مجلة الفنون المسرحية
الاحتفالية مرة أخرى وليس مرة اخيرة (71)
فاتحة الكلام
نعم، هذه الاحتفالية هي بدء يتجدد، وهي جسد يتمدد، وهي الواحد الأحد الذي يتعدد، وهي في الأجساد الحية دورة دموية، وهي في الطبيعة دورة ايام تذهب لتعود، وهي حين تعود من جديد، يكون من الضروري أن تعود بالجديد، وبذلك تكون بعد كل دورة أجمل واكمل، والأصل في هذه لاحتفالية هو انها دائما فكرة اخرى، وذلك في عوالم اخرى وفي ازمان اخرى، وهي بهذا فكر حي آخر، وهي فلسفة ومنظمة فلسفية اخرى، وهي شجرة افكار، قد يحضر فيها الخريف، ولكن فقط من أجل أن يكون ربيعها القادم اكثر حياة واكثر حيوية واكثر جمالا واكثر جمالية، وهي اساسا نظام افكار ، وهي منظومة فكرية اخرى باعمار وانفاس اخرى
وهذا الاحتفالي، والذي نحمل اليوم اسمه ووجهه وملامحه، والذي قد يظهر للناس بانه واحد من الناس، ما هو في الحقيقة إلا كل الناس، وهو أيضا كل الإنسانية، وذلك في اجمل وانبل واكمل واصدق درجاتها، وقد يعتقد البعض، بأن غياب او تغييب بعض الاحتفاليين، في بعض المظاهرات والمهرجانات المسرحية المغربية والعربية، هو غياب وتغيبب لكل هذه الاحتفالية، والتي لها علاقة عضوية بشمس الحق والحقيقة، والتي لا يمكن أن يكون هذا الفعل العدواني تغييبا لها كلها، وذلك باعتبارها مسيرة ومسارا، وباعتبارها فكرا وعلما وفنا واخلاقا، وامام مثل الفعل العبثي، يمكن ان نتساءل:
-- وهل هذه الشمس المنيرة والمضيئة يمكن أن تغيب يوما، وأن يحجبها حاجب من الإنس او من الجن او من الشياطين او من محاميي الشياطين؟
هناك اليوم، في عالم الناس افكار ومعاني واختيارات كثيرة جدا، يمكن أن تكون ظرفية وعابرة، ويمكن ان تصرف بسهولة، وأن تنصرف من تلقاء نفسها، عندما ينتهي أجلها، وإلى جانبها ايضا، هناك افكار أخرى ممنوعة من الصرف ومن الانصراف، وممنوعة من الغياب ومن التغييب، وهذا هو حال الاحتفالية اليوم وغدا، والتي تملك لكل لحظة تاريخية مفاتيحها، وتملك لكل الأسئلة والمسائل الجديدة اجوبتها الجديدة والمتجددة
الاحتفالي عين ترى ..
والأصل في هذا الاحتفالي، هو انه عين ترى، وهو انه عقل يدرك، وهو.انه قلب ينبض بالحياة وبالعواطف الجملية والنبيلة، وهو بهذا عيون كثيرة جدا، وليس عينا وحدة، وهو في حياته وفي حياة فكره وفنه وعلمه، يسعى دائما لأن يكون شاهدا صادقا على الواقع والوقائع، وشاهدا على اليومي والتاريخي وعلى المحسوس والمتخيل
وهذا الاحتفالي، بكل عيونه الكائنة والممكنة، وبكل طاقاته الظاهرة والخفية، هو الذي قال في كتاب (انا الذي رايت ) بانني( لا أومن إلا بالجميل وبالنبيل وبالعقل وبالمنطقي في هذه الأشياء، ورغم أنني أكتب عن الموت، فإنني لا أومن إلا بالحياة والحيوية، ورغم أنني اضطر للكتابة عن القبح دائما، فإنني لا اعشق إلا الحسن والجمال، ورغم أني مجبر على أن أكتب عن الحزن والحزانى في دنيا الناس، فإنني لا أحب إلا العيد والفرح، تماما كما أن صناعتي هي صناعة الفرح وفلسفتي هي فلسفة الفرح)
هذا الاحتفالي الذي رأى شيئا، وغابت عن بصره أشياء اخرى كثيرة جدا، هو نفسه الذي قال في نفس كتابه (انا الذي رايت) ما يلي:
(هذا هو أنا إذن، وهذا بعض ما رايت وعرفت. أن قدرتي على الرؤية محدودة جدا، ولكن عشقي للمعرفة والحقيقة يظل دائما عشقا بلا حدود، فبيني وبين نفسي مسافات، وبيني وبين الناس والأشياء مسافات اخرى أكبر، وبيني وبين مولاتنا الحقيقية مليون سنة ضوئية. ومع هذا، فإنني - ومثل شيخي سيزيف - لا أكف ابدا عن الإصرار، وعن تكرار المحاولة، وعن ممارسة تماريني اليومية، وذلك من أجل ترويض كل حواسي الظاهرة والخفية، حتى يمكن أن ترى اكثر، وان تعي اكثر)
وفعلا. فانا في حياتي الواقعية واليومية لا أرى كل شيء، ولكنني في الحالات الأخرى فإنني أكون شخصا آخر، وتكون لي كفاءات اخرى، فأنا في الحلم أرى الأجمل، وفي الكوابيس ارى الأسوأ وأرى الأقبح، اما في الفن المسرحي، فان سحر الفنون والعلوم تساعدني في الرؤية والخلق والإبداع، كما ان شخصياتي تنوب عني من أجل أن أقول ما ينبغي ان اقول، وأن أكتب مايجب ك أن اكتب
والأصل في هذه الاحتفالية هو انها مشروع فكري وجمالي مفتوح على كل الممكنات والاحتمالات، ونقطة الارتكاز في هذا المشروع يمثلها الزمن، وذلك في شفافيته وزئبقينه وفي مكره وغموضه، ولقد كان الاحتفالي يقول دائما بان تاريخ هذه الاحتفالية المشروع يوجد امامها وليس خلفها، ولعل هذا هو ماجعله ينظر دائما إلى الأمام وإلى الأبعد وإلى الأعلى وإلى الأسمى وإلى الممكن الغائب
وإلى الأرقى وإلى المختلف والمخالف والى المثير والى الغريب والعجيب والى المدهش والى المستفز، وبهذا فقد كانت هذه الاحتفالية سفرا في العقل المغربي والعربي والكوني، وكانت جزء من البحث عن الذات، وذلك في حدودها الفكرية والجمالية، والكائنة والممكنة، والحاضرة والغائبة، وهي ايضا محاولة جادة وصادقة للقبض على المسرح المسرحي، وذلك في صورته الأقرب إلينا نحن الآن هنا، وذلك في ارتباطه بالاحتفال وبالعيد وبالتعييد وبالتجديد، وفي ارتباطه بالحياة اليومية، وفي ارتباطه بالمسارح العالمية، في تجاربها وفي اجتهاداتها وفي فلسفاتها وفي اسئلتها ومسائلها الجديدة والمتجددة
ولقد عرف عن الاحتفالي زهده في كل شيء، إلا في محبة الله وفي محبة عباد الله الأوفياء والصادقين، وايضا في جمال الناس والأشياء وفي جمال الأفكار والمعاني، وفي جمال العلاقات الإنسانية النبيلة
وهذه الاحتفالية، لمن يريد ان يعرفها، هي اساسا حياة وهي حيوية، او هي فقط مشروع حياة، وهي حرية واستقلالية، وهي عشق بسعة الحياة وبعمق الوجود وبسعة التاريخ وبلا نهائية هءا الكون
وهذه الاحتفالية، في جانب من جوانبها، هي فعل (كان) مثل هذا الفعل، والذي يمكن تراه العقول الناقصة فعلا ناقصا وما هو فعلا كذلك، هو أساسا فعل مفتوح على كل الجهات والاتجاهات، ونعرف ان (ما كان) في زمن من الأزمان، يمكن ان نتذكره، وان نعيد مشاهدة صوره، ولكنه ابدا لا يمكن ان نسترجعه، بشكل كامل وشامل وحقيقي، واذا ما استرجعناه، فاننا لا يمكن ان نسترجع روحه وجوهره، واقصى ما يمكن ان نصل اليه هي صوره فقط، وبهذا فإن جزء من هذه الاحتفالية هي مجرد صور وخيالات فقط، او هي مجرد مشاهد سينمائية، ومن حق كل واحد ان يتصورها كما يشاء، أو بالقدر الذي يستطيع، ولكن روح هذه الاحتفالية يظل غامضا وملتبسا، ولا يمكن أن يدرك بسهولة
ومايهمنا اليوم اكثر، ونحن نواصل السير والنبش والحفر، في أوراق هذا المشروع الوجودي والفكري والجمالي، ليس هو الاحتفالية الصورة، او هو الاحتفالية الصور ، ولكنها الاحتفالية الكاملة، وهي في درجتها العالية والسامية، والتي تبتعد يوميا عن فعلها الناقص (كان) لتقترب أكثر من فعل (يكون) الكامل والشامل، والمبحر دوما نحو الجمال والكمال، والذي يمكن ان نصوغه اليوم في السؤالين التاليين:
-- كيف يمكن ان (تكون) هذه الاحتفالية غدا؟
-- وكيف ينبغي أن تكون مستقبلا، وان تكون أصدق وأجمل واكمل واغنى من تلك الاحتفالية التي (كانت) أومن كل تلك الاحتفاليات الأخرى، والتي لها ارباط بفعل ماض ناقص، وما كان في الواقع والتاريخ هو فعل ثابت وجامد، وهو مجرد صورة او مجرد وثيقة، اما ما يكون، او ما سوف يكون، او ما ينبغي ان يكون فهو مفتوح على كل الاحتمالات، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يقول دائما(قل قل كلمتك وامش إلى الأمام) ( وانظر أمامك ولا تلتفت خلفك)
وتلك الاحتفالية او تاك الاحتفاليات التي لها وجود في الماضي، هي اليوم في ذمة التاريخ، وهي بين ايدي الدارسين والباحثين والمؤرخين والحكواتيين، ولكن الاحتفالية الجديدة والمتجددة. فإنها لا يمكن ان تتحقق إلا بالأفكار والتصورات الحية، وايضا بالاقتراحات الفكرية والجمالية الجديدة والمجددة والمتجددة، ولعل اخطر ماينقص المسرح المغربي والعربي اليوم هو الحياة وهو الحيوية. وهو الصدق والمصداقية، وهو الإبداع الحق. وهو التجربة الصادقة. وهو التجريب الحق، وهو ان يعرف هذا المسرحي نفسه، وان يعرف طبيعة لحظته الزمنية، وان ينظر المفكر والمبدع فيها إلى الأمام دائما ، وأن يراهن على الأبعد والأصعب، وأن يقرا أوراق الحياة، وهي في شجرة الحياة، بدل ان يكتفي بان يقرا الأوراق التي لها وجود في الكتب وفي المجلات والجرائد وحدها
احتفالية بلا ضفاف واحتفاليون بلا حدود
وهذه الاحتفالية هي الحرية والاستقلالية، وهي العقل والعقلانية، وهي العقل المبدع في مقابل النقل المتبع، وفي السبعينات من القرن الماضي، وفي ظل ذلك التقاطب الذي كان بين الشرق والغرب، وبين الفعل الغربي، بماديته وواقعيه وبراغماتيته وعلميته، وبين الفعل الشرقي، بكل اوهامه ووعوده وشعاراته، اختارت الاحتفالية ان تكون خارج هاذين البعدين الجامدين، مؤكدة على الاجتهاد المختلف والمخالف، وعلى التعامل مع الأفكار العاقلة، بدل الانفعال في مواجهة الشعارات الظرفية
ولقد وجدت هذه الاحتفالية نفسها، في بداياتها الأولى مجبرة على ان تكون مع هذه الجهة او مع تلك، وأن تكون في اليمين أو في اليسار، ومع هذا التيار الفكري والمسرحي او مع ذاك ولقد اختارت ان تكون في كل الجهات، وان يكون لها على الأرض موقع هو موقعها الخاص، وأن يكون لها في الفكر والفن والعلم والصناعات المسرحية موقف هو موقفها، ولعل هذا الطموح المشروع، قد كانت جرعته، في ذلك الوقت زائدة قليلا او كثيرا، وكانت مستفزة ايضا، خصوصا في زمن تسيدت فيه الرواية على الدراية، وطغى فيه النقل على العقل، وشاع فيه منطق السير باتجاه ومع الموجة العالية، ولم يكن مسموحا لنا أن نفكر، او ان نجتهد، وأن نقترح مسرحا آخر غير المسارح الغربية الموجودة، ولقد كان شعار تلك المرحلة هو( ومن يبتغي غير المسرحية الأوربية الغربية فلن يقبل منه) وفي ذلك الظرف التاريخي إذن، والذي تغير اليوم شكله ولم يتغير جوهره، وجدنا من يقول لنا (هذه الاحتفالية دعوة، ووراءها- بلا شك - جهة او جهات خفية، وبعد النزعة العبثية والعدمية والفوضوية، فإننا - هذه المرة - نجد أنفسنا امام نزعة اتهامية، نزعة لا تخلو من عدوانية، ومن إرادة خفية للتدجين والتصنيف والتصفيف)
ولقد جاء هذا الكلام في كتاب ( كتابات على هامش البيانات) الذي صدر سنة 1999
وعن هذه الاحتفالية المتمردة يقول الاحتفالي ( ان اخطر ما ظل يقلق في هذه الاحتفالية، هو أنها ممنوعة من الصرف، وممنوعة، أو متمنعة على الإدراك المحدود وعلى الوعي المسدود
ومن طبيعة البعض معاداة ما لا يفهمون)
وفي كتاب (كتابات على هامش البيانات) ايضا، يمكن أن نقرأ ما يلي:
(في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) يقول هربرت ماركوز، محللا بعض اتجاهات الراسمالية الأمريكية التي تقدمها إلى(مجتمع مقفل) بأنه يسير الناس في الصف، ويضم كل أبعاد الوجود،الخاص والعام، وفي رأيه دائما فإنه تتم (إدارة الغرائز البشرية وتجنيدها ) بطريقة ممنهجة، وضد هذه الإدارة الممنهجة للغرائز، قالت الاحتفالية كلمتها، وأعلنت رفضها، مؤكدة على أن الإنسان اكبر من أن يكون مجرد ألتين فقط، ولا شيء سوى ذلك، ألة للإنتاج وأخرى للستهلاك)
شمعة الاحتفالية وظلام العالم
يقول الاحتفالي، لا تلعن الظلام، لسواده، لأن للظلام، بسواده جمالياته، واغلب مسرحياتي تدور في الليل، ولعل اصدق كل شخصياتي هي شخصيات الليل، من شعراء ومن صعاليك ومن تائهين ومن ضائعين، وفي هذا المعنى تقول هيلين كيلير( إن لكل شيء في الوجود مباهجه، حتى الظلام، وحتى السكون)
والظلام الخارجي تنوره الشمس والقمر والنجوم، اما القمر الجواني فتنيره شمس الحق وشمس الحقيقة
وفي زمن الحرب الباردة حضر محامي الشيطان، ومع المد الإيديولوجي كانت كلمة محامي الشيطان هي العليا، وكانت كلمة الإنسان المواطن هي السفلى، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في كتاب ( كتابات على هامش البيانات )ما يلي:
(لقد كان العالم مقسما إلى قسمين، وكانت (حقائقه) مقتسمة بين قوتين، وبينهما عاشت ملايين النفوس حيرتها وغربتها وتشردها السياسي وتيهها النفسي والروحي، ورغم اختلاف الخطابات والشعارات، فإن ذلك لم يكن ليتعدى السطح إلى ما دونه، وكان اللقاء - المسكوت عنه - يتم عادة عند حدود الانغلاق والتحجر ومعاداة الإنسان، وعند درجة ترويج الزيف والوهم والأساطير الجديدة والكذب على التاريخ وعلى الحقيقة معا)
وهذه الاحتفالية، عندما أكدت على مدنية المدينة، فإنها بالضرورة كانت ضد عسكرة المدينة، وكانت- وما تزال - ضد تحويلها إلى ثكنة عسكرية، وهي بهذا ضد تصنيف الناس، كل الناس، وضد وضعهم داخل قوالب وخانات و رتب عسكرية ثابتة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق