اعوزه لانخراط المخرج بادوار من المفترض ان لا يأخذها لا سيما التمثيل, ولكون اعتماد المخرج على المنهج الـبرختي وهيكلية المشهد داخل مشهد جعلت العملية الاخراجية تنحاز للمنحى (كُلّاني) يأخذ العرض باتجاه الذاكرة الدفترية (تصفح البوم الصور), رغم تحقيق ماهوية المخرج بهذه الفوارز وباغلب تجاربه. وما نجده بالخطاب السردي للعرض باعتبار حثا تواصلياً قد شاكس المفهوم, كان غني بالمقاصد والجزئيات المؤثرة بالمتلقي من خلال خلق البدائل وشيوع السخرية وتجاوز المألوف واحادية المعنى وارتداء التفكيك والمصادفة, والركون الى المعاني التداولية الجدلية والعلاقات الداخلية والخارجية, والاحتفاء بالمهلهل والهمش. 
الا ان ما ينذر بالخطر وقوع العرض بفردانية المعالجة ووحدانية الرؤية كونه قد شوهد بعين واحدة من قبل اهم ثلاثة مفاصل للعرض (المؤلف المخرج الممثل) لذات الشخص, (فهل الهروب من تبني النص المسرحية واللجوء الى التوليف من دون الاستعانة بمختص هو سبب عدم تلبية النصوص المسرحية العربية لرؤية وروحية المخرج؟ ام ان هنالك بون ما بين الثيم الاجتماعية والنصوص المسرحية العربية), الا ان ردم النص كسلطة وادراجه ضمن التنميط الدرامي الملحمي ومسايرة الحدث لذات الشخص ووحدانية الطرح تنعكس سلباً وتُسكِنُ الخطاب الفكري والجمالي وتدخله ضمن الايقونة, وهذا ما نلتمسه في هذا العرض, وللبوح عن ازمة ثانية سننطلق من زاوية التمثيل (هل هنالك شحة بالممثلين او عدم الايمان بإمكانيتهم يجعل المخرج يأخذ دوره الحقيقي ودور غيره في العرض المسرحي؟).

انطلق مخرج العرض وفق عوالم احتكرت ثيمة الاقصاء والتهميش وفق ايقونة ـ(تماسفية) لخلق صراع بين شخوص العرض خارج اللعب الادائي وبين الشخوص المفترضة ضمن خطاب العرض, وبين الشخصيات المستحضرة ذهنياً كـ(المؤلف_ المؤلفة/ المخرج/ مدير المسرح) وهم شخوص مطروحة ضمن خطاب العرض ذاته لاستثمار كسر الايهام بالاعتماد على تغيير سير الحدث الفرعي بمشهدية ديالكتيكية تتخللها فواصل سمعبصرية او غنائية, فبوجود (المجموعة) وهم ينتقلون بأدائهم بين ثيمة واخرى يتحقق التغريب ونمطية المنهج (الـبرختي), انطلاقا من سماع الجمهور للغناء الريفي اثناء دخولهم ومروراً بقراءة بيانات الفرقة والعرض والتعريف بهم من قبل مقدم ومقدمة يرتدون ازياء عربية. وهذا ما يحسب لطالح العرض في بدء اللعبة المسرحية منذ الوهلة الاولى لدخول الجمهور والعمل على اشراك الجميع ضمن الحدث.
الممثل بوصفه علامة ميتاتياترية وايقونة: شكل المثلين في العرض علامة ميتاتياترية من حيث المهنة في اطارها العام, فالاداء المجسد للدور بوصفه وظيفة وعمل واصفاً لابعاد الشخصية وكاسراً الايهام الا انه ليس بهدف الأداء التمثيلي فقط بل بهدف الاداء الوصفي الخارجي للفعل الذي شُرحه له, الا ان استعارة هذا الفعل الـ(برختي) والتجريب عليه ميز شخوص العرض ومؤديه واعطاهم لوناً مميزاً عن بقية الاعمال المسرحية الأخرى, وهنا تتحقق هوية العرض وبصمة (المخرج المؤلف الممثل) لا سيما في اللعب على مفهوم المشهد داخل مشهد والانتقال ما بين التقديم والتمثيل والاداء, اذ برع المجموعة بردم الفراغات ما بين لوحة واخرى الا ان تكوينهم وفق تشكيل جمالي كان يحتاج الى ضبط عالي في التشكيل وتاثيث الفضاء, ولكون المخرج قد تعمق في اظهار ونين الانسان العراقي والتشبع به والوقوف على ضيمه والرسوب في كوامنه واغواره وتفهم رقائق وفوارز مدركاته حاول استغلال امكانية (الممثل) الصوتية, فقدم لنا عدة الوان من قبل مؤدين ابهرونا بغنائهم, اذ نجد ان صوت الشاب (             ) وانفراداته بالغناء قد اطرب الجمهور وساهم في وصف الانين, ولم يكن وحدة من اطرب الجمهور بل نجد هنالك شخص اخر قد تفرد باجادته لغناء الاطوار الريفية العراقية, إذ يمكن ان نطلق على الممثل (ضياء الشطري) بـ(بلبل المهرجان), ويمكن ان نضعه في خانة الممثل الشامل الذي يجيد الغناء والتمثيل, لا سيما وانه في هذا العرض وكما عهدناه سابقاً قد تمكن من تقديم اطواراً غنائية عديدة كالشطراوي وغيره, فقد حاول المخرج مسرحة الغناء الطربي من خلال منح الحرية الكافية للمثل بتفجير طاقته الصوتية الرهيبة ومحاولة الاخير بتقديم (النعاوي الجنوبية) لا سيما الطور الريفي (السوكاوي), ونفرداته بالتجريب على (طور الشطيت) لمبتكره المطرب (خضير حسن مفطورة) الذي مزج ما بين مرجعياته الأنثروبولوجية بهذا الطور كونه من اصول كردية وتلاقح ثقافته مع الجنوب كونه سكن مدينة (الناصرية), فمزج اللون الشمالي ونعاوي الجنوبي, وعلى الرغم من تقليد هذه التجربة من قبل الكثير إلَّا ان (ضياء) قد جرب على هذا الطور من خلال مسرحته واعطائه النكهة الجنوبية وبحة الشطرة, بالإضافة الى اجادته للاطوار الاخرى, وهذا ما يعطي للعرض هويته الجنوبية, وخصيصة تختلف عن بقية العروض الأخرى وتميزه. ان تضافر المسرح والغناء وتناظر الاداء والتمثيل والتقديم كتشكيل وتيامن المسموع بالمنطوق والمنظور حقق متعة الفرجة وبهجة التلقي, رغم اعتراضي على استنفاذ الصوت الغنائي, الا اني لا يمكن ان اجزم بابتعاد العرض المسرحي من طابعه الطقسي الدرامي وركونه نحو المباشرة والسطحية, فهنالك من الوعي في اللعب على الطابع السياسي والتوغل بمنطقة الايهام وكسر الايهام والمفارقة جعل من هذا العرض ذات طابع كوميدي, فقد برع (زيدون داخل) بأداء دور الممثل في نفس الفرقة وهو يحاول تقديم عرض مسرحي, فتارة نجده خارج منظومة العرض المسرحي وتارة اخرى نجده محورا رائسا فيها, لا سيما وانه ينتقل ما بين تبني مشهد ورفض مشهد اخر, فلقد ثار على شكل وطبيعة العرض المسرحي من حلقة كبيرة وثار على بعض المشاهد الاليمة داخل العرض من حلقة اصغر, الا ان ارتجالية (داخل) وفطرته الكوميدية الساخرة وطبيعة ادائه للدور قد طغت على كفة الاخراج وهيمنت على العناصر المحيطة به, فلقد كان ممثلاً مقبول بنسبة عالية من قبل الجمهور, فمن خلال قدرته ولونه الادائي وطبيعة اللعب على الشخصية ادخلت العرض المسرحي بمنطقة الانتقاد لكل ماهو غير سوي والاحتجاج على المفاهيم والاضرس الخاطئة داخل المجتمع والفرقة ذاتها وحتى الجمهور.
لم يعتمد (المخرج) على التكوينات التشكيلية الضخمة لقطع الديكور سينوغرافيا, بل اعتمد على بعض التفاصيل كـ(المرحاض الغربي) و(صينية لتقديم الطعام), وبعض الكرات الصغيرة, ومجموعة من الاوراق, وبرشاقة السينوغرافيا وخلوها من الكتل الضخمة والاعتماد على بولفونية الصوت البشري مع الموسيقا المسجلة بالإضافة الى العزف الحي على خشبة المسرح, يجعلنا نتسأل عن سبب توظيف المخرج لبعض المقطوعات الموسيقية الاجنبية المسموعة والمتداولة رغم اعتماده في اغلب التفاصيل السينوغرافية على الهوية العراقية, اذ اجد انها قد كانت دخيلة على العرض, في حين لايمكننا ان نستفهم عن توظيف (المرحاض الغربي) من الجانب الجمالي والفكري, فلقد اراد المخرج ان يدين اولائك المحسوبين على جنس البشر ولكنهم وحوش في افعالهم وسلوكهم لا يهمهم سوى الطعام والتغوط. اذ سعى من خلال تقسيمه للمسرح لأربعة مناطق مختلفة في الغاية والاشتغال الى ترجمة رؤيته الاخراجية, فقد افترض خشبة المسرح على انها مسرح داخل العرض ذاته, تجرى عليه تمارين الفرقة المفترضة ضمن الخطاب, يحط تلك الخشبة مكان للموسيقيين والمطربين ومكان اخر للحمامات, فقد استغل المخرج اسفل يمين المسرح من خلال افراضه مكان لعازف العود والمطرب, اما اسفل يسار المسرح فقد افترضه مكان للرجل البدين الغير سوي, في حين نجد ان بقية مناطق المسرح قد استغلها بوجود الممثلين وحركاتهم, في حين نجد ان الجمهور قد اعتبره مكان مفترض اخر حاول اختراقه في بعض المشاهد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق