تصنيفات مسرحية

السبت، 6 يناير 2024

كوميديا تنَين تنَين : جماليات الترقب والكشف من أجل عائلة سعيدة

مجلة الفنون المسرحية


كوميديا تنَين تنَين :  جماليات الترقب والكشف من أجل عائلة سعيدة  

*الحسام محيي الدين 

حتى وقت قريب كانت مسرحية " تنَين تنَين " تشهد إقبالاً ملحوظاً على مسرح مونو في بيروت العاصمة على امتداد 55 دقيقة من الوقت وبتوقيع " زلفا شُلحت " ومساعد مُخرج ميشال فغالي ، تمثيل كريستين شويري وباتريك شمالي الذي ترجم النص إلى العربية  وأعدّه باللهجة اللبنانية المحكية عن مسرحية  (  Duets  )" دويتس " لمؤلفها الأميركي  بيتر كويلتر  Peter Quilter بعدما اشترى من الأخير حقوق الترجمة والعرض ، لينطلق في أول تجربة إنتاج مسرحي له ، تُعرض معرّبة للمرة الأولى في العالم العربي كما يؤكد لنا شمالي . تتوضّع المسرحية على فصلين ، في كل منهما بطلان رجل وامرأة " تنَين تنَين " ، الأول بعنوان " سفرة من العمر " يقرر فيه بوب ( باتريك شمالي ) وزوجته سلوى ( كريستين شويري ) الانفصال  بعد تراكم سنوات من المشاكل وصعوبات التفاهم بينهما في العقلية وطريقة فهم الحياة ومعاني العيش تحت سقف واحد في بيت الزوجية ، إنما بعد عودتهما من عطلة صيفية إلى أحد المنتجعات في أسبانيا دفعا تكاليفها سابقاً وتشاركياً قبل اتّخاذ القرار المصيري ، حيث يبدأ الزوجان باسترجاع ذكرياتهما الأولى منذ تعارفا وكيف تعايشا مع مواقف ومحطات الحياة الكثيرة بينهما بين حزن وسعادة وأمل وألم ، إلى عادات وتصرفات كل منهما التي طفتْ على سطح العلاقة بينهما صريحة بغير مواربة ، حتى تفجرت طباع كل منهما متناقضة مع الشريك ، متراكمة تراكماً قاسياً مع الوقت ما فرض الاتفاق على الطلاق الذي يقتضي بأن يقتسما كل شيء يملكانه بينهما . بعد الوصول إلى المنتجع المقصود ، استمر الحوار دائماً نارياً وحادّاً وفق طبيعة كل محطة في حياتهما ، يستذكر كل منهما ما يعدّه وجهاً سلبياً منها ، لكن الوقت كان كفيلاً بتهدئة وتيرة النقاش رويداً فتتجه النفوس إلى الاستقرار ، وحيث يبدو أنّ " سلوى " تجنح إلى العودة عن قرار الانفصال وأنها لا تزال تحرص على البقاء معه إذ اكتشفتْ أن مجرّد السفر والاستمتاع بالرحلة معاً هو فسحةُ أمل في التراجع عن قرارهما ، ويمكن تجاوز الأسباب التي دفعت إليه . أما " بوب " ، فإنه وإنْ لم يُبدِ ما أبدته " سلوى " من عفويةٍ نحوه ، لكنه يميلُ في جوانيّته إلى الأمر نفسه ، فهذا ليس وقت الفراق إلى الأبد ، حتى ندخل المشهد الأخير الذي يستغني كل منهما فيه عن حضور سهرة ختام الرحلة ليظلّا معاً في غرفتهما في نهاية مفتوحة الاحتمالات للنظّارة بعد إسدال الستارة . الفصل الثاني وهو بعنوان " آويها " يحكي قصة العروس " نجوى " التي تدخل في دوامةٍ من القلق والتردُّد ليلة زفافها وهي تسأل أخاها " ثابت " عن صوابية ما تقدم عليه في زواجها الثالث بعد زواجَين فاشلَين سابقين ، ما يستدعي غرابة وطرافة من أخيها الذي يرى أن الموقف في هذه اللحظة الحرجة متأخر جداً عن أي تغيير ولا متّسع فيه للتساؤل أو التراجع ، يمضي في تهدئتها وتشجيعها وإقناعها بالخطوة  فهو متزوج أيضاً ، مع ما كان يستفزّه من كونها صاحبة تجارب ناضجة في مسائل الزواج  يفترض أنها تعلمت منها الكثير في أحوال العلاقات وطبيعة الحياة . الأخ " ثابت " صريح صدوق غير مُجامل ، بل هو قاسٍ أحياناً في أحكامه واعتراضاته وتفسيره للأمور ، إنما بأسلوبه الظريف  حيث يصف أخته بأنها المرأة الجميلة جدا رغم عديد الملاحظات التي أظهرت سذاجتها ؛ فها هي نصف غافية بانتظار حفلة الزفاف ، إلى تسريحة شعرها الضخمة فوق فستان العرس العريض جداً حتى يتساءل  قائلاً : " هذا الفستان كله لشخص واحد ؟!" فيما هي تتحمل ما يقول ، فهو هكذا دائماً معها ، يحبها ويغار عليها ومعذور فيما يراه مناسباً لامرأة  المُفترض أنها لم تعد صغيرة بل سيدة نفسها وقرارها وليس في العمر متسع للتردد . في النهاية تقع القهوة على الفستان الأبيض  ويحاول الأخ تنظيفه ببدائية ، ما يسبب بتمزق جزء منه ليجنّ جنون العروس في مشهد مضحكٍ ينتهي قبل أن نعلم ما مصير هذا الزواج . لا يمنع ما أوجزناه في فصلَي المسرحية أعلاه ، أن نقرأ تالياً في ثنايا المواقف وطوايا الشخصيات وجمالياتها الفنية ، حيث تناول الأوّل مسألة الطلاق  والشريكَين الناقمَين على مسار علاقتهما مع الحرص على احترام الزواج كرباط مقدّس بموازاة  ما بدا أنه حبّ مُستتر ومستمر لا يزال يتملك " سلوى " باتجاه " بوب " في غير موقف وحوار، توّاقةً رغم إجراءات الطلاق ، إلى البقاء معه " ما بدي تخلص قصتنا " ، وحيث نتبين  أن تراكمات من سوء التفاهم أظهرت اختلافاً في الشخصيتين ، ولعبت سلباً بينهما  لكنها تحصل كثيراً ومنتشرة  في المجتمع ؛ فالزوجة تحبّ الحياة والسهر والسفر والنزهات والمرح ... الخ ، وهو الزوج الجديّ الذي لا يرى في هذه الأمور حاجة مُلحّة ، بل مضيعة للوقت ولزوم ما لا يلزم ، إلا في حدود بعض المناسبات الاجتماعية التي يمكن تقنينها إذا تعذر الابتعاد منها . من هنا ، جاء الفصل الأول كوميدياً إنما أقلّ إضحاكا ، فلم يكن الضحك فيه شرطاً للكوميديا ، كما أن الأخيرة لم تفترض دائماً إتاحته بطريقة مبالغ فيها ، بل أدّت مشهداً جمالياً يعبّر عن عالم مثاليّ من منظور أنثروبولوجي اجتماعي لصيق بالبيئة اللبنانية أَحَدُ دلالاته ما رأيناه في مشهد الزوجَين على شاطىء البحر الذي ترى الزوجة أنه يذكّرها بأيام شهر العسل في مدينة " زحلة " الجبلية التي لا بحر فيها أصلاً ، لكنها قصدت ، على سبيل الدعابة ، إلى استذكاره من باب شاعرية استحضار ما عاشاه في تلك المدينة من حبّ عاصف ما ندمت ولا حزنت يوماً لأنه تحوّل إلى زواج ، كل ذلك في سياق حساسيةٍ عميقة تعيشها أنثى جميلة وهي ترى إلى مستقبل ما ، تتركُ للجمهور أن يستشرفه بنفسه ، فإما يعودان عن طلاقهما إلى الأبد ، وإمّا أنها لحظة عابرة على طريق الانفصال . أما الفصل الثاني فيقول بالزواج ويدفع إلى إنجازه على الرغم من تضخيم الخلل في شخصية " نجوى " بسلاسة وتماسك وبفانتازية  ماتعة ؛ فقد كان لفستان الزفاف رسالة محددة في رمزية ضخامته واتساعه وقد انعقدت من فوقه تسريحة شعر ( نجوى ) ، شكلت ركيزة لكشف  شخصية  " نجوى " الحقيقية وإطلاق موجة من الضحك بعد اكتشاف الجمهور بأنها المرأة  البسيطة عكس ما امتدحها به أخوها أوّل العرض ، فمن غير المعقول أنها بعد تجربتَي زواج  سابقتَين وعِشرة رجُلَين لكلٍّ منهما طباع وعادات وتصرفات " رجعية " ، مختلفة عن الآخر ، لا سيما الثاني الذي كان  " يناقر " كثيراً  وعقلاته " دقّة قديمة " وإن كان يحبها بصدق ، لا يمكن بعد كل ذلك ألّا تتحول إلى شخصية أكثر نضوجاً وجدّية وحكمة ، سيدّة نفسها وقرارها بيدها بعكس ما تعيشه الآن من القلق والتردد وهي تُقدِم على زيجتها الثالثة ، كما أن العمر لم يعد يسمح بأن تسأل أخاها : " هالمرة شو رأيك ؟! . أيضاً حقّق هذا الفصل التكامل بين الكوميديا والاضحاك بشكل مقنع وكافٍ جمع بين التسلية والنقد ، فكان أشبه بالمساجلة العفوية التي جعلته عرضاً ذا شأن اجتماعي يحمل في جانب منه قيمة أخلاقية فيما يجب أن تكون عليه المعاملة تحت سقف مؤسسة الزواج . في كل حال ، العرض كوميديا حيوية فيها ضحك وحزن معا ، ابتعد من الابتذال في الكلمة والحركات ، ولا نبالغ إذا قلنا أنه ينطق بلغةٍ عالمية بمعنى أنه يتصالح مع ذواتنا في أيّ مجتمع ومكان وزمان ، ولئن تباعد الفصلان في التوجه العام تحت عناوين ثنائيات ضدّية تحكم رؤية كلّ منهما ، بين فكرة الأول الطّلاق / الانفصال والجفاء ، والثاني  الزواج / الارتباط  والمودة ، وبصرف النظر عن واقعية وصحّة الأسباب ، إلا أن رابطاً قوياً جمعهما في العمق هو تبيان واقع العلاقات بين الرجل والمرأة  في وضعيتَين إجتماعيتَين حملتا  نهاياتٍ يمكن عدُّها سعيدةً مُرضِية ، من حلحلة الأمور والتخلي عن فكرة الطلاق في الأول ، إلى الدّفع لاتمام الزواج في الثاني ، مع ما تُرِك للمُشاهد من حرية التفكرعلى النحو الذي يراه مناسباً لخاتمة كل منهما . هذا العمل هو الثاني بين شمالي والمُخرجة شُلحت بعد تعاون أول في مسرحية " من هي أنّا أُو " هذا العام ، حيث كان وجودها ضرورياً ومناسباً لترى إمكانات النص والأداء من الخارج كما يفيدنا شمالي ، حريصةً على استثمار تقنيات أدائية  مستوحاة من مدرسة Stanislavski  حيث لم تجد عناء يذكر في إدارة التمثيل مع شمالي  وشويري اللذَّين تعمقا في النص وكيفية تنفيذه بعين الممثل القدير ، وحيث يمكن الادّعاء أن شمالي لعب دوراً موازياً للإخراج في عملية توليف النصّ وإعداده بعد ترجمته عن الانكليزية ثم " لبننة " عباراته ومفرداته في العبارات والمفردات ، فيما أسقطت شويري من إحساسها الشرقي على وجدان الشخصية التي لعبتها ولو بعد غياب طويل عن المسرح منذ العام 2011  . إنه الثلاثي  شين : شمالي ، شويري ، شُلحت ، في عملية محاكاة ساخرة تحمل الترقب والكشف وتشكيل الحبكة ثم تعقدها حتى انفراجها في الخطاب الملتبس على مستويَي المصادفة أو القصد المسبق حتى إيصال فكرة مجردة لها بُعد رسالي توّاً في المكان والزمان اللذّين نعيشهما . إلى ذلك تشكل فضاء العرض على يدي سولانج تراك تحقيقاً للرؤية الدرامية والتأثير بالمُشاهد ، سواءً بالتقنيات المستخدمة في الاضاءة والمؤثرات السمعية  وهندسة الصوت مع محمد فرحات ، أو بالديكورالبسيط  المُقنِع  الذي شاءت " تراك " ترتيبه بين الأبيض والأسود لاعطاء الانطباع بالأحجام والأبعاد في محيط وعمق المسرح بمعية ماريلين خوري ، تنويعاً فريداً لسينوغرافيا غير مسبوقة في ديكورات المسرح اللبناني المعاصر  للسنوات الأخيرة  خدمت عدة مستويات من العرض منها  تخفيف سطوع الألوان المحيطة بالممثلَين حتى لا يتشتت تركيز المتفرجين عليهما ، وإضفاء روح البساطة على الخشبة ، إلى استثمار أقصى ما يمكن من فضاءاتها لإعطاء بعض المَشاهد بُعداً شاعرياً .    

المخرجة زلفا شلحت




*ناقد وباحث مسرحي
بيروت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق