روّاد المسرح العثماني.. التاريخ لتسمية أعطاب الراهن
عرفت الدولة العثمانية تغيّرات كبيرة سياسية وثقافية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نتيجةً للإصلاحات التي بدأت من فوق في 1839، بعدما بدا أنّ السفينة على وشك الغرق إثر الإخفاقات التي حلّت بها نتيجة لحروب 1831 ــ 1840 مع مصر محمد علي باشا. ولذلك، بدأت في الانفتاح أكثر على أوروبا، وإرسال البعثات للدراسة هناك، وإجراء تغييرات هيكليّة في إدارة الدولة، وإصدار قوانين ناظمة للمرحلة الجديدة التي اشتهرت بمرحلة "التنظيمات". إلّا أنّ هذا الانفتاح الجديد على أوروبا جلب أفكاراً جديدة في السياسة والثقافة، تمركزت حول الحاجة إلى نظام دستوري جديد، وظهور ثقافة جديدة تقوم على أجناس أدبية لم تكن معروفة من قبل، كالقصّة والرواية والمسرحية، التي حَملت أو حُمّلت الأفكار الجديدة التي انتشرت بسرعة في النصف الثاني للقرن التاسع عشر. كما أنّ الصحافة ــ التي تكاثرت وتنوعت آنذاك ــ كان لها دورها الكبير في نشر هذه الثقافة السياسية والأدبية الجديدة.
في هذا السياق يمكن التوقّف عند تجربة الرواد الأوائل للأدب الجديد، وبالتحديد للمسرحية، مثل ابراهيم شيانسي (1826 ــ 1871) ونامق كمال (1840 ــ 1888) وشمس الدين سامي (1850 ــ 1904)، الذين تعرّضوا للنفي سواءً داخل الدولة العثمانية (لإبعادهم عن إسطنبول)، أو خارج الدولة، أو فُرضت عليهم الإقامة الجبرية ومُنع خروجهم من البيت عدّة سنوات خلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876 ــ 1909). وكان إبراهيم شيناسي، قد سبق في عام 1860، بأوّل محاولة مسرحية كوميدية من فصل واحد، بعنوان "زواج الشاعر" ثم جاء نامق كمال بعد عدّة محاولات ليؤلّف مسرحية "الوطن أو سيليسترا" التي عُرضت وعرفت نجاحاً كبيراً في عام 1873، ممّا نبّه السلطات العثمانية إلى خطورة خشبة المسرح في إثارة الرأي العام، فسارعت إلى نفي المؤلّف إلى قبرص ونفي شمس الدين سامي إلى طرابلس الغرب.
وكان شمس الدين سامي، القادم من ألبانيا بثقافة أوروبية واسعة، قد بدأ أوّلاً بترجمة عدّة مسرحيات فرنسية قبل أن ينشر في عام 1872 روايته الأولى "حُبّ طلعت وفتنة" الرواية الأولى في الأدب التركي التي يتمّ هذه الأيام الاحتفال بالذكرى 150 لصدورها، ثم توجّه نحو تأليف المسرحيات. وكان سامي قد لاحظ ــ مع عرض مسرحيته المترجمة "العريف العجوز" في يناير/كانون الثاني 1874 ــ مدى قدرة المسرح على نقل أفكار جديدة حول التغيير المنشود على مستوى الدولة (التحوّل نحو نظام دستوري) والمجتمع (نحو الانفتاح على العالم والاعتراف بالتعدّد الثقافي)، فألّف في طرابلس الغرب مسرحيّته الأولى، "بِسا أو الوفاء بالعهد" التي عرفت نجاحاً كبيراً عند عرضها في إسطنبول عام 1875.
تنبّهت السلطة العثمانية مبكراً إلى دور المسرح في إثارة الرأي العام
ومع أنّ "التنظيمات" التي أبرزت جيلاً جديداً من رجال الدولة قاموا بخلع السلطان مراد الخامس في 1876 وتنصيب السلطان عبد الحميد الثاني بشرط الموافقة على حكم دستوري، إلّا أنّ التهيّب من تعسّف السلطة بقي هاجساً عند المثقّفين الروّاد الذين عرفوا عهداً جديداً من الملاحقة والنفي والإقامة الجبرية، بعدما سارع السلطان في مطلع 1878 إلى تعليق العمل بالدستور وفضّ البرلمان العثماني الأوّل الذي كان من بين أعضائه والدُ شمس الدين سامي. وتُلاحَظ ــ مع هذا التهيّب لدى المثقفين الروّاد ــ نزعةٌ جديدة تتمثّل في الهروب إلى التاريخ لاستمداد موضوعاتٍ منه يتمّ إسقاطها على الواقع لنقد الحكم الاستبدادي، بعدما أصبحت الرقابة على الصحف والنتاج الأدبي الجديد تلاحق كلّ جُملة وتفسّر كلّ عِبارة.
في هذا السياق، يُلاحظ أنّ المسرحية الثانية لشمس الدين سامي كانت "سيدي يحيى" في 1875، وقد استمدّها من نهاية تاريخ المسلمين في الأندلس، حيث كانت الإمارات العربية في إسبانيا تتصارع في ما بينها وتسقط الواحدة تلو الأخرى في يد الإسبان، وصولاً إلى سقوط آخر إمارة؛ غرناطة وما حلّ بالمسلمين بعدها، ليُسقطها بشكل ما على الدولة العثمانية التي كانت تُحيط بها أيضاً القوى التي تتربّص بها، وكأنّه كان يتنبّأ بما هو قادم، مع إعلان روسيا القيصرية في1877 الحرب على الدولة العثمانية، الأمر الذي شكّل كارثةً للدولة، وللمسلمين في البلقان.
وسواءٌ في مسرحيته الأولى أو الثانية، فقد عمد سامي ــ متأثّراً بالثقافة الفرنسية ــ إلى الإعلاء من مفهوم "الوطن" الذي كان جديداً على الأتراك في ذلك الوقت، أي الأرض التي ينتمي إليها سكّانُها بمختلف دياناتهم، ويشعرون بالواجب للتضحية في سبيلها إذا دعت الحاجة. ففي المسرحية الأولى، "بِسا أو الوفاء بالعهد" يمتدح الوطن "الذي نأكل من خبزه ونعيش في ظله" بينما يُورد في مسرحيته الثانية "سيدي يحيى" جُملة مهمة تقول: "من واجبنا الموت في سبيل الوطن". وفي السنة اللاحقة، ذهب في اتّجاهٍ آخر ليستمدّ مسرحيته "كاوه" التي صدرت في 1876، من التاريخ الميثولوجي الفارسي (نجد ما يماثله أيضاً في التراث الكردي) الذي يحكي عن تجبُّر الحاكم جمشيد واستنجاد الفُرس بالأمير العربي الضحّاك، الذي يقتل جمشيد ويحلّ محلّه في ممارسة الظلم، إلى أن يقوم الحدّاد كاوه بقيادة جموع الشعب ضده وقتله، بعدما اتّخذوا من صدرية الحدّاد عَلماً لهم. ومع دوره المهمّ، يعتذر عن تولّي الحكم ويعرض على الأمير فريدون تولّيه، بشروطٍ يضعها هو كما سنرى.
عاد شمس الدين سامي في مسرحياته إلى تاريخ الأندلس وفارس
وحسب الباحث المعروف حسن كلشي (1922 ــ 1976)، الذي تخصّص في دراسة مؤلّفات شمس الدين سامي، فإنّ الأخير مزج بالتأكيد بين شخصية الضحّاك والسلطان عبد الحميد، إذ بدا له الاثنان من جسم واحد وروح واحدة، لأنّه بالإضافة إلى السمات الروحية، كان جسم السلطان عبد الحميد مشوّهاً. وهكذا، من خلال فم كاوه وغيره من أبطال المسرحية، كان في وِسع سامي أن يقول الكثير ضدّ الاستبداد والظلم وأن يمتدح الحرّية والعدالة. فعندما تمّ تنصيب فريدون، قال له كاوه وهو يحمل المطرقة: "إني أُسلّمك هذه المطرقة وهذا العلم المطرّز اللذين أنقذا بلدنا من الظلم والظالمين. ولكنْ عليك أن تُقسم أوّلاً بأنك لن تتخلّى عن العدالة والحقيقة وفعل الخير، وأن تحبّ الشعب كما تحبّ أباك وأمك وأخوتك وأولادك، وأن تعمل لأجل الخير والسعادة. وبعد أن تُقسم يمكن أن تجلس على العرش". وبعد أن يقسم فريدون ويجلس على العرش يصيح الجميع: "تعيش العدالة! تعيش الحقيقة! ليسقط الظلم والظالمون!". ومع هذه الكلمات تنتهي المسرحية.
وقد بقيت هذه المسرحية في طبعتها الأولى بالحروف العربية ــ التي كانت تُكتب بها اللغة التركية ــ إلى أن قام الباحث عرفان مورينا بإعادة إصدارها في 2006 بالحروف التركية الحديثة، إلى جانب إصدارات شمس الدين سامي الأخرى، التي أصبحت متوفّرة الآن أمام القرّاء الأتراك، بعد صدورها في طبعات حديثة ضمن كلاسيكيات الأدب التركي. وكان الباحث التركي أغاه لوند قد أشار إلى مسرحية أخرى لشمس الدين سامي لم يتمّ العثور عليها، وهي بعنوان "وجدان"، مع أنّ سامي ــ في أحد كتبه المنشورة في عام 1885 ــ ذكر ضمن قائمة مؤلّفاته المنشورة أو القادمة مسرحيةً بعنوان "مظالم المسلمين في الأندلس". وقد بقيت هذه المسرحية مفقودةً إلى أن عثر عليها الباحث الكوسوفي عرفان مورينا، بين المخطوطات في "المكتبة الوطنية" بتيرانا، وترجمها رئيف مورينا إلى الألبانية، لتصدر في عام 2014 بالعنوان الأصلي: "وجدان". ويبدو أن شمس الدين سامي فكّر في تغيير العنوان إلى "مظالم المسلمين في الأندلس"، ولكنْ ــ لسببٍ غير معروف ــ لم يقم بذلك ولم ينشر المسرحية.
في هذه المسرحية، التي كتبها بين عامي 1876 و1877 حسب مورينا، يبدو أيضاً استشعارُ الخطر على الدولة العثمانية ومن أن يؤدّي انهيارها إلى كارثة على المسلمين مثلما حدث في الأندلس ــ وهو ما حدث بالفعل في شتاء 1877ـ 1878 خلال الهجوم الروسي، الذي وصل إلى ضواحي إسطنبول، وأجبر السلطان على توقيع معاهدة سان ستيفانو المُذلّة.
في هذه المسرحية يستحضر سامي الواقع العثماني من خلال هواجس فاطمة، إحدى شخصيات المسرحية التي تقول: "لا أحد من زعمائنا يفكّر في مصلحة البلاد. كلّ واحد يفكّر في راحته وعظمته. إنّ عين كلّ واحد على العرش والتاج. وللحصول على التاج يقوم الأخ بقتل أخيه، ولأجل المصلحة (الشخصية) يقوم الأب باعتقال ابنه. ولأجل البقاء في السلطة يصبح الابن قائداً في جيش العدوّ".
كانت هواجس شمس الدين سامي من رقابة السلطة الخفية وملاحقتها له في مكانها. فقد حُكم بالإقامة الجبرية في بيته خلال السنوات الأخيرة من حياته (1899 ـــ 1904)، ولم يُسمَح له بالذهاب للعلاج إلى بورصة المجاورة، كما لم يُسمَح لأحد بزيارته، حتى أنّه في مناسبة خطبة ابنته سامية، لم يسمح سوى لمأذون وشاهد بالدخول إلى بيته. لم يكن هذا المصير عِقاباً بسبب إسقاطات مسرحياته، بل نتيجة لكتابته النقدية ضد الحكم المطلق الذي حلّ بعد تجميد العمل بالدستور في الصحف التي كان يكتب فيها أو أصدرها. فقد كتب على سبيل المثال، في العشرين من يوليو/تموز 1876، في جريدة "صباح" التي أصدرها: "إنّ السبب الرئيس، وربما الوحيد، في أن الإمبراطورية (العثمانية) تُعاني من مشاكل كثيرة وفي أن وطننا بقي متخلّفاً عن البلاد الأخرى لأوروبا، إنّما يكمن في النظام المطلق".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
----------------------------------------------
المصدر : العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق