جماليات المكونات النصية في مسرحية "سبكتروفوبيا"
*فاطمة الزهراء العسري
ينطوي كلّ نص مسرحي على نسق من العناصر المُكوِّنة، مثل: الشخصيات، والمكان، والزمان، والحوار، والمونولوج، والسرد. هذه العناصر هي عناصر مُكوِّنة عمومية، إذ لا يخلو منها أي نص مسرحي، فهي التي تمنح المسرحية طابعها الأجناسي العمومي، بيد أنّ كلّ نص مسرحي يتعامل مع هذه العناصر بآلية بنائية خاصة، ما يمنح النص المسرحي خصوصيته الجمالية، وقيمته التفردية، الممايزة له من النصوص المسرحية الأخرى المنتمية إلى السياق الأجناسي نفسه.
وما يهمنا في هذا المجال، مساءلة البنية النصية لمسرحية "سبكتروفوبيا"، للكاتبة المغربية رفقة أومزدي، محاولين اكتشاف قيمة النص الدلالية، وخصوصية بنائه المتفرد، وبعده الجمالي الفني.
أولا: في دلالة العنوان:
عنوان المسرحية هو "سبكتروفوبيا"، والسبكتروفوبيا وفق علم النفس، هو رهاب المرايا، إذ تخاف الشخصية الحاملة لهذا المرض من النظر إلى نفسها في المرآة أو أي سطح عاكس آخر، هذا العنوان يشي بأنّ شخصيات هذه المسرحية تعاني من هذا الرهاب، إن لم يكن واقعياً فرمزياً، إذ تهاب النظر إلى انعكاس جسدها الفيزيولوجي أو تهاب النظر إلى كيانها بما فيه من إشكاليات وتحديات متمايزة.
بيد أنّ الكاتبة من خلال هذه المسرحية، جعلت الشخصيات الأنثوية تتوقف أمام مرآتها الداخلية، لتسائل ذاتها، وتضع يدها على الإشكاليات التي أفضت بها إلى هذا السياق، فكانت الفصول المسرحية لحظة لتجاوز السبكتروفوبيا، والوقوف أمام المرآة الذاتية لكل شخصية من شخصيات المسرحية.
ثانيا: بنية الشخصيات الأنثوية في مسرحية سبكتروفوبيا (المسافة الحركية بين الواقع والمأمول)
تتكوّن مسرحية سبكتروفوبيا من خمسة فصول، نجد في كلّ فصل من هذه الفصول شخصية أنثوية محورية، عدا الأخير الذي جمع شخوص الفصول الأربعة، ففي الفصل الأول المُعنون بمكنسة لأطير، نجد زهرة، تلك الأنثى المُتعالِقة نصياً مع شخصيتين، الشخصية الأولى هي زوجها، وطبيعة العلاقة بينهما هي علاقة اتكالية، إذ يتكل الزوج على زهرة في تدبير أمور الحياة، وهو بهذا الاتكال يتخلى عن خصائصه الرجولية ويتقمص خصائص طفولية من المفترض أنّه تجاوزها زمنياً. والشخصية الثانية هي شخصية أنثوية متمثلة بابنة زهرة، والعلاقة القائمة بينهما هي علاقة اتكالية غير عرفانية، إذ تتكل الابنة على الأم في تأمين متطلبات الحياة، وذلك من دون أي امتنان أو عرفان، فقد تحول التفضل الذي تقدمه زهرة للابنة إلى واجب. وقد انتهى هذا الفصل من المسرحية بتخبط زهرة بين الواقع القائم والواقع المحتمل، فلو أنّها تخلت عن زوجها من البداية، أو لم ترتبط به أصلاً، لما وصلت إلى ما وصلت إليه.
والفصل الثاني من المسرحية عنوانه سجين جسدها، وبطلة هذا الفصل ياسمين، تلك الشخصية المركبة، التي تعيش حالة صدامية بين شكلها الفيزيولوجي وشعورها الداخلي، فشكلها شكل أنثى بيد أنّ رغبتها الداخلية في أن تكون رجلاً لا يمكن محوها، وقد استمرت هذه العلاقة الصدامية فترة طويلة، وكان المانع الجوهري من حل العقدة الصدامية هو الخوف المزدوج من الآخر، إذ كانت تخاف من أن تشكل صدمة لأمها ، وعندما توفت الأم أصبحت تخاف من نظرة المجتمع إليها، فتخلت عن رغبتها في التحول، واختارت أن تعيش بقية حياتها في ظل هذه العلاقة الصدامية بين الشكل المفروض والحس الداخلي بالرغبة في تجاوزه.
والفصل المسرحي الثالث، والمعنون بقبلة مسمومة، بطلته نرجس، الفتاة المكتفية مادياً، غير أنّ المجتمع ألقى عليها لقب عانس بسبب تأخرها في الزواج، وتدخل هذه الشخصية في علاقات تفاعلية مع شخصيات أخرى ذكورية، في محاولة منها للزواج وإنجاب طفل، بيد أنّ هذه العلاقات تنتهي بالفشل، وذلك بسبب خيانة الرجال وعدم جديتهم تجاهها، فهذه الشخصية تتحرك في المسافة القائمة بين رغبتها في عيش تجربة الأمومة والواقع الاجتماعي القاسي الذي يمنعها عيش هذه التجربة، وذلك بسبب تصوراته عن الفتاة التي تقدمت في العمر.
أما الفصل الرابع: عهد المحبين قد ينقضي، بطلته ريحانة في العقد الخامس من العمر، عاشت ريحانة حياة نمطية، إذ تزوجت وأنجبت البنات والأبناء، وبدلاً من أن ترتاح في نهاية حياتها_ كما هو متوقع_ عاشت إشكالية طارئة، إذ تطلقت ابنتها بعد شهرين من زواجها، هذا الطلاق قلب الأدوار، فبعد أن كانت ريحانة تتداول النميمة عن الآخرين أضحت هي موضوع النميمة، ما أثر فيها نفسياً، وجعلها تعيش حالة تناقض بين الماضي والآني.
إذن، نحن أمام شخصيات أنثوية ذات إشكاليات متمايزة توازي الإشكاليات التي قد تعيشها أي أنثى في السياق الواقعي، وعلى الرّغم من تنوع هذه الإشكاليات في الشكل إلا أنّها تتفق في البنية، فجميعها قائمة على ثنائية الواقع والمأمول، فهذه الشخصيات الأنثوية وصلت إلى واقع مرفوض نفسياً وحياتياً، ما جعلها تستذكر الواقع المفترض أو المأمول الذي منعها من تحقيقه السياق الجمعي الاجتماعي أو البنية النفسية الداخلية للشخصية ذاتها.
وتتحقق جمالية بنية الشخصيات في هذه المسرحية من خلال آليتين:
- الآلية التقابلية: إذ من الممكن أن تتقاطع أي شخصية من شخصيات هذه المسرحية مع أي شخصية واقعية مُفترَضة تعايش الإشكاليات ذاتها، وتكمن جمالية هذا التقاطع في قدرة الكاتبة على نقل الواقعي المُعاش إلى سياق تمثيلي مسرحي مكثف، فيُتَلَقى المعيشي الممتد وفق صيغته الفنية المكثفة جمالياً.
- آلية إيقاع الوحدة والتنوع: فعلى الرّغم من التمايزات الشكلية الفيزيولوجية بين الشخصيات إلا أنّها محكومة ببنية أحادية جوهرية، ناجمة عن التماثل النسقي الاجتماعي الحاضن لها، ما يجعل المتلقي يتحرك إيقاعياً وفق إيقاع الشخصيات المتمثل في التنوع الشكلي والوحدة النسقية.
ثالثا: من المونولوج إلى الحوار
1_ المونولوج؛ من السرد الاسترجاعي إلى الانكشاف:
يشكل المونولوج الداخلي عنصراً جوهرياً من عناصر هذه المسرحية، إذ يُوظف توظيفاً محورياً في الفصول كافة، ولهذا المونولوج المتموضع في البنية النصية المسرحية وظيفتان مركزيتان، وهما: الوظيفة السردية الاسترجاعية، والوظيفة الانكشافية.
الوظيفة السردية الاسترجاعية:
تدخل شخصيات مسرحية سبكتروفوبيا في حالة مونولوج داخلي، ويُعدّ هذا المونولوج مدخلاً جوهرياً لاكتناه السياقات ما قبل الآنية للشخصيات، فمن خلال المونولوج عرفنا قصة زهرة، ونرجس، وياسمين، وريحانة، وذلك عبر الإنصات، نصياً، إلى المونولوج الداخلي الاسترجاعي لكلّ شخصية من هذه الشخصيات.
الوظيفة الانكشافية:
يشكل المونولوج الداخلي في مسرحية سبكتروفوبيا لحظة انكشافية مزدوجة، فمن خلاله تكتشف الشخصيات ذاتها وسياقاتها التي أفضت بها إلى الوضع الآني، كما يكتشف المتلقي حقيقة هذه الذوات الأنثوية وإشكالياتها التي هي جزء من الإشكاليات العمومية.
2_ في إشارية الحوار:
لا يظهر الحوار في هذه المسرحية إلا بعد الفصل الرابع، إذ تدخل هذه الشخصيات الأنثوية في حالة حوار نمطي يومي، وقد كشف لنا هذا الحوار القائم أنّ هذه الشخصيات، على الرّغم من إشكالياتها المتباينة، تعيش في سياق مكاني مشترك، زد على ذلك أنّ المشاهد المسرحية التي أدتها هذه الشخصيات حصلت في لحظة زمنية واحدة، فالحوار في مسرحية سبكتروفوبيا له دور وظيفي إشاري، إذ حدد لنا السياق الزمكاني للأحداث المتموضعة ضمن السياق المسرحي.
ومن هنا، تتحقق جمالية كلّ من المونولوج والحوار من خلال:
_ قدرة المتلقي على اكتناه مضمرات الشخصية وسياقاتها التاريخية التي مرت بها من خلال الإنصات إلى حوارها مع ذاتها.
_ لحظة انكشاف الوحدة الزمكانية الخاضعة لها الشخصيات الأنثوية المتمايزة، وذلك من خلال البنية الحوارية المتموضعة في نهاية المسرحية.
رابعا: البنية الزمكانية في مسرحية سبكتروفوبيا
1_ في السياق الزمني:
تدور المشاهد الأربعة للمسرحية في سياق زماني واحد، وإن كان تقديمها تقديماً زمنياً تراتبياً، ويبقى المتلقي معتقداً أنّ هذه المشاهد منفصلة زمنياً عن بعضها البعض إلى أن يصل إلى نهاية المسرحية، وتحديداً اللحظة الحوارية بين الشخصيات والتالية للحظة سماع دوي صوت قوي، فيكتشف أنّ هذه المشاهد لم تكن مشاهد تراتبية، بل هي مشاهد حاصلة في لحظة زمنية واحدة، فيدخل في حالة تفاعلية جمالية ناجمة عن نشوة اكتشاف الحبكة الزمنية المراوغة التي بنتها الكاتبة، والمتمثلة بإيهام التتابع وحقيقة البناء الآني الزمني.
وعلى الرّغم من أن المشاهد التي قدمتها الشخصيات الأنثوية هي مشاهد آنية، إلا أنّ ذلك لم يمنعها من السرد الاسترجاعي للحظات ما قبل آنية، عايشتها وأفضت بها إلى السياق الإشكالي الآني، وذلك من خلال آلية المونولوج، ما خلق حالة تواترية جمالية ناجمة عن حركة المتلقي بين سياقين زمنيين؛ سياق معاصر آني وسياق استرجاعي ماضوي.
2_ في السياق المكاني:
توهم رفقة أومزدي المتلقي في بداية مسرحيته إيهاماً مكانياً، إذ يبدو أنّ السياقات المكانية التي تموضعت فيها الشخصيات، هي سياقات متباينة ومنفصلة جغرافياً، إذ لا تنتمي إلى جغرافية مكانية واحدة، وتستمر هذه الآلية الإيهامية حتى نهاية المسرحية، فيكتشف المتلقي أن هذه الشخصيات الأنثوية المتنوعة عمرياً وشكلياً تنتمي إلى كتلة مكانية واحدة تضم الشخصيات المسرحية الأنثوية ( يقطنن نفس البناية)، وقد خلقت هذه النقلة قيمة جمالية فنية، ناجمة عن الحركة الإيقاعية للمتلقي بين إيهام التنوع المكاني وحقيقة الوحدة المكانية للشخصيات.
خامسا: في إيقاعية بناء الفصول المسرحية
هناك منهج بنائي خاص لفصول مسرحية سبكتروفوبيا، إذ يبدأ كلّ فصل من هذه الفصول بداية زمنية آنية، تتطرق إلى السياق اللحظي للشخصية الأنثوية بطلة الفصل، ليُنتَقل بعد ذلك، إلى السياق الزمني الماضوي، وذلك من خلال آلية المونولوج، فنستطلع السياقات الماضوية للشخصية، ليُعاد بعد ذلك إلى السياق الآني، وتكون هذه العودة إجبارية، من خلال تموضع ظرف خارجي قسري، ألا وهو سماع دوي صوت عنيف، لا تفسير له، يقطع البنية الحكائية، ويوقف عملية التلقي للفصل المسرحي، ويمهد لبداية فصل مسرحي جديد ينتمي إلى المسرحية ذاتها.
وقد حقق هذا البناء الفصلي المسرحي وظيفتين:
أولها: منح البنية النصية قيمة بنيوية تماسكية، ناجمة عن تواتر آلية بنائية واحدة عبر الفصول المختلفة للمسرحية.
ثانيها: خلق حالة فضولية جمالية عند المتلقي، ناجمة عن تموضع حدث خارجي غير مُفسَّر (الصوت المفاجئ)، وهذا التموضع يحفز الاستمرارية في عملية التلقي لاكتناه مسبب هذا الصوت، ويمنع حدوث تعطيل قرائي ناجم عن اكتمال تلقي فصل أحادي من فصول المسرحية.
*باحثة في مجال المسرح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق