"لقد سمعت هذه الأغنية القديمة من قبل"
تهمس هيگوبا حين تسمع نبأ مقتل ولدها.
لندن: علي كامل
"هذه ترجمة قاسية جداً لحكاية قاسية جداً". هذه العبارة تصدرّت بروغرام عرض مسرحية يوربيديس "هيگوبا" بقلم الصحفي والناقد المسرحي البريطاني ماثيو باريس، ولا أظن أن فرانك ماكوينيس سيحتج على هذا الاستنتاج والاختزال الدقيق لترجمته التي تقطع نياط القلب حقاً.
لقد كان يوربيديس يرى بوضوح مروّع، أن الشّر يولِد الشّر، ولعل هذا هو السبب الذي دفع بالكاتب المسرحي الإيرلندي فرانك ماكوينيس الى ترجمة أو، الأصح، إعادة تأويل يوربيديس بنفَسٍ معاصر، وبأسلوب بالغ الدقة والحساسية. فاذا أردت أن تفهم دوائر العنف في حركتها اللولبية، تلك التي شوهت وجه إيرلندا الشمالية، مسقط رأسه، وأنها تفعل الآن ذات الشيء في شرقنا الأوسط، فعليك أن تقرأ أو تشاهد مسرحية "هيكوبا".
الأمر الملفت أن يوربيديس يجد له هذه الأيام موقعاً مميزاً على خشبات المسارح اللندنية، فـ "إفجينيا في أوليس" يُستأنف عرضها على خشبة مسرح (National Theatre) بمعالجة ذي نكهة سياسية، تعكس ما يجري اليوم في العالم من انعطافات حادة في السياسة الدولية. أما "نساء طروادة" فهي الأخرى تواصل عرضها منذ أسابيع على خشبة مسرح (New End Theatre) متتبعّة المصائر المأساوية لضحايا الحرب بين أثينا وطروادة، ورائحة بارود حروبنا المعاصرة تفوح من جنباتها. أما "فرقة شكسبير الملكية" فأنها تضع حالياً لمساتها النهائية على بروفاتها
الأخيرة على مسرحية "هيگوبا" بترجمة جديدة للشاعر والكاتب المسرحي توني هاريسون، لتقديمها على مسرح (Barbican) والتي ستلعب الممثلة البريطانية فينيسيا رودغريف الدور الرئيسي فيها.
ما الذي يدفع الناس هنا، حقاً، للذهاب كل مساء لمشاهدة مآسي يوربيديس هذه الأيام؟
لنستمع بهذا الشأن، إلى وجهة نظر البرفيسور ديفيد ووتن، أستاذ التأريخ في جامعة يورك، وهو ناقد مسرحي وراهب أيضاً، في حديث له عن المسرحية في مجلة (The Social Affair Unit) فيه يقول:" إنَّ أي شخص لم يكن لديه أي تصور مسبق ومنذ البدء لما ستؤول إليه الحرب في العراق من نتائج مأساوية، عليه الذهاب لمشاهدة (هيگوبا) بترجمتها الجديدة، وعليه أن يعرف أيضاً، أن مديري المسارح اللندنية، في عروضهم لمسرحيات يوربيـديس هذه الأيام، يثبتون أنهم أصبحوا أكثر مسؤولية ووعياً من إدارة البيت الأبيض وداوننغ ستريت رقم 10 في إدراك النتائج الكارثية للحروب في العالم، و في الشرق الوسط على وجه خاص".
ثورة في الشكل وأخرى في المضمون
يتفق جميع النقاد والدارسين على ان عدد المسرحيات التي كتبها يوربيديس بلغ اثنتين وتسعين مسرحية، الا ان ما وصل الينا هو إحدى عشرة مأساة وساتيرية واحدة فقط.
كان يوربيديس موضع نقد وريبة من قبل مواطنيه الإغريق، بسبب بذرة التمرد والثورة الكامنتين في رحم كتاباته، أما معاصريه من الكتاب، فقد اعتبروه السبب الرئيسي في انهيار الفن التراجيدي آنذاك، لأنه حطم الهالة الأسطورية لأحداث وشخصيات تلك التراجيديا، حين أدخل عليها نكهة واقعية ذات طابع شعري. ليس هذا فحسب، إنما والأكثر من ذلك، ما أحدثه من تغيير جذري في شكل وبناء تلك المآسي، لاسيما ما يتعلق بـ" البرولوغ" أو" الاستهلال" وكذلك دور الكورس، فضلاً عن تلاعبه بمضامين الثيمات والشخصيات الأسطورية وتطويعها لأفكاره الخاصة، فقد أُتهّم يومها أنه أظهر شخصياته أكثر إيغالاً في الشرور، وأنه قد أدار الضوء باتجاه الزوايا المعتمة للنفس البشرية.
أما السبب الذي فتح أمامه جبهات الاستعداء من كل صوب فهو نصرته للمرأة وتصويره العميق لمعاناتها في عالم ذكوري لا يرحم. كذلك موقفه الجريء والناقد لطغاة حكام بلده أثينا وسلوكهم العدائي ضد أراضي الغير، والذي قاده الى موقف واضح وصريح إلى مناهضة الحرب عموماً.
أما في معالجاته للأساطير واللاهوت، فقد كان عقلانياً متشككاً حوّل طبيعة النزاع بين الآلهة والبشر إلى نزاع بين الإنسان والإنسان، أو صراع بين قوتين متعارضتين داخل النفس البشرية الواحدة.
يوربيديس، في الآخِر، هو التلميذ البار لبروتاجوراس السفسطائي الذي قال: "الإنسان هو مقياس كل شيء".
موقف ملغز من المرأة
أختلف الدارسون أيضاً حول موقف يوربيديس من المرأة ما بين إدانة أو تبجيل لها، إلا إنَّ السبب وراء تلك الخلافات يكمن في قابلية نصوصه ذاتها على الغور عميقاً في روح الإنسان، وكشفها عن الزوايا المعتمة والمضيئة فيها، وعدم تسليمه بمفاتيح حلول محددة وثابتة لجدل الروح، ذلك أن الجدل، حسب يوربيديس، يمكن أن يُفضي بيسر الى الشر أو الى الفضيلة في نفس الوقت، إذا ما تمَّ تغليب العقل على العاطفة أو العكس. فالعاطفة مثلاً شيء مبهم ومخيف عند الإغريقي، إنها بمثابة القوة المدمرة المتوارية في ظلمات النفس، تلك التي بمستطاعها إخضاع العقل وتحويله الى أداة طيعة لتنفيذ نداءاتها السوداء، وهذا ما نعثر عليه جلياً في مسرحية "هيگوبا""مجسداً في السلوك اللصوصي والخياني للملك بوليمستور "ملك مقدونيا"، الذي يدفعه جشعه إلى قتل بوليدوراس ابن صديقه الملك بريام "زوج هيكوبا"، المسؤول عن حمايته، بسبب حفنة من ذهب.
امتثال العقل لنداء العاطفة نعثر عليه في ختام المسرحية حين تقوم هيكوبا بذبح الطفلين البريئين أمام أنظار أبيهما بوليمستور قبل أن تقتلع عينيه انتقاماً منه على جريمته الشنعاء التي لا تقل شناعة ووحشية عن جريمتها. الأكثر من ذلك، أنها تقترف تلك الفعلة ببرودة دم وقناعة راسخة، محاولة أن تسبغ على هذا الخداع الذاتي نوع من العقلنة: "عليَّ ّ أن أنجز ما يتطلبه الإنجاز"، هكذا تخاطب أگاممنون أخيراً بسخرية وقسوة واشمئزاز ويدها ملوثة بدم الأبرياء. الشهوة الى القتل وروح الثأر، تلك الصفات التي أسبغها يوربيديس على شخصياته النسائية، ليس الهدف منها الحّط من شأنهن بالطبع، بقدر ما هو تأكيد على أن القسوة تُولد القسوة وأن العنف يُولد العنف. إنه استجابة طبيعية ورّد فعل إنساني لإهانة لحقت بهن أو ظلم وقع عليهن، ودليلنا، أن تسع من مسرحياته تشغل فيها المرأة، الشخصية المحورية، بل الأكثر، أن أسماءهن أصبحت عناوين لتلك المسرحيات، أمثال "ألكسيتيس، أليكترا، أندروماخي، ميديا، ألكترا، هيلينا، أفجينيا في أوليس، أفجينيا في توريس، وأخيراً هيكوبا". ومع ذلك، يظل هذا الحشد الهائل من النساء الذي تمتلئ به فضاءات الكاتب سبباً جوهرياً وراء حيرة النقاد في بحثهم المستديم لسبر الموقف الملغز ليوربيديس من المرأة.
الشرور تثمر الشرور
ها أن الحرب قد وضعت أوزارها وسقطت طروادة بعد أن قُتل ملكها بريام، وها هي قوات الإغريق في طريقها للعودة إلى أرض الوطن تحمل معها الغنائم والأسرى.
هيگوبا التي كانت يوما ملكة، هي الآن واحدة من تلك الغنائم، تجول في معسكر الأعداء أشبه بغجرية قذرة، وخلفها نساء طروادة وابنتها بولكسينا التي ستُذبح بعد قليل قرباناً لأخيل. خشبة مسرح دونمار تشبه حدوة حصان يحيطها الجمهور من ثلاث جهات ولا تستوعب أكثر من مائتين وخمسين متفرجاً.
يُستهل العرض ونحن أمام شاطئ بحر متوسطي ذي مسحة طباشيرية، وضع في أسفل مقدمة المسرح بتقنية عالية. حوض ماء زجاجي يوحي لنا كما البحر، أبدعته مخيلة" بول براون مصمم الديكور ومارك هندرسون مهندس الضوء".
فجأة، وبشكل أشبه بكابوس، يخرج من بين الأمواج شبح بوليدوراس الابن الأصغر لهيكوبا (الممثل إيدي ردماين) منقوعاً بالماء، يندب حظه العاثر، ويعلن موته على يد الملك بوليمستور، صديق أبيه الملك بريام، مطالباً أن يُدفن جسده.
إن استخدام الماء، مدخلاً للعرض، سيكون مجازاً متواصلاً لفكرة هذه التراجيديا، فالماء، كما هو معروف بالنسبة للإغريقي، يرمز الى العالم البدئي، البهيمي للإنسان. أما اليابسة فهي ترمز الى التمدن والحضارة الإنسانية. حين ينتهي الاستهلال ويبدأ الفعل في شق طريقه، سنرى اليابسة وهي تنسحب شيئاً فشيئاً صوب البحر لتغور عميقاً في جوف المياه، كمعادل مجازي لأحداث المسرحية.
لكي يعبر بنا المخرج الى الضفة الأخرى ويخلق للحدث تماهياً مع الحاضر، وضع في خلفية المسرح جداراً برونزياً معتماً أشبه بشاهدة قبر عملاقة، نُقشت على واجهته أسماءً باللون الأبيض، يذكّر بالنصب التذكاري الشهير لضحايا الحرب الفيتنامية المقام في مقبرة آرلنغتون.
ولأجل أن تنمو بذرة الشر في نفس هيگوبا، لابّد أن يتضاعف ألمها، وهذا يعني أنه لابد من فواجع جديدة لكي يتراكم ذلك الألم ويتحول بالتدريج إلى حالة غيظ ثم كراهية تنزع عن الشخصية سماتها البشرية شيئاً فشيئاً لحين أن تغمر المياه اليابسة وتهبط الإنسانية عميقاً إلى أدنى درجاتها من البهيمية. فاجعتان اثنتان وتكتمل دائرة الفعل. الأولى موت بولكسينا (الممثلة كيت فليتوود) التي سيُجّز عنقها عند قبر أخيل قرباناً له كي يطلق سراح الريح ليبحر الإغريق الى موطنهم أثينا. أما الفاجعة الثانية فهو نبأ موت ولدها بوليدوراس الذي يُقتل على يد الملك بوليمستور طمعاً في ثروته (الممثل فينبار لينتش).
حين يُبلغ الكورس هيكوبه بوصول جثة ولدها ميتاً، نسمعها تهمس بازدراء ممل قائلة:"آه، لقد سمعت هذه الأغنية القديمة من قبل".
(قامت بأداء الكورس سوزان أنجل "القاءً" وإيف بوليكاربو "غناءً")
إذن، فاجعتان في يوم واحد!
ماذا بوسع الإنسان أن يفعل حين يفقد الأمل تماماً؟ وهل تثمر الشرور غير الشرور؟ وهل في الإمكان إيقاف دائرة العنف حين تدور؟
ماذا يمكن لامرأة مثل هيگوبا أن تفعل بعد كل تلك الفواجع؟
وهل كان أمامها خيارات أخرى؟
هيگوبا الآن بحاجة الى قناة أو أخدود يقوم بتصريف أو امتصاص جزء من آلامها تلك، شيء ما يخفف أو يسكّن تلك الآلام. وهل غير الثأر عزاء لمعضلة كهذه!
إن خطاب المُخرج (جوناثان كينت) جلي وصافٍ، إنه يقول لنا: هذا العالم الذي ترونه أمامكم هو شبيه بعالمنا تماماً، حيث القسوة لا تورث سوى القسوة.
وهكذا تقوم هيگوبا (الممثلة كلير هكنز) بإنجاز فعلتها الشنيعة مستدرجة الملك بوليمستور الى خيمة الأسيرات الطرواديات، واعدة إياه بمزيد من الثروة. ومثلما فعلت ميديا من قبلها بأطفالها، تجترح هيكوبا مأثرتها البشعة هي ونساء طروادة فيقمن في ذبح الطفلين (خارج المسرح بالطبع) ولكن على مرأى من أبيهما بوليمستور، انتقاماً منه إزاء خيانته وقتله ولدها بوليدوراس، ومن ثم اقتلاع عينيه من محجريهما.
في المشهد الأخير حين يتقابل بوليمستور دامي الرأس مفقوء العينين بهيكوبا وقد فقدت عقلها، نجد أنفسنا أمام بهيمتين متوحشتين بدائيتين.
والآن، ما الذي تبقىّ من تلك التي كانت يوماً ملكة سوى بورتريه باهت لمسخ في العراء تخربش بأصابعها بسلوك مرعب في الرمل تحفر قبوراً لأبنائها، فيما تتطاير من حولها أكياساً بلاستيكية تشبه أكياس الفضلات تحوي أشلاء الطفلين المذبوحين.
إنَّ يوربيديس لا يقدّم أجوبة عفوية سلسة ومرتجلة لعالم يجد في القسوة والاحتراب والاستعداء سبيلاً وحيداً لحل النزاعات القائمة في العالم. إنما يقدّم، بدلاً من ذلك، حكاية درامية ذات طابع سرمدي تقودنا الى التفكير ملياً ببدائل أخرى ممكنة تدعونا أن نناقش ونتأمل ونستفهم تلك العواقب.
استخدم المخرج أزياء معاصرة وقديمة، وفقّ في خلق تناغم بينهم، شبيه بالهارموني الذي نسجه المترجم ما بين المفردات الكلاسيكية والمفردات الإنكليزية اليومية، تلك التي كان يربطها خيط من الشعر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحرزت الممثلة كلير هاكنز على جائزة لورنس أوليفيه تقديراً لأدائها الخلاق لدور هيگوبا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق