مجلة الفنون المسرحية
سامر محمد إسماعيل
زمنان يتنافسان وبقوة في صالة العرض. الزمن الذي تحيا فيه الشخصيات، والزمن الذي يعيش فيه الجمهور. الأول زمن متخيل، أما الثاني فهو زمن واقعي. يلتقي الزمنان عند بداية العرض، ومن هنا يمتزجان، وقد يتماهى الزمن الذي يعيش فيه الجمهور مع زمن الشخصيات على الخشبة، وفي لحظات خاصة جداً من العرض يتحد الزمنان في زمن واحد، وهذا يتوقف على جودة العرض فكرياً وفنياً وأدائياً، فليس من السهل بمكان أن يلتقي الزمن الواقعي بالزمن المتخيل للشخصيات.
صحيح أن التواطؤ هو الاتفاقية السرية المبرمة بين جمهور الصالة وفريق العرض، إلا أن هذا التواطؤ لا يمكن له أن يحدث إلا بتوافر الصدق الفني، وهذا الصدق يتطلب -كما يعرف الجميع- اشتغالات عديدة على النص والأداء وعناصر السينوغرافيا من إضاءة ومؤثرات وموسيقى وديكور وأزياء، وكل ما يتصل بالعناصر المادية للعرض. إن واحدة من أبرز متع الفن المسرحي هي تلك اللحظات التي تتحد فيها الصالة بالخشبة، ويتداخل فضاء اللعب مع فضاء الفرجة. تلك اللحظة التي يطلق فيها أحد الحاضرين صرخة أو تعليق أو يندفع للتصفيق ثناءً على ما انفعل معه للتو على الخشبة، وهذا برأيي يعمل بدوره على تحويل جماعات غير متجانسة من البشر إلى جمهور.
والجمهور هنا لم يأتِ لحضور العرض وفقاً لانتقائية معينة تعتمد على الانتماء لطائفة أو مذهب أو حزب أو عرق، بل إن هذه الجماعات تمتثل بطريقة أو بأُخرى للخطاب المسرحي، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من شيفرا ثقافية وممارسة اجتماعية يكون المسرح فيها واجهة لحوار يتفاعل وينطلق من العرض نحو الحياة العامة. بهذا المعنى يدرك الحضور أنهم ليسوا منفيين في عتمة الصالة، وأنهم ليسوا محض متلصصين على ما يحدث فوق الركح، بل هم معنيون بكل ما يجري من صراع درامي يبتعد عن المشاحنات والثرثرة والتفاصح والخطابية، ليدخلوا في عمق اللعبة الفنية. إن الوصول إلى هذه الذروة بين الجمهور والممثلين على الخشبة تستدعي معرفةً عميقة بطبيعة الجمهور، وبما يعني هذا الجمهور فعلياً، فالجمهور كما يعرّفه الناقد الفرنسي رولان بارت "كائن تاريخي وجغرافي" لهذا يصبح من الضروري تحقيق معادلة المسرح الجوهرية: (الآن وهنا، نحن، الآخر) أما العروض التي يتم استيراد نصوصها وشخصياتها وهمومها وتطلعاتها القومية والسياسية، فستظل بعيدة عن ملامسة "القلب الجماعي للجمهور" إذا صح التعبير، فليس من المعقول أن أقدم عرضاً مثلاً لجمهور بغداد- 2023 عن نص من عصر النهضة الأوروبية، وأدّعي أنني أحقق معادلة المسرح الجوهرية "الآن وهنا" فهذا برأيي سيضيع الكثير من لذة العرض المسرحي، وسيبقي الجمهور في زمنه الواقعي الصرف، دون أن يتماهى ولو للحظة مع الزمن المتخيل للشخصيات.
إن تحقيق المتعة في صالة المسرح يتأتى من قدرة العرض على التعبير عن هواجس المتفرج، وجعله يمارس بدوره فعل المعايشة لكل لحظة من لحظات اللعبة المسرحية، وذلك دون أن ينظر إلى ساعته، أو يخرج هاتفه الجوال ليجري اتصالاً هامساً في العتمة مع أحدهم، أو يتبرم ويتململ من جلوسه المطول أمام مسرحيات تاريخية خطابية جافة لا تعنيه صراعات شخصياتها، فهي عروض تحدث في الماضي، في الزمن الذي كُتبت فيه، لا في الزمن الذي يعيشه وجاء منه ذلك المتفرج.
إن اندماج الزمن الواقعي للمتفرجين مع الزمن المتخيل لشخصيات العرض يعطي نوعاً من تلك المشاعر الجماعية التي يشعر بها من يقف على الخشبة، وكذلك لمن يجلس على كراسي الصالة، إذ يشعر كل من الطرفين أنهما في تواصل نفسي وفكري وعاطفي، وهذا ما يقود إلى إنجاز المتعة المسرحية في أعلى تجلياتها، وتحويل الجماعات المتنافرة في الدين والمذهب والحزب السياسي، والمتباينة في الأفكار والعقائد والمواقف إلى جمهور، ومع أن الجمهور ليس كتلة صماء واحدة، إلا أن اتحاد زمَني الفرجة واللعب يقارب وجهات النظر المختلفة، ويطرح حواراً لا ينتهي عند الخروج من الصالة، حتى يعود ليبدأ من جديد، فيلعب دوراً في صياغة الرأي العام، ويلفت الانتباه إلى قيم المدينة، لا بوصف هذه المدينة مجمعات تجارية، أو منتزهات عامة ومطاعم وحسب، بل هي المكان-المسرح الذي تُبنى حوله المدن، وتلتقي عنده مجاميع من الغرباء الذين يصبحون بعد العرض مجموعاً مختلفاً ومتمايزاً عن كونهم مجرد حشد، فتحويل الحشد إلى جمهور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال عبوره في عرض، بل قل في عشرات العروض المسرحية، والتي تجعل هذا الحشد لأول مرة يتعرف إلى نفسه، ويشعر بقوته وفاعليته الاجتماعية، فالعرض يقدم صورة عن المدينة، ويحوّل السكان إلى جمهور.
إن حشود الزبائن والمستخدمين والعملاء والوسطاء والعمال والموظفين يتحولون إلى جمهور في لحظة من لحظات الصدق الفني، والتي يقدمها عرض من العروض يقف خلفه كاتب ومخرج وممثلون وفنيون قادرون على تحقيق تلك المعادلة الفنية الصعبة والمركبة، لكن على شرط ألا يقدموا خطاباً واعظاً، أو توجيهاً تربوياً أو سياسياً، بل العمل كفريق لإنجاز زمن متخيل قادر على اقتحام الزمن الواقعي للمتفرج، وجعل هذا الأخير يشعر وكأنه تخلى -ولو للحظات- عن إحساسه بأنه مجرد زائر أو ضيف، وهذا يتوقف بالدرجة الأولى على توفير حماية من نوع مختلف، حماية نفسية وعاطفية يستطيع من خلالها المتفرج أن يتفاعل مع ما يقال على الخشبة، وأن يتمم لعبة التواطؤ منذ دخوله إلى الصالة، والابتعاد عن كل ما يتعلق بالمسرح المسرحي، أو المبالغة في فعل المسرحة، ويعتمد كل هذا من أجل إنجاز لحظات تواصل فعلي ومؤثر مع الجمهور، وجعله في قلب اللعبة المسرحية.
في المقابل هناك زمن ثالث يمكن الحديث عنه في هذه المعادلة، وهو الزمن الواقعي للممثل، وكيف يسعى هذا الأخير إلى توفير لحظات من الاندماج العاطفي مع الدور المسند إليه، كي يحقق الزمن المتخيل للشخصية التي يقوم بأدائها، وهذا ما يجعل الزمنين الواقعيين لكل من الممثل والجمهور يندمجان في الزمن المتخيل لشخصيات العرض، ويعزز من تلك العلاقة السرية بين المتفرج والمؤدي، وبالتالي جعل الأزمنة الثلاثة في تماهٍ عميق مع زمن المدينة التي قُدِّم فيها العرض.
إن زمن المدينة ليس زمن السوق ولا زمن البنك، ولا زمن المعبد، ولا زمن مخافر الشرطة ودوائر التحقيق ومقاعد الدراسة، بل هو زمن مسرحي تقوم المدينة بصياغته عبر عشرات الأدمغة الإبداعية، وتستطيع من خلاله توفير حماية وتمويه لعشرات الآلاف من الأفراد الذين يشكلون عقدها الاجتماعي، ومع ولادة هذا الزمن يولد الجمهور ويترعرع ليس كحشد أو كقطيع، بل كذات جماعية تعي هويتها الثقافية، وتعطي معنى لوجودها، وتمايزاً لشخصيتها الحضارية. هكذا يصبح زمن الواقع مفهوماً وواقعياً، وبلا تجلي هذه الأزمنة الأربعة: (الممثل، الشخصية، الجمهور، المدينة) يصبح من المستحيل الحديث عن إنسان يدرك دوره، أو يعرف حقوقه، بل يصبح الإنسان خارج هذه المعادلة عبارة عن نبضة إلكترونية في شاشات تحاصره وتسلبه زمنه، وتنفيه خارج حريته، فلا حديث عن الحرية إلا داخل مجتمع، داخل مدينة، وعلى "الحرية أن تكون حُرةً" كما قال سارتر، وألا تصبح "الحرية" أداة لأي طغيان ديني أو سياسي أو عسكري.
بهذا الفهم يستعيد المسرح تأثيره المأمول على الجماعات البشرية، ويصبح أداة ضاربة للتعبير، ولكسر هيمنة الآلات على البشر، واستعبادهم لصالح طغمة مال المال، وينزع الزمن المسرحي بكل تجلياته الفنية المعاصرة اللثام عن التقيات التي تحتل الفضاء العام، وتصادر الحريات بذريعة الإجابة عن أسئلة الغيب، فالفن المسرحي يعرف كيف يناقش على الملأ كل ما يمت لحياة الإنسان، ويجعلها متاحة للتفكير الجماعي عبر الأصداء التي يصدرها النقاد عن العمل المسرحي، سواء في الجرائد والمجلات، أو حتى عبر الإصدارات والدراسات النقدية الجادة، والتي تلعب دوراً جوهرياً في وضع سياقات للتجارب الجديدة، وفهمها واستيعابها ضمن حركة الفن ومدارسه في العالم.
ويمكن لفت الانتباه هنا إلى ضرورة البحث عن مساحات جديدة للفرجة المسرحية، والخروج بها من الصالات ومسارح العلبة الإيطالية، إلى فضاءات يتوضح فيها اشتباك أزمنة كل من الممثل والجمهور والشخصيات مع زمن المدينة، لتصبح الأزمنة الأربعة مستوعبة ضمن إيقاع الشارع، فمن غير المنطقي أن نتكلم عن تماهٍ بين تلك الأزمنة، ونقوم بعزل المسارح وعروضها عن إيقاع الحياة اليومية، بل من الأهمية بمكان النفاذ إلى سائر الفعاليات الاجتماعية، ومحاولة تمثيلها – ولو رمزياً- في اللعبة المسرحية، وصولاً إلى إيجاد تناغم لا مرئي بين إيقاع العرض المسرحي وإيقاع اليومي ومشاغله وهواجسه الصغيرة منها قبل الكبيرة، والابتعاد عن أمراض المثقفين وتعاليهم على الجمهور، للخلاص إلى صيغ حديثة ومعاصرة قادرة على تحقيق ديمقراطية الفرجة، وجعل الفرد عضواً في هيئة الجمهور الجديد.
*الصورة بعدسة الفنان حسين صوفان من عرض "بعض من شكسبير" إشراف المخرج حسن دوبا- المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق