مجلة الفنون المسرحية
في حوار واسع وشامل مع الكاتب والمخرج الفلسطيني المبدع غنام غنام:
في (بأم عيني 1948) ورطت الجمهور ورطة جميلة منذ لحظة الدخول حتى لحظة النهاية
أريد أن تكون مسرحيتي متداولة كالأغنية الشعبية، لا يهمني أن يقال غنى وإنما يهمني أن ينتشر الأمر، وقد تحقق ذلك بشكل كبير في (سأموت في المنفى)
بدأ هذا اللون عام 1993 في تجربة (عنتر زمانو والنمر)، ومن حسن حظي أنها عرضت في مهرجان بابل، وفي كلية الفنون الجميلة في الحلة وبغداد وفي منتدى المسرح، وكانت تعتمد على الحلقة ولكنها تتشكل حسب مكان العرض
القرآن هو معلمي الأول في الصياغة الأدبية، تعلمت منه الاختصار غير المخل، والإشارة الذكية، والإيقاع الذي يجب أن يكون ملائماً للموضوع، وربما يقول قائل هذا موجود كله في النظريات، ولكني أقول لكلٍ مرجعيته وأنا مرجعيتي القرآن، الحكاية الشعبية ..وهكذا..
آمل أن يمنحني الله العمر والوقت لأكتب أسرار تجربتي، فمثلاً أبوح بواحد من أسرارها، وهو أن أساليب الأداء لم تعتمد على نظرية التمثيل والأداء ولكنها اعتمدت على قواعد اللغة العربية..!!
القسم الأول
حاوره – عبد العليم البناء
بدعوة من مهرجان بغداد الدولي الثالث للمسرح الذي أقامته دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة والسياحة والآثار للمدة من 20-28 /10 / 2022 تحت شعار (لأن المسرح يضيء الحياة)، زار بغداد المخرج والكاتب المسرح العربي الفلسطيني غنام غنام ومسؤول التدريب والتأهيل في الهيئة العربية للمسرح لحضور فعاليات المهرجان الذي شهد مشاركة واسعة لشخصيات وعروض مسرحية عراقية وعربية وأجنبية ..
وغنام صابر غنام ويعرف بـ غنّام غنام، هومؤلف ومخرج، وممثل مسرحي فلسطيني، ولد في عام 1955 بأريحا في فلسطين، وانتقل في سن الثانية عشرة مع عائلته إلى الأردن، كتب وأخرج العديد من المسرحيات، وألف القصص القصيرة، وحاصل على جوائز في الإخراج والتأليف المسرحي، وعضو رابطة الفنانين الأردنيين، ورابطة المسرحيين الأردنيين، والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، واللجنة التأسيسية للهيئة العربية للمسرح ومسؤول التدريب والتأهيل فيها، واختير عضوا في لجان تحكيم مهرجانات عدة وهو عضو لجنة تحكيم في عدة مهرجانات مسرحية، واستهل غنام العمل المسرحي في السبعينيات برفقة مجموعات مسرحية محلية في مسارح مدينة يافا في غزة، ثم بعد انتقاله للأردن أسس مع عدد من زملائه (فرقة جرش المسرحية للهواة)
وتدور مجمل أعمال الفنان غنام الغنام المتنوعة والمتعددة وطافت البلدان حول معاناة الفرد الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي أو في المنفى، وقدم نصوصه الكثير المخرجين، وكانت آخر أعماله في عام 2018 مسرحية (سأموت في المنفى)، والتي كان لي شرف مشاهدتها في إطار مهرجان المسرح العربي الثاني عشر الذي أقامته الهيئة العربية للمسرح في العاصمة الأردنية عمان من 10-16/2020، وكان آخرها مسرحية (بأم عيني 1948) التي قدمها مرتين في منتصف تشرين الأول أكتوبر 2022 في العاصمة الأردنية عمان، وهما من عروض مسرح الجلسة الفرجوي ذات الممثل الواحد الذي ابتكره وأسس له الفنان غنام غنام، وتميزبتجسيده للهوية العربية للمسرح، ولسان المقاومة الفنية والثقافية وصناعة الوعي واستنهاض الهمم ضد الظلم والاستبداد والقهر وضد الإستعمار والاحتلال، ناهيك عن تجديده لألوان الفرجة المسرحية العربية..
وبغية الوقوف على أبعاد هذا اللون المسرحي الإبداعي، وانطباعاته عن الدورة الثالثة من مهرجان بغداد للمسرح، وتوجهات ومشاريع الهيئة العربية للمسرح لاسيما الدورة المقبلة من مهرجان المسرح العربي التي ستقيمها في الدار البيضاء بالمملكة المغربية مطلع القادم، ودعمها للمهرجانات الوطنية للمسرح وبالذات مهرجان العراق الوطني للمسرح بدورته الثانية..كانت لنا هذه الجولة من الحوار:
* بغض النظر عن تجاربك وأعمالك المسرحية السابقة والمتنوعة، هل ستستمر في تكريس الإتجاه واللون الإبداعي المميز الذي برز في مسرحية (سأموت في المنفى) وتواصل في مسرحية (بأم عيني 1948) التي قدمتها - مؤخراً - في العاصمة الأردنية عمان..؟
- أولا شكراً جزيلاً على الاهتمام بالعمل الجديد (بأم عيني 1948)، ولكن لأن التاريخ مربوط ببعضه ولا يوجد ولادة مفاجئة لأي اتجاه، فإني سأبدأ من اتجاهي مباشرة، الاتجاه الفني والخيال الفني لشكل الحلقة والمزاوجة ما بين السرد والروي والتشخيص، والتمثيل احياناً، بمعنى الأداء وتعدد صنوف الأداء، لقد بدأ ذلك عام 1993 في تجربة (عنتر زمانو والنمر)، والتي من حسن حظي أنها عرضت في مهرجان بابل، وفي كلية الفنون الجميلة في كل من الحلة، وبغداد، ومنتدى المسرح عام 1993، وكانت تعتمد على الحلقة، ولكنها تتشكل حسب مكان العرض، وبنفس الطريقة كان عمل (الزير سالم) وكذلك في (كأنك يابو زيد)، إذاً يمكنني أن اقدم المسألة على خشبة المسرح، ولكن أقدمها في الحلقة كشكل أساسي، وذهبت بعد ذلك في (منامة عبد الله البري) للأطفال، و(آخر منامات الوهراني)، و(غزالة المزيون)، و(فصيلة على طريق الموت). إذاً الانفلات من المنصة الخشبية ومن خشبة المسرح ومن التقنيات كان متدرجاً بين هذه الأعمال، حتى وصلت الى التجربة التي خضتها مع الدكتور يحيى البشتاوي في (عائد الى حيفا) حيث قدمنا منها عشرات العروض، وأعتقد أن العروض التي وظفت تقنيات الإضاءة وما يلزم في (الستيج) لاتتجاوز ست الى سبع عروض وبقية العروض كانت منفلتة في فضاءات مفتوحة، لكن عندما بدأت في (سأموت في المنفى) كرست كل الأشياء التي تراكمت معي من كل التجارب السابقة وقررت نهائياً أن يكون التصميم من الأساس ببعدين تماماً كالرسم ثلاثي الأبعاد، فأنا أردت أن أكون ببعدين حسب الرسم الذي سبق ثلاثي الأبعاد، أي كأنني أعود الى جذر المسألة في موضوع العروض الأدائية والمسرحية. من هنا (بأم عيني 1948) تسير على نفس المنهج، حكاية، وممثل، وجمهور موجود، في هذا العمل، ورطت الجمهور ورطة جميلة منذ لحظة الدخول حتى لحظة النهاية، والجمهور له دور تفاعلي يتطلبه العمل وليس زائداً عنه، يعني في لحظات لن يمر العمل الى المرحلة الأخرى إلا بعد إستجابة الجمهور، ففي تجارب سابقة في حال استجاب أو لم يستجب فالحلول دائماً موجودة، لكن في هذا العمل ركزت على مسألة المفاصل التي أدمجه فيها والتي تعيد ترتيب بعض الأفكار والمشاعر وبعض المواقف في الحياة، فبالنسبة لموضوع (بأم عيني) هو يرصد تجربة الدخول عن طريق التهريب عبر الحدود والحواجز التي يقيمها الاحتلال بين أرضنا التي أحتلت عام 1948 والأرض التي أحتلت عام 1967، بين الأرض التي تسمى أرض السلطة الفلسطينية وبين الأرض التي يسميها هو أرضه أرض إسرائيل، وقد قمت بذلك في عام 2017 وهي لأحداث حقيقية تماماً والشخصيات حقيقية وواقعية، وبالتالي أصف في هذه الرحلة ليس الحدث، إنما أصف ما كشفه الحدث من هزائم صغيرة يحققها الناس ببساطة شديدة ضد وجود الاحتلال، دفاعاً عن وجودهم، ودفاعاً عن هويتهم وعن حقهم، وذلك بوسائل متعددة كأن يزرع شجرة في أرضه أو في (حوش بيته) مقابل مستوطنة وكأنه يدافع عن تلك البقعة وكأنه يحررها، وعندما تعمل مسرحية تتناول فيها تراثك وثقافتك وتقدمها لأطفال مجتمعك الذي يحاول المحتل سحقه، تكون أنت قد حررت العقل عندما تجد بيت غسان كنفاني، الذي ولد فيه عام 1936 وغادره وعمره اثنتى عشرة سنة عام 1948، وتجد أن العائلة التي تسكنه أو تحتله منذ عام 1948 ما زالت لم تتخلص من أن هذا البيت هو بيت غسان كنفاني، وتجن عندما ترى الناس يزورونه ويصورونه، يفلتون الكلاب عليهم.
إذاً هذا المحتل منذ 1948 حتى الآن لم يستطع أن يثبت احتلاله، عندما تجد أن قبور الشهداء الذين كانوا في هبة البراق، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، ترمم وتبنى كل عام وحولها لوحة تقول بالفم المليان (إعتقلتهم قوات الاحتلال البريطاني لقيادتهم تظاهرات ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني)، وبالتالي أرى أن كلها هزائم للاحتلال، وفي الوقت نفسه يطرأ في رأسي سؤال طوال الوقت أين هو الاحتلال؟ لأنني عندما عشت ذلك الأسبوع في الأردن المحتلة عام 1948 كنت أتصرف كصاحب أرض بينما المحتل كان مدججاً بالسلاح، يده على الزناد، يرقب كل حركة من حركات الناس، فهو بعد كل هذه السنوات لم يستطيع أن يشعر بأنه يتحرك بشكل طبيعي على هذه الأرض، وما زال بينه وبين هذه الأرض معركة دائمة، وفي الوقت نفسه سأكشف بعض الجوانب التاريخية فمثلاً اثناء زيارتي لعكا زرت تلة الفخار أو ما يسمى بتلة نابليون، التلة التي وضع نابليون عليها مدفعيته ليقصف عكا، لكن عكا صمدت وهزمته، وكانت تلك أول هزيمة لنابليون بونابرت في المنطقة، جاء رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف إيهود أولمرت الى عكا وأخذ هذه التلة واسماها بتلة نابليون وأقام عليها معلماً سياحياً وضع عليه تمثالاً بأرتفاع حوالي خمسة أمتار لنابليون بونابرت يمتطي حصانه الجامح ويرفع ساريةً ووضع عليها علم الاحتلال، وكان سؤالي عندما شاهدت هذا المشهد لماذا وضع علم الاحتلال على سارية نابليون؟ بحثت فيما بعد فوجدت أن نابليون بونابرت كان قد طلب من اليهود أن يقيموا دولتهم على ارض فلسطين قبل بلفور بـ 118 سنة، وهذه موثقة، وبالتالي أكشف للجمهور هذه المعلومة التي لم يدرسوها في المدارس، فأنا اكتشفتها وأنا عمري 62 سنة، وبالتالي أنا أقدمها للجمهور من خلال هذا العرض، ودائماً كعادتي أطرح سؤالاً في نهاية كل عرض ليظل عالقاً في أذهان الناس والسؤال لماذا هزمونا؟ لماذا يهزموننا؟ لماذا لم نهزمهم؟
* وما الذي تراهن عليه في هذا اللون من العروض واستمرارك على حمل القضية الفلسطينية هماً دائماً لشخصك؟
- المراهنة هي على الأثر، وأقصد الأثر في التلقي، وعلى التحول الذي يمكن أن يتم فكرياً وعاطفياً وجمالياً لدى المتلقي وعودته الى جذر من جذور ثقافته، والثقة بمثقفه، والثقة بفنانه، وأنا أريد أن تكون مسرحيتي متداولة كالأغنية الشعبية، لا يهمني أن يقال غنى وإنما يهمني أن ينتشر الأمر، وقد تحقق ذلك بشكل كبير في (سأموت في المنفى) فالناس تتبادل مقاطع منها ولا يذكرون اسم الممثل،
ووصلت المشاهدات في بعض المقاطع الى الملايين من على صفحات عدة، وليس فقط صفحتي، وبالتالي أنا أريدها أن تتحول وكأنها أهزوجة شعبية يحفظها الناس ويعيدون ترتيب الألف باء في موقفهم الوطني والنضالي والعروبي، هذا هو رهاني الأساسي، بالإضافة الى أن لدي رهان تقني فني، وهو أن الأسلوب الذي أعمل عليه، ليس بالأسلوب السهل أبداً، إنه أسلوب مركب ومعقد يحتاج الى جهد كبير في الإعداد والتجهيز، ولكنه سهل الاستهلاك والتناول بالنسبة للمتلقي، وأعتقد أن كثيراً ما كتب نقاد وباحثون عن (سأموت في المنفى)، ومازالت أسرار العمل على (سأموت في المنفى) وعلى هذا النوع مازال قليلاً كأنها كامنة أو لم تكتشف بعد، وآمل أن يمنحني الله العمر والوقت لأكتب اسرار تجربتي، فمثلاً أبوح بواحد من أسرارها، وهو أن أساليب الأداء لم تعتمد على نظرية التمثيل والأداء ولكنها اعتمدت على قواعد اللغة العربية، بمعنى أن هناك فاعل وهناك نائب فاعل ومفعول به وفعل متعد ومفعول مطلق وهناك ضمير متكلم وضمير مخاطب وضمير مستتر وضمير غائب، فهذه الأشياء هي التي لونت فيها أدائي في (سأموت في المنفى) وفي (بأم عيني) لأن ذلك كان سراً من أسرار باح بها القرآن لي، وبالتالي أعطاني المجال بأن أتعامل معها، وأنا دائماً أقول بأن القرآن هو معلمي الأول في الصياغة الأدبية، تعلمت منه الاختصار غير المخل، تعلمت منه الاشارة الذكية، تعلمت منه الإيقاع الذي يجب ان يكون ملائما للموضوع، وربما يقول قائل هذا موجود كله في النظريات، ولكن أقول لكلٍ مرجعيته وأنا مرجعيتي القرآن، الحكاية الشعبية .. وهكذا، وبالتالي هذا جانب آخر من الرهان على هذا الأسلوب. (يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق