تعد خشبة "المسرح" الأداة الفاعلة في بناء الجوانب الفكرية والثقافية والنفسية، للأجيال الجديدة، وتنمية قدراتهم على التفكير والنقد، وتهذيب سلوكهم المجتمعي، ومزجهم بالأطر العامة للعادات والتقاليد المحيطة.
وفي إطار "معركة الوعي" التي يتبناها النظام المصري، تم مؤخراً تدشين مبادرة إحياء نشاط "المسرح المدرسي"، في محاولة لإعادة الاعتبار لمكانته ودوره في إثراء الحياة الفنية والثقافية، وذلك بالتعاون بين وزارتي التربية والتعليم، والثقافة، ومجموعة قنوات "مدرستنا"، والشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.
الجانب الأكثر أهمية في مبادرة إحياء نشاط "المسرح المدرسي"، تتمثل في قدرته على وقف التمدد الفكري والتنظيمي للجماعات المتطرفة، التي استحوذت على العملية التعليمية على مدار سنوات طويلة، ووضعت استراتيجيتها في اختراق المجتمع من طريق القطاع التعليمي، من تأسيس المدارس الخاصة، وبناء المراكز التعلمية الشعبية.
قننت جماعة "الإخوان المسلمين"، تحديداً، خشبة المسرح الفني، ترويجاً لأهدافها ومنطلقاتها الفكرية، بين الأوساط الطالبية اعتماداً على بناء "المسرح الموازي"، واستغلال تهميش مكانته من قبل المسؤولين عن العملية التعليمية في الحكومة المصرية، لا سيما خلال مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.
شمولية فنون "المسرح" وتنوعها، ما بين الخطابة والإلقاء والاستماع، والتعبيرات الشفهية والكتابية والحركية، ووصفه بـ"أبو الفنون" ومقدرته البالغة في التأثير والإدراك، جعلته في مقدم الأدوات التي اعتمدتها جماعة "الإخوان" عملياً في الاستقطاب المجتمعي، وإنتاج ما عرف بـ"المسرح الإسلامي"، أو "الفن البديل"، رغم تطاولهم الدائم على الأعمال الفنية والدرامية.
اعتبرت جماعة "الإخوان" فن "المسرح" طريقاً مهماً في التعبئة الجماهيرية، ووضعت بين هيكلها التنظيمي لجاناً فنية وفرقاً مسرحية، مثلما بينت وثيقة "دليل العمل الطالبي الثانوي" التي أشارت إلى أهمية "المسرح" في تشكيل وعي الأوساط الطالبية، وقد كتب سطورها القيادي الإخواني مصطفى الطحان وأصدرتها "دار الوفاء" للطباعة والنشر تحت عنوان "اتحاد المنظمات الطالبية الدولية"، كدليل للمساهمة في تبادل الخبرات بين كوادر العمل الطالبي.
حوّلت جماعة "الإخوان" الشقق السكانية ومقرات النقابات المهنية والجمعيات الخيرية والمراكز والمدارس الخاصة التابعة لها، إلى ساحات لممارسة النشاط المسرحي، سعياً إلى تحقيق الاستقطاب والتجنيد التنظيمي وتأهيل النماذج الطالبية، وفقاً لمعطياتها الفكرية والحركية، وتمهيداً لبناء دوائر شبابية تدعم توجهاتها السياسية والتنظيمية.
النشاط المسرحي لدى جماعة "الإخوان"، مر بحالة من الإزدهار في أربعينات القرن الماضي، ثم سقط بسقوطها خلال المرحلة الناصرية، ثم عاد للظهور في شكل إرهاصات متباينة بين الأنشطة الطالبية، في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حتى تمتع بقدر من النضوج الفني الموجه في منتصف التسعينات، في ظل سيطرتها على النقابات المهنية ومنصاتها الفنية.
توظيف جماعة "الإخوان" فنون "المسرح" خرج عن إطار الرسالة الفنية، إلى المضامين السياسية والفكرية، لصناعة صورة تبرز اضطهاد قيادات الجماعة، وعرقلة مسيرتها الدعوية، ومخاطبة قواعدها التنظيمية، و"دوائر الربط العام"، المتعاطفة والمتأثرة بالأصولية الإسلاموية في المجتمعات العربية.
من قبيل التدليس والخداع، أبرزت مسرحية "المحاكمة"، الإخوانية، الحصار الفكري للجماعة وسجن قياداتها، مدعية تعنت الأنظمة السياسية ضد وجودها، متناسية عملها المستمر على اختراق مؤسسات الدولة، تحقيقاً لمشروع "التمكين"، والوصول إلى رأس السلطة.
سرديات المسرحية "الإخوانية" تنقلت بين مشاهدها على نهج من التضليل الفكري والسياسي، وصولاً للنهاية التي تنقلب فيها الأوضاع، وتقيم محاكمها لرموز النظام السياسي، وتتحكم في مقدرات الدولة وتوجهاتها، بعد سطوها على السلطة.
وفي أوائل عام 2007، عرضت جماعة "الإخوان" مسرحية "الشفرة"، التي أثارت جدلاً واسعاً، على منصة إحدى النقابات المهنية، وأعقبتها بمسرحية "ثمن الحرية"، متناولة دور التنظيم وجناحه المسلح حركة "حماس"، في القضية الفلسطينية.
بينما تضمنت مسرحية "الفراعنة وصلوا"، عدداً هائلاً من الإسقاطات السياسية، التي عملت الجماعة على توصيلها لأتباعها، زاعمة تكاتف الأنماط والأنظمة السياسية في محاربة مقاصدها، على اعتبارها أنها الممثل الرسمي للدين، في إطار تجسيد الصراع التاريخي، بين نبي الله موسى و"آل فرعون".
وفي محاولة تخدير عقول وانفعالات قواعدها التنظيمية، جسدت مسرحية "عالم وطاغية" التي كتبها يوسف القرضاوي عام 1954، متناولاً ظلم الحجاج بن يوسف الثقفي للعالم التابعي سعيد بن جبير، ومشبِهاً الوقائع التاريخية للجماعة بمشاهد قصته، معتبراً زعماً أن منهج الابتلاء والمحن، يشكل ركناً أساسياً في طريق تحقيق الجماعة لأهدافها.
في حين فضحت مسرحية "شقلبة"، التي عرضتها نهاية تسعينات القرن الماضي، عملياً المنهج الحركي والتنظيمي للجماعة، ومشروعها "الانقلابي" في الإطاحة بالأنظمة الحاكمة، معتبرة أن طموحها ليس مقتصراً على دولة واحدة بعينها، لكنه شامل لمختلف شعوب المنطقة العربية، وفقاً لنظرية "أستاذية العالم"، التي وضعتها الرسائل الفكرية لمؤسس الجماعة.
لم تنسَ جماعة "الإخوان"، في إطار استغلالها لخشبة "المسرح"، التأكيد على تقديس قياداتها، وإبراز دورهم التاريخي والفكري والحركي في بناء هيكلها التنظيمي، واتسع نطاق رقعتها الجغرافية، من خلال مسرحية "كفر الشرفا"، التي تناولت بدقة جوانب الملامح الرئيسية لشخصية حسن البنا.
تأييدها وحياً ونصراً على خصومها، مثلت الرسالة الأولى في مضامين النصوص المسرحية التي عرضتها الجماعة، أمام متلقيها ومشاهديها، فضلاً عن تعميقها وترسيخها لمفاهيم السمع والطاعة، وتقديس قيادتها والثقة فيها، لا سيما أن ما قدمته من فنون المسرح، ليس انتصاراً للإبداع الفني، وإنما تزييفاً للوقائع وخداعاً لمريديها.
مسرحيات أخرى تناولت الإطلالات الموجهة نفسها، والنهايات الدرامية المتعمدة، مثل: "أولاد الأبالسة"، و"مدينة بلا حدود"، و"أحكي يا درة"، و"أهل الكهف"، "وأصحاب الأخدود"، و"الوصية"، والتي تعد في مجملها نصوصاً مسرحية قائمة على أحادية التحليل للروايات السياسية والأحداث الزمنية.
نأمل بأن تمثل مبادرة إحياء "المسرح المدرسي"، صمام أمان، أمام تغلغل نشاط "الدولة الموازية"، التي منحت الجماعات الأصولية تاريخياً مساحة لتمرير مشروعها الفكري، فضلاً عن الخلاص من قبضتها وهيمنتها على العقل الجمعي للشارع المصري، ووقف محاولاتها المستميتة في العودة للمشهد.
------------------------------------------
المصدر : "النهار" العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق