مجلة الفنون المسرحية
حين أصدر فنان الشعب القدير محسن العزاوي المخرج المسرحي الذي لا يشق له غبار مذكراته (الرهان على الزمان) مع عنوان فرعي دال (سيرة ذاتية بفصول ومشاهد عن حياة الفنان محسن العزاوي)، وقد كان لي شرف الكتابة عنها من قبل، ليمسرح سيرته الإبداعية (مذكراته) في سياق لم نألفه في السير الذاتية التي سردها أقرانه من مبدعي المسرح العراقي والعربي، التي أكتملت فصولها برحيله المؤلم في السابع من آيار / مايو 2023، عن عمر ناهز الأربعة والثمانين عاماً، والتي أكد في مقدمتها " الذي سيقرأ ولو القليل من مذكراتي سيتأكد من أن الفنان لا يخلق مصادفة والذين أدركوا قيمة الحياة فترجموها بفنهم إلى حقائقهم هم الباقون برغم غيابهم.."
نعم ..يا أبا سنان وسامان ..أيها الفنان الأصيل، الشامل، اللامع، الفاعل، القائد، المعطاء، ستظل باقياً في فضاءات الإبداع عراقياً وعربياً، برغم غيابك الموجع الذي لن يمحو سفرك الإبداعي الرصين الذي تجوهر في ثنايا الفن العراقي بتمظهراته المتنوعة، التي امتطيت صهواتها وكنت فارسها بلا منازع ..
على أديم (سومر) حيث مهد أولى الحضارات الإنسانية التي علمت البشرية أبجدية العلم والنور والمعرفة التي أبصرتها وورثت جيناتها بوعي تبلور منذ نعومة أظافرك وأنت لم تزل طالباً في الابتدائية تتهجى الشعر بل تتلوه على مسامع أقرانك، كل خميس، بطلب من معلمك الجليل (عبد الرحمن (والد الفنانة سناء عبد الرحمن) الذي زرع فيك بذرة الفن، أليس الشعر هو المبتدأ؟ وهو بذرة كل الفنون، وأولها (فن المسرح)، فجعلك ذلك المشاكس المبدع الذي برع في صناعة (سينما الدربونة)، على بدائيتها، ومن خلال صندوق خشبي كما كان متعارفاً في تلك الأيام، لتعبر عن هوسك بالفنون.
لقد توفرت للعزاوي فرصة الإسهام في جرد مكتبة الناصرية ليطلع ويقرأ مؤلفات عدة عملت على تشكيل ذائقته الثقافية، وحين دعي للعب دور فتاة في مسرحية قدمتها فرقة مصرية زارت الناصرية آنذاك، كان محل تقدير واعجاب الفرقة التي أشاد فنانونها بأدائه وتقمصه لهذه الشخصية بنجاح، فنمت لديه بذرة الفن، موهبة فنية صقلها بإصرار في معهد الفنون الجميلة..
ومن يومها أصبح محسن العزاوي عاشقاً للفن عامة ففي المعهد تتلمذ على أيادي نخبة من عمالقة المسرح العراقي، ومن ثم حصل على زمالة فدرس في جامعة الدراما في كلية الفنون الدرامية في جيكوسلوفاكيا، ولتميزه آنذاك دعي من المسرح القومي الجيكي للعمل مساعد مخرج في مسرحية (البطة البرية) لهنريك إبسن, فنبغ حينها في فن الإخراج المسرحي الذي أصبح فيما بعد من أساطينه بحصيلة وافرة من المسرحيات المحلية والعربية والأجنبية.
بعد سوقه إلى الخدمة العسكرية أحيل للخدمة في المسرح العسكري الى جانب الفنانين: جواد الشكرجي ومحمود أبو العباس وطه علوان ومكي عواد، وعمل مدرساً لمادة التمثيل ونظريات موسيقى في معهد الفنون الجميلة بالعاصمة بغداد، وقدّم خلال الستينيات العديد من الأعمال، التي ساهمت بتكريس حداثة المسرح العراقي إلى جانب أسماء مثل: جاسم العبودي، وإبراهيم جلال، وسامي عبد الجميد، وجعفر السعدي، وبدري حسون فريد، وسعدون العبيدي، وغيرهم...حيث ينتمي العزاوي إلى الجيل الالثاني من المسرحيين العراقيين، الذين قدّموا تجارب اتسمت بالحرفية وتنوّع الأساليب الإخراجية بعد عودتهم من الدراسة في عدد من الأكاديميات الغربية. ..بدأ الراحل مشواره بإخراج مسرحية حملت عنوان (زنزازنة رقم 16) عام 1958.
كان العزاوي يمتلك إضافة الى قدراته الإخراجية صفات قيادية مؤثرة فعمل وتدرج في مواقع المسؤولية بنجاح واقتدار في دائرة السينما والمسرح، وكان مديراً للفرقة القومية للتمثيل ومن ثم مديراً للمسارح وتعاون مع رفيق دربه الفنان القدير قاسم الملاك على تحقيق مواسم مسرحية داخل وخارج العاصمة بغداد، فضلاً عن تأسيس فروع للفرقة القومية للتمثيل في عدد من المحافظات العراقية المهمة في محافظات كربلاء والبصرة واربيل والموصل والنجف وبابل وغيرها، وعمل على استقطاب أجيال من المسرحيين فيها وأقام أول مهرجان لمسرح المحافظات بدورات عدة لفرق المحافظات، وكان لي شرف العمل بمعيتهما طوال مسيرتهما الرائدة في الفرقة القومية للتمثيل ومديرية المسارح من خلال عملي مسؤولاً لإعلام الدائرة طوال أربعة عقود، ولي من الذكريات الجميلة معهما حين رافقتهما في الاسبوع الثقافي الناجح في كل من المغرب وتونس آب عام 1980 الذي ضم أساطين وعمالقة المسرح العراقي بلغ عددهم 150 فناناً وفنانة وتم فيهما عرض مسرحية مجالس التراث بإخراج العزاوي عن نص للمعلم قاسم محمد.
واصل العزاوي برغم التزاماته الادارية إخراج عدد وافر من المسرحيات المهمة والناجحة واستقطابه لنخبة من أبرز الكتاب والمخرجين والفنانين، وتولى مسؤولية شركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وإلى جانب ذلك، شارك العزاوي في التمثيل في أكثر من عشرين مسلسلاً تلفزيونياً، والعديد من الأفلام السينمائية العراقية.
وفي ضوء تجاربه الواسعة والنوعية والمتنوعة كان للكتاب والتأليف حصة وافرة من تأليفه، ففي العام 2017، أصدر كتابه (الرهان على الزمان.. سيرة ذاتية بفصول ومشاهد عن حياة الفنان محسن العزاوي)، الذي تناول فيه تجربته الإخراجية في خمس وستين مسرحية وشهادات عدد من صنّاع المسرح العراقي فيها، كما يروي تفاصيل ذكرياته بين الناصرية وبغداد وبراغ، وحياته المهنية مديراً لعدد من المؤسسات والفرق المسرحية وشركات الإنتاج المسرحي والدرامي، كما أصدر أيضاً العديد من الكتب النقدية من بينها: دراسة في التجريب في المسرح العربي، من الحكواتي إلى تكنولوجيا العرض، ترويج المسرح كمنتج ضروري في نظام العولمة، إشكالية السينوغرافيا في المسرح، المسرح وعلاقاته المجتمعية، المسرح الأردني: البدايات والآفاق، دور المرأة في المسرح العراقي، فنون المونودراما، دور المجاميع في المسرح.
إن رحيل فنان الشعب القدير المخرج الكبير محسن العزاوي يشكل خسارة فادحة وكبيرة للثقافة العراقية وللمسرحيين العراقيين والعرب، والذي صال وجال بإبداعاته داخل وخارج الوطن التي لم ولن تنساها الأجيال، وستظل راسخة في ذاكرة الأجيال والمبدعين الذين خرجوا من معطفه وساروا ومازالوا على هداه من أجل مسرح عراقي أصيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق