نادلٌ فيتنامي في بيت الشاي الصيني يقدم لي شايًا سريلانكيًا مصنّعًا في بريطانيا، الشاي الياقوتي يتألق في قدح ياباني الصنع مزين بنقشة خيزران وقصيدة هايكو، الفيتنامي ينحني مع ابتسامة فرنسية مهنية وزائفة جدًا مصحوبة بلكنة باريسية تحوّلُ حرف الراء إلى غين:
- بونجوغ مدام...
أردُّ عليه بكلمة امتنان مشرقية، ملامحه جامدة بلا تعبير، أندهشُ من براعة هذا الآسيوي التابع في التنكر بجلد فرنسي، إنها لحظة عولمية جمعت أحوالًا وثقافات شتى في قدح شاي. العولمة مسخت كل سمة محلية أو قومية للوجوه والعادات في المدينة العالمية.
يدهشُني تنكّرُ بعض البشر في غير جلودهم بقدر ما يقدّم لي إشارة تحذير من جميع المتنكرين لأصولهم والذائبين في وهْمٍ عولمي، لعبة ممجوجة من جانب وممتعة كالسحر من جهة أخرى: أن تتراءى لك وجوه تغاير ما يخفيه القناع المستعار، الوجوه الخفية تعلن براعة التماهي وقدرة البشر على تقمص حالات مختلفة لمراوغة حقيقتهم وأصولهم وانتماءاتهم.
الشاي هنا في هذا المقهى أشهى من الأشربة كلها، يحيل عصر ذلك اليوم إلى يقظات وانتباهات تنثال معها ألف فكرة. ليل الغربة المديد ترك إنقباضات أسى وبعض حيرة على قسماتي، غسلتها صباحًا بالإنكار ودعكتها بملح الدموع وما امحّت، فركتها بذاكرة التشرد ومسحوق الأمل فما تلاشت، طردتها باستحضار ذكريات هانئة فما اختفت. الشاي يدحض بقايا أرَقي وبقع معتمة نسيها الخوف والزمن على جلدي وغضون يدي.
2
بين حزني والغزاة تحتضر بغداد الذهبية، ومن نفائسها ينهمر الدم والمسك وتعلو ضربات السياط وتُنصبُ المشانق ويتضافر صوت المؤذن مع غناء الجواري وتختلط صيحات اللقالق بشبهات الحب، وتتبدّدُ أنوثة الجغرافيا وتضاريسها إزاء فحولة التاريخ الضارية ووحشية الغزاة، المدن العباسية والغزوات الممتدة شرقًا وغربًا موسومةٌ بالزعفران والدم على رقّ غزال، تحتل ذاكرتي وأنا أجوب المدن الكبيرة، أحاول مغادرتها، أمحو تفاصيلها بمطر شارع "فوجيرار" الذي يغمرني بالسكينة والأسى. أهبط سُلّمًا إلى محطة مترو "فوجيرار" باتجاه مسرح صغير، تنتظرني على الناصية صديقتي الرسامة كاترين سمول سايمون التي اقترحت مشاهدة عرض مسرح الأقنعة.
3
مسرح الأقنعة
مسرح القناع مزيج بين مسرح (النو) الياباني والطقوس الأفريقية، نقتحم غابة الأقنعة من غير تمائم ولا تعويذات. إنها الغابة حقًا، غابة المدن العولمية، فيها كل ما للغابة والطبيعة الغامضة من توحش وأسرار، وفيها المقايضات والصيادون والفخاخ والفرائس.
أتخيلني في غابة حقيقية: تمسح الأيائل خطومها على يدي وتداعب السناجب قدمي ويرتمي أرنب صغير على خطوتي. أنتشي بالطبيعة التي تغتصبها حضارةُ العنف وعابدو المال واللهو في مدن الغواية.
يفتح حاجب بملابس مزركشة بابًا ضخمًا وتتلقفنا بوابةُ المسرح الدوارة فأجدني في القاعة شبيهة العالم بشرقه وغربه ومجاهله وتناقضاته. هنا العالم، هنا ما لا يمكن مغادرته. لا أرى سوى حشود أقنعة تموج بألوانها تحت أضواء ثريات الكريستال العملاقة. تتركز الأقنعة في مجاميع على الخشبة في شبه عتمة بكماء.
مسرح القناع يمنح سعادة للممثلين وإسعادًا لمن يشاركهم التمتع بفنونهم، مسرح القناع يبصّرنا بحقيقة الإسعاد والسعادة فنخلع على سادته إمتنان النفس بما سعدت وما قطفت من المتع وتنويعات السلوك البشري في إنزلاقه إلى الخداع والمعنى المغاير والحالة المجاورة للألم.
امتياز مسرح القناع أنه يدع المتفرج في جهل من حقيقة المؤدين، حسبنا ما يبوح به القناع والملامح المستعارة من تاريخ الفلسفات أو تاريخ القتل والمكائد أو تداعيات الأحلام والشهوات أو تشنجات اللذة أو توترات الألم، تمويه الأحوال يستبقي فتنة الغموض في النفس رغم ارتيابها بكل ما يأتي بعد نشوة التلقّي.
كل قناع يستبقي على السحنات وشومًا وعلامات من ظلال التوهـّم البصرَي ونثارًا من أنوثة تواشجت مع رجولة المؤدين المولعين بالمتع: تلاوين مغوية وألق شغوف لا بداية له ولا نهاية، طريق التوحش المؤالف بين الذئب والبراءة وبين الغفلة والمكيدة.
العيون وحدها تبلور السر وتطلقه بعون من ضوء الكشافات، تلتقط الكاميرا صورة سريعة لعين الممثل الوسيم، العين التي تصحو في سكرها وتثمل في يقظة الاغواء وتفتتن بها امرأة غارقة في ثياب موسلين وفراء يمازج تموجات شعرها الأشقر، تتابع العرض في إحدى المقصورات وتصحو حقولها على خفق حمائم في الجسد. النظرة الجوانية تتوضّع في اللقطة وتفضح ما ينطلي على الرائين المحايدين المتوغّلين في حبكة المشاهد وصعود الصراع.
"مسرح القناع مزيج بين مسرح (النو) الياباني والطقوس الأفريقية، نقتحم غابة الأقنعة من غير تمائم ولا تعويذات. إنها الغابة حقًا، غابة المدن العولمية، فيها كل ما للغابة والطبيعة الغامضة من توحش وأسرار، وفيها المقايضات والصيادون والفخاخ والفرائس"
لون النظرة يفضح سحر اللغة الهيامية والوله المثير وهذيانات الجسد المتلاحم مع أخيلة الجنون التي لا تراها سوى الشقراء المفتونة بما وراء القناع. النظرة تقنصها عينٌ مدرّبة كمرايا الساحرات، والذاكرة تخزن تلك النظرة الجحيمية المخبأة وراء غلالة اللغة الفاتنة، وتستعيدها ما بعد خفوت سلطة القناع، تلك النظرة بؤرة الحكاية ومتن النص الموازي أو المتواري في حبكة الدراما .
انتقال الممثل من مستوى للتعبير إلى مستوى آخر للتماهي يمنح المشاهد أمثولة أثمن من قصص الجنيات وحكايات الأباطرة وأساطير العشق ويختزل المسرحية في خلاصة تقول: "الإنسان أقدر الكائنات على التحمل عندما يتقن تحاشي الصواعق بتوقعه لها ـ توقعاته وتوجّسه وحدوسه حُرّاسُ وعيه: لا مباغتة ولا اندهاش".
4
مخرج المسرحية يبثُّ تعاليمه للممثل الأول: "أتقن دورك للإفصاح عن المعنى، ولا تستهن بالخاتمة في ارتدادك للسكوت، النهايات خلاصة المسرحية وشحنتها المتفجرة، كن كالعاشق ولا تكُنْهُ، كن كالنذير ولا تكن الكارثة، كن كالولادة ولا تكن الجنين، كن كالأنوثة ولا تكن الأنثى، وكن الماء ولا تكن النهر، كن الشهوة ولا تكن الألم".
يهمهم الممثل تحت قناعه بشيء من الاعتراض، يواصل المخرج: "كن معلّم نفسك بما خبرت وعرفت من المرأة والحب والسياسة والقتل والموت والهلع؛ فلا يكفي إدعاء الحب أو الحكمة أو النبل لتكون مقيمًا في الحب أو مالكًا لحكمة (لاوتزو) أو فارسًا من فرسان النبالة، الأقنعة لا تفي بخلاصة الحكاية، روّض خطابك ونبرتك لتعزز يقيننا بأنك النذير والولادة والأنوثة والماء والشهوة والمعرفة".
يحذّره المخرج: "الوهن البشري يجعل مآل الحكاية وادعاءها أشبه بعملية غش الترياق بالسم فلا تتعجلْ نزع القناع وتماسكْ، وأظهر إرادتك في نبرة الصوت ومخارج الحروف. كن الخطاب الشجي والمعنى المراوغ لتبعث الحيرة والزلزلة في المتلقي".
يتملك الممثلَ إحساسُ الناجي من مأزقه الوجودي، وهو إحساس زائف يتوازى مع النكوص وما يدعونه خيانة الذات لنفسها، قد يجد المرء فيها متعة فوز على الآخرين المتوائمين ظاهرًا وباطنًا على نقيض الممثل الجميل الذي يتوسل القناع ليكون الآخر دومًا.
يقول المخرج: "احذف الثمل والخدر وتوسل الصحو لترى آيتك في الآخرين، شبهة الحب ومحنة الصداقة في المسرح هي ذاتها شبهة الحرب في الميدان مع روائح الموت. يتوهم المنتصر أنّه حظي بالفوز ونجا وأنّه ختم المعركة وترك الضحية ذاهلًا في الهزيمة؛ بينما هزيمة المنتصر الفادحة تعاشره وتغتذي على روحه وتدعه هيأة مفرغة من المعنى تحت توّهم الفوز وضلال الحكاية.
أنت لا تخسر شيئًا أيها الفنان حين يكون رصيدك محض لغة وفيض كلام يتصادى ما بين أفول الصواب وتقدّم اللعبة، أنت لا تخسر سوى هشاشة القناع. لا رصيد لدى البشر رقيقي القلوب سوى خفتهم الأنيقة وعبورهم اللامرئي في الوقت وقدرتهم على التنكر في الألم؛ فكن المخالف للتوقعات وانجز الصدمة المسرحية".
5
يكتب الناقد بعدئذ:
ندوخ جميعًا في التصفيق المدوي...
يترنح الممثل وراء رقة القناع الذهبي؛ لكني ألمح دمعة تسيل على ذقنه من تحت القناع، الأشباح المتنكرة تثقل الهواء بأوهامها ورمادُ الحزن عالقٌ بأجنحتها، عبورُها في الأفق ممتع وشهي، برهة إنحيازها للحقيقة أقصر من تذرعها بالأمل، إنكشافها عريٌ طفولي ورسوخها شأن عابر والكل يمسون أشباحًا في دورة زمن وختام أولمبياد الحوار على الخشبة حين يعلو السحر فوق كل اعتبار. تكابد النفس الشبحية من لوثة الجسد والإنسحار بالشهوات وتعكس هياماتها على من حولها، تفتن النفس الأمارة بالتغاضي؛ فيتجاوز الآخر ريبته وزهو النفس ويتقبل مسوّغات الأقنعة المسرحية لا إقتناعًا بالتنكر بل إشفاقًا من تقوّض بنيان العمل إثر تمرير عبارة حاذقة تفكك النص وتهدم المسرحية.
أنت لا تخسر سوى قناعك أيها الممثل الجميل حين تمعن في هروبك منك وتنكشف الدوال عن الحقيقة في اختفائك المتوقع وراء الستار حيث تواجه جلدك ودمك ورعشتك وذاكرتك فترتعب.
المشاهد لا يخسر غير وهمه بك ووهمه بإمكان عبورك إلى ذاتك على ضوء حقيقة خارج مسرحك المؤقت.
وكما وهبك شريك اللعبة - المشاهد – ما وهب من قبول في تمام يقظته وتلقيه للمتن المسرحي، ينسحب في جنوحك النهائي لمهنة القناع، لا جرح ينوء به ولا معضلة تثقل خطوته إلى نفسه فيحدث الصدع بين لحظتكما المتناقضة.
أما أنت يا حامل القناع فتبقى أسير شهرتك التي اقترحتها سلطةُ القناع وتتساءل سرّا: من أنا دون مسرحي وقناعي ودون تلك العيون الشغوفة المحدقة بي والتصفيق الذي يطير بي إلى النجوم؟ سلامك مع نفسك يتهاوى في إنصرافك إلى التولـّه بهذه النفس وحدها على الخشبة وأمامها، وأما سلامُ المشاهد فمرهونٌ بحقائق وجوده خارج قاعة العرض نجاة من الأقنعة.
وأنت المبحر في زورق التوهّم تعلّـمْ وأعرفْ أنّ كل بداية تفضي إلى منتهى، وأنّ المنتهى ينطوي على بدء مغاير نتجاوز به أوهامنا المتواترة ووهم مَنْ أرهقته تحولاته على المسرح وفي انعكاس المرايا.
كنت شاهد عبور المتلقي إلى نفسه حين عرضتَ نصّك وصرت طريق خروجه إلى واقع أبقى من تجليات الرغبة وفداحة التعويل على رمال متحركة فوق مسرح مرتجل.
جديرٌ أنت بجائزة العام ومديح الجموع.
6
بعد إسدال الستار
لم يبقَ غير ظل القناع ومتعة السعادة والإسعاد كما تشير الفلسفة...
أدوّنُ رسالة شكر للمسرحيين العظام الذين أسعدونا لبرهة وَهْمٍ وإبداع. هم الأصدقاء الفنانون الحاذقون في التنكر.
أعود ثانية لارتشاف شاي ساخن في بيت الشاي الصيني قبالة المسرح. أشربه بأبّهة ورضى.
أدوّنُ على صفحات مفكرتي في مديح مسرح القناع:
- تعلّموا مثلي أن لا تندموا لإسرافكم في القول حين تورّطون النفس في مأزق الوعد بما لا تطيق حدودُكم وحدودُ النص الممسرح.
يقبِلُ النادل الفيتنامي المهذب بابتسامته الفرنسية التجارية ولكنته الباريسية ويجدّدُ لي الشاي بقدح ياباني موشوم برسمة فتاة ترتدي الكيمونو وهي تحدّقُ بالشمس في ذهول. أتمتع بجرعات لذيذة من الشاي، تختفي من ناظري سلالات الأقنعة وتنهمر أوراق شجر الكستناء على الرصيف مع أعقاب السجائر، تداعبها الريح وتذروها فتحمل معها ذاكرة الخطى الغريبة الضالة وأنين الأزقة بعد انقضاء الحلم العولمي وتحوّل سحر مسرح القناع إلى مجرد ذكرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق