أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

السبت، 1 يوليو 2017

مغامرة كتابية تجعل الإرشادات المسرحية متنًا ..نص مسرحية " تفاصيل الغياب " نموذجًا

مجلة الفنون المسرحية


ناصر بن محمد العُمري

مهاد:
تتطلب مسرحة الذات والظواهر الاجتماعية من زوايا نفسية ووضعها في تصورات وصياغتها في قوالب درامية تقارب الحالة وتساءلها بمنطق المحاججة والإقناع والمشاكسة قدرة على النبش فيها وابتكار رؤية مسرحية. تنقلها إلى الخشبة بوعي وفق رهانات كتابية تستنجد بالفكري والفلسفي، وتستلهم الفني وتستحضر الجمالي وتضع في اعتبارها المسرحي ومتطلباته من تخييل وبناء درامي ومشهدية وإشارات ومواقف تفضي إلى صناعة حالة مسرحية، وهذا هو قدر الفنان المنتمي لـ(أبو الفنون).
وفي نصوص الكاتب (فهد ردة الحارثي) ما يجعلنا أمام حالة تشي بقدرة على الغوص عميقًا بين شرنقات التجريب، وبالمجمل فإن نصوصه تتميز بعمقها الفكري ولا ينقصها التطريز الجمالي؛ فضلًا عن أنها تضعنا أمام كاتب يتعاطى مع اللعبة المسرحية من زوايا مختلفة تعكس تصوراته الجمالية لفن الكتابة المسرحية، ويمارس فعل الكتابة المسرحية وفق حالة من الانزياح الدائم نحو كتابة تجريبية تنزع نحو الإبداع يشعر معها المتابع أنه أمام تجربة تتراكم وتتطور باستمرار في نص “تفاصيل الغياب” مدار هذه المقاربة.
والذي جاء ضمن كتابه المعنون بـ(الجُثّة صفر) وحل ثالثًا في الترتيب بعد نصي(الجثة صفر والمحطة لا تغادر) يسجل بصمة جديدة له، وتتجلى فيه براعته بطريقة تؤكد قدراته على الإلمام بخيوط اللعبة المسرحية جيدًا وإدراكه لأبعادها (حكائيًا ومشهديًا وحركيًا)، ويتأكد في هذا النص المكتوب بعناية فائقة مدى ما يملكه من رؤية مختلفة وحديثة.
ومن المهم هنا استحضار مقولة (إنه لا يوجد كتابة إبداعية تنطلق من فراغ)، وفهد له مشروعه الإبداعي المرتهن للتجريب، وقد أتاح له هذا الاشتغال فتحًا في مجال كتابة النص المسرحي على نحو أنتج تجربة متطورة وتتراكم بوعي تنبثق في كل نص على شكل مغاير ومختلف تجعل لكل نص أو مجموعة نصوص سمة تميزها عما عداها متنقلًا بين أشكال عدة بحس إبداعي ونقدي.

الإرشادات المسرحية في نص “تفاصيل الغياب”:
اعتدنا في غالب النصوص المسرحية المكتوبة وجود الإرشادات المسرحية أو التوجيهات المسرحية وكانت تمثل – في الغالب الأعم – معينات للمخرج حين يكتب مؤلف ما نصًا بعين (مؤلف – مخرج) كما هو متعارف عليه بتعبير نقدي ومسرحي، ولا تبارح تلك الإرشادات حيز الاسترشاد ولا تتعدى دورها كمعين للمخرج.
أما في هذا النص فقد وضعنا فهد إزاء مغامرة كتابية تجعل من الإرشادات المسرحية أحد أبطال النص وثيمة رئيسة ومرتكزمهم لإيصال فكرة النص، وقد يُحدِث الاستغناء عنها خللًا كبيرًا في بنائية العمل، بل قد يهدمه تمامًا.
لأن الكاتب هنا جعل من الإرشادات مشهدًا افتتاحيًا مرسومًا بعناية فائقة سواء على مستوى رسم جمله الحركية أو على مستوى مدلوله التعبيري وتفسيراته المشهدية أو إحالته المتخيلة. حين أستقل به كمشهد افتتاحي ووضعه نهاية لكل مشهد من المشاهد التسعة، ثم ختم النص كاملًا بمشهدية الختام وجميع تلك الإرشادات تقوم على جمل حركية وإيماءات شديدة الإيحاء مما ضاعف من أهميتها. 
كما وأن تلك الإرشادات في هذا النص لم تكن فائضًا أو مجرد رافد من روافد الفكرة بل أجزم أنه مما لا يمكن الاستعناء عنه حتى تصل الفكرة كاملة وغير منقوصة وتنجح في الوصول بالحالة المسرحية إلى ذروتها؛ حيث صورة العمل الكاملة وغائيته وفكرته من الصعوبة أن تكتمل دون تجسيد هذه الإرشادات المسرحية كما بناها المؤلف تمامًا، ولا غرابة فالعروض أشبه ببنيان متكامل الإخلال بأحد أركانه أو واجهاته قد يؤدي به ويشوهه ويأتي على جماليته، وهذه الحالة التي صنعها فهد الحارثي في نص تفاصيل الغياب نقلة نوعية في استخدامات الإرشادات المسرحية حين تتحول من غرضها التكميلي إلى جزء أصيل من الحالة المسرحية بما تخلقه من مشهدية وجمل حركية لها مدلولات تفضي إليها مع عدم إغفال الجمالية التي تصنعها حركة الشخصيات؛ فضلًا عن الإحالات إلى ما قبل الحدث المسرحي المتجسد على الخشبة، وما تعنيه من ديمومة الحالة وتكرارها وتمددها.
ولا تكتفي بالإحالة إلى ما قبل الحدث، بل تتجاوزه إلى أثناء وما بعد الحالة حين جعلها لوحة الختام للعرض وعليه، فقد بدأ العرض بتوصيف دقيق للشكل السينمائي على شكل جمل حركية في مشاهد سريعة وفلاش باك على النحو التالي:
الجملة الحركية الأولى: يسير الرجل والمرأة في خطوط مختلفة طولية وعرضية دون أن يلتقيا.
الجملة الحركية الثانية: يلتقيان وجهًا لوجه يقفان لثواني، ثم يبتعد كل منهما عن الآخر بعد تحية عابرة.
الجملة الحركية الثالثة: يتجهان نحو الأمام هي في الجهة اليمنى، وهو في الجهة اليسرى أمام بوابة وهمية، يقفان يخرج كل منهما مفتاحة يحاولان إدخاله في الباب الوهمي، ينظران الواحد إلى الآخر، يبتسمان.
يحضر الرجل إليها يفتح لها الباب – يعود إلى مكان، يحاول فتح بابه لا يتمكن، تحضر هي إليه، تفتح بابه، يبتعدان، يلوحان أحدهما للآخر.
يبتعدان – يدخل كل منهما بيت الآخر يخرجان سريعان – يضحكان، يقتربان، هما الآن متقابلان تمامًا، ويتضح من هذه الافتتاحية أن فكرة النص تتناول تفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة كزوجين حيث حاجة كل منهما للآخر والأهمية التي يمثلانها معًا ويشير بالمجمل إلى أسباب (الطلاق) فيما تتسم الحالة في النص بالتكرار والديمومة وتكرار الأسباب.
البناء االطبقي للنص:
في هذا النص نحن أمام عمل مكتوب بطريقة مركبة (النص الحواري المكتوب فيه جزء مهم، لكن الأهمية نفسها تكتسبها الإرشادات المسرحية).
كما أننا أمام نص ينطوي على طبقتين هما طبقة الحوارات وطبقة الإرشادات المسرحية التي جاءت على شكل رؤية إخراجية قبلية وبعدية لكل مشهد، وللحالة المسرحية برمتها وبينهما نص حواري له سماته الشديدة الخصوصية, وهذا منح النص ديناميكية عالية ضخت في جسد النص حيوية عالية حتى وهو رابض ككلمة فوق جسد الصفحات.
كما يؤكد أننا نقرأ نصًا كتبه مؤلف يعرف أدق أسرار الخشبة وما يثير المشاهد وما يشد القارئ عبر بناء لا يركز على قوة العبارة ولا جمال الحوارات، ولا يراهن على اللغة الشاعرية فقط التي تميز نصوص (الحارثي) بوجه العموم، بل نجدنا أما حالة مركبة لا تنقصها البراعة ولا يعوزها تماسك البناء لحالة تتداعى، وتتخذ شكل الاستمرارية تخلق حالة مسرحية تتصل مع حالات لا حصر لها حين نجح الكاتب في جعل الإرشادات المسرحية روابط مع الماضي وأداة اتصال مع الحاضر وجسرًا مع المستقبل.
كل هذه المقاربة تأتي عبر شكل مسرحي يفيد في بعض أجزائه من (مسرح الحركة) بطريقة تجعل من هذه التجربة الكتابية قادرة على مناقشة الظاهرة عبر أدوات مسرحية صرفة، وباستخدام تقنيات كتابية مبتكرة وحلول مسرحية تشي بحالة التراكم والسيرورة التي تحولت صيرورة عند كاتب له اشتغالاته المسرحية ومنهجيته في الكتابة.
الشخوص في نص تفاصيل الغياب:

قبل الحديث عن الشخصيات في النص أود أن أجعل القارئ ملمًا بحكاية العرض وهي ببساطة لشخصين يتزوجان، ثم يعيشان لحظات حب ورضا بعد أن تزوجا عن قناعة تامة يعقبها حالات من عدم التوافق كما هو حال الزوجين. ويرزقان بطفل، لكن المشاكل تتراكم في 9 مشاهد قصيرة ومتتابعة وبحوارات قصيرة ومعبرة، ثم يحدث الطلاق ولعل القول هنا إن الحدوتة كانت في منتهى البساطة، بل والعادية لكن المعالجة المسرحية جاءت واعية وراشدة بل وناجزة أيضًا. ابتداء من دلالات الأسماء (الشخوص)، وهنا أشير إلى أن الكاتب عودنا في معظم نصوصه (تسييل الشخصيات)- إذا جاز هذا التعبير-أي جعلها بدون مسميات في الغالب؛ لتكون مدلولاتها أشمل وواسعة. ولكي لا يحصرها في إطار زمكاني معين، لكن في نص تفاصيل الغياب يخلق شخصيتين فقط هما (نوال وكريم). بما للاسمين من دلالات ومن معان إيجابية شديدة الدلالة تتعلق بالجود والكرم وطيبة النفس والسمو الأخلاقي؛ حيث الكرم والعطاء سمو أخلاقي قبل أن يكون ممارسة وفعل، وكأنه أراد بهذا أن يضمن رسالة أن الخلافات الزوجية وما يترتب عليها لا تختص بشريحة معينة أو بشخصيات بعينها، بل قد تطال حتى أولئك الناس الذين عُرفوا بسجاياهم الطيبة وكرم أخلاقهم.
الشخوص في النص جاءت مرسومة بعناية فهي تتقاطع شخوص أخرى خارج الحالة المسرحية، ولا تنفرد بفعلها، بل إنها متوالية حسابية تتكرر في كل زمان ومكان وفي مختلف الثقافات والعصور وهي حالة تحيل إليها وتؤكدها الحوارات والمشاهد، ويحرك تلك الشخوص فوق بياض الورق وعلى الخشبة نص متمرد على المعالجات المعتادة في الكتابة عبر التركيز على التناقضات والتكرار وتداخل الأحداث، وتبادل الأدوار لتأكيد ديمومة الحالة وتحقيق غاية مسرحية هي الأدهاش عبر التخييل المضاعف نقرأ هنا:
كريم: الوحدة قاتلة آه لو كنت تزوجت مرة آخرى لما كنت أسكن هنا وحيدًا خاويًا تعصف الريح بداري.
نوال: الوحدة قاتلة آه لو كنت تزوجت لما كنت أسكن هنا وحيدة خاوية تعصف الريح بداري.
كريم : (يحدث نفسه) مارأيك ياكريم بها تبدو لطيفة شكلها جميل، إنها مناسبة لك.
نوال (تحدث نفسها ) : مارأيك يانوال به يبدو لطيفا شكله مرتب، إنه مناسب لك أليس كذلك؟!
وبناء الحوارات هنا يأتي على نحو يذكرنا بمحمود درويش في رائعته (ليل يفيض من الجسد)، ويتقاطع معها فيما يتعلق بلغة التكرار التي تجسد حالة عشق بين غريبين تبلغ ذروته في هذا المقطع:
ياحبيبي لو كان لي أن أكون صبيًا……لكنتك أنت
ولو كان لي أن أكون فتاة لكنتك أنتِ! …
ورغم هذا الحب الجارف الذي يبلغ ذروته
لاينجو العاشقان من مصير قد يتحقق:
(هكذا يترك العاشقان وداعهما فوضويًا)
وفي مقطع آخر (يجسد حالة حب عارمة )
كريم: عام مضى كنت فيه بستان حياتي
نوال: عام مضى كنت فيه ثمرة روحي
فنجد أنفسنا ونحن نقرأ النص إزاء مشهد فوق مشهد، وحوار فوق حوار وموقف فوق موقف وإشارة مسرحية تتطلب أخرى، وجملة حركية متبوعة بجملة أخرى لإيصال الفكرة وبناء الحالة واكتمال المشهد.
تبدأ مؤشرات وشرارة الخلاف في المشهد الخامس ص71- 77 يتخللها تأرجح ظاهر في العلاقة بين لحظات الرضا والغضب والتفكير في نهاية فوضوية تفضي إلى الغياب.
ما يمكن التوقف عنده أن قفلات المشاهد كانت مبنية بطريقة متماسكة وإيقاعية، وتمنح الحالة ما تحتاجه من إيحاء شديد وبناء متناسق؛ حيث لا يخلو مشهد من النص من جملة حركية معبرة تجسد واقع الخلافات الزوجية حتى تصل إلى لحظة تكون فيها النقاط التي يمكن أن تكون أرضية صلبة لعلاقات متينة تتحول إلى نقطة خلاف على النحو التالي:
تحضر نوال الطفل تحمله في يدها تنظر إليه
نوال: لون عينيه يشبهك هو طفلك خذه ( تلقي به عليه)
كريم : يمسك بالطفل، أنفه يشبهك تمامًا خذيه أنت
(يلقي به عليها) ص76.
والأشياء الجميلة تحولت مقززة ورديئة ( الكوب المفضل للقهوة – التنورة الزهرية، الجاكيت، المقعد الخشبي، غرفة النوم) أصبحت تذكر بلحظات البؤس والشقاء والحياة المملوءة بالكدر مع الآخر.
وعلى مدار اللوحات التسع تسلط الحوارات والمشاهد والجمل الحركية الضوء على حالات متأرجحة بين القبول والرفض. الإقبال والنفور الحب الجارف والبرود القاتل الاتفاق حد الذوبات في الآخر والاختلاف حد الافتراق, وتبنى المشاهد وفق هذه الثنائية التي تجسد حياة أي زوجين في الكون.
وكأن هذا النص يقول هذه هي (تفاصيل) الحياة الزوجية التي قد تؤدي إلى ( الغياب) بكل تناقضاتها ملذاتها منغصاتها وإكراهاتها؛ حيث لا يوجد حياة زوج خارج هذا الإطار على وجه التقريب.

متفرقات:
* كان على الكاتب (فهد ردة) أن يجعل الإرشادات المسرحية مشاهد لأن جعلها مجرد إرشادات مسرحية مقترحة للمخرج قد يفسد النص – في حال استبعادها من قبل المخرج- أو يسلب هذا النص أحد أهم عناصر القوة التي يمتلكها قدرًا كبيرًا من جماليته.
* يندرج هذا النص المسرحي في إطار تنويع كتابات (فهد الحارثي) بالنظر إلى خصوصية المسرح السعودي التي تجعل من تجسيده مسرحيًا فوق الخشبة حاليًا غير وارد، ولربما أنه كتبه لتوسيع دائرة المتاح لنصوصه؛ حيث يمكن تقديمه من قبل فرق مسرحية خارجية.
* هذا النص بعيدًا عما أكتنزه من حلول وتقنيات مسرحية مبهرة – في تقديري- هو صالح كعرض مسرحي أو كنص مكتوب للمقبلين على الزواج – وحتى المتزوجين – فهو أشبه بروشتة مسرحية توعوية تغوص في تفاصيل تلك الحياة وتشرحها بأسلوب سهل وممتع.

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption