تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 18 يوليو 2023

التكوين التصويري المسرحي / د.عبد الفتاح مرتضى

مجلة الفنون المسرحية


التكوين التصويري المسرحي

Theatrical Pictorial Composition


منذ نشأة المسرح ألإغريقي ، كان الإهتمام ينصب بشكل اساسي على فحوى النص ألأدبي اكثر مما هو الشكل الجمالي للعرض .. واستمر على هذه الصورة حتى منتصف القرن التاسع عشر حين ارتكزت اسس المذهب الطبيعي الذي كان من شأنه ان اضاف الى الدراما الشكل موازيا او متقدما على الاسلوب الرفيع للحوار .. فهو قد عارض المذاهب التي سبقته كالكلاسيكية والرومانسية التي تأسست دراماتها على الحوار المنمق المصاغ بدقة اسلوبيا وبلغة شعرية بليغة . وطالب بأن يكون فن الدراما كفن العلوم الصرفة حيث تتمازج وتتوالد الصور فيه لتنتج فعلا دراميا محملا باللغة العلمية الاصيلة الواضحة اكثر من الحوار المنمق.. وكان(اميل زولا) في دعوته الصريحة للمذهب الطبيعي والمسرح واضحا في هذا المجال وخصوصا في الديكور (1-646،659)..بعدها بدأت الدعوات تتوالى في موضوعة استغلال واستثمار جماليات الديكور المسرحي واظهار العلاقة بين الصورة المسرحية والمضمون..

وعند دخول الحركة على المسرح بدأ فعل العرض يتمثل في العلاقة بين فعل الشخصية وثيمتها مع الشكل المنظوري للديكور والعلاقة بين الاثنين سواء بالمسافة او بالمنظور او بالجماليات او بالتفسير في علاقة الشخصية بالمكان .. وقد اوضح (مايننغن) ذلك في تعليماته التي اعتبرت في حينها بداية انطلاق العلاقة بين الشكل والمضمون..وكان لتأثير تطور الوعي الاجتماعي وحتمية التطور التاريخي دور كبير في التغيرات التي تحصل على مستوى الثقافة والفنون والعلوم الصرفة بلا استثناء.. وان هذا التغير قد رافق كل مفصلات الحياة وخصوصا بعد الثورة الصناعية في اوروبا وتخلصها(اي دول اوروبا) من تسلط الكنيسة، وبروز دور الفلسفة والمادة على حساب الدين والعلوم الغيبية ، فأثّرت وتأثرت بها كل العلوم الانسانية المختلفة بما فيها المسرح ايضا..وقد ادى ذلك الى تغيير في طريقة التفكير في الكيفية التي يتم بها ايصال المعلومة بشكل مؤثر الى الجمهور دون الحاجة الى جمود هذه الصورة والاعتماد على الاصغاء فقط..وقد سبقت الفنون التشكيلية المسرح في هذا الجانب بعد ان تخلصت من قيود الاستديوهات والاماكن المغلقة الى الانفتاح على الطبيعة ومارافقته من تغييرات كبيرة وبشكل خاص في جماليات الحركة والتكوينات الطبيعية للاشياء والالوان او الضوء والظل..وقد دخلت مسألة التغير في العلاقات والفكر والعواطف الانسانية كموضوعة اساسية للعمل الفني اثّرت بالتالي على المسرح كونه يقدم موضوعا يشغل زمانا ومكانا معا وليس مكانا فقط ، فهو يقدم حدثا متناميا مستمرا وصولا الى النهاية،وهو بحاجة الى تغيير اساسي في البنية الكلية للعرض المسرحي..والذي جعل ( مايننغن ) يحول العرض المسرحي من اسلوبه القديم في تقديم النجوم الى عملية بحث وتجريب واختبار ..

ثم ظهرت الرمزية التي دعت لإعلاء الشكل مكان الكلمة ، حيث لم تعد الكلمة ذات تاثير كقوة الصورة والشكل .وكان اول من دعا الى نبذ الكلمة والتزام الصورة المرمزة المؤطرة بمضمون الكلمة (كوردون كريغ Edward Gordon Craig ) الذي ( يرى ان جمهور المسرح يهفو الى الرؤية اكثر مما يهفو الى الاستماع ، ويلم بالاحاسيس العامة للعمل المسرحي من خلال القيم الرمزية التشكيلية لا من خلال معاني الكلمات ..وعلى هذا فالمسرح عنده ينحصر في اتاحة الرؤية والعرض المسرحي المثالي او هو كما يقول كريك: رقصة رمزية في ملابس مسرحية رمزية وفي بيئة رمزية ) (2-99) ...

ثم توالت الابتكارات في الشكل المسرحي والتكوينات التصويرية ومدى فاعليتها التأثيرية في المشاهد ,,واختلفت المذاهب والاتجاهات المسرحية في هذا الجانب،فدعا (آبيا) الى استخدام الفضاء المسرحي لتحقيق جماليات التكوين التصويري من خلال الاضاءة المسرحية وخطوطها اللونية العمودية والافقية والوانها المختلفة والظل والضوء الذي تحدثه على مجمل الصورة المسرحية ، كما قام (راينهاردت) باستخدام الكتل البشرية الضخمة في عروضه المسرحية ، و(مايرخولد) في عروضه الشعرية الخيالية واستخداماته للجسد في التعبير عن ذات المضمون بالتكوين الجسدي في موضوعة ( البايوميكانيك) ، و(جاستون باي) في تعامله مع التكوينات التصويرية الشاعرية للحظة الصمت والخط والكتلة واللون والضوء ، وآخرون غيرهم وصولا الى (آرتو) الذي دعا لتحطيم كلي للمسرح التقليدي والعمل بلغة مسرحية جديدة تعتمد الحركة والاشارة والعناصر المادية الاخرى في المسرح ، للتعبير عن عالم الفكر الانساني المبطن..

وبدأ المسرح ينمو باتجاه الاهتمام بالتكوينات التصويرية وخصوصا بعد منتصف القرن العشرين حيث انتهت الحربان العالميتان اللتان ابتعدتا عن الكلام واهتمتا بالفعل الحقيقي الذي حفّز الكتّاب المسرحيين على التقليل من شأن الكلمة والاهتمام بالشكل والصورة المسرحية كونه مؤثرا ومعبرا اكثر من الكلمة نفسها (اللامعقول نموذجا) ..وكان اهتمام (آرتو) ينصب على فعل الصورة واثرها على المشاهد وتغليبها على الكلمة ..

ولكون مصطلح (التكوين التصويري Pictorial Composition) غير متداولا في الوسط المسرحي كمصطلح وانما كمعنى ومضمون ، فسنحاول هنا ان نوضح ماهية هذا المصطلح ومم يتكون وماهي عناصره ووسائله التي اسميناها بالتقنيات والجماليات للوصول الى صيغة نهائية له تخدم المعنيين بالمسرح..

ان مشكلة المصطلح وتعريفه وتحديده وضبط معناه هي مشكلة ليست محلية او اقليمية ، بل هي مشكلة عالمية وخصوصا في الدراسات الانسانية ، ذلك ان المصطلح حينما يتم تحويله الى لغة اخرى فأنه يفقد خصوصيته المحلية في حالة شيوعه عالميا، اما اذا لم يتم التعرض اليه بكثرة في دول مختلفة فأنه يعاني من صعوبة ايصاله وفهمه كونه بقي محددا بمكان انتاجه ..وهذا ماحصل مع مصطلحنا (التكوين التصويري  ) ، فمن بين جميع المصادر العربية او الاجنبية المتوفرة لم نحصل الا  على مصدر واحد يتضمن هذا المصطلح ، وهذا المصدر هو ( ألإخراج المسرحي ل"هيننج نيلمز)، وبشكل عام فأن مصطلح (التكوين التصويري) يتكون من جزأين هما التكوين والتصوير ، وسنقوم بتعريفهما لأجل الوصول الى تعريف واف لمصطلحنا الاساسي..


التكوين Composition  

كما يعرفه هيننج نيلمز هو ( وسيلة هامة في المسرح لتوضيح وتركيز القيم العاطفية والعقلية في الاخراج ، واذا جاء التكوين ممتعا في حد ذاته خلق قيما جمالية )(3-116) .

يقول نيلمز ان التكوين هو احدى الوسائل المهمة لتوضيح وتركيز القيم العاطفية والعقلية التي بتضافرها ستنتج قيما جمالية..اذن التكوين هنا يعني فيما يخص القيم العاطفية والعقلية والجمالية والتي هي احدى الاسس المهمة في العرض المسرحي .ولم يأت التعريف موضحا ماهية التكوين ، تقنياته ووسائله وجمالياته وادواته ..الخ ، لذا سنأخذ منه مايخدم بحثنا وهو ( توضيح وتركيز القيم العاطفية والعقلية) ..

اما(الكسندر دين) فيقول في موضوعة التكوين مايلي (هو بناء او شكل او تصميم المجموعة .وهو قادر على التعبير عن شعور وكنه وحالة الموضوع المزاجية من خلال اللون والخط والكتلة والشكل .. انه لا يروي حكاية انه التكنيك وليس التصور)(4-173) ..وله تعريف آخر يقول فيه ( هو الترتيب المعقول للناس الموجودين في مجموعة على خشبة المسرح من خلال استعمال التاكيد والثبات والتتابع والتوازن لتحقيق الوضوح والجمال الذي يروق الناس )(5-173)..

هنا يؤكد (دين) على ان التكوين هو التكنيك اي الآلية ( التقنية) التي يتم العمل بواسطة عناصرها والتي هي الخط واللون والشكل والكتلة للوصول الى التعبير عن المضمون وهو يؤكد على استخدام المجموعات من الناس بصيغ جمالية للوصول الى الهدف المطلوب.اذن يمكننا ان نستفيد من جزء من تعريف دين للتكوين وهو بانه وسيلة آلية لتنظيم موجودات المسرح للوصول الى معنى ما ..

اما (فرانسيس هودج) فيعرف التكوين بما يلي: ( التكوين هو الترتيب الجسدي للممثل-الشخصية في التصميم الاساسي لغرض كشف الفعل الدرامي وتوضيحه في ابسط طريقة ممكنة من خلال التاكيد والتناقض )(6-92)..

ومايهمنا في هذا التعريف هو كونه تصميما اساسيا لكشف الفعل الدرامي وتوضيحه في ابسط طريقة ممكنة..

ويشرح (عبد الفتاح رياض) التكوين بما يأتي:

( التكوين Composition   يتكون من مقطعين:

  1. Com وهو يعني To – Gether اي معاً

  2. Position  اي وضع

ودراسة ال Composition يعني بذلك اسس وضع الاجزاء معاً ليتكون منها كلاً )( 7 – 6)

والاجزاء هي مفردات العرض المسرحي وعناصره التي نجمعها لنكوّن منها " شيئاً " معرفياً وجمالياً.

ومن خلال ماسبق فقد وضعنا تعريفا اجرائيا للتكوين هو :

التكوين-تعريف اجرائي : هو التصميم الاساسي الآلي لموجودات المسرح لغرض كشف الفعل الدرامي وتوضيح القيم العاطفية والفكرية للوصول الى معنى ما في ابسط طريقة ممكنة..

التصوير Picturization

تحت عنوان (التصوير التخيلي) يعرفه –دين- ب( التفسير البصري لكل لحظة من لحظات المسرحية دون استخدام حوار او حركة)(8-251) ..

ولكن (النزويرث) يعرفه بشكل ادق فيقول عن تكوين الصورة بانه( التفسير البصري دون حركة ولا حوار للعلاقات بين الاشخاص وتطورات القصة والمحتويات العاطفية للمنظر.انه التفسير البصري للمعنى الكامن في سطور المسرحية )(9-100)..

ونلاحظ هنا ان الاثنين قد اشتركا في الشطر الاول للتعريف لكنهما افترقا في الشطر الثاني، وكان (النزويرث) اكثر دقة في تحديد المصطلح حينما ذكر( المعنى الكامن في سطور المسرحية)..وهنا يؤكد (سيفرز وزملاؤه ) ايضا ان التصوير هو( تنظيم لأشياء غير مرتبة الى اشياء اكثر ترتيبا وذات معنى اضافة للناحية الجمالية)(10-96)..وقد اضاف سيفرز وزملاؤه الناحية الجمالية للمعنى وبهذا يمكن ان نضع تعريفا اجرائيا للتصوير وهو :

التصوير-تعريف اجرائي

    هو التفسير البصري للمعنى الكامن في كل لحظة من لحظات المسرحية دون استخدام حوار او حركة للعلاقات بين الاشخاص وتطورات القصة والمحتويات العاطفية للمنظر اضافة للناحية الجمالية ..

اما الموضوع الاساسي لبحثنا وهو التكوين التصويري والذي يشمل كلا العنصرين فلم نجد سوى تعريف واحد له وهو غير مستوفٍ وهذا التعريف وضعه (هيننج نيلمز) يقول فيه( في اي لحظة من لحظات المسرحية تتالف من المناظر والممثلين والملحقات والملابس والمكياج والاضاءة صورة مسرحية)(11-116)..

وهذا التعريف يقترب من تعريف (النزويرث) ل(صورة المنصة stage picture ) حيث يقول فيها(هي مايراه المشاهد في اي لحظة معينة اثناء التمثيل )(12-77) ..

يتضح مما تقدم ان التكوين التصويري هو ليس اي لحظة من المسرحية تقتطع بلا قصد كما يقطع كادر واحد من شريط سينمائي بلا تمييز، ذلك ان التكوين والتصوير هما وجها العملة الواحدة ولا يمكن الفصل بينهما وان جمعهما يعطِ مضمونا واحدا يقصده المخرج في عرضه المسرحي ..حيث يتم التصميم الاولي له اثناء عملية التحضير للاخراج ويتوضح اكثر في العرض. والتكوين التصويري هنا نقصد به هو تلك الذروات الصغيرة في كل مشهد من المسرحية التي لو قطعت وجمعت وعرضت لأصبحت كسيناريو تصويري لمسرحية ..وعليه وضعنا تعريفا اجرائيا لمصطلح التكوين التصويري هو:


التكوين التصويري  Pictorial Composition  

التفسير البصري للمعنى الكامن في ذروة كل مشهد من مشاهد العرض المسرحي لغرض كشف الفعل الدرامي وتوضيح وتركيز القيم العاطفية والفكرية للوصول الى معنى ما بتكوين جمالي مقصود..


الهوامش والمصادر

  1. حول المذهب الطبيعي والديكور ، ينظر:اميل زولا،المذهب الطبيعي،نقلا عن،اصلان،اوديت،فن المسرح-الجزء الثاني،ترجمة سامية احمد اسعد،القاهرة،مطبعة الانجلو المصرية،1970

  2. اردش،سعد،المخرج في المسرح المعاصر،سلسلة عالم المعرفة(19) الكويت مطابع اليقظة 1979

  3. نيلمز،هيننج،الاخراج المسرحي،ترجمة امين سلامة القاهرة مكتبة الانجلو المصرية 1961

(4-5) دين،الكسندر،اسس الاخراج المسرحي،ترجمة سعدية غنيم القاهرة ه م ع ك 1975

(6)Hodge, Francis, Play Directing, Analysis Communication & style, New Jersy, 1971

(7) رياض، عبد الفتاح، التكوين في الفنون التشكيلية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1975.

(8) دين،الكسندر،م س ن

(9) النزويرث،كارل،الاخراج المسرحي،ترجمة امين سلامة القاهرة مكتبة الانجلو المصرية 1980

(10)Sievers, W. David, Harry E. Stiver Jr. Stanley Kahan. Directing for the Theatre. William C. Brown Co. Publishers, U.S.A.1974

(11) نيلمز،هيننج، م س ن

(12) النزويرث،كارل، م س ن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق