تصنيفات مسرحية

الأحد، 19 مايو 2024

الاحتفالي في المرآة والمرايا التي في الاحتفالية ( 89) / د.عبد الكريم برشيد

مجلة الفنون المسرحية 


الاحتفالي في المرآة والمرايا التي في الاحتفالية ( 89)

  فاتحة الكلام

من واجب هذا الاحتفالي، والذي قد يكون أنا، أحيانا وليس دائما، والعاشق لأصول وصور هذا العالم، بين حد الكائن وحد الممكن وحد المحال، من واجبه ومن حقه أن يعشق الأجساد في ذاتها، وأن يعشقها في المرأة الصادقة ايضا، وهو في هذا العشق مؤمن بأنه في هذه المرآة  تختبئ كل الفنون المشهدية المتعددة والمتنوعة، ودور هذه المرآة  انها تحكي الوجود، وانها تحاكي الموجود، في هذا الوجود، وقد لا تكون حياة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها شاهدة على الحياة وشاهدة على حيوية الأحياء في الحياة
وهذه المرآة، باعتبارها أداة فيزيائية، فإنها ما خلقت إلا لتعطينا الإحساس الجميل بجماليات الأشياء وبجماليات الحركات وبجماليات الألوان وبجماليات الظلال وبجماليات الأضواء، وقد تصبح هذه المرآة اداة للرؤية المضاعفة والمركبة، وقد ترتقي لتصبح اداة للتامل الفكري
وما يهمني انا الاحتفالي، في هذه المرآة، هي دلالاتها الفلسفية بخصوص وجود عالمين متقابلين، أحدها حقيقي والثاني مجرد انعكاس للأول. وفي هذه المرآة يلتقي المادي المحسوس مع الصورة
وشرط المرآة وجود الرؤية أولا، ولا معنى للمرآة بدون وجود فعل الرؤية أولا، وبدون وجود من يرى، وبدون وجود ضوء في المكان 
ومهمة هذه المرآة أن  تحاكي صور  الأجساد والصور والحركات،  وأن تحكي وتحاكي حركتها، وبهذا فقد جاز لنا أن نقول بأن المرأة الصادقة هي اصدق كل الممثلين في هذا الجود الذي لا وجود فيه إلا التمثيل والتمثل والممثلون
ولو افترضنا جدلا، ان  هذه المرآة  يمكن أن تنطق، فماذا يمكن أن تقول لكا يقف امامها ولمن ينظر فيها؟
بالتاكيد يتقول له
 ( اعرف نفسك)
(واعرف محاسنك وأعرف عيوبك ايضا)
(واعرف من انت واعرف مع من انت)
 وليس ضروريا ان تكون هذه المرأة مجرد أداة فيزيائية، وقد تكون هي المسرح، ويكون هذا المسرح مرآة الشعوب, ويكون مرآة الأمم ومرآة الحقب التاريخية المختلفة 
وعندما ننظر في هذه المراة، بعين العقل، فإن هذا النظر البسيط يصبح في درجة التأمل الفكري والفلسفي. وهذا هو المعنى الحقيقي الذي يسعى الاحتفاليون إلى ادراكه والقبض عليه

                        ما اسعد الذين ترضى عنهم المرايا

للاحتفالي علاقة قوية بالمراة، والتي هي موجودة وحاضرة في كثير من مسرحياته، وفي كثير من كتاباته النقدية والتظيرية،  وهي تلك المرآة الحسية والرمزية معا، والظالمة والمظلمة ايضا، والتي تكسر فيها وجه عنترة في ذلك الزمن العربي الظالم، وذلك في احتفالية ( عنترة في المرايا المكسرة)   والتي كتبتها سنة 1970 تحت ضغط النكسة العربية الحزيرانية، وقد تكون نفس هذه المرأة، او اختها أو ابن عمتها. هي تلك المرآة الماكرة التي فضحت قبح الحاكم تيمور الأعرج في احتفالية ( قراقوش الكبير) وذلك عندما جاء الى دكان قراقوش المزين ليزينه. فكانت النتيجة عكس ما كان يريد، ونظر الى وجهه في المرآة فراى عجبا، وسأل بطانته، من يكون هذا الكائن البشع الذي ينظر إلي، وسكت الجميع عن الحق، ونطقت المرآة وحدها بالحق، وقالت له هذا هو انت، وهذا الوجه هو وجهك، وانت هو القبح والقبح هو انت، وأنت والجمال خطان متوازيان لا يلتقيان ابدا
ونفس هذه المرآة، هي التي تاملها السجين في احتفالية ( الناس والحجارة) واقتنع بوجود واقع اخر، في عالم أخر، له وجود اخر، في عالم ما وراء هذه المرآة السحرية. وكسر هذا السجين تلك المرآة الفاصلة بين حضور الناس وغيابهم. واستطاع ان يتحرر، مؤقتا، وأن يتحدى حجارة السجن، وأن ينتقل إلى دنيا الناس، وكل ذلك بفعل وبقوة الخيال، وخرج فعلا من سجنه، لكنه دخل سجونا اخرى كثيرة في المدينة النحاسية الظالمة، والتي لا ترحم، ومن أين يمكن أن  تاتيها الرحمة وهي مدينة بلا قلب؟
وفي احتفالية ( المقامة البهلوانية ) يقف المنسي صباح كل يوم امام المرآة ليسالها السؤال التالي:
( باي وجه، او باي قناع القى الناس هذا اليوم؟ 
وكيف يريد الناس في المدينة أن يروني؟ )
وبخصوص هذه المرآة السحرية العجبية، سبق ان قال هذا الاحتفالي الذي أسكنه ويسكنني ما يلي:
-- اجمل ما في هذه المرآة هو انني أتعدد امامها، واكون جسدا وصورة. واكون ذاتين متقابلتين ومتكاملتين ومتحاورتين. واكون الذي يرى، وأكون ذلك الآخر  الذي أراه، واكون السائل واكون من اساله ومن أسأل عنه، وبهذا فإنني في هذه المرآة السحرية اتمدد في المكان، واتجدد في الزمان، وماذا يمكن ان يكون شخص الممثل، في مرآة المسرح،  سوى أنه الشخص والشخصية. وانه الجسد والظل، وانه الصوت والصدى، وانه هو وغيره، وانه الحاضر والغائب، وانه الكائن والممكن، وانه الحقيقي والوهمي، وانه الأصل والصورة؟
ومن طبيعة هذا الإنسان الاحتفالي في الوجود، ولأنه أساسا كائن فضولي، ولأنه عاشق للرؤية والرؤيا. ولأنه متعلق بالمعرفة وبالحكمة،  فقد كان اخطر ما فعله، في كل تاريخه، هو انه (اخترع) هذه المرآة، أو اكتشفها، او سرقها من عالم ما فوق طبيعي، وذلك من أجل أن يكتشف ذاته أولا، ومن اجل ان يطمئن على وجوده ثانيا، ومن اجل أن يشهد هذه المرأة السحرية على حضوره الآن هنا ثالثا، ومن اجل أن يتعرف على كل ملامح وجهه رابعا، ومن اجل ان يتبين كل تضاريس جسده خامسا، وأن يدرك ـ سادسا ـ حدود ذاته كلها، الظاهرة والخفية معا، وليس صورته البرانية والسطحية فقط، وأن يرى في وجهه صورة الوجود وصورة العالم، ويرى صورة الواقع والوقائع معا، وفي كتاب ( الرحلة البرشيدية) يقول الاحتفالي:
(عرفت بأنني أقف الآن أمام مرآتي.. مع أنني لا أرى أية مرآة هنا..) وأصدق كل المرايا هي تلك التي ترانا ولا نراها، والتي تكون داخلنا وليس أمامنا أو خلفنا، والتي تعرف عنا كل شيء، من غير أن نعرف عنها نحن أي شيء    
وقد يكون الآخر هو مرآتنا ونحن لا ندري، ونكون نحن كلنا في عالم المرايا مرايا، ونكون مجرد صور في عين الآخر، ويكون الآخر مجرد صور في عيوننا، وبهذا يكون من حق أي واحد منا أن يقول لصاحبه وهو يحاوره (وأنا مرآتك وأنت مرآتي، ولولا هذه المرآة السحرية يا صاحبي ما عرفنا أنفسنا..)
والفن أساسا مرآة، ولكن هذه المرآة ليست مثل كل المرايا، وهي بهذا ليست مرآة الأجساد فقط، والتي لها طول وعرض، ولها شكل ولون، ولها ثقل ووزن، ولكنها مرآة الروح ومرآة العقل ومرآة النفس ومرآة الوجدان ومرآة الخيال، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفالي يصبح ذاتين، وذلك وهو  امام مرآة عقله وهو امام نفسه وهو امام مرآة روحه وهو امام مراة ضميره. وهذا هو السر في ان يكون الاحتفالي شخصية غامضة ومركبة وملتبسة وزئبقية، وذلك هو ما يجعله ينطق بلسانين اثنين، وليس بلسان واحد. وبذلك، يكون من حقه ان يقول، في حوار بينه وبين ذاته في كتاب ( الرحلة البرشيدية) 
(ــ إنني في مرآتي عادة، لا أرى وجهي..
ــ وماذا ترى فيها؟
ــ أرى فيها عقلي وروحي، وأقرأ فيها أحلامي وشيئا من أوهامي..
ــ وأنا أيضا مثلك، أعشق أن أنظر في مرآة نفسي، وإنني أرى شبها كبيرا بيننا، لدرجة أنني أتصور أنك أنت أنا وأنا أنت..)
ونحن بهذا لا نحيا حياة واحدة.ولكننا نحيا حياتين مختلفتين لحد النناقض. و (الحياة في .. ما وراء المرآة) هو عنوان النفس السادس من مسرحية ( الناس والحجارة) وتلك الحياة الأخرى هي الأصدق دائما، وهي الأجمل وهي الأكمل وهي الأنبل. والتي هي حياة الشعراء والحكماء وهي حياة الفنانين الحالمين والمسافرين. وفي احتفالية ( الناس والحجارة)
( ينزل من فوق إطار خشبي على شكل مرآة)
ونجد ذلك السجين الوجودي في سجن الوجود، مخاطبا نصفه الوحشي(قردل) ويقول له:
(أنظر، هذه مرآتي يا قردل.. تسألني من أين أتيت بها؟
أتيت بها من خيالي، نعم، من خيالي المتمرد، تماما كما أتيت بك أنت أيضا من دنيا خيالي، وخيالي ـ لو تعلم يا صاحبي ـ غير قابل لأن يسجن أو ينفى، لأنه أكبر من السجن ومن المنفى، بل هو أرحب من كل هذا الكون..)
ويقترب من هذه المرآة، وينظر إلى وجهه فيها، ويقوم بمجموعة من الحركات الغريبة. وكانه سعيد بوجود جسد آخر يقتسم معه المكان والزمان، اقتناعا منه بان السجن هو غياب الآخر، وان الموت الأخطر هو موت الآخر الذي يسكننا ونسكنه، وبهذا نجده يخاطب ذلك الآخر الذي في المرآة ويقول له:
(من هو السجين، أنا أم أنت؟ من هو داخل هذه المرآة أم من هو خارجها؟ ( ملتفتا خلفه) أنا لا أكلمك أنت يا قردل.. تسأل من أكلم؟ أكلم هذا الذي في المرآة.. هذا.. ألا ترى بأنه يشبهني في كل شيء؟
(للمرآة من جديد) اسمع أنت .. إنني أملك أن أرحل إلى عالمك.. إلى عالم ما وراء المرآة.. سأحدث في هذه المرآة شرخا كبيرا.. نعم سأكسرها هكذا..)
ويضرب وسط الإطار بيديه، فيسمع صوت تكسر الزجاج. ويصرخ في وجه المرآة:
(افتحي أبوابك أيتها المرآة.. فمن حقي أن أخرج من سجني، وأن أدخل سجنك، ورب سجن أرحم من سجن، سأتسلل بين هذه الشقوق وأدخل، وسوف أرى وأبصر، وسوف أكتشف وأعرف.. )
عندما ينتصر علينا الواقع بواقعيته، ننتصر عليه نحن بخيالنا وبجنوننا وبحلمنا وبفننا وبهذياننا وبشطحاتنا الصوفية. وهذه الرغبة في التحرر من سجون الواقع والوقائع هي التي جعلت السجين يقول لشخصيته الوهمية:
(-' شيء متعب يا قردل، أن أبقى سجين الحجارة، وأن أظل سجين الحديد، إن كل الأيام داخل هذه الجدران هي يوم واحد، وكل الساعات فيه هي ساعة واحدة، فلا اختلاف فيها ولا جديد.. لا جديد.. هي لحظة واحدة، لها في النفس والروح شعور واحد، هو الشعور بالاحتضار الطويل.. وجودي هنا لحظة بطيئة جدا، ثقيلة وطويلة، مثل لحظة ما قبل الموت.. إننا نعيش يوما واحدا ليس له اسم، وقد نسيت كل أسماء الأيام، وكل أسماء الشهور، وما كل هذه الساعات إلا ساعة واحدة، تبدأ ولا تنتهي.. ساعة تلتف حول نفسها، وتأكل نفسها، ولا تستطيع أن تخرج من جلدها..)
      
                       المرايا العالمة والمرايا الحالمة 
   
وهذه المرآة، لو كانت وحدها حاضرة وموجودة في هذا الوجود، وكانت كل الموجودات الأخرى في حالة الغياب، فهل كان من الممكن ان يكون لها معنئ؟ 
والمرآة هي العلاقة. بين فعل الرؤية وبين الماهية المرئية، وما كل العيون قادرة على الرؤية. وما كل هذه العيون يمكن أن تحسن فعل الرؤية الحسنة. وأيضا، ليس كل ما نراه حقيقي، وفي كثير من الحالات لا نرى إلا سرابا ووهما وخيالا، ونخدع انفسنا، أو تخدعنا عيوننا من حيث ندري او لا ندري
ُوهناك في الآداب والفنون مرايا نقدية صغيرة تعكس جسد الكبير صغيرا، وهناك مرايا نقدية كبيرة يمكن أن تعكس الجسد الصغير كبيرا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمجاملة او بالمدح النفعي والتكسبي
وفي حالات كثيرة نجد أنفسنا مجبرين ان نتساءل:
-- أين يوجد الجمال حقيقة، في العين الجملية التي ترى، ام في الأشياء والكلمات وفي العبارات والعلاقات والبنيات، والتي نراها ونقراها؟
وبحسب الكاتب أوسكار والدفاع فان ( الفنان العظيم لا يرى الأشياء كما هي، بل يراها بشكل غير حقيقي، اي أن الفن هو ما لا يحدث في الحياة)
وأنا الكاتب الذي تخيلت وكتبت، وعندما حدثت كل الناس بانني فعلا (رايت) ابن الرومي في مدن الصحيح. فهل كان هذا الفعل واقعيا وتاريخيا. ام كان سفرا خارج الواقع وخارج التاريخ؟
وعندما حدثت الناس أيضا، يانني شاهدت الشاعر الأمير أمرا القيس في بارس. فهل كنت كاذبا ومزورا؟
وهل يمكن أن نتهم بالكذب من يحدثك بأنه رأى النبي (ص) في منامه؟ بالتاكيد لا، لأن الحلم هو الوجه الآخر للواقع، وربما كان هو الوجه الأصدق منه
وهذه المرآة من حقها ان تمارس فعل الخداع، أحيانا او في اغلب الأحيان. خصوصا بالنسبة لمن ينظر إلى وجهه في هذه المراة، ويقتنع بان الصورة هو، وبانه هو الصورة

                              المرآة 
                     الصورة وإطار الصورة

وفي مسرحية (المقامة البهلوانية) تحضر المرآة ايضأ، ويكون في وجودها نقدا تهكميا لحال المسرح والمسرحيين، وذلك في كثير من اوطاننا التي تخدعها المرايا الكاذبة، هذه المسرحية أخرجها د. عبد المجيد شكير. وأنتجت في إطار مسرح ابعاد، وجسدها وشخصها ممثلون كبار هم جواد العلمي ومنير اوبري واحمد لحبابي،  وفي هذه الاحتفالية المسرحية يخرج الحكواتي من خياله شخصية جديدة، ويعطيها اسم (المنسي) ولأن هذا الحكواتي ديمقراطي فهو يشرك ضيوفه في الحكي والمحاكاة وفي اللعبة المسرحية الاحتفالية، ويسأل الجمهور ما رأيكم لو نسأل هذه الشخصية عن نفسها، وأن نعطيها الفرصة لكي تقدم نفسها بنفسهأ، وبهذا يتوجه لهذه الشخصية التي هي في طور التشكل بالسؤال التالي:
-- ما رأيك يا صاحبي لو تعطينا صورة عنك؟
-- وماذا تريد بالتحديد؟ أعطيك صورة مزيفة في إطار من ذهب، أم أعطيك صورة حقيقة في إطار من خشب؟
-- اعطني صورة حقيقية في إطار جميل، والحقيقة والجمال توءمان اثنان لا يفترقان يا صاحبي..
-- يا صديقي الحكواتي، أنت تطلب أصعب ما في الوجود؛ الحقيقة والجمال، ومن أين لي بهما وهما أعز ما يطلب.. أنا مثل ذلك القمر الذي في السماء، نصفه مضاء ونصفه الآخر مظلم، والمظلم في حياتي لا أعرفه أنا، ولا تعرفه أنت،، ولا يعرفه أي أحد.. ربما.. لأنه ليس من حقنا أن نعرف كل الأشياء، والأصل في السحر الخفاء، وهل أنا إلا سحر ساحر يا صاحبي؟ وهل يكون الساحر العجيب إلا أنت؟) 
ويعود الحكواتـــــي للجمهور ويقول:
(هكذا نطق صاحبي، وراح يبحث عن صورة تقريبية مؤقتة.. وضع على رأسه برنيطة سوداء.. (وهو يفعل كل ما يقول) سواها بعناية فائقة.. هكذا.. وتأملها جيدا في المرآة، حتى اطمأن على وضعها فوق رأسه..
( يقف أمام المرآة وظهره إلى الجمهور.. وهو يغير ملابسه استعدادا للخروج )
إنني الآن في بيتي، أقف أمام مرآتي .. هي مرآة واحدة كما ترون، ولكن بداخلي أنا، تنتصب آلاف المرايا المختلفة.. ( تنزل من فوق مجموعة من المرايا المختلفة الأحجام والأشكال) المرايا السليمة والمكسرة، والمرايا المسطحة والمرايا المقعرة، والمرايا المحدبة، والمرايا المستوية والمرايا المشروخة، والمرايا المستفزة، والمرايا المجاملة، والمرايا المتكلمة والمرايا الخرساء، والمرايا العوراء والمرايا الحولاء، والمرايا الصادقة والمرايا الكاذبة..
( يلتفت إلى الجمهور)
وهل هناك مرايا صادقة؟ لا أعرف .. وحق الله لا أعرف، ولا أظنكم تعرفون أنتم أيضا..
( وهو يتأمل وجهه في المرايا المعلقة خلفه)
إنني أنظر إليها كلها، وأكلمها وتكلمني، وأغازلها وتمدحني، وأسألها وتجيبني، وتقول لي أنت أجمل كل الناس، وأنت أعلم كل الناس، وأنت الأطول قامة بين كل الناس .. ( مزهوا بنفسه)
( يستدير بوجهه نحو الجمهور، بعد أن يكون قد غير ملابسه)
إن هذا البيت هو بيتي، وهو كل عالمي وكوني، وقبل أن أغادره وأخرج للناس، فإنه لابد أن أطمئن على صورتي، وهل الإنسان إلا صورة؟ وهل هذا العصر إلا عصر الصورة؟ وهل الحقيقة إلا صورة؟ صادقة حينا، وكاذبة ومزيفة في أغلب الأحيان، إنه لابد أن أسأل الآن كل هذه المرايا، وأن أقول لها.. اسمعوا جيدا ما سأقول لها :
يا أيتها المرايا الكاذبة خبريني، هل هذا الذي أسميه أنا، والذي كان بالأمس هنا، هل مازال أنا؟( صمت) إنها لا تجيب..
خبريني أيضا.. كيف أبدو لنفسي وعيوني، وكيف أبدو لكل العيون الأخرى؟ ستقولين بأنني جميل، لأنك تخافين من غضبي، ولقد تعود الغاضبون أن يكسروا المرايا الوقحة والفاضحة، وأن يعتقلوها، وأن يمنعوها من الكلام المباح..
( وهو يتفقد أركان بيته ركنا ركنا)  في عالمي الصغير هذا، لا وجود إلا لعيوني وحدها، أما في عالم الناس هناك، فإنه لا وجود إلا لعيون الناس دون غيرها، وهي عيون ظالمة ومستبدة ومتلصصة ومتجسسة وفضولية، وهي تفرض علينا أن نخرج من جلدنا، وأن نكون كما تشاء هي، وكما تريد وتهوى هي ..
إنني أعرف أن العيون التي تهواني، من بعيد جدا سوف تراني، ولكن، أين هي العيون المحبة والعاشقة؟ أين هي؟ هي موجودة بلا شك، ولكنها نادرة، والنادر لا يقاس عليه..
دلوني عليها، وأنا أعطيكم نصف مملكتي التي لا أملكها .. ( يضحك) أو أعطيكم ما بقي من عمري.. وهل بقي منه شيء؟ لست أدري.. ولا أريد أن أدري..
وأعرف أيضا، أن العيون التي تكرهني، وما أكثرها، لا يمكن أن تراني أبدا، وإذا رأتني، لا قدر الله، فإنها لن تراني إلا في أسوأ صورة، ومن يدري، قد تتصورني قردا أو غرابا أو ضفدعة أو .. ديناصورا منقرضا.. ( يضحك)
يا أيتها المرايا، يا كل المرايا التي تسكنني وتسكن بيتي، إنني أسألك سؤال كل يوم، وأقول لك هذا اليوم، كما قلت لك بالأمس:
( يغير صوته وكأنه شخص آخر يتكلم بداخله) بأي وجه أخرج للناس هذا اليوم؟ وبأي وجه ألقى ناس هذا اليوم؟
( وهو يتكلم من خلف قناع) بأي وجه، أو بأي قناع ؟ لا يهم .. المهم أن يكون لي عنوان يدل علي .. وأجمل كل العناوين هي العناوين الخادعة، أليس كذلك أيها القناع المحترم؟ إنه لا يهم أن تكون الأقنعة مقنعة، والأهم أن تكون خادعة..
( يخرج من صندوق عتيق ملابس مختلفة الأشكال والألوان والمقاسات)
وبأي زي أخرج للناس؛ في زي السلاطين أم في زي الشحاذين؟
وبأي دور أكون معهم؛ دور السيد أم دور الخادم؟
وفي أية مسرحية ألقاهم؟ 
وأين يمكن أن ألقاهم؟ في الشارع العام أم في البيوت الخاصة؟
وبأية لغة أكلم كل الناس في هذه المدن الفاضـحة ؟
نعم.. هي مدن فاضحة وملعونة، أما المدن الفاضلة فما هي إلا حلم الحالمين من أمثالي، وهي وهم المتوهمين من أمثال بعض عباد الله..
هل أخاطبهم بلغاتهم الخاصة؟ وما أكثر هذه  اللغات وما أصعبها.. أم أحدثهم بلغتي المختلفة والمغايرة؟
( يلتفت للجمهور) وما رأيكم أنتم.. هل أكلمهم بلغة خشبية جامدة، أم بلغة رصاصية ملتوية، أم بلغة حديدية متصلبة، أم بلغة زئبقية سائلة؟
وحق الله لن يفهموني.. حتى ولو كلمتهم بلغة الجن والملائكة، أو بلغة الشياطين والأبالسة.. فهم ممنوعون من الفهم والتفاهم، وتلك هي المشكلة.. بيني وبينهم أبو جهل، ومعه سيئة الذكر خالتنا الأمية، ومعها كل أخواتها، وكل بنات أعمامها وعماتها..
( يمسك بقناع، يضعه على وجهه لحظة ثم ينزعه.. يتلمس وجهه، ويتلمس القناع، ويحاول أن يجد شيئا يجمع بينهما)
   
            لعبة الأجساد والظلال ولعبة الوجوه والاقنعة 
 
في الربرتوار المسرحي الاحتفالي توجد مسرحية عنوانها ( لعبة الوجوه والأقنعة) ولقد تزامن تقديمها في مدينة تطوان سنة 1980مع تقديم ( البيان الثاني لجماعة المسرح الاحتفالي)  وفي هذه المسرحية التي قدمتها فرقة النهضة بمدينة الخميسات واخرجها عبد الحق التمسماني تستعرض الاحتفالية فلسفتها بخصوص ما نراه حقا،وما نحب ونعشق أن نراه، وفي احتفالية ( المقامة البهلوانية) يقول لنا المنسي:
(لقد أخبروني أن هذا الذي نسميه وجهنا ليس وجها.. هذا ما قالوه والله أعلم، وما هو إلا قناع عضلي وجلدي فقط.. قناع هو فوق قناع، وتحت قناع وخلف قناع، وهكذا يا سادة يا كرام، تتعدد الأقنعة وتتغير، والوجه دائما غائب أو مغيب.. ومن يدري، فقد لا يكون له وجود أصلا.. ( يضحك) وما فائدة أن يكون لي وجه وما أنا إلا مثل مجنون؟ ممثل في مسرحية، أو في سيرك، أو في سوق، أو في حفل كرنفال، أو في ساحة عمومية، أو في بلاط سلطان من الأزمنة الخرافية..
إن هذا العيش اليومي المخادع ـ عيشنا اليوم هنا ـ ما هو إلا حفل كرنفال كبير، هكذا حدثوني عنه، والله وحده يعلم كل شيء ونحن لا نعلم شيئا.. لماذا؟ لأنه هو صاحب هذا الاحتفال، وهو وحده صانع لعبة هذا الكرنفال الوجودي والأبدي.. 
وإن كان الأمر هكذا، وما أظنه إلا هكذا، فإنني أسمح للساني أن يقول :
وهو ( يغير صوته ويصبح أداؤه أكثر درامية) يا الله.. ما أتعس من كان مثلي في حفل تنكري كبير، وكان بلا زي للتنكر، وكان بلا أقنعة مقنعة، وكان بلا أسماء متعددة، وكان بلا عناوين متحركة، وكان بلا ألوان وبلا أصباغ، وكان خارج حقل الأضواء والأنوار، وكان بلا ضجيج يلازمه، وبلا ظل يسبقه مرة، ويتبعه في كل المرات، وكان بلا صوت وبلا صدى، وكان بلا جسد وبلا روح، وبلا طول ولا عرض، وبلا حجم ولا وزن، وكان بلا عمق في روح الزمان، وكان بلا امتداد في جسد هذا المكان..
( يعود لصوته) وأقف اللحظة، أمام كل هذه الأقنعة التي تسكن خلف المرايا، والتي حجبت وجهي ـ هذا إن كان لي حقا وجه ـ وأسألها، ثم أعيد سؤالها آلاف المرات.. أسألها  عن معنى الفقر وعن معنى الغنى)
اقول قولي هذا وانا ادعو الله ان يصلح مرايانا المكسرة، وأن يجعلها جميلة وصادقة ومبدعة ومقنعة وجديدة ومجددة ومتجددة بتجد الأيام والأعوام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق