مجلة الفنون المسرحية
شخصيات المسرحية:
_ سفيان
_ ابن حزم
_ أبو بكر القرطبي (صديق ابن حزم)
_ ابن شهيد (كاتب وشاعر أندلسي)
_ ابن عبادة (وشّاح أندلسي)
_ الخدم والجواري
_ بعض الضيوف
(الـيـــــوم الأول صباح)
لَعَمرُكَ مَا الأيَّــــامُ إلَّا مُعَارَةٌ
فَمَا اسطَــــعتَ مِنــهَا فَــتَزَوَّدِ
ليلة من ليالي الصيف الصاخبة، وجد سفيان نفسه أمام لوحة إشهارية كبيرة، تومض بألوان مثيرة تروّج لنوع جديد من السجائر، تغمزه وتدعوه لتجريبها، الناس حوله في ذهاب وجيئة..
سفيان: (يلتفت وراءه غير مصدق) من؟ أتحدثينني؟
اللوحة: (تخرج يدها) نعم هاك جرّب هذه، خذ لن تندم.
سفيان: (في ذهول مستمر، ينظر للمارة غير المكثرتين) لكن كيف...
اللوحة: (تقاطعه) لا تتعب نفسك بمحاولة الفهم، خذ جربها ولتشكرني فيما بعد.
سفيان: (يحدث نفسه في تردّد) غير معقول لا بد أنها الكاميرا الخفية، حافظ على هدوئك وشغل ذكاءك حتى لا يجعلوا منك أضحوكة، لكن لماذا لا أتحايل عليهم وأصطادهم أنا في النهاية وأقايضهم على ثمن بث الحلقة؟
(يمدّ يده وما ان أخذ السيجارة حتى اشتعلت من تلقاء نفسها، يحمس نفسه، يأخذ نفسا أوّلا يحس معه بانتشاء لم يستطع معه مقاومة أخذ نفس آخر، يطبق عينيه مستمتعا بالثالث، ولما فتحهما وجد نفسه صباحا أمام تمثال عظيم لطائر العنقاء على شكل نافورة، ينساب منها ماء رقراق..
يلتفت يمينا: امتداد لحدائق عجيبة لا متناهية، يسارا: قصر من الزمن الجميل)
الحارس: (يصرخ مشهرا سيفه) أنت هناك، ماذا تفعل عندك وكيف وصلت الى هنا؟
أحد الخدم: شكله غريب! لابد أنه افرنجي انظروا لملابسه! ويله على هذا السروال الفاضح وترجيلة
شعره العجيبة.
الجارية: (تنتبه صدفة وتخفي وجهها بوشاحها خجلا) سأذهب لإخبار البقية.
الحارس: (ينادي بعض الجند) تعالوا اقبضوا على هذا الغريب.
ابن حزم: ما هذه الجلبة؟ ما الأمر؟
الحارس: سيدي وجدنا هذا الغريب متخف بالحديقة، وينتظر الفرصة للتسلسل الى القصر.
أبو بكر القرطبي: كيف تجرّأت يا هذا؟ تحدّث من أنت؟
سفيان: (مشوش ومشتّت الذهن) أنا...أنا...
وجدتني في هذا المكان وأنا نفسي لا أدري كيف انتهى بي الأمر هنا، أظنني أحلم وسأستيقظ
حالا أمهلوني لحظات فقط.
تذكّر يا سفيان تذكّر أين كنت بالأمس (بصوت مسموع) هيا تذكّر..
(كمن أصيب بصعق كهربائي) أيعقل أن يكون كل هذا من فعل تلك السيجارة؟
(ضاحكا ضاربا كفّا بكف) نعم نعم، هي تلك السيجارة الملعونة.. قهوة.. أحتاج لقهوة فقط
وستعود الأمور كما كانت.
لا لا آه كم أنا غبي، انتظروا لقد كشفتكم منذ البداية أوقفوا التصوير، لم تنطل علّي حيلتكم، كنت أعلم أنها الكاميرا الخفية منذ البداية، لابد أنكم خدّرتموني من خلال تلك السيجارة وجئتم بي الى هنا، أعجبتني أزيائكم رائعة أتقنتم المشهد، برافو يا جماعة، لكني من النوع الصعب اصطياده.
أحسنتم شباب، يمكنني أن أعيد الدور وأوهم الجمهور بوقوعي في الفخ، لكني سأطلب مقابلا ماليا من أجل ذلك.
أبو بكر القرطبي: بأي لسان ينطق هذا الشيء، يتكلم كثيرا وسريعا، كذلك الطائر الثرثار الذي جلبه ابن اسحاق من رحلته الأخيرة، سنحتاج معه لترجمان.
ابن حزم: ألا ترى أنه يتحدّث بلسان عربي وأن اسمه سفيان، أتوقع من ظاهره أنه افرنجي أسلم وتعلّم كلامنا، من واجبنا استقباله والترحيب به كما يليق.
(البقية ما تزال تنظر إليه باستغراب)
حيّيت يا أخي على رسلك، ولا تقلق أنت بين أهلك هنا.
سفيان: قلت لكم يكفي، أين المخرج؟ أريد أن أغادر هذا المكان.
ابن حزم: (متوجها للحراس والخدم) هيّا انصرفوا الى شؤونكم سأتولى الأمر.
(يقترب من سفيان ويأخذه من بين ذراعه) قلت أن اسمك سفيان أليس كذلك؟
سفيان: نعم (في توجس)
ابن حزم: لا تقلق سنعيدك حيث تريد، لا شك أنك تهت وأنت تتجول بالأنحاء، من أين جئت؟
سفيان: من المغرب.
أبو بكر القرطبي: المغرب الأقصى؟ لذا لكنته غريبة؟
ولكن أنا أعرفهم قوم حشمة وعلم، مررت بالقيروان قبل خمسة أعوام، ولم يكن لباسهم هكذا!
كيف تدخله على أهل بيتك بهيئته هذه؟ سرواله الملتصق وقميصه الذي يكشف نصف صدره؟
بالله عليك يا أبا محمد.
ابن حزم: (غير آبه بكلام صديقه) دعنا نستضيفك أولا، ونسألك عن أحوالك وأحوال اخواننا بالمغرب الأقصى وسبب قدومك الى الأندلس ثم نعيدك سالما حيثما تشاء.
سفيان: الأندلس؟ أين أنا ومن أنت؟
ابن حزم: أنت بقرطبة وأنا أبو محمد ابن حزم وزير المعتد بالله مرحبا بك في الزاهرة.
صديق ابن حزم: إذا كان صاحبك مصابا بالعتّه فسيكون أحسن تفسير لحالته.. أما إذا كان أحمقا فالويل لنا، فأنا ممن يؤمنون بأن الحمق معدٍ.
ابن حزم: كفاك يا أبا بكر، قلت لك مرارا ان تتعقل في إطلاق أحكامك ...
سفيان: قرطبة؟ الأندلس؟ ابن حزم؟ لا تقل لي صاحب طوق الحمامة؟
صديق ابن حزم: أبشر يا أبا محمد صيتك ضرب الأرض مشرقا ومغربا.
ابن حزم: (في غبطة) هو ذاته، اطلعت على الرسالة؟ أدخلت السرور على قلبي والله.
تعال لابد أنك منهك، سندخلك كي تستريح قليلا ونتشارك الطعام، جهز نفسك فأنت مدعو لسمر مع الرفقة في المساء.. فرصة كي أستفسرك عن بعض المسائل ورأي الأعلام فيها عندكم.
(يختفي الجميع باتجاه القصر وتهدأ الأمور خارجه)
ذات الــيـــوم
أرَى العَيـــشَ كَنــــزًا نَاقِــــصًا كُـــــلَّ لَيلَـــــةٍ وَمَــا تَنْقُـــــصِ الأيَّـــــامُ وَالدَّهْـــــــرُ يَنْـــــفَــــذِ
الخـــادم: تفضل سيدي الحمام جاهز، أنا في خدمتك.
سفيان: أشكرك، يمكنك انتظاري خارجا، سأناديك ان احتجتك.
الخادم: بأمرك سيدي.
سفيان: (مسترخ داخل حوض رخامي عريض ساخن، يتفحص بعينيه السقف الذي اتخذ شكل قبة
عالية مزخرفة، فتحات زجاجية ملونة في كل جانب، البلاط والأعمدة فخمة البناء...
وهو بالكاد يمنع نفسه من دندنة بعض الألحان)
الآن فقط أتمنى أن تدوم لحظات الاستمتاع هذه، حقيقة أجهل تماما كيف حدث كل هذا، وليس لدي
تفسير معقول لكل هذه الأحداث، لكني متأكد أن الأمر أبعد من مجرد كاميرا خفية، يا لها من
ورطة يا سفيان، كيف ستكون النهاية؟ وماذا بعد؟
(يعود للاستحمام) لكن لم لا تجاري الأمور؟ أين ستجد كل هذا الاهتمام والبغددة؟
لطالما تساءلت عن حقيقة الترف والبدخ الذي كنت تسمعه في الحكايا، وقرأته في كتب التاريخ
وها أنت اليوم تشهده عيانا، وستعيشه بكامل تفاصيله.
لا تكن غبيا وتعاكس حظك، جاري اللعبة فقط واغتنم الفرصة لن تخسر شيئا؟
ماذا تخشى؟ السجن، الموت، اللاعودة!!
وما الجديد في ذلك، أنت شخص ضائع أصلا، ميّت يهيم على وجهه ليس له من الحياة سوى الهواء الذي يتنفسه، أم تراك ألفت العيش داخل ذلك النفق الذي لا أمل في بلوغ نهايته، ثم ان افترضنا أنك في كابوس أو فخ ما أو ضحية انتقام قد ينتهي بهلاكك، فلم لا تدخل هذه المغامرة بنية الفوز والاستمتاع؟ حتى لو قُدّر ومُت في الآخر تَمُت هانئا وقد حققت ما لم تكن تحلم به..
سلّم نفسك وعيش لك سويعات قبل أن يزول هذا السحر وتجد نفسك وسط العفونة من جديد.
(بعد خروجه من الحمام تقدم له الجارية كأس شراب بارد، وتضع أمامه طبقا من شتّى أصناف الفاكهة، يتقدم نحوه الخادم)
الخادم: سيدي لقد جهزت لك حلّتك لليلة، سأساعدك على ارتدائها حالما تكون مستعدا.
(ينتبه سفيان لثوب فاخر، قرمزي اللون، تعبُره خطوط ذهبية، بجانبه عمامة تبعث على الهيبة ونعلا جلديا ذكّره بمنتوجات الصناعة التقليدية ببلدته)
سفيان: يا له من ثوب فخم يا.. لم تذكر لي اسمك؟
الخادم: سلمان سيدي.
سفيان: شكرا لك على الملابس، جميلة مع أني سأجد غرابة في ارتدائها.
الخادم: هدية سيدي ابن حزم، انها حلّة من رداء وازار من اليوسفي الفاخر..
لا يرتديها سوى علّية القوم، عليكم بالعافية، في خدمتك (يلقي التحية ويخرج)
ذات الـيـــوم مساء
لَعَـــمْرُكَ مـــا أمْــرِي عَلَـــيَّ بِغُمَّـــةٍ
نَــهَارِي وَلَا لَيْــــلِــي عَلَــــيَّ بِـــسَــرْمَـــــدِ
رائحة الطيب المنبعثة من المباخر، تعبق الأجواء وتكاد تحجب الرؤية، الخدم يملؤون المكان، مجموعة من أخص أصدقاء ابن حزم يتسامرون..
أحد الحاضرين: نحن بانتظار ضيفك الذي شوقتنا للتعرف عليه الليلة يا أبا محمد.
أبو بكر القرطبي: (بصوت خافت) ضيف شؤم والعياذ بالله.
ابن حزم: وسّع صدرك يا أبا بكر، لا أحب ان أرى هذا منك.
(يطلب من أحد الخدم الذهاب لدعوته للحضور، لكنه يظهر فجأة من بعيد)
سفيان: مساء سعيد جميعا.
ابن حزم: والله ما كنت لأعرفك لو لم تتكلم..
ما رأيك يا أبا بكر الآن!
سعيد الليلة أشد ما سعادة، فلِجَمعنا اليوم رونق خاص، فقد اجتمع فيه ما تفرّق في غيره،
أقطاب العلم والفقه والأدب والموسيقى، أود أن أعرفكم على سفيان، ضيفنا من المغرب الأقصى
(يخاطب سفيان) لم أسألك من أين تحديدا؟
سفيان: من سلا.
ابن حزم: والنعم مقرّ الصالحين وأكابر العلماء.
أحب أن أعرفك على صاحب أُكن له مودة خاصة، أبو عامر، شيخي الكبير ابن شهيد، شَرّفنا بحضوره بيننا وأنتم تعلمون تنكُّبه عن المجالس والظهور في العامة، نشكره على تكبّده عناء الرحلة، حمّلتني جميلا سأذكره ما حييت.
ابن شهيد: مكانتك في قلبي عظيمة وأنت تدري، كما كنت مشتاقا لمجالستك، والتداول معك في بعض المسائل.
سفيان: درست في مدرسة ابن شهيد في المرحلة الابتدائية وكنت أجهل من تكون، مسرور لأني تعرفت عليك شحما ولحما.
ابن حزم: اسمعت يا أبا عامر لا يجاز الطلبة في بلاد المغرب الا إذا أخذوا من علومك..
ابن شهيد: والله سرّني ما سمعت، لم أكن لأحسب ذلك، وليس بغريب على أهل المغرب، رجالات علم وأرضُ غَضَارة بارك الله فيهم.
ابن حزم: اسمحوا لي أعرفكم أيضا على محمد بن عبادة ضيفنا من طليطلة، شاعر يحمل سمات الاجادة والتمكن رغم حداثة سنه، أتنبأ له بشأو عظيم في الشعر والأدب (يشير اليه)، وشّاح له صنعة خاصة.
سفيان: (مقاطعا) لا شك في ذلك، فلم أر قبل اليوم أجمل من عباءته (الكل يضحك)، لابد أنه يصنع أوشحة رائعة.
ابن حزم: (ضاحكا) كم تحب المزاح، نعم يصنع ان شئت، موشحات بديعة، شعره رقيق وألفاظه رشيقة تنساب كماء الذهب.
سفيان: (مستدركا) آآآه موشحات أحفظ بعضا منها (يبدأ في الانشاد مع الحرص على التزام اللحن الموسيقي)
أيهــا السـاقي اليك المشتــكى قـد دعوناك وان لـــم تسمــع
ونديـــم هِمـــتُ فــي غُرّتـه
وبِشُرب الرّاحِ من رَاحـــَته
كُلّمـــا استيْقَظَ مـــن سَكـرَته
جَــذَب الزِّق الـــيْهِ واتّـــكَا وسَقَاني أرْبعاً في أربَعا
مــا لعَيْني عشِيَتْ بالــــنّظَر
أنكرَتْ بعْدَك ضوء القَـــمَر
وإذا ما شِئْتَ فاسمع خبري
عشيَتْ عيَني من طولِ البُكا وبَكى بعضي على بَعضي معي
(كمن يحدث نفسه) آه عاد بي هذا الموشح لذكريات جميلة، البركة في الحفلات المدرسية.
(يسود صمت طفيف ثم يبدأ الجميع بالتهليل والتصفيق لسفيان)
ضيف1: أحسنت لم أسمع أعذب من هذا قط.
ضيف2: أمتعتنا والله.. إلينا بقطعة أخرى أطربنا..
ضيف3: ووضعت لموشحتك لحنا رائعا لم يسبق لي أن سمعت مثل هذا الايقاع، أنا من المهتمين بعلم الغناء وأود إن تفضلت علّي، أن أتتلمذ على يديك، أرجوك لا تغادرنا قبل أن تمنحني من معرفتك.
ضيف4: لم نكن نحسب أن أهل المغرب قد بلغوا كل هذا الجمال في التوشيح، أبهرتنا أكمل نظمك وإنشادك، ثم يا محلاها لو نسمعها معزوفة، لم لا تحاول توزيع الأنغام على الآلات.
ابن حزم: على رسلكم عليه يا جماعة، ترفّق بنا يا سفيان، أرى أن فنونك وعلومك عديدة يا صاحبي، أتمنى ألا تبخل علينا.
ما رأيكم لو طلبنا من بن عبادة أن يسمعنا شيئا.
بن عبادة: ماذا عساي أن أنظم بعد ما أتحفنا به سفيان، أجد شعري رضيعا لا حيلة له بين حجريه.
سفيان: العفو منك صديقي، لكل صنعته الخاصة وأسلوبه المعبر عنه، هيّا تفضل.
بن عبادة:
بأبــي ظبـــــي حمـــــــى تَكنُفُـــه أسْــدُ غـــيلْ
مــذْهبـــي رَشْــــف لَمى قَرْقــفُهُ ســـلْسبيــــل
يــسْـتبــي قَـلبــي بِــــما يَـــعـطفُه إذ يـــــميل
ذو فــــتور ذو غَـــــنج ذو مـــرْشف ألْـــعَس
كـــم يـثيــر وجد شـــج بالدّنــــف مُكتـــســي
فالوصــال مــا قد خــلا من أمــــل فـــــايــتِ
والخــــيال مــا قد علا من نــفسٍ خـــــافــت
قــــاتلــي أهِـــنْ دمـــا من قد غـــدا مُـلحــدا
واصـــلي كنتَ فـــمـا عـمّــا بــدا قــدْ عَـــدا
الحضور: (بعد أن أنهى موشحته)
- أحسنت يا ابن عبادة.
- ألفاظ رشيقة وبناء محكم.
- سلمت يا ابن طليطلة.
- هيّا يا سفيان اسمعنا من شعرك.
ابن شهيد: نود أن نسمعك ثانية أدري أن بجعبتك الكثير.
سفيان: حسنا، تحضرني قطعة وددت من خلالها تحيّة الأندلس وأهلها، وضعت لها موسيقى أرجو أن
تنال إعجابكم.
(يهمس لنفسه) سامحني الله.
(يواصل كلامه) سأحاول أن أجعلها في أكمل حلّة من أجل مجلسكم فقط.
أمهلوني لحظات سأوزع أولا أنغامها.. وآمل أن تروقكم النتيجة.
(بعد لحظات يأخذ سفيان مكانه ويستعد للإنشاد.. يعود الصمت للمجلس وتبدأ الموسيقى)
جـــادك الغيث إذا الغيث هَـــمـى يـــا زمـــان الوصــل بالأندلس
لـم يـــكـن وصــــلك الا حــلــما فـي الـكرى أو خلسة المخـتلس
في لـيال ٍ كــتَمَـتْ سِـــرّ الهوى بالدّجـــى لولا شُـموس الغُــرر
مــال نجم الكَـأس فـيها وهـوى مستقــيم السّـيـر سَعْـــد الأثَـــر
يا أهَـيل الحيّ من وادي الغضا وبقلــــبـي مســـكن أنتـم بــــهِ
ضـاق وجدي بكم رحب الفَضا لا أبــالـي شَـرقـــه مـن غربــه
(الى نهاية الموشح)
الحضور: (في عجز عن التعبير)
- غاية في الروعة..
- ما هذا الجمال تسلم يا سفيان..
- والله مفاجأتك الليلة لن تنسى أبدا..
ابن حزم: سلبت ألبابنا والله، لم تخب فراستي فيك.
أبو بكر القرطبي: (بنبرة فيها الكثير من الحنق) أ لن ننتهي من هذا التهليل، وننتقل لأمر آخر سينقضي عمر جمعنا في تطبيل أجوف و...
ابن حزم: (يقاطعه كي لا يتمادى في كلامه غير اللائق) أود أن نفترص نهزة تواجدك معنا لنسألك عن شخص ذاع صيته هذه الأيام بين الفقهاء المتكلمين، وهو الشيخ المكي، يقال إنه فقيه جليل يجلس بين يديه العلماء من كل صوب وناحية، ومع الأسف لم تصلنا منه سوى رسائل معدودة
آخرها في ...
سفيان: (يقاطعه) حتّى أنتم وصلكم خبر الفقيه المكي؟ لا أشك في ذلك فصيته انتشر حتى في البلاد الأجنبية وأصبح مطلوبا هناك.
ابن حزم: ما شاء الله، بارك الله فيه.
سفيان: قدرته على معالجة أخبث الأمراض بالماء فقط، صنفت ضمن معجزات القرن و احتار فيها أبرع الأطباء وعلماء الفيزياء.
الجمع: (بصوت واحد) ما شاء الله.
ابن حزم: هكذا هم الصلحاء يخصهم الله بكرامات وفضائل فريدة.
سفيان: عجيب أمره، أن يتمكن المرء من معالجة الناس بلمسة يد أو جرعة ماء، الجميع مشغول بسرّ هذه الطاقة الخفية التي يمتلكها.
ابن حزم: أسبق لك والتقيته؟ أيمكنك أن تطلب منه زيارتنا ان وضعته الصدفة بالجوار؟
سفيان: ممكن، سأعمل على ذلك.
أبو بكر القرطبي: (بخبث) ماذا عن أحوالكم السياسية وشؤون الحكم؟
سفيان: حقيقة أنا لا أحب السياسة ولا حديثها، وكل ما يجلب النكد ووجع الرأس تجدني في منأى عنه.. لا يمكنني أن أفيدك في هذا الباب.
أبو بكر القرطبي: (في اصرار) كيف أ ليس لك رأي في كل يجري حولك؟ أتحيا سدى؟ شاطر فقط في الموسيقى والسفسطة.
ما موقفك من تلك الفرق المتشيّعة التي غرزت شوكتها ببلادكم وأنتم تنظرون؟
سفيان: (كمن يحدث نفسه) لو علمت كيف انتهى الأمر بالأندلس، وحال البلدان العربية اليوم لأكلت نفسك حسرة..
(يجيبه) حقيقة لا أرى عن ماذا تتحدث، وماذا ترى أنت في هذه الفرق التي بدأت تسحب البساط من تحت أرجلكم وأنتم تنظرون؟ ما قولك في هذا الشتات والضياع التدريجي التي تتدحرج فيه الأندلس على زمانك؟
ما مآل هذا الارث وهذه العظمة التي ضحى من أجلها البواسل، والتي ستُقبر على يدي أمثالك؟
قل لي ماذا فعلت أنت وما هي خططك وتضحياتك من أجل ايقاف هذا التشظي أم ينطلي عليك ما يقال عن الجَمَل؟
(يسود صمت مهيب بالمجلس)
أبو بكر القرطبي:(انتفض غاضبا ويتقدم صوب سفيان) ويحيك يا هذا، كيف تجرأ على التطاول أنسيت نفسك.
(يتدخل البعض لتهدئته وثنيه عن التقدم، ويطلب ابن حزم منهم إبعاده خارجا، ثم يعود الجو كما كان سابقا وكأن حديثا لم يدر الى أن يفض الجمع)
اليــوم المـــوالي
فَإنْ كُـــنْتَ لا تَسْتَــــطيعُ دَفْــــــعَ مَنِيَّـــــتـــي
فَــدَعْنِــــي أُبَــــادِرُهـــــَا بِمَــــا مَـــلَكَـــتْ يَـــــدِي
خارجا بالحديقة، سفيان يلعب مع بعض الأولاد وقد صنع لهم ألعابا جديدة غير مألوفة، يلتحق بهم بن حزم والغبطة على وجهه..
ابن حزم: أود أن أفاتحك في أمر، وأرجو أن تفكر فيه مليّا قبل أن ترد.
سفيان: بأمرك تفضل.
ابن حزم: ما رأيك لو تظل معنا هنا، سنعيّنك في ديوان الخليفة وستجازى ضعف ما كنت تكسبه، زد على ذلك جليل الشأو الذي ستنعم به بين ظهرانينا، حاجتنا لك بيننا شديدة بعد أن خبرنا براعتك
وموسوعيتك وفرادتك.
سفيان: كلامك شهادة أعتز بها حقيقة، وأخشى من أن قصر الفترة التي قضيتها بينكم أضعف من أن تترك كل هذا الصدى والاعجاب، أخاف أن يتغير رأيكم...
ابن حزم: (مقاطعا) لك من دلائل الوفاء ومحمود الخلائق ما يجعلني شادّا عليك شدّ الضنين، وإني لظفرت بصديق واسع العلم لطيف القول، صحيح الحدس جميل المخالفة، وانّي والله ممسك بك إمساك البخيل وانظر ما شئت.
(لحظات من الصمت) أخبرني قبل أن تشغلنا أمور أخرى، عن رأيك في رسالتي في الحب.
سفيان: سأقول لك وأسألك سعة الخاطر، قياسا على قول الشاعر خَبرتَ شيئا وغابت عنك أشياء..
مُؤلف فريد وبليغ في إحاطته بمفهوم الحب وأخباره، جميل في زمن وظروف معينة، لكن يَنتهي خيالا حالما وحكايا من الألف ليلة وليلة في زمان وظروف أخرى.
ابن حزم: وهل هناك حب صالح لزمن وغير صالح لآخر!!
الحب هو هو في كل وقت ومكان نفس المعاني والأسباب والأحوال...
سفيان: أخشى أن الأمر ليس كما تظن، سيأتي زمان لن يتبث فيه شيء على حالته، ثم أ وليس التحول من صفات الحب؟
ابن حزم: سأعتبر كلامك من باب حسن الفراسة التي لمستها فيك، مع أني لا أتفق معك، ومع ذلك قل لي كيف ترى الحب في زمن آخر! أحب حديثك يا صاحبي.
سفيان: ليس الأمر مجرد تخمين، بل هو ما عليه الأمر فعلا (يستدرك بعد أن رأى ارتباكا على ابن حزم) أرى مثلا، أنه سيأتي عصر لن يحتاج الحب لعذال ولا وشاة، لأن حجاب الحياء والحشمة والخوف من أحكام الآخرين لن يعود له وجود ومعنى، لن يبقى للرسول والرسائل
وظيفة، وستظهر أنواع أخرى من الحب كالحب في سبيل الأوراق..
ابن حزم: الأوراق؟
سفيان: سأشرح لك، مثلا تصور أن يدعي شاب في العشرين من عمره حب أجنبية تكبره بعقود فقط كي يحصل على الجنسية، وينقل نفسه الى حياة كريمة تحترم الانسان وتضمن له حقوقه الأساسية، هربا من الضياع والتشرد داخل بلده.
وهو كنوع آخر من الحب، يخول صاحبته الظفر بلترات من البترول ولا يهم ما ستدفعه مقابل ذلك، خذ أيضا موضة الحب الذي يولد ويتغذى عبر حبال هوائية واهية.
زد على ذلك حب الكراسي الهوسي، تفقير وسرقة الشعوب بداعي الحب، اغتصاب الحقوق الطبيعية والحرّيات بداعي الحب.
سجن خيرة أبناء الأوطان بدافع الخوف عليهم وحبّهم أيضا...
أنواع عديدة دخلت ضمن مجال الحب الحديث والحاجة أم الاختراع.
أنا أحدثك عن زمن سيقرأ فيه طوق الحمامة ككتاب فنتازي، كطقس فلكلوري من زمن غابر، كحكاية نُمنّي بها النفس ووصفة مسكّنة للحسرة والاكتئاب.
ابن حزم: (يضحك) لا قدّر الله نسأله اللطف.
سفيان: نظرية التقهقر يا صديقي، ليس هناك شيء ثابت سنعرف تحولا خطيرا في كل شيء، لم تنقل لنا الجينات منكم سوى مخلّفات الجاهلية الأولى.
أتود أن تعرف حال الأجيال التي ستخلفكم مستقبلا؟
سأخبرك،
ستخلّفون أحفادا يَحيَوْن كمعطوبي الحرب، يمسحون أحذية الخونة والانتهازيين.
ستتركون أمامكم أحفادا ككسرة خبز يابس ملقى على الطريق، يُقبَّل ويوضع في الزاوية بسلام.
ابن حزم: ستغرقني في عوالمك هذه، عليك أن تتعلم حَجْم خيالك وإلا أدخلك في مآزق لا آخر لها..
الخادم: (لابن حزم) سيدي هناك من يود رؤيتك.
ابن حزم: أستأذنك لبعض الوقت، لحديثنا الطريف هذا بقية.
سفيان: بكل تأكيد تفضّل.
(يذهب لمكان غير بعيد، يجلس متكأ على شجرة يتأمل بهاء الطبيعة، وينصت لتفاضل كل عنصر فيها على الآخر، وهو يداعب العشب بين يديه)
لا أدري ما بي!
تتزاحم الأفكار والأسئلة والهواجس داخلي بصورة غريبة اليوم..
مع أني بلغت ما كنت أراهن عليه، ومع ذلك أشعر بعجز عن أخذ قرار نهائي بخصوص بقائي من عودتي.
كنت أظن أن من السهل البث في المسألة، وأن أمر اغتنام هذه الفرصة مفروغ منه ولا رجعة فيه لشخص ضائع عاطل بلا أفق بَيّن مثلي، لكن من الواضح أن عيناي اعتادتا الظلمة وأخشى من احتراقهما بهذا النور.
الحياة رائعة واستثنائية هنا..
رقي حضاري ينطق قسرا أينما وليت وجهك، ثراء ثقافي ومعرفي غير عادي..
كل شيء أخضر:
الأماكن خضراء، والأسارير مخضَرَّة، والموائد خضراء، والعواطف تشعّ خضارا... وكأن الخضرة تتلبس كلّ ما يقع أمامها، راحة نفسية واجتماعية، فرح وسكينة وتسامح...
ومع ذلك ينقص شيء ما لبلوغ التمام! قطعة بوزل ضائعة تَحول دون اكتمال اللوحة.
الماضي جميل فعلا، لكن ليس لدرجة التباكي وجلد الذات الذي أورثونا إيّاه، حبسونا داخل ذاكرة عقيمة تتقن فقط تقليب الصفحات بالعكس، أما باقي أوراقها ففي حداد حتى إشعار آخر.
(يسمع طرقا على الشجرة وراءه)
سفيان، كيف وجدت هديّتي؟
ألم أقل لك أنك لن تندم، وستشكرني في النهاية مهما كانت النتيجة.
(يلتفت جانبا غير مصدق أو غير مستعد بالأحرى، فيجدها هي نفسها اللوحة وقد انقلب الجو فجأة مساء)
سفيان: أبهذه السرعة لم أنته الى قرار بعد، أمهليني بعضا من الوقت حتّى لا يترك سوء اختياري في نفسي غصّة بعد ذلك.
اللوحة: هيّا لقد حان الوقت.
سفيان: الوقت لماذا؟ أرجوك لا.
اللوحة: لا ماذا؟ لم أظن أن الأمر سيستدعي منك كل هذا الوقت للتفكير.
دعني أخلصك من هذا التشويش وأختار لك أنا
لقد وضعتُ نصيبك بين يديك، احسم فيما تودّ أن تكونه وإلاّ...
سفيان: لا لا أرجوك، دعي الأمر لي أرجوك أمهليني..
(يشعر بيد تمر على كتفه وتحركه برفق)
خير إن شاء الله، استعذ بالله
(يفتح عينيه فيجد نفسه ملقى على العشب، طرفه الأسفل في جانب والأعلى في الجانب المقابل، ويداه معلقتان للأعلى كمن يحاول التمسك بشيء، وفوقه مباشرة ابن حزم يحاول تهدئته)
ابن حزم: لا بأس غفوت قليلا.
سفيان: (يحاول إخفاء ارتباكه وقد اختلطت عليه مظاهر الخوف بالسرور) صحيح أعاني من بعض الإرهاق.
(يتفقد نفسه ويجول بعينه حول محيطه) لم يتغير شيء صحيح!
ما زلت بمكاني، لا بد أني نمت قليلا (يلتف حول نفسه ويبحث خلف الشجرة) لم يُثِرك شيء غريب هنا!
لم تسمع شيئا صحيح؟!
ابن حزم: تعال تعال لنكمل حديثنا، أعلم أن مزال بجعبتك الكثير (يُنهضه وينطلقان).
سفيان: (بصوت مرتفع كمن يَعمد إسماع صوته) نعم نعم، فأنا لم أقل كلمتي الأخيرة بعد.
(يخطو برجله الى الأمام ورأسه يعود به الى الوراء) أ سمعتِ لم أقل كلمتي الأخيرة بعد.
ستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق