تصنيفات مسرحية

السبت، 20 يناير 2024

الاحتفالي والاحتفالية بين الشيطان ومحامي الشيطان ( 69)/ د.عبد الكريم برشيد

مجلة الفنون المسرحية 
الاحتفالي والاحتفالية  بين الشيطان ومحامي الشيطان ( 69)

              فاتحة الكلام 

يوم الأحد 14 يناير كان يوما احتفاليا في كل الوطن المغربي ، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى  جنوبه، ومن سطحه الظاهر الى عمقه الخفي، هو يوم واحد نعم، ولكن حساب اليوم الاحتفالي، هو غير حساب الأيام العادية الأخرى، وهو يوم استثنائي بعمق الجغرافية و التاريخ، وبغنى الثقافة المغربية، بكل روافدها ومكوناتها، وبكل تجاربها وحساسياتها، وايضا، بكل غنى عبقريتها وغنى نبوغها، المادي وغير المادي، وهو فعلا يوم مثل كل الأيام الأخرى،  ولكنه يوم مختلف ومخالف، وهو يمثل العودة الى النبع والأصل، وهو يمثل الرجوع الى الأصل وإلى الحقيقي وإلى الثابت، وهو في عودته اليوم،  يعكس دورة الدماء في الأجساد الحية، ويجسد دورة الحياة في أجساد الكائنات الحية، ويعكس الطبيعة في تجدد فصولها سنة بعد اخرى، وبهذا فهو يمثل ارتباط الإنسان بالمكان الجغرافي وبالزمن، وذلك في صيروته المتجددة، وفي هذه السنة، كما في كل السنوات التي خلت، يحتفل المغاربة بالسنة الأمازيغية الجديدة، ولكن الأمر بالنسبة لهذه السنة يختلف بشكل كبير وعميق، لأن الدولة المغربية جعلت منه عيدا من اعيادها الوطنية، ولقد كنا، ونحن اطفال في مدينة ابركان،  ننتظر هذه المناسية بشوق وبلهفة، والتي كنا نسميها (الناير) والتي من أسمائها الأخرى( حاكوزة) والتي كانت مناسبة لأن توزع علينا الأسرة الفواكه الجافة، ومع هذه الفواكه، كانت توزع علينا الفرحة، وهذا هو الأهم، وبهذا فإنه لا يمكن لأي احدز ان يتذكر العيد، الا مقرونا بالفرح وبالبهجة، وفي (البيان المغاربة للمسرح الاحتفالي) والذي صدر بمدينة باجة بتونس سنة 1980 نجد التاكيد على أن الاحتفال ، في معناه الحقيقي، هو ديوان الجماعات والمجتمعات، وهو ديوان الشعوب والأمم، وأنه في احتفلاتنا مخبئ كل ثقافاتنا وكل حالاتها وكل مواقفنا وكل ابداعاتنا وكل عبقريتنا، ولعل هذا هو ما اجعل ذلك البيان الاحتفالي يختزل كل هذه المعانى في الشعار التالي، والذي هو
( الحفل أصدق انباء من الكتب) 
وما كل واحد بامكانه ان يكتب، ولكن كل الناس يمكنهم ان يختفلوا، لأن لغى الاحتفال هي لغة كل الأجساد ولغة كل الأرواح الحية، وبالتاكيد، فإن ما قد نقوله اليوم، وما قد نكتبه باجسادنا، المحتفلة والمعيدة، فإن كل الأقلام وكل اللغات وكل الأبجديات تعجز عن كتابته، كما تعجز كل الكاميرات عن تصويره،  
والتي قد تصور الظاهر القريب، ولكنها لا تدرك الوجداني والروحي البعيد والغامض والخفي
وبهذه المناسبة الاحتفالية، فانني، انا الاحتفالي، اهنئ نفسي، ومن خلالي اهنئ كل الناس، في كل جهات العالم الأربع، وذاك بدخول سنة اخرى جديدة، سنة هي سنة 2974  الأمازيغية
هو احتفال جديد اذن، يعزز روزنامة الاحتفالات الصادقة في العالم، وهو احتفال جامع ومانعةوشامل وتكامل، وفي ديوانه الحضاري نحيا حياتنا الجديدة والمتجددة، وفيه ندون ثقافتنا الخاصة، بكل جزئياتها الصغيرة والدقيقة، وبهذا يكون هذا الاحتفال اليوم شكلا من أشكال التعييد الاحتفالي، وبهذا ايضا، يكون ما نقوم به مسرحا، يضاف الى كل مسارح العالم الأخرى،  ويكون هذا الزمن العيدي والاحتفالي زمنا مسرحيا بامتياز، وتكون هذه الأرض المغربية، والتي وسعت كل الاحتفالات والاعياد، والتي اتته من أوربا ومن آسيا ومن أفريقيا، تكون ارضا احتفالية

           وطن الاحتفال هو وطن المسرح دائما

وبهذا  يكون من الغريب ان نسال الإنسان المغربي الاحتفالي، في أرضه الاحتفالية، وفي زمنه الاحتفالي، وفي مناخه الثقافي وفي فضاؤ الحضارة الاحتفالية، وأن نقول له:
-- كيف عرفت المسرح؟
-- ومتى عرفت المسرح؟
 ومن الإجابات الطريفة للطيب الصديقي انه مرة سأله سائل كيف جئت للمسرح، فكان جوابه : جئت للمسرح البلدي على متن سيارة طاكسي، ونفس هذا السؤال وجهه لي الكاتب المسرحي السعودي عباس الحايك لفائدة موقع سماورد، ولكن سؤاله كانت صياغته مختلفة قليلا، وكان في سؤاله يبحث في ( كيف بدأت علاقتك بالمسرح؟)
 ولقد كان جوابي أن المسرح لا نذهب اليه، ولكن هو الذي ياتينا، من حيث ندري او لا ندري، وهو ياتينا من اللا مكان، وقد يكون هو الذي يأتي بنا إلى مسرح هذه الحياة وإلى مسرح هذا الوجود، ونحن لا نلتقي به عند نقطة معينة من حياتنا، لأنه. وبكل بساطة. هو حياتنا الأخرى، في صورتها الأصدق والأجمل والأكمل والأنبل، وفي نفس جوابي على الأستاذ عباس الحايك قلت له ( ككل البدايات تبدأ الأشياء غامضة وملتبسة وبعدها تتضح الصورة، ويمكن ان أقول بانني بالأساس احمل وعيا احتفاليا للوجود، و(انني) أرى الحياة عابرعبارة عن مسرح وهذا هو تصوري)
ونحن كلنا، في هذا العالم، نعرف المسرح ويعرفنا المسرح، ولكن بأسماء مختلفة وبتقنيانت مختلفة وبأليات مختلفة، مما يدل انه لا وجود لمسرح واحد في هذا العالم المتعدد الشعوب والأمم، ولا وجود للغة مسرحية واحدة، صالحة لكل الناس في كل زمان ومكان 
وبخصوص الاحتفالية، والتي هي تيار مسرحي قائم على منظومة فكرية وحمالية، فهناك اايوم من يصر على ربط ظهورها بحدث تاربخي عربي واحد، والذي هو النكسة الحزيرانية، في حين أن هذه النكسة هي فقط حد من حدودها التاريخية والثقافية والسياسية المتعددة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في حوار مع عباس الحايك لموقع سما ورد ما يلي ( ينبغي الفصل بين تيارين يتشابهان، لكن لا يمكن أن يكونا تيارا واحدا، اولهما التيار التأصيلي الذي جاء به يوسف إدريس وجيل الستينات، سعد الله ونوس، سعد الدين وهبة وألفريد فرح،وهؤلاء مسرحهم جاء استجابة فورية للنكسة، بينما المسرح الاحتفالي خرج استجابة للثورات العالمية في اواسط الستينات، مثل ثورة الطلاب في فرنسا، حينما استولى الطلبة على مسرح الأوديون في باريس، وارادوا تاسيس مسرح جديد،  لعالم اخر ينبغي ان يكون جديدا، كما تفاعل التيار الاحتفالي مع ربيع براغ ومع الثورة الصينية الثقافية ومع قضية الفيتنام وقضايا التحرر في العالم)
وبهذا يكون من حق الاحتفالي ان يتساءل، هل يصح أن أقول أنا والمسرح، وأن نكون في هذا الوجود ذاتين، يجمع بينهما واو العطف، ويجمع بينهما المكان والزمان والسياق ايضا،
الوعي الاحتفالي هو الأصل اذن، وهو البداية، وهو المنطلق، وعندما نعشق الحياة نحب المسرح، وعندما نكون انسانيين ومدنيين نحب المسرح، وعندما نكون ديمقراطيين نحب المسرح، وعندما نكون احرارا ونحب الحرية، فإنه لابد ان نحب هذا المسرح، والذي هو اساسا وجود الفكرة مع وجود نقيضها، وهو الرأي وما يخالفه، وهو الموقف والموقف المضاد، وهو الحالة  ومضاعفها
في ملف خاص بمجلة (طنجة الادبية) يقول الأستاذ محمد اهواري( منذ ردح طويل من الزمن وكتابات هذا الرجل المفرد - المتعدد تتدفق في بحر المسرح، تنظيرا وابداعا، دونما ارتكان نهائي إلى ضفاق محطة ثابتة، إنها حالة خاصة من إرادة التعبير الوجداني عن ضرورة اخضاع فعل الكتابة للتلاطم الأزلي بعباب الأسئلة الرصينة دون انقطاع، حالة تستدعي عدم الفصل بين القديم والجديد، بين الثابت والمتحول، بين الكائن والممكن، كما بين الواقع والمتخيل، إنها رؤية فاحصة نافذة إلى قلب الوجود الإنساني باعتباره احتفالا متجددا -  بفرحه وقرحه - كما الزمن، وهو يصبو على إيقاع الشروق والغروب، الضياء والظلمة، والحياة والفناء، هكذا تحضر فكرة الاحتفال في مشروع عبد الكريم برشيد الفني والفكري، كما تحضر فكرة الانبعاث باعتباره عودا أبديا)
والإنسان الاحتفالي، هو أساساو
كائن متحرك، وحركته الخفية اكبر واخطر من حركته الخارجية، والزمن الاحتفالي هو ايضا متحرك، وهو يتحرك في الوقع وفي ما وراء الواقع، وهو زمن يتمدد بفعل حرارة الحياة وبفعل حرارة الأحياء، وعندما تغيب حرارة الحياة،وتحضر برودة الموت او برودة الأجساد المادية

                          الكتابات الاحتفالية في العيون العاشقة

لقد كان مقررا لهذا النفس الجديد ان يكون موضوعه (رسائل الاحتفالي إلى محامي الشيطان) ولكن تداعيات الناس الأخير، والذي كان موضوعه عن الشيطان الظالم والشيطان المظلوم، ذلك النفس كانت له تداعيات كثيرة، تمثله في الردود السنوية والمكتوبة، وبحكم أن طابع هذه الكتابة الاحتفالية هو طابع تفاعلي، فقد من الضروري أن استعرض معكم وامامكم بعض هذه الكتابات، وفي هذا السياق يقول د. نور الدين الخديري، والذي هو احد القراء الأوفياء لكل ما يكتب في- وعن - الاحتفالية ما يلي:
(لا يحضر ببالي كاتب مسرحي عربي، يكتب بإيقاع عبد الكريم برشيد، بالنظر للعمر المسرحي الذي أنفقه هذا الرمز  إبداعا ونقدا وتنظيرا في  طرح الأسئلة الصعبة، وتجويد الكتابة المسرحية باستثمار التراث في بعده الإنساني، واصلا بذلك بين قضايا الذاكرة، ومستجدات الراهن. مودتي وتقديري)
وفي هذا المعنى يقول حسن عين الحياة
(بين العيد والتعييد هناك المسرحي المقتدر السي عبد الكريم برشيد.. احتفالي كبير يتجدد كل ساعة وكل يوم وكل شهر وكل عام.. وبالتالي فهو حر، لا يشيخ أبدا، ولا يجوع أبدا، يغذي احتفاليته من الأحداث وأسبابها ومسبباتها ونواميسها ومن شخوصها الخفية والظاهرة.. وهكذا، يظل الاحتفالي حيا، جسدا وروحا، وحياته تمتد إلى الأشياء من حوله.. وفي اللغة التي يتحدث بها احتفال، وباللغة يزرعها في الجمال.. وبالتالي فهي، أي الاحتفالية، ليست الكمال.. إنما تسعى إليه، وتشتغل من أجله، وتبحث لبلوغه، وتجتهد للوصول إليه، وهي في بعدها وفلسفتها تحاول أن تستقل لتشمل.. تخلخل المفاهيم السائدة والتقليدية، لتكون أكثر حداثة.. تتمرد لتتجدد.. وفي التجديد حياة.. والاحتفال جوهر الحياة...
تحياتي السي برشيد... احتفل ونحن معك من المحتفلين)
وإنا الاحتفالي ضد العادة، وقد قلتها وكتبها مرات ومرات عديدة، والعادة تكرر الموجود بشكل آلي، وانا لا احب هذه العادة إلا في حالة واحدة فقط، وهي عندما تصبح السعادة هي العادة، وأن تكون فعلا متكررا في كل شهر او في كل عام  او فب كل يوم او في كل ساعة او في كل  دقيقة او في كل ثانية، وما أجمل أن يكون الإنسان متعودا على السعادة ومتعودا على البهجة ومتعودا على الفرح، وهذا ما يمكن أن نجده في العيد وحده، والذي هو العادة، وذلك في معناها  الذي يفيد تجديد القديم، ويفيد إعادة الكائن الموجود بصيغة الممكن المحتمل الوجود
والحلقة الماضية من هذه الكتابة كانت عن الشيطان، والذي سلطنا عليه الأضواء الكاشفة، حتى نعرف وجهه الآخر  الخفي، وذلك باعتباره فكرة اولا، وباعتباره حالة ثانيا، حالة قد نجدها عند الأطفال في (شيطنتهم) الجميلة والبريئة، والتي يسميها المغاربة ب(التشيطين) وماذا يمكن أن يكون الفنان، في معناه الحقيقي، سوى أنه طفل في جسد رجل، ويظل هذا الفنان الطفل شيطانا او جنيا، بشغبه وباسئلته وبحيويته وبمكره الصادق، إلى ما لا نهاية، 
اما الأستاذ احمد الغندقلي من مصر، في علاقته الثلاثية بالمسرح ولالطفل وبالشغب الحلال، فإننا نجده يقول في تعليقه على المقالة الماضية، وايضا على المسرحية التي حضر فيها الشيطان في ثياب خياط:
(الله الله الله 
دمت كما انت  دكتور عبدالكريم برشيد
لقد شاهدت مسرحيه( فاوست) التى اخرجها د. محمود زكى  على خشبة المعهد العالى للفنون المسرحيه كمشروع  فى دبلومته
وكان مشرف المادة  ا. سعد اردش رحمة الله عليه،  ورغم مرور الزمن لم انس الصورة الجميلة التى قدمها  د. محمود مع زملاء الأمس ونجوم اليوم والغد، والتى انطلقت من نصكم، 
وإن لم ينح منحى المسرح الاحتفالى كما نظرتم له.
ويبقى ظالم بن مظلوم  مثيرا للدهشة بابرته ام العين الواحدة وخيطه الأعمى حتى قيام الساعة)
اما المخرج الجزائري هارون كيلاني، والذي سبق أن قدم لي مسرحية ( يا ليل يا عين) على خشات المسارح الجزائرية فقد قال:
(يبدو أن انك سحبت الشيطان إلى هدنة لم يكن يقبل بها لولا شيطانتك الأنسية المتفوقة على ملائكيته و في كل هذا ايقضت كل شياطيننا لتنتبه اليك و ننتبه نحن لكل المراحل التي ذكرت و إلى شيطان الزمن ايضا و شيطانة المسافات و لعن كل شيطان لا يفهم الكيمياء و الفيزياء و درسين من التاريخ)
اما صديقي عزيز خيون من العراق، والذي هو  احد الممثلين الكبار الذين زرعوا الحياة في جسد شخصية السجين في مسرحية ( الناس والحجارة) فقد قال ما يلي:
(المفكر والكاتب المسرحي العربي من مغربنا العزيز ، المُعتكف بعيداً عن سقطات الدنيا، الزاهد الكبير ، والمشغول بحاله ، ولكن بأنفة وكبرياء  العلماء، واحترآم الذآت والمُنجز  … أُحييكَ صاحبي )
اما الدكتور مصطفى رمضاني، والذي واكب مسيرة التيار الاحتفالي منذ بداياته الأولى، والذي قارب الاحتفالية، ادبيا وفكريا وعلميا، والذي تذوقها تسوق الصوفيين، فقد قال ما يلي:
(فعلا لقد استراح الشيطان بعد أن أوجد من يقوم مقامه. فقد استفاد من المغادرة الطوعية ليستمر شياطين الإنس في أداء أدوارهم التي يقترحها الخياط كل على مقاسة بواسطة إبرة لها عين واحدة وخيط أعمى. ما أجمل الصورة وما أفظع الأدوار التي نرسمها لأنفسنا وننسبها لذلك الشيطان الغائب الحاضر في دواخلنا استجابة لشهوة الإغراءات ومتعة الغوايات العابرة. محبتي أيها الغالي)
اما الدكتور نذير عبد اللطيف، وهو الكاتب والإعلامي والمؤرخ الجاد والمجدد فقد قال:
(حضور بارز ومتميز في المشهد المسرحي وتراكم كمي وكيفي لا مثيل له في مجال النشر والتواصل 
تجربة فريدة من نوعها ثابرت وعايشت وتعايشت اكثر من نصف قرن نقدا وتنظيرا وإبداعا وما زالت تحمل مشعل الريادة 
فتحياتي لرائد الاحتفالية ومصمم فلسفتها ومبدع نصوصها صديقي الأعز الأغر  عبدالكريم برشيد الذي منه تشعبت الدروب وإليه تتجه المقاصد، باحثا وعالما، مبدعا خلاقا، ناقدا نافدا، ومنظرا اصيلا ..
ما اروعك حيث ما كنت
ثوابت الاحتفالية)

                      الاحتفالية التي انصفت حتى الشيطان
     
الاحتفالية منصفة، ولقد انصفت المهمشين والمستضعفين والمستضعين، واليوم تنصفةحتى الشيطان نفسه، والذي يختبثوابت الاحتفالية هي ثلاثة، وهي ذلك المثلث باضلاعة الثلاثة، والتي النحن - الآن- هنا، فنحن لا يمكن أن نكون إلا نحن، وهذا الآن لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير آنيته المتجددة وغير لحظيته الحية، وتظل هذه الهنا مخلصة ووفية دائما لمكانيتها ولجغرافيتها، ومن الممكن لهذه النحن أن تحاور الآخرين، وأن تقتسم معهم نفس الأفكار ونفس الأحاسيس ونفس المشاعر ونفس القناعات الفكرية، تماما كما يمكن لهذا الهنا الجغرافي أن يكون منفتحا على الهناك، وأن تكون له امتدادات في جميع الجهات. وان توصله هذه الامتدادات الى الأمكنة من غير ان تفصله عنها
وانا في هذه الرسائل لا اتفلسف، الحلقة الماضية من هذه الكتابة كانت عن الشيطان، والذي سلطنا عليه الأضواء الكاشفة، حتى نعرف وجهه الآخر  الخفي، وذلك باعتباره فكرة اولا، وباعتباره حالة ثانيا، حالة قد نجدلها عند الأطفال في شيطنتهم الجميلة والبريئة والتي يسميها المغاربة بالتشيطين، وماذا يمكن الفنان، في معناه الحقيقي سوى أنه طفل في جسد رجل، ويظل هذا الفنان الطفل شيطانا او جنيا بشغبه وباسئلته وبحيويته وبمكره الصادق، إلى ما لا نهاية 
الأس

                   الاحتفال العابر وثوابت الاحتفالية الدائمة

الأصل في الاحتفالي انه انسان، وهو في انسانيته هاته يقف عند الحد الفاصل بين الرحمان والشيطان، وبين المقدس والمدنس، وهو ينتمي إلى الاحتفالية، وذلك باعتبار أن هذه الاحتفالية هي حركية فكرية وجمالية واخلاقية منصفة، ولقد انصفت المهمشين والمستضعفين والمستضعين، واليوم تنصف حتى الشيطان نفسه، والاحتفالية هي ثوابتها وهي متغيراتها ايضا، وهذه الثوابت الاحتفالية هي اساسا ثلاثة، وهي ذلك المثلث الفكري باضلاعة الثلاثة، والتي هي النحن - الآن- هنا، فنحن لا يمكن أن نكون إلا نحن، وهذا الآن لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير آنيته المتجددة وغير لحظيته الحية، وتظل هذه الهنا مخلصة ووفية دائما لمكانيتها ولجغرافيتها، ومن الممكن لهذه النحن أن تحاور الآخرين، وأن تقتسم معهم نفس الأفكار ونفس الأحاسيس ونفس المشاعر ونفس القناعات الفكرية، تماما كما يمكن لهذا الهنا الجغرافي أن يكون منفتحا على الهناك، وأن تكون له امتدادات في جميع الجهات، وان توصله هذه الامتدادات الى الأمكنة الأخرى، القريبة والبعيدة معا، من غير ان تفصله من منطلقه
وما سوف اقوله واكتبه، اليوم وغدا، لا يحتاج لعقل خارق، والتفاهة لا تحتاج لمن يقراها،  ولكنها تحتاج لمن يشمها، ونعرف إن الأشياء الجميلة لها رائحتها الجميلة، تماما كما ان الأشياء المتعفنة يمكن ان نشمها عن بعد بعيد
وهذا الواقع الشيطاني اليوم، في كثير من وقائعه وحالاته، لا يطلب منك اليوم مجهودا كبيرا من أجل أن تفهمه وتفضحه، وهو برائحته الكريهة يفضح نفسه، ويكاد المريب فيه أن يقول خذوني،  وهو بهذا لا يحتاج لأن تكون عالما، او تكون فيلسوفا، او تكون عرافا، حتى تعرفه، وهناك اليوم، من رفاقنا المسرحيين والفنانين، من يفهم أن الفلسفة هي الكلام الذي لا نفهمه، وهي الغامض من الأفكار، وهي الملتبس من الكتابات، وهل هي فعلا هي كذلك؟
ومحامي الشيطان هذا من يكون؟ 
وبالتأكيد فانا لا اعرفه، ولا اظنكم انتم كذلك تعرفونه، ولكن هو يعرف نفسه جيدا، ويعرف ما يريد، وقد نراه في زي الكاتب وما هو بكاتب، وقد يتمثل لنا وهو في زي الفارس، وما هو بفارس، وهل هناك فارس بلا فرس، وبلا اخلاق الفروسية، وخارج زمن الفرسان الحقيقيين؟ وقد يخيل لنا انه قاض وهو جلاد
وللكاتب الروماني يوجين يونسكو مسرحية بعنوان (قاتل بلا أجر) وهذا القاتل بلا اجر هو الموت المجاني، وهو العلم الذي لا يفيد شيئا، ولا يعني شيئا، والذي يجعل المدينة الفاضلة بلا معنى، ويجعل كل العمران الأسمنتي بلا معنى، مع وجود قاتل غامض يقتل الإنسان، والذي هو روح وجوهر كل المدن الحية
 وبخصوص محامي الشيطان، فلا نظن أنه محامي بلا اجر، ولا نعرف كم يقبض من أجل أن يخلط الأوراق المرتبة، وأن يشيع الفوضى في السياسة وفي الفكر وفي الفن وفي العلم وفي الحياة اليومية لكل الناس
 وهذا المحامي، في زمن التفاهة، هو بالتاكيد محامي التفاهة، وهو محامي التافهين، وأرى أن إدانة  التفاهة فقط، ليس كافيا، وان معرفة التافهين فقط،  ليس حلا، لأن الأشياء تتضح باضدادها، والتفاهة لا يفضحها إلا ما يخالفها وما هو ضدها، والذي هو المعقول دائما، وهو المنطقي وهو الإبداع الحق، وهو الفكر في أعلى مراتبه ودرجاته ومستوياته، والتفاهة ليست هي القاعدة. ولكنها الاستثناء في الأزمنة الاستثنائية، وهي بهذا موسمية، وهي عابرة، وهي سطحية، وتبقى الحقيقة أبدية وسرمدية، وقد تختفي، في ظرف معين من الزمان، ولكنها سوف تعود إلى الظهور
وهذا المحامي قد يكون هو ذلك الوسيط الفضولي بين الانسان وذاته، زبين الجسد وظله، وبين الصوت وصداه، وقد يكون مترجما سيئا وخائنا في الترجمة الخائنة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي:
 ( وأظن أن القارئ قد ضيعه الناشر التاجر، أكثر مما ضيعه الكاتب، تماما كما ضيعت الكتابة ‐ السلعة كل المعاني الحقيقية للكتابة والكتاب، تماما كما ضيع المسرح - السلعة والتجارة روح العيد، ومسخ كل معاني الاحتفال المسرحي الحقيقية والجوهرية)
ومثل هذا الناشر الذي يشتغل في مجال الكلمات، مع انه لا يفهم إلا لغة الأرقام وحدها. يدور الحوار التالي بين سقراط والجلاد في مسرحية ( سقراط قالوا مات)
(- لماذا تدير وجهك إلى الجهة الأخرى ايها الجلاد؟ةأتخجل من نفسك؟
-- ما انا إلا عبد يا سيدي.. عبد من عبيد أثينا..
-- ولماذا ترضى أن تكون عبدا، ولقد ولدتك امك حرا؟ا تكون الطيور المجلقة في السماء احسن منك واعقل منك أيها الإنسان؟
-- ليس لي جواب على سؤالك يا سيدي، لأنني لا احسن التفكير..
-- أه، لا تحسن التفكير، وماذا تحسن ايها العبد؟
-- احسن تنفيذ أوامر الأسياد،  وصناعة التفكير ليست صناعة العبيد..
-- عجبا، اثينا الحرة مازال فيها عبيد؟ ودينة ادينا العاقلة مازال فيها الذين با يعقلون؟)
واثينا العاقلة والحرة والمتحررة والديمقراطية، هي التي يبحث عنها الاحتفالي اليوم، والتي سيتواصل البحث عنها غدا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق