أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد مسرحي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد مسرحي. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 3 ديسمبر 2025

الجدار .. المسرح العراقي الجديد في مواجهة الكولونيالية الحديثة

مجلة الفنون المسرحية


الجدار .. المسرح العراقي الجديد في مواجهة الكولونيالية الحديثة 

 أرسلان درويش -- كوردستان – العراق     

   في زمن تتداخل فيه بقايا الماضي الاستعماري مع أشكال الحاضر المتحوّلة، وتنبعث فيه الكولونيالية الحديثة بوصفها نظامًا ناشطًا في الوعي قبل الواقع، وفي الرمز قبل الفعل، يأتي عرض (الجدار)* للمخرج العراقي ( سنان العزاوي) ليشكّل موقفًا مسرحيًا معرفيًا قادرًا على إعادة طرح سؤال بالغ الخطورة: كيف يتغلغل الفعل الكولونيالي في المجتمع، وكيف يتحوّل من هيمنة عسكرية مباشرة إلى بنية اجتماعية مستترة تستمر في التحكم بالتصورات واللغة ومفاصل السلطة والعلاقات اليومية؟ في هذا السياق، يقدّم العرض خطابًا فنيًا وفكريًا يؤسّس لأشتغال معرفيّ صاخب، حادّ، وجماليّ، خصوصًا أنه جاء مترافقًا مع مشاركته في مهرجانات عربية مرموقة، كان آخرها مهرجان أيام قرطاج المسرحية، الذي توج فيه ب(تانيتات)ذهبية وفضية واحتفاء فني كبير. وقد توج العام الماضي بجائزة أفضل عرض متكامل في المسابقة الدولية لمهرجان بغداد الدولي للمسرح في دورته الخامسة.
 شكّل عرض (الجدار) في لحظته المسرحية التي تجلّى فيها أول مرّة على خشبة مسرح الرشيد في بغداد 2024، أحد أهم التحولات الجمالية التي عرفها المسرح العراقي في العقدين الأخيرين؛ تحوّلًا لا ينبع من محض اختلاف شكلي أو انزياح تقني، بل من قدرة العرض على تأسيس أفق تعبيري جديد، يضع التجربة المسرحية العراقية أمام ضرورة إعادة التفكير في أدواتها، ورؤاها، ومنظوماتها الإدراكية، وفي كيفية صياغة خطابها الجمالي بوصفه جزءًا من بنيتها الثقافية والاجتماعية والسياسية .
 فالمسرح العراقي، منذ ستينيات القرن الماضي، لم يكن مجرّد فن سردي أو أداة محاكاة، بل مختبراً فكريًا صاغ ملامحه عبر مزج المحلي بالكوني، وتوسيع حدود الجسد والفضاء والرمز ليصبح قادراً على قول ما يستعصي على القول. وقد أنتجت هذه المختبرية تقليداً راسخاً من السعي إلى تفجير البنية الدرامية، وتجاوز الإطار الواقعي نحو انزياحات بصرية وفلسفية جعلت من الخشبة مكانًا لإعادة كتابة الوجود.

هذا الإرث لم يكن معزولاً عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالعراق؛ بل كان في تماسّ مباشر معها، يلتقط توتراتها ويعيد تشكيلها ضمن لغة جمالية مشبعة بالتجريب. ومع مرور العقود، تعمّقت هذه النزعة، وصار المسرح العراقي أكثر ميلاً إلى التأويل منه إلى التمثيل، وإلى تفكيك الزمن لا مجرد سرده، حتى بات يمكن القول إنّ المسرح العراقي يحمل في داخله نزعة مقاومة راسخة؛ نزعة تحوّله باستمرار من فن أدائي إلى مشروع تأويلي للوجود ذاته، حيث يُفهم العرض بوصفه اقتراحًا معرفيًا لا يقلّ أهمية عن كونه بنية جمالية. 
وقد ظل المسرح العراقي يراهن على الجسد والصورة كرافعتين معرفيتين. غير أن (الجدار)  يعيد تحديث هذا الإرث عبر حساسية حداثوية أكثر التصاقاً بخطاب الأزمة المعاصرة. فالعرض يشتبك مع الذاكرة العراقية المُنهكة، مع طبقات الحرب، مع هشاشة الفرد أمام البنى القمعية، ومع التحولات الاجتماعية التي تآكلت فيها الثقة وانكشفت فيها الهويات. ومن خلال هذا الاشتباك، ينجح في تحويل المسرح من شاهد إلى فاعل، من ناقل إلى منتج للوعي، وهو ما يشكّل امتداداً حول وظيفة المسرح في إعادة تشكيل المخيال الجمعي زمن الأزمات.
من هنا يأتي (الجدار) كامتداد طبيعي لذلك الإرث: ليس عرضاً يروي حكاية أو يعيد تشكيل واقع اجتماعي فحسب، بل عرضٌ يعيد صياغة علاقتنا بالوجود، ويُدخلنا في تماسّ مع السؤال الإنساني الأعمق حول الحرية، والهوية، والمحو، والذاكرة. إنّه يعيد فتح الجرح الكولونيالي والداخلي معًا، ويفضح، عبر لغته السينوغرافية والجسدية، صور التغلغل الكولونيالي التي ما تزال تعتم البنية القيمية والثقافية لمحليّتنا، وتعمل ـ في الخفاء ـ على إعادة إنتاج الخضوع والمنظومات التي تدجّن الخيال.

وبهذا المعنى فإنّ (الجدار) ليس نصًا مسرحيًا ولا عرضًا فحسب، بل استئنافٌ لرحلة المسرح العراقي نفسه: رحلة البحث عن معنى في عالم يزداد انزلاقًا نحو الصمت، ورحلة مقاومة لطبقات القمع التي تتناسل من التاريخ كما من الحاضر. إنه يضع المتلقي أمام إرث مسرحي ووجودي في آن، ويدعوه إلى التفكير في المسرح لا كفنّ، بل كجهازٍ لكشف العتمة، وتحرير الذات من آثار التاريخ التي ما تزال تعمل داخلها حتى اللحظة..

يدون الكاتب المسرحي ( حيدر جمعة) نصَّه كما لو أنّه يستدعي اللغة من منفاها الأخير؛ لغةٌ لا تُقال بل تُنتزع من صمتٍ كثيف. نصّ لا يعترف بمهادنة، ولا يُقيم وزنًا للبلاغة المألوفة. إنّه نصّ يُشعل السؤال لا ليُنير الطريق، بل ليحرق العتمة التي اعتدناها، مُحاصرًا كلّ يقين حتى يتهشّم تحت وقع ارتيابه.
هذا النصّ لا يكتفي بكشف المتغاضى عنه؛ إنّه ينزل إلى أعمق طبقاته، يُقلّب تربة الجرح، يفتح نفقًا بين الخطيئة والقداسة كأنّهما وجهانٍ لذات الحنين المُستنزَف. في هذه المنطقة المشبوهة، تُرى السلطة وهي تنهش آخر ما تبقّى من الضمير، ويطفو الألم الأنثوي كروحٍ سُجنت طويلًا في سرداب التاريخ، روحٍ تُمسك بخيط الضوء ولا تسمح له بالتلاشي. أمّا العار الجمعي، فينهض هنا كمرآة غائمة، كلّما اقتربت منها اتّسع صدعها، كأنّها تُعيد تشكيل الجماعة وفق فزعها القديم.
الجدار، في هذا النص، ليس مادّةً ولا معمارًا؛ بل كينونة تتثاقل فوق الزمن. جدارٌ يتنفّس خرابه، ينهض كقاضٍ أعمى يرى بالبصيرة لا بالبصر، يمدّ يده الباردة نحو الأجساد ليعيد صياغتها وفق ذاكرةٍ مجروحة، ويُخرج من الشقوق ما تحاول اللغة ذاتها حجبه. إنه جدارٌ تُقيم فيه الهوية مكيدتها، وتختبئ في تجاويفه حكاياتٌ نُسيت عمدًا، كأنّه الأرشيف المظلم للضمير الإنساني.
كل شخصية في النص ليست شخصية، بل شرخٌ يتكلّم؛ صيحةٌ محتبسة في جسد الجدار. وكل شرخ هو وثيقة بلا تاريخ، شهادةٌ تضيء لأنّها خرجت من ظلامٍ أعمق من أن يُمحى. هكذا يتحوّل النصّ إلى خرائط ندوب، كلّ ندبة تفتح بابًا، وكلّ باب يقود إلى جرح أكبر، حتى يغدو القارئ نفسه جزءًا من هذا الجدار ؛ شاهِدًا، ومشهودًا عليه في آن واحد.
إنّ خصوصية نص (الجدار) تكمن في قدرته على تحويل البنية الاجتماعية العراقية إلى متوالية درامية مفتوحة. فالنص لا يشتغل على حكاية واحدة، بل على شبكة من الحكايات التي تتقاطع وتتجاذب وتتنافر، مثل جروح تمتد عبر طبقات المجتمع:

فتاة خدعها حبيبها ومن ثم زوجها؛ جسدها أُطعم وأُهمل في الوقت نفسه، لتصبح مادة للاستغلال، أداة قسرية في لعبة السيطرة والتملك، ليتحول حلمها بالحب إلى سردية استعباد مستمرة. تليها حكاية امرأة أخرى أُجبرت على تبادل الزوجات، حيث يصبح الجسد ساحة للسلطة الذكورية، والروح سجينة العادات القمعية، والعلاقات الجنسية وسيلة لتمرير القهر.
أخرى تحلم بالطيران، لكن أخاها يقيم على جسدها مصائد الإدمان والتخدير والاغتصاب، ليُجبرها في النهاية على زواج قسري منه، فتتحول أحلامها إلى شبكة من الأسرار والكبت، ويصبح الجسد مذبحًا للخيانات العائلية والنكبات الصغيرة التي تتراكم في الذاكرة. في زاوية أكثر سوادًا، فتاة أخرى تحمل في رحمها جنينًا من والدها، تكرارًا للاغتصاب، إرغامًا على الطاعة، ليصبح الجسد فضاءً للصمت المطبق والجرح المعمّق، وذاكرة للعنف الأبوي الذي يعيد إنتاج ذاته في كل جيل.
وأمرأة أخرى ، استدرجها رسام إلى مرسمه، فرفضت الخضوع؛ وجسدها صار شاهدًا على القسوة، فحرق وجهها، فتثور فتقتل مرتكب الجريمة، فتتحول لوحة الفرشاة إلى أداة انتقام، وتصبح الحياة والموت محاولات لنقد جسدي مباشر. وأخرى، متزوجة من رجل مدمن على الإباحية، ترى جسدها يستخدم كمرآة للرغبات الشاذة، وفضاء لاختبار الحدود بين الحرية والاستعباد، بين الشهوة والتحكم.
هناك أيضًا امرأة تحاول أن تنقذ بناتها من والدهن المغتصب، لكن الغرق يبتلعها، موتها شهادة على استحالة النجاة في عالم يبتلع القوة والنية الطيبة، بينما امرأة أخيرة تتستر بالدين، تردد ترديدات متصوفة، لكنها تحمل داخليًا القسوة والدهاء، محاولة حماية الذات والهيبة في عالم فاسد.

وسط هذا المشهد النسوي، يقف الرجل المتحول، المخنث، الخادم أو المشرف على المكان. رجلً صاغته صدمة الطفولة المبكرة؛ اغتصاب في عمر أربع سنوات شكل وعيه الجسدي والنفسي. هذا الجسد الذكوري، المتحول، ليس مجرد عنصر صادم، بل جهاز قراءة للذاكرة، لأثر الانتهاك المبكر الذي يعيد إنتاج ذاته في كل علاقة، كل فعل، وكل مكان على الخشبة.
كل الحكايات تتقاطع، لا في تسلسل زمني تقليدي، بل في شبكة من التوازي والتضاد، حيث يصبح الجدار نفسه كائنًا حيًا: يقرأ، يختبر، يمتحن الضمير، ويعيد ترتيب مفهوم الحرية والهوية. الأجساد، النسائية والذكورية، تتحرك ككتابة حية، كصوت للصمت، كأداة نقد للمعايير الاجتماعية المغلقة، لكل تربية قسرية، لكل ممارسة تحكمية، ولكل أثر كولونيالي أو سلطوي مزروع في الأعماق.
الجدار، إذًا ليس مجرد فاصل مادي، بل آلة كشف مستمرة؛ كل شخص خلفه أو أمامه، كل حركة جسدية، كل انكسار أو صرخة، كل صورة ضوئية وصوتية، تتحول إلى تجربة معرفية - وجودية. الترتيب غير الخطي للحكايات يسمح للمتلقي بالغوص في عمق الصدمة، واستكشاف التداخل بين العنف والسيطرة، بين الطفولة والسلطة، بين الصمت والتمرد، في مشهدية تهدم التوقعات وتعيد تشكيل الفضاء المسرحي كجسد حي، متنفس للوعي الجمعي، ومرآة لتراكمات القهر التاريخية والاجتماعية.
هكذا تصبح الخشبة، من اللحظة الأولى وحتى النهاية، مختبرًا للوعي، حيث تتقاطع السياسة، النفس، والجسد، وتتصادم الذكريات مع الرغبات، ويصبح التفاعل بين المتلقي والنص تجربة معرفية مستمرة، تحفز التساؤل، وتعيد إنتاج حس النقد الذاتي والجماعي في قلب المكان والزمان المسرحي.
 إنه نصّ يقوم على تقويض البنية المعيارية لسرديات الضحية والجلاد، وعلى فضح التواطؤات الصغيرة والكبيرة في الحياة اليومية. النص هنا يعمل مثل مشرط في جسد المجتمع، لا ليعاقب أو يدين، بل ليكشف ويعرّي ويضعنا أمام حقيقتنا الأكثر فوضى. اللغة في النص هي لغة مأزومة، مشروخة، تتكلم بلسان الحياة لا بلسان البلاغة، لكنها في الوقت ذاته تحمل انزياحات شعرية دقيقة تجعل التجربة النصية مزيجًا من السرد الجمالي والحفر الاجتماعي العميق.

ومع أن النص يمثّل بنية قوية، فإن الإخراج في (الجدار) هو الذي يمنحه فضاءه الوجودي. المخرج المفكر(سنان العزاوي) في هذا العرض، قدّم أحد أكثرواهم اشتغالاته نضجًا وقدرة على تطويع الخشبة، ليس بوصفها مكانًا، بل بوصفها بنية مرنة تتغير مع كل شخصية، ومع كل لحظة، ومع كل جرح. حيث لم يقدّم (العزاوي) النص كما هو، بل أعاد كتابته على الخشبة عبر الصورة، والحركة، والضوء، والصوت، والكتلة. وهو يخلع عن المسرح جلده اليومي، يفتحُ عينه على عالمٍ يتشكّل من تكرار الصرخة. إخراجه ليس صناعة، بل طقس؛ وليس هندسة، بل تحويل الوجود إلى رؤيا. يضع الجسد في مواجهة ذاته، ويُصغي إلى ما يقوله الصمت حين يصبح أعمق من الكلام. المسرح هنا فضاءٌ يُعاد ترتيبه كأنه حلم يتكسّر، كأنّ الجدار ليس حدًّا بل جرحٌ مفتوح في ذاكرة المكان.
لقد بنى ميزانسينًا يقوم على التوازي بين الثابت والمتحرك، بين الظاهر والمظمر، وبين الممثل وجسده ككيانين منفصلين ومتحدين في الوقت ذاته. إن طريقة عمله مع الممثلين أعتمد على نظام عرض أدائي كامل لايعتمد التمقص او السرد بل يلوج في السايكولوجيا الوصفية, فهو يجعل الممثل يخرج من منطقة الشخصية بوصفها حكاية، ويدخله في منطقة الشخصية بوصفها علامة، دالًّا، أثرًا، أو بقايا ذات تبحث عن شكل.
فمن خلال إخراجه يتحويل النص إلى تجربة حسّية تقف بين النقد الاجتماعي والتأمل الفلسفي. فهو يعيد ترتيب العلاقات بين الشخصيات، بين المكان والإنسان، بين الضوء والجسد، فيشتغل على النص كحقل تتجاذبه الرغبة في الهدم والرغبة في الكشف. ومن هنا ندرك التوافق الكبير والعضوي في الوعي وفي الأستدارك المفاهيمي بين (المؤلف والمخرج) كشريكين اساسيين في مشروع العرض، يجمعان شركاءهم الآخرين لبناء تجربة مسرحية فائقة الخصوصية و التفرد في محتواها الصادم و نظام عرضها المتقن ومتن نسيجها الركحي (الفكري ،البصري ، السمعي، الحركي، الزمني) المذهل..
 في هذا الإطار، يستثمر (العزاوي) المسرح كفضاء للمقاومة الرمزية، محولًا الخشبة إلى فضاء بيني مركب يتقاطع فيه أثر الماضي مع استمرار تأثيراته في الحاضر، بما يتجاوز التجربة الزمنية الضيقة للشخصيات. إذ لا تتحرك الشخصيات ضمن الزمن الدرامي فحسب، بل ضمن أثر كولونيالي تراكمي، يتجسد في شبكة العلاقات غير المتكافئة بين السيد والعبد، المركز والهامش، القوة والضعف. هذا التراكب الكولونيالي ليس مجرد خلفية موضوعية، بل يشكّل نمطًا معرفيًا وسلوكيًا يحدد حركة الشخصيات ويكشف الآليات الداخلية لاستدامة الهيمنة الرمزية.
ويكمن تجليات الأبداع الأخراجي في قدرته على أن يشكل فضاءً تحليليًا تفاعليًا، يجمع بين التجربة الفردية والخبرة الجمعية، حيث تتقاطع الذاكرة الشخصية مع الوعي التاريخي للمجتمع. الشخصيات في هذا العرض لا تعمل كوحدات مستقلة، بل كعناصر متشابكة ضمن نسيج جماعي متكامل، تتقاطع أصواتها مع صمت الجماعة، وتشكل جسورًا بين زمن الغياب وزمن الحضور، مما يحول التجربة المسرحية إلى حقل معرفي-رمزي يمكن من خلاله دراسة عمليات الهيمنة، المقاومة، والتشكل الاجتماعي.
في هذا الإطار، ينجح العرض في أن يكون سياسيًا دون الاعتماد على الخطاب المباشر أو الشعارات السطحية، وفلسفيًا دون الانزلاق في التنظير المجرد، وإنسانيًا دون الوقوع في الميلودراما المبالغ فيها. تتشكل البنية الدرامية من تداخل الأبعاد الفكرية والجمالية، والمستويات الرمزية والمادية، والحركة والإيحاء البصري. كل عنصر في فضاء الجدار يمثل مؤشرًا على التاريخ، الذاكرة، السلطة، وقيود المجتمع غير المرئية، محولًا الخشبة إلى جغرافيا رمزية لدراسة العلاقات المعقدة بين الفرد والمجتمع، بين القيد والمقاومة، بين الحاضر وامتدادات الماضي.

ومن خلال هذا الاشتغال، يتحوّل (الجدار)  إلى نموذج حي للمسرح العراقي الجديد، يعيد صياغة العلاقة بين التصميم الفني والمضمون، بين الأداء والمفهوم، بين التجربة المحلية والانفتاح على السياق العالمي، ويتيح إطارًا معرفيًا لفهم التفاعلات المعقدة بين السلطة، الثقافة، والفعل الفردي في البنية الاجتماعية. 

أما السينوغرافيا، من خلال  تصميم الشريك الثالث والعضوي المبدع (علي السوداني)، فهو الراوي الذي لا يتكلّم لكنه يغيّر مسار المعنى. السينوغرافيا في (الجدار) لا تُمارس الخداع البصري ولا تنحاز إلى التقشّف الشكلي، لكنها تنبع من ثراءٍ ماديّ محسوس يتصاعد في طبقات من المعنى، حتى يغدو كل عنصر فيها طاقةً مُولّدة، لا زينةً مُضافة. فالجدار المتحرّك، الذي يتبدّل بين الارتفاع والانغلاق والانفراج، ليس ديكورًا يُستبدَل، بل كائنٌ معماريّ حيّ يُعيد تشكيل المكان لحظةً بلحظة، كأنّه نبضٌ مرئيّ للسلطة وهي تُعيد رسم خرائط العيش والخوف على أجساد الشخصيات. أمّا الأبواب المتعددة، فليست منافذ خروج، بل علامات وجودية تتكاثر دلالاتها: بابٌ يفتح على وهمٍ لن يتمّ، بابٌ آخر يلتهم محاولة الهرب، وثالث يتحوّل إلى فخّ بصري يفضح هشاشة الجسد حين يختبر حدوده.
هذه البنية التي صاغها (علي السوداني) ليست خلفية مسرحية بل جسدًا يحتضن خرابًا أنطولوجيًا؛ إذ تحاصر الجدران الثلاثة الشخصيات كما لو أنها تحاصر وعيها، بينما تفتح الشقوق والأبواب المغلقة منافذ وهمية نحو فراغ نفسي متسع، وليست منافذ عبور، بل مجازات عن القدر المُغلق، عن الأمل الذي يتسرّب ولا يتحقق، عن التطلّع المكبوت والطرق التي تُفتح لتقود إلى العدم. حيث يتردّد فيه صدى الأسئلة أكثر مما يتردّد فيه الصوت. كل زاوية مظلمة هنا تُحاكي فجوات الوعي التي تركتها الكولونيالية في الذاكرة الجمعيّة، وكل باب يُفتح ويُغلق يعكس محاولة تفكيرٍ خائبة، أو رغبة في الانفلات من قيودٍ اجتماعية رسّختها عقود طويلة من الخضوع والإكراه.
الإضاءة الباردة، القادرة على تحويل الظلّ إلى جدار ثانٍ، لا تكتفي بالإبانة، بل تستجوب حضور الجسد وتختبر صدق أفكاره. الضوء ينساب بين طبقات العمارة المتحوّلة، يعجن حوافّ الجدار، يخترق الشقوق، ويحوّل كل انتقال للكتلة المعمارية إلى حدث درامي مزدوج. والظل، حين يتقاطع مع هذا الضوء، يتحوّل إلى معمار موازٍ؛ جدار يتنقّل، يتلملم، ويكشف عمّا يختبئ تحت الحركة الميكانيكية من قلقٍ إنسانيّ مكثّف.
الصوت، بدوره، هو ذاكرة هذا الفضاء. إنّه ليس مؤثرًا خارجيًا، بل أنينٌ متأتٍ من عمق الجدار نفسه، كأنّه يعيد تشكيل الفقد المتراكم خلف الأبواب المغلقة. الديكور هنا يشترك في فعل المراقبة، فهو عمارة ترى وتُرى، وتتحكم بحركة الشخصيات كما لو أنها تمتلك السلطة على مصائرهم.
وفي هذا التنظيم، يتقدّم الممثل بوصفه مفردة سينوغرافية كاملة: جسدٌ يتّسع ليصبح امتدادًا للجدار حينًا، ونقيضًا له حينًا آخر، كتلة يعيد الضوء نحتها باستمرار، فتتحوّل الحركة الجسدية إلى كتابة ضوئية متكررة ومتحوّلة. أحيانًا يصبح الممثل بابًا بشريًا: حدًّا بين الداخل والخارج، بين الخضوع والرغبة في الانفلات، بين الصمت والبوح.
الأزياء تتقدّم كعلامات بصرية غير استعراضية، كل قطعة قماش تحمل أثر قيدٍ اجتماعيّ أو ندبة رمزية. وعندما تظهر الأقنعة، فإنها تحوّل الوجه إلى صفحة تُعرّي بدل أن تخفي، وتحوّل الممثل من فردٍ إلى علامة تتكثّف فيها الدلالة. وتعمل المجاميع البشرية كنسيج متوتر يعيد هندسة الفضاء، تُولد من حركتها نحتيةٌ سيميتريّة تُذكّر بأن السلطة قادرة على بناء نظامها حتى من فوضى الأجساد.

وتتسع السينوغرافيا بدخول المقاطع الفيلمية والداتاشو، لا باعتبارها تقنيات مضافة، بل فنونًا مجاورة تُنسَج في العمارة البصرية. الصور المسقطة لا تزيّن، بل تُضاعف الزمن وتربط الحاضر بماضٍ يشبهه. إنّها طبقة ثالثة بين الجدار والممثل: ذاكرةٌ مرئية تتقاطع مع ذاكرة الجسد، مرايا عابرة تُعلّق الحاضر على شاشة وتُعرّي تكرار القمع عبر التاريخ. هنا لا يعود الجدار مادة فقط، بل صورة عن مادة، وذاكرة عن صورة، وعلامة عن سلطة تستنسخ نفسها.
وعند تقاطع المعمار المتحرّك، الأجساد الجماعية، الضوء، الأقنعة، والصورة المسقطة، تتبلور البنية الفوكوية للضبط والمراقبة:
فضاءٌ يعيد هندسة نفسه بلا انتهاء ليذكّر الجسد بأنّه مراقَب، وبأنّ كل باب ليس مخرجًا بل اختبارًا لسلطةٍ تتكاثر في الجدار، وفي انعكاس الجدار، وفي الصورة التي تراقب قبل أن تُراقَب.
وفي الطبقة الأخيرة من هذا التكوين، تنبثق اللامرئيّة بوصفها مركز ثقل العرض: تصاميم ضوئية تبرز الظلال أكثر من الأجساد، كأنّ الكولونيالية لا تظهر في الأشياء بل في ظلالها، لا في حضورها بل في ارتجاف الغياب الذي تخلفه.
هكذا تتبدّى السينوغرافيا في (الجدار) بوصفها جهازًا بصريًا معرفيًا، لا يحتضن الفعل المسرحي بل يخلقه، ويمنحه عمقه الوجودي، كما لو أنّ الركح نفسه يتحوّل إلى كائن واعٍ يدوّن، ويراقب، ويُدين.
 إنّ مسرحية (الجدار)لا تتعامل مع البنى الاجتماعية كما لو كانت طبقات يمكن تقشيرها، بل كما لو كانت جلودًا أسطورية تنمو على الجسد والذاكرة معًا، وتشدّ الذات إلى عتمتها الأولى. فهي تبدأ من تفكيك الذات لا بصفتها كيانًا فرديًا، بل بصفتها أرشيفًا للخطيئة والرغبة والرعب، ثم تمتدّ، كجمرٍ يتقد تحت الرماد، إلى المجتمع بوصفه المهجع الأول للعطب، قبل أن تهوي على النظام كيدٍ تفكّ أقنعة التشريع الخفي للعنف، ثم تمسّ أخيرًا لُبّ البنية الكولونيالية التي لا تزدهر إلا فوق الخراب المتوارث والروح المكسورة. إنّها ليست رحلة بحث، بل رحلة تعرّي السؤال نفسه؛ نفقٌ يهبط لا نحو الإجابات، بل نحو هاوية الأسئلة وحافّتها الراجفة.
والسؤال الذي تبذره المسرحية في وعي المتلقي ليس سياسيًا ولا أخلاقيًا تمامًا، بل هو سؤال الميتافيزيقا التي تتخفّى في بنية الجماعة، سؤال الظلّ الذي يحرس الكارثة:
كيف لمرآةٍ يخشاها مجتمعٌ بأكمله أن تعينه على صدّ الوجه الأشرس للكولونيالية؟
كيف لجسدٍ يتستّر على قبحه الداخلي أن يقف في وجه قبحٍ أشدّ فتكًا، وأبرع في إعادة نحت أشكاله؟

في هذا السياق، يتحوّل الجدار إلى استعارة كونية: جدار الذات التي تنكر جرحها كي لا تنفجر، وجدار المجتمع الذي يحرس عماه كما لو كان نورًا، وجدار النظام الذي يمجّد خوفه ويصيّره قانونًا، وجدار الكولونيالية التي لا تحتاج سوى شقٍّ يسير كي تتسرّب منه وتعيد ترتيب الخراب. وبهذا، لا تعرض المسرحية أجوبةً، بل تمنح المتلقي إحساسًا مرًا بأنّ مقاومة الخارج تبدأ من ذبح الداخل فوق طاولة الحقيقة.
إنها تصرخ، بصمتٍ كثيفٍ وقاسٍ، أن مجتمعًا يهرب من مواجهة ظلاله لن يواجه إلا ظلالًا أشدّ طولًا، أشدّ ظمأً، وأكثـر قدرة على ابتلاعه. وكل هذا يتجسد في أشتغالات المبدع (علي السوداني) في تصميم السينوغرافيا وفق رؤى المخرج الشريك (سنان العزاوي) .
وعلى مستوى الأداء، كشف الممثلون ــ فردًا فردًا ــ عن قدرة مذهلة على حمل هذا التوتر المركب. فالممثلون في (الجدار) ليسوا مجرد أجساد على خشبة، بل أصداء تتحرك داخل جدار الذاكرة، كهوف متحركة تتنفس الألم، شروخ تنبض بالاختلاف، وتصدح بالصمت في الوقت ذاته. كل حركة، كل ارتعاشة، كل صرخة خافتة أو انفجار مفاجئ، تصبح خطابًا حيًّا، لغة تُقرأ بالجسد والروح، لا بالكلمات وحدها. و يتصدر المتألق (يحيى إبراهيم) المشهد المسرحي كجسدٍ يعيد قراءة مفاهيم السلطة والهوية عبر تحوّلٍ صادم، لكنه ليس صدمة بقدر ما هو تفكيك. يظهر جسده كوثيقة سياسية، كمرجعٍ نقدي يفضح سرديات الهيمنة الأخلاقية والاجتماعية. فتحوّله ليس حدثًا، بل مجاز عن الجسد المقموع، عن المدينة التي تبني جدرانًا لاحتواء الاختلاف ثم تدفن خلفها ضحاياها. أداؤه هو تفكيكٌ للمسكوت عنه واحتجاجٌ على الصمت بوصفه صورة من صور القمع. حضوره الرجولي، يتجاوز المظهر الخارجي، ليصبح حاملًا مزدوج المعنى: جسدًا متحركًا للنص، ورمزًا حيًا للصراعات النفسية والاجتماعية.
أداؤه للشخصيات المتعددة (الشاذ جنسيًا، القواد، الزوج المغتصب) يتعدى حدود التمثيل التقليدي ليصبح قراءة مسرحية دقيقة للعلاقات بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والقيود، بين الرغبة والتاريخ الاجتماعي. كل شخصية ليست مجرد كيان مستقل، بل طبقة ضمن بناء اجتماعي ونفسي مركب، تتفاعل مع الزوايا والشقوق في فضاء الجدار، فتكشف عن التوترات الرمزية العميقة، وأثر القوى المهيمنة على تكوين الهوية والرغبة.
بهذا الشكل، يصبح الأداء اللافت للقدير(يحيى إبراهيم) أداة تحليلية وتجريبية، تجمع بين الفعل الجسدي والدلالة الرمزية، بين التجربة الفردية والذاكرة الجمعية، بين الحركة والعمق النفسي، لتتحوّل خشبة المسرح إلى فضاء متعدد الطبقات يقرأ النص والجدار والمجتمع في آن واحد، ويتيح رؤية شاملة للعلاقات المعقدة بين الشخصيات والسلطة والرمزية الاجتماعية

اما المبدعات ( آلاء نجم، لبوة عرب،اسراء العاني، رضاب احمد، ريهام البياتي، نعمت عبد الحسين،رنا لفتة، زمن الربيعي، فيروز طلال، اماني حافظ، شيرين احمد، عبير الخفاجي) فهن يشكّلن شبكة جسدية معرفية تتجاوز مجرد التمثيل الخارجي لتصبح مساحة تواطؤ بين العقل والجسد، وفق مقاربة السيكولوجيا الوصفية التي تركز على الإدراك الجسدي للخبرة النفسية وتجليها في الأداء. كل حركة، كل التفافة، كل ارتجاف للعضلات، تُقرأ بوصفها استجابة معنوية للنزاع الداخلي، مكاشفة للاضطرابات النفسية الناتجة عن العنف الاجتماعي والجماعي، وكأن الجسد يتحوّل إلى سجل حي للذاكرة العاطفية والجنسية والجسدية.
الفنانة (آلاء نجم) على سبيل المثال، توظّف خطواتها وامتدادات جسدها كـ طقوس استعادية، تحاكي نزاع الذات مع أثر الصدمة، فتصبح الحركة لغة وصفية تعكس الصراع النفسي بين الرغبة المكبوتة والخوف المتأصل. الرائعة (إسراء رفعت) عبر صمتها المكثف وانكسار جسدها، تقدّم دراسة في التوتر النفسي والاغتراب الداخلي، حيث تتحول الأعضاء المرتجفة إلى علامات وصفية تعكس اضطرابات الهوية والحضور النفسي في فضاء محاصر. والممثلة (رهام البياتي) في تجسيد الألم الأمومي الموروث والمعاش، تستخدم الجسد كمجال لتثبيت التجربة الزمنية للصدمات الماضية والحالية، فتصبح انحناءات العمود الفقري والانزلاقات الحركية سجلًا وصفياً للصراع بين رغبة الحياة وانطفاء الأمل.
 في المقابل، الفنانة (نعمت عبد الحسين) تقدّم أداءً أوبراليًا، يوسّع المجال النفسي والجسدي لتصبح الصوت والجسد متوازيين في إنتاج الدلالة الرمزية، وكأن الصوت الأوبرالي نفسه يشكّل امتدادًا للصراخ المكبوت داخل الذاكرة الجمعية. وصوتها ليس مجرد نغمة بل صرخة الهيمنة الكولونيالية المتمثلة في السلطة الرمزية. كل تصعيد صوتي، كل نفَس مرتفع، يعيد إنتاج العلاقة بين القهر والاختيار، بين الحرية والقيود، ويحوّل الجسد المسرحي إلى لوحة حيّة للهيمنة والتمرد والمقاومة الرمزية.
المهرج والمجاميع لا تقل حضورًا؛ حركتها المتزامنة، تنفسها الجماعي، وقفتها الموزونة، تجعل الركح نحتًا حيًّا للإيقاع الرمزي، جسد المجتمع على هيئة لوحة متحركة، حيث الصمت جزء من الحوار، والضوء والظل خطوطه، والانفعال الفردي يصبح جزءًا من النسيج الكلي للعرض.
وفي هذا العالم المشحون بالرمزية، يظهر( الجوكر) الذي يجسده الممثل(دريد عبدالوهاب)، صامتًا لكنه حاضر بالتهديد، عبثيًا لكنه مُهيمن، مرآة للسلطة الكولونيالية المتخفية في كل زاوية من الركح. صمته ليس غيابًا، بل حضورٌ ثقيل يوجّه الأنظار، يفرض التوتر على المشهد، يقطع المسافة بين الفرد والجماعة، بين الصخب والصمت، ويصبح ظلًا حيًّا يراقب ويعيد تشكيل الأحداث من الداخل، مجسدًا الجانب الساخر والمهدد للهيمنة التي تتسلل عبر الزوايا المخفية للجدار والوعي الجماعي..
الموسيقى في (الجدار) ، من تأليف (رياض كاظم )وعزف (أميرة عز الدين)، ليست مجرد خلفية، بل محرك جمالي للزمن الداخلي للعرض. الصمت الموسيقي والانفجار اللحظي يتقاطعان ليصبح الإيقاع خطًا دراميًا موازيًا لحركة الجسد والضوء والظل، يحدّد انكسارات الوعي ويمنح الجدار نبضًا رمزيًا. 
والكيروكراف من تصميم المبدع (عليّ دعيم)، يتحوّل إلى لغة فلسفية مكتوبة على الهواء. الانحناء، الانكسار، التسلق والانزلاق ليست حركات تقنية فحسب، بل مقاومة رمزية تُعيد إنتاج الوعي بما يُمحى اجتماعيًا: الألم، القمع، والقيود المفروضة على الرغبة والوجود. الحركة هنا ليست أداءً منفصلًا، بل خطاب جسدي متشابك مع الجدار، الضوء، الصوت، والذاكرة، لتصبح كل اهتزازة عضلية شهادة على التاريخ والمجتمع والهيمنة.
أما تصميم الأزياء الذي قام به ( زياد العذاري) وال ماكياج ل( بشار فليح)  ، فهما جزء من الخطاب الكولونيالي نفسه: وجوه شاحبة، عيون معتمة، خطوط متكسرة تشير إلى التعب المتوارث، إلى الشقاء الذي لا يتعلق بالشخصية  وحدها بل بالمجتمع بأسره. الأزياء دقيقة وغروتسكية، وكأنها تُعيد إنتاج طبقات اجتماعية مسحوقة فقدت لونها تحت ضغط التاريخ.

لقد نجح المخرج المبدع (سنان العزاوي)مع شركاءه في هذا العرض ، في تحويل عناصره الفنية إلى منظومة واحدة ومع كل هذه العناصر،وكل تلك الجهود الفنية والتقنية والانتاجية الضخمة، فإنّ ما يجعل (الجدار)علامة بارزة في المسرح العراقي هو أنّه يقدّم قراءة نقدية شجاعة لتصدّعات المجتمع. بلغة ركحية فائضة الجمال ومعاصرة وبينما يغادر المتلقي القاعة، فإن ما يحمله معه ليس (أثر عرض)، بل معادلة: أنّ الجمال يمكن أن يكون أداة نقد، وأن الشجن يمكن أن يتحوّل إلى تمرّد معرفي، وأن المسرح قوة قادرة على فضح صور الاستعمار التي تلبس أقنعة الحداثة، وتستقرّ في اليوميّ، في أخلاق الطاعة، في التراتبيات العائلية والمهنية، وفي الفكرة الرائجة عن (النجاة بالصمت).
 وهكذا يغدو (الجدار) نداءً إلى مساءلة الإرث الرمادي الذي خلّفته الكولونيالية، وإلى تفكيك الحضور الخفيّ لظلّها في حياتنا المعاصرة، بهذا تتحوّل الخشبة والجدار إلى مساحة تجريبية للفكر والإحساس معًا؛ ليس مجرد حدث مسرحي يُشاهَد، بل حدث يقرأنا نحن، ويعيد ترتيب وعيّنا، يضعنا أمام انعكاسات وجودنا في العالم وفي ذواتنا. فالجدار لا يمنع، بل يفتح الأفق: لنرى ما خلفنا، وما أمامنا، وما تحت أقدامنا، وهكذا، لا يقدّم العرض تأويلاً للواقع، بل يتيح للمتلقي أن يعيش ظواهره؛ يتلمّسها، يصغي إلى توترها، ويعيد من خلالها تشكيل وعيه بالسلطة والذاكرة والجسد والحرية.

و يظل (الجدار)علامةً لا تُقاس بالنجاح الفني وحده، بل بقدرته على إعادة تعريف النجاح ذاته، على تحويل العرض من فعل تقني إلى تجربة وجودية. إنه عرض يعيد للمسرح العراقي حضوره كفضاء ذا ذاكرة، وجماليات، وجرأة، كمساحة يُعاد فيها اكتشاف العلاقة بين الإنسان والعالم من جديد.
العرض يفتح باب المساءلة والشكّ والتأمل، ويخلق لغة جديدة للبوح، ولغة جديدة للمواجهة، لغة تختصر بين الصمت والصراخ، بين الظلّ والنور، بين الجرح والرؤية.
إنها تجربة تُعاد فيها كتابة العالم، لا عبر الفكر المجرد، بل عبر انبثاق الظاهرة في شكلها الأولي، كما تُعاش، وكما تترك أثرها في الوعي قبل أن تُؤوَّل..
وتلك هي القدرة العليا للمسرح: أن يجعلنا نرى ما نجهل رؤيته، وأن يجعلنا نسأل، حتى حين لا نجد جوابًا، فنصبح أكثر وعيًا بما نحن عليه، وما قد نكون عليه.


هذه المقالة تنشر احتفاءا" بتتويج (مسرحية الجدار)  انتاج : دائرة السينما والمسرح- الفرقة الوطنية للتمثيل ، بجوائز ذهبية وفضية في مهرجان ايام قرطاج المسرحي الدورة 26، وهي عن مشاهدتي لعرض المسرحية يوم 11 | 12 | 2024 على خشبة مسرح الرشيد ضمن الدورة الخامسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح.. 

الأربعاء، 26 نوفمبر 2025

لاوعي النص في مرآة الأشعري المسرحية/ عبيد لبروزيين

مجلة الفنون المسرحية


 لاوعي النص في مرآة الأشعري المسرحية

لم يكن المبدع يومًا في انسجام مع السلطة، ولن يكون بينهما وفاق طالما أن جوهر الإبداع يقوم على الانكشاف الحر للحقيقة عبر تشظّي الروح الكلية، وعلى الخيال الذي لا يتحقق إلا في فضاء الحرية، فكما يقول أدونيس: لا إبداع بلا حرية. في المقابل، تقوم السلطة بطبيعتها على القانون والنظام والحدود، مستندة إلى أشكال متعددة مثل سلطة الأب والحاكم والإله، وهكذا تتصادم البنيتان، فكل منهما ينفي الآخر ويعارضه.
ومع ذلك، قد يحدث توافق أو تقاطع بين الطرفين في بعض الأحيان، خصوصًا في المجتمعات الطبقية أو الشمولية، وهذا الشدّ والجذب الدائم هو ما يضخ في الإبداع حيويته وفرادته، وحتى حين يبدو أن هناك انسجامًا عابرًا بين المبدع والسلطة، فإنه غالبًا ما يخفي صراعًا داخليًا مستمرًا، هو في حقيقته صراع أبدي بين الحرية والنظام، بين الممكن والمفروض، بين ما نطمح إليه وما هو قائم بالفعل، وهو ما سنحاول كشفه من خلال النص المسرحي "شكون أنت"، لمحمد الأشعري، الصادر عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة في طبعته الأولى سنة 2024.
إن الكتابة الإبداعية في تناولها لتاريخ السلطة، لاسيما المعاصر منها، تعد مخاطرة كبيرة، لأن استجماع الأحداث التاريخية في قصة درامية تروى من وجهة نظر إبداعية، يسائل الحدث التاريخي في صدقيته وتخيّله، غير أن الرهان ليس رصد هذه العلاقة الجدلية بين الإبداعية والتاريخ، بل تتبع حضور السلطة في الخطاب الإبداعي المسرحي عند محمد الأشعري من خلال شخصية البصري الذي ترك في الذاكرة الجمعية للمغاربة آثارا يصعب تجاوزها، لاسيما أن هذا الحضور القوي لخطاب السلطة غالبا ما يؤدي إلى خطاب مباشر يقل فيه فعل الإبداعية المسرحية.
المسرحية باعتبارها حادثة لاحقة
لطالما كان الصراع لبنة أساسية في البناء الدرامي المسرحي، لكن صراع مسرحية "شكون أنت" بدأ قبل المسرحية بكثير، قبل أن يتحول إلى صراع درامي في ثنايا النص المسرحي، وهو ما عبر عنه محمد بهجاجي في تقديمه للمسرحية قائلا: "يعود الأشعري إلى المسرح، هذه المرة، بنص بالدارجة المغربية، وبعنوان مكثف الدلالات والمرجعيات "شكون أنت"؟ والذي هو في الأصل، عنوان رسالة الصحافي خالد الجامعي التي كان قد نشرها بجريدة "لوبنيون" يوم 22 نونبر 1993، بعد أن خاطبه إدريس البصري وزير الدولة في الداخلية والإعلام آنذاك "شكون أنت"، وذلك إثر كتابته لمقال تحليلي ينتقد فيه نظام الحسن الثاني". 
يتبين أن النص الدرامي في جوهره إعداد مسرحي لحادثة/قصة بين خالد الجامعي وإدريس البصري، حيث الصراع عمودي بين رمسيس وقدره المحتوم، لكن دون إثارة عاطفتي الرحمة والخوف كما في التراجيديا، لأن الأفعال الدرامية للشخصية المحورية تصدر عن شر مطلق، وهذا ما يجعل المسرحية مختلفة البناء والطرح والهدف.
وإذا كانت الحادثة الحقيقية التي جاءت في التقديم هي البؤرة الدلالية الخارج–نصية لتشكل الشرارة الأولى لفكرة المسرحية، فإنها ولاشك المحرك الأساس للفعل الدرامي المسرحي، بل وتقدم هذه الإرشادات التي لا تنتمي لبناء الفعل المسرحي دلالات هامة لتوجيه فعل القراءة، القراءة التي تستحضر السياق السياسي/التاريخي، هذا السياق الذي جعل النص يخضع لهيمنة نوع معين من القراءة، حيث تتشكل الحكاية في سياق انتقالي خطير من عُمر دولة، نهاية مرحلة وبداية أخرى.
يتقلب رمسيس، رجل السلطة القوي، من حال إلى حال، الهذيان والتعقل، الانسحاب والصمود، الحياة والموت، الانصياع والمؤامرة، وهي الثنائيات الضدية التي استطاع المؤلف محمد الأشعري تبئيرها في وضعيات مختلفة للكشف عن الوجه المرعب للسلطة/رمسيس، وذلك في قالب درامي سيكولوجي يعكس عبقرية إبداعية في بناء عوالم نفسية متقدة.
إن قراءة هذا النص الدرامي بعيدا عن السياق السياسي/التاريخي يجعل المتلقي يتيه بين البياضات الكثيرة التي تحتاج إلى ملء لتشكيل المعنى الكلي للنص، باعتباره كشفا عن الحقيقة في ذاتها ولذاتها، أي حضورا جزئيا للخير والفضيلة والحق، المقولات الكلية التي تعتبر الغاية القصوى لكل فن، وذلك بمماحكة إبداعية عبقرية تسائل الجانب الغرائزي في الإنسان وميله للسلطة والبطش.
النص الدرامي "شكون أنت" نص يفيض بحمولته الدلالية الإبداعية على الخارج/الواقع، وليس الواقع هو الذي يفيض بأحداثه على النص، لأن رمسيس ليس شخصية بعينها، وإن كانت تبدو كذلك، وإنما هي في حقيقة الأمر رمز لفساد السلطة عبر التاريخ، ونهاية رمسيس الغامضة والمأساوية، هي نهايات كثيرة في الواقع، التاريخ يعيد نفسه لكن يتشكل برؤية إبداعية مسرحية خاصة في سياق الإبداعية المغربية. لأن قراءة النص خارج هذا السياق، سيجعله أكثر فيضا بالدلالات المتوارية بين الإبداع والسلطة، بينما الهدف الأسمى للمسرحية هو الكشف عن الحقيقة الفنية.     
اللامفكر فيه أو دفاعا عن رمسيس
إن النص الدرامي باعتباره عملا فنيا لا يمكن قراءته إلا في سياق الإبداعية التي تجعل منه خطابا مفارقا للواقع، أو واقعا من منظور إبداعي يختلف عن الكتابة التاريخية وكتابة السيرة، فعودة ديونيسوس أو حضور اللاوعي في العمل التخييلي، وإن كان معدا عن قصة حقيقية، هو حضور للرغبات الدفينة وتجلّ للاوعي الجمعي مادمنا نتحدث عن حضور لشخصية عامة/تاريخية في عمل إبداعي.
يقول مارتن هايدغر "إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته، ويتم هذا الانفتاح في العمل الفني، بمعنى الكشف، بمعنى حقيقة الموجود، حقيقة الموجود تضع نفسها في العمل الفني. الفن هو وضع الحقيقة –نفسها- في العمل الفني" العمل الفني الذي يعتبره هايدغر كشفا عن الحقيقة، وهي وإن كانت تاريخية فهي لا زمنية وفوق زمنية، كما أنها قد تكون سيكولوجية بارتباطها بالمؤلف والمتلقي، أو بالنص الدرامي نفسه (لاوعي النص). 
فهذا الوجود الذي يتيحه العمل الفني هو انفتاح لوجود سابق يرتبطان بما جاء في المسرحية ارتباطا شكليا يخضع لقواعد الكتابة المسرحية ولتسلسل بناء الأحداث المسرحية، وكذا للرؤية الإبداعية للمؤلف محمد الأشعري التي لا تستطيع التنصل من الإيديولوجية اليسارية التي تصبو لكشف حقيقة الموجود من وجهة نظر إبداعية/فنية معينة، انتقالا من النضال إلى الإبداع، الإبداع الذي يستبطن إيديولوجيته الكامنة، أو الإبداع الذي يتضمن كل أساليب الإدانة والرفض للسلطة وتجلياتها في شخصية رمسيس، فقناع الرغبة التي لا يجد المؤلف حرجا في كشفها بشكل مباشر في سياق لاوعي النص وجهت فعل القراءة، لأن "شكون أنت" نص مسرحي يحمل في طياته قضية تاريخية وسياسية بمماحكة إبداعية، يقول المؤلف قبل افتتاح المسرحية: "كل تشابه بين شخصيات هذه المسرحية وشخصيات حقيقية، هو تشابه مقصود، والمؤلف إذ يؤكد ذلك، يعتذر للشخصيات الحقيقية إذا لم يكن التشابه دقيقا بما فيه الكفاية". هل هو إشباع لرغبة دفينة في الانتقام أم أن المؤلف ترفع عن ذكر الحقيقة التاريخية في الحقيقة الفنية؟ ماذا لو كان رمسيس ضحية للسلطة؟ وهل يمكن الفصل بين رمسيس والسلطة؟ 
الإبداع لغة الرغبة، بل هو الموضوع المفضل لها، ذلك باعتبار رمسيس/البصري موضوعا لرغبة كامنة في اللاشعور الجمعي للمغاربة، وكذا اللاشعور الفردي للمؤلف، والذي تحول بفعل ميكانيزمات اللاوعي  إلى الشعور من خلال شخصية رمسيس بكل ملامحه الدرامية، والذي يسجد بدوره الشر المطلق للسلطة، أو تمثلا للشر المطلق بالمعنى العام.
وإن أفضل تجلّ لهذه الدوافع الفردية والجماعية تكمن في التداعي الحر من خلال برولوغ طويل على لسان رمسيس الذي استطاع فيه المؤلف كشف القناع عن شخصية مهلوسة تعاني انفصاما مزمنا يعكس صراعا نفسيا عميقا، فقد جاء على لسان رمسيس: "ولكن شي وقت كان رمسيس هو أنا، بغيت نقول كنت أنا هو رمسيس، ولكن شي وقت آخر مبقاش رمسيس بقيت أنا بوحدي، وعاود شي وقت آخر مبقيتش أنا، لي بقا هو رمسيس، وجا الوقت اللي خاص فيه واحد فينا يخوي".
الصراع النفسي بين ما كان وما أصبح عليه رمسيس، أو ما يريد أن يكونه، ألم الذكريات المشعة في الذاكرة، التي تجعل من الشخصية المحورية تتنكر لنفسها، ليس باعتبارها ذاتا موجودة، لكن ذاتا موجودة بماضيها المظلم الذي يستوجب الهروب، يقول رمسيس: "وقفت مرة أخرى قدام المرايا، شفت مزيان، لقيت الشخص اللي في المرايا ماشي أنا"، إنه هروب مستمر من الماضي بحمولته المقززة، وتنكر مستمر للذات الموجودة في ماضيها، والتي تجد نفسها موجودة في حاضرها الذي تتحرق فيه للتخلص من الشخص في المرآة/الماضي، فرمسيس يسعى للتخلص من رمسيس في قالب من التداعي الحر الذي يكشف عن البناء النفسي المضطرب للشخصية. 
إن تأنيب الضمير، والسعي للتخلص من رمسيس الطاغية، هو في حقيقة الأمر، جانب يحث القارئ على التعاطف، التعاطف مع شخصية تبدي الندم لما اقترفت من تعذيب وقتل، وتسعى بكل الطرق للهرب من الذكريات التاريخية، فهل تعاطف الأشعري مع رمسيس أم أن الأمر يخضع لبنية الشخصية المسرحية؟ أليس الندم على اقتراف جرم يستدعي التعاطف؟ هنا تصبح صورة البصري في مرآة الأشعري ضبابية الملامح، غير واضحة المعالم، وإن كان الهدف الضمني إظهار صورة رجل السلطة الطاغية.
وعندما يشتد الوضع، ويبلغ الألم مداه، ألم الذكريات، يلجأ المؤلف للسخرية باعتبارها أسلوبا يخفف من صدامية الأحداث وتواترها المتصاعد، وينوع تقديمها ويخفف من حدتها، وهي نادرة، لكنها تكشف عن التقلبات النفسية لرمسيس، الذي يقول: "زدت تأكدت بأن الشخص لي فالمرايا ماشي أنا، حليت فمي، خرجت لساني، شيرت بيدي..." ولكن هذه السخرية التي تأتي في زخم حضور الذكرى سرعان ما تكف عن الظهور، فرغم أنه وسيلة لكسر إيقاع اللوم والعتاب وخروج من حالة التيه إلا أن رمسيس يعود إلى تداعياته النفسية والظلم والمؤامرات في قالب دراماتيكي مثير ينم عن عبقرية في نسج التاريخي والتخييلي في النص الدرامي.
لقد كان المشهد الأول صراعا نفسيا بين حضور الماضي ونفيه، لكن المشهد الثاني يكشف عن رمسيس جديد، جعلته مايا أكثر تعقلا للتفكير في المرحلة الجديدة، من مسرح الصراعات النفسية إلى مسرح الصراعات الواقعية التخييلية التي تؤثثها مرحلة العهد الجديد، بين البقاء أو الموت، الصدام أو الاستسلام، يقول "رمسيس 2: وعلاش غادي نسدو، خصنا نوجدو راسنا، الوقت تبدلات، خصنا نتبدلو معاها، خصنا نخرجو شويا ونشوفو الدنيا، ونتلاقاو مع الناس الجداد"، لم يكن رمسيس جبانا، بل حاول العودة مرارا إلى مسرح الأحداث، لكن كل شيء كان ينذر بفوات الأوان، فهل فات الأوان فعلا؟ وماذا لو عاد إلى مسرح السلطة؟
وفي خضم تقلبات السلطة، يحاول رمسيس الثاني أن يجد لنفسه موضعا في المرحلة الجديدة، لتتقلب أحواله بين تنكر الأصدقاء والمؤامرة على السلطة التي كان ذات يوم عقلها ويدها، إنه مواطن عاديّ الآن، لقد فقد المخلوق السلطوي العجيب كل أنيابه التي مزق بها أعداءه ذات يوم قريب، هكذا أصبحت الصورة في المرآة تتضح شيئا فشيئا، وكأن البرولوغ ليس إلا آلية لجعل القارئ يتقرب لشخصية رمسيس. 
حاول رمسيس الثاني التأقلم مع الوضع الجديد، لكنه يدرك حجم الخسارة بفقد قائده الذي كان إلى جانبه يشكلان السلطة المطلقة بكل معانيها، تقول مايا:"معلوم ماشي ساهل، المدينة كانت ناعسة كاتحلم، والجبل اللي كيعطيها الظل والما والنعمة ناعس حتى هو، تيحلم ولا ما تيحلمش، وواحد النهار من تفيق المدينة كتلقى الجبل طاح، مابقاو منو غير جوج رخامات بويض، تكتب في وحدة منهم سنة الميلاد وفي الأخرى سنة الوفاة".
إن هذه التقلبات المفاجئة جعلت رمسيس الثاني ضد السلطة الجديدة، بل حاول التآمر عليها بعد أن كان صورتها المطلقة، جاء في المسرحية "رمسيس 2: ما عندو ما يفكر، لمعلم مربوط في الجبل القديم، ملي طاح طاح معاه، ما قدرش يفكر فبني جديد، باغي غير يحضي الأنقاض ويجري على الميخالة، ويلصق الطريفات مع بعضياتها، خصنا نقلبوا على شي حد آخر". لكن رمسيس الثاني يفشل في كل شيء، ويصبح مشغولا بالحفاظ على رأسه، لقد انتهى بعد مسار طويل في دهاليز السلطة إلى مواطن عاد جدا، لكن تاريخه الحافل بالانتهاكات والتعذيب ظل يلاحقه باستمرار.
رمسيس باعتباره تجسيدا للشر المطلق
وبمماحكة رمزية عميقة يُظهر المؤلف القدَر الذي حاول رمسيس إقناعه بالبدء من جديد، وأن يجعله شخصية عادية تتخبط في اليومي، لكن يكون كل شيء قد انتهى وفات أوانه، يقول "المؤلف: واش كاين شي تفلية بحال هاد الشي اللي كتقول، بغيت منبقاش أنا؟ إوا؟ هادا عمر وأنت، أنت، ودبا ملي بدات كتسمع شي جنازة فالكولوارات، لواه بغيت ما نبقاش انا؟".
 انتهى كل شيء، وفر الجميع ممن كان ذات يوم يطلب لقاؤه فلا يستجيب، إن الجاه في حالة رمسيس مرتبط بالسلطة، وإذا ما اختفت هذه الأخيرة اختفى معها جزء من الهوية المزيفة للمرء، لأنها ليست هوية حقيقية بقدر ما هي هوية مصطنعة مرتبطة بكائن هلامي اسمه السلطة، يقول "رمسيس1: أراي لي السميات (يضرب على جبهته) فين مشات السميات؟ أراي لي السميات. مايا: (غاضبة) مبقات سميات، سلات، ما فهمتيش؟ سلات، مبقات لا سميات لا سيدي زكري، كلشي سلا".
وكأن كل شيء يحتكم لعجلة التاريخ، حيث البداية والسقوط للرجل الثاني في هرم السلطة، لقد كانت السلطة بهذا المعنى آلة فتاكة ضد-إنسانية، على الأقل في سياق النص الدرامي، حيث جردت رمسيس من إنسانيته وآدميته لتظهر الجانب البربري من خلال البطش والقتل، جاء في النص: "كان يا مكان، حتى كان للي كان، كانت مسكينة كتطحن، طحنت الحب، وطحنت التبن، طحنت لي جاي وطحنت لي غادي، طحنت العود والحجر، ورياح البر والحوت اللي فقاع البحر.. ملي ملقات ما تطحن، دخلت تحت اضراسها طحنت عظامها".
يدرك رمسيس أن حياته مقترنة بالسلطة القديمة، وأنه مات بموت الرجل الأول في هرم السلطة، وأنه ما عاد له وجود قط، يقول "رمسيس 2: أنا مكينش، أنا دازت كنازتي في التلفزيون، أنا الشخص دالمرايا... أنا شكون"، مات رمسيس موتا رمزيا بموت قائده، لتسمع طلقات نارية بعد خروجه من المكتب، ليترك المؤلف/الأشعري بياضات حول النهاية، بين الانتحار والاغتيال أو طلقة عشوائية في الهواء، نهاية مفتوحة على قراءات كثيرة، لكنها حتما مأساوية لنهاية طاغية.
تثير شخصية رمسيس الكثير من الأسئلة الوجودية المرتبطة بالإنسان/السلطة، رمسيس الأول مدعاة التعاطف بسبب صراعه النفسي، الذي يؤدي إلى رمسيس الإنسان أو الذي يسعى لاستعادة إنسانيته، ورمسيس الثاني السادي والمتآمر والقاتل، ازدواجية تؤدي إلى فهم أعمق للشخصية، الشخصية الإنسان والشخصية السلطة وكلتاهما تؤديان إلى الشخصية التاريخية التي اتضحت معالمها في مرآة الأشعري تدريجيا.
إن مسرحية "شكون أنت" لمحمد الأشعري، مسرحية تاريخية، تستمد أحداثها من قصة تاريخية في قالب درامي رمزي، ترسم ملامح السلطة الانتقالية في المغرب، وما رافقها من تقلبات عميقة على مستوى بنية الحكم، مجسدا هذا الاضطراب في شخصية رمسيس1 ورمسيس 2 ومايا والمؤلف بأسلوب ماتع يبتعد عن المباشرة التي تقتل الإبداع، هذا الإبداع الذي يتضمن عودة ديونيسوس/اللاوعي الذي حاول من خلاله المؤلف كبح جماحه أو تغليفه على الأقل ليتناسب مع تنامي الأحداث الدرامية، لكنه أيضا لاوعي جمعي لكل المغاربة، حيث الندوب لم تلتئم بعد، لاسيما بالنسبة للقراء الذين عاشوا في فترة إدريس البصري، فكانت صورة رمسيس في قالب إبداعي مسرحي مثير، استطاع من خلالها الأشعري أن يقوم بمسرحة قصة تاريخية دون مغالاة تخييلية أو مغالاة تاريخية، وهي العنصر الذي يشكل فرادة المؤلف في نسج الأحداث الدرامية.
ومهما يكن الأمر الذي كان دافعا لكتابة هذه المسرحية، إلا أنها مسرحية جريئة من رجل سلطة سابق، ومناضل يساري نذر حياته للدفاع عن مبادئ اليسار في سياق تاريخي وسياسي متوتر، والمثقف الحقيقي هو الذي يظهر الحقيقة في وجه السلطة كما يقول نعوم تشومسكي... فهل كان الأشعري موفقا في رسم معالم رمسيس/إدريس البصري كما تبدت في مرآته المسرحية؟
وإذا كانت صورة رمسيس/البصري قد ظهرت جليا في مرآة الأشعري، فإن الشخصية المحورية قد أظهرت بدورها ملامح المؤلف باعتبار انعكاس صورته في المرآة أيضا، حيث تظهر صورة ضمنية للمبدع المناضل الذي كان جزءا من سردية مرحلة عرفت بسنوات الجمر والرصاص، حيث الظلام والخوف والعنف من شبح السلطة المجسدة للشر المطلق، وإذا كان القارئ قد استطاع رسم ملامح تقريبية لشخصية رمسيس في مرآة الأشعري فإن الأشعري قد بدت بعض ملامحه في مرآة الإبداعية  المسرحية التي خلقت فرادة نص شكون أنت. 

المصادر :
 1-  محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط1، 2024، ص: 07
2- - مارتن هايدغر، أصل العمل الفني، تر أبو العيد دودو، منشورات الجمل 2023 ص 93 94
 3- محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص 11
4 - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 18
 5- نفسه، ص ص: 19 20
6- نفسه ص 20
7 - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 34
8- نفسه ص 39
9-  كحمحمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 40
10- نفسه ص 57
11- نفسه ص 86
12- نفسه ص ص 89 90
13- محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 109

     

الجمعة، 21 نوفمبر 2025

الهيئة العربية للمسرح تعلن أسماء الباحثين المتأهلين لندوة النقد في الدورة 16 من مهرجان المسرح العربي

مجلة الفنون المسرحية 

الهيئة العربية للمسرح تعلن أسماء الباحثين المتأهلين لندوة النقد في الدورة 16 من مهرجان المسرح العربي

إسماعيل عبد الله: الهيئة ومن أجل مسرح عربي جديد ومتجدد، تولي اهتماماً وأهمية للنقد كشريك أساس في صناعة المسرح وحاضره ومستقبله.

 

أعلنت الأمانة العامة للهيئة العربية للمسرح نتائج التنافس على المشاركة في المؤتمر الفكري ضمن فعاليات الدورة 16 من مهرجان المسرح العربي، التي ستنظمها بالتعاون مع وزارة الثقافة المصرية من 10 إلى 16 يناير 2026 في القاهرة.

وكانت الهيئة العربية للمسرح قد أعلنت في وقت سابق عن إطلاقها هذه التنافسية أمام الباحثين من كافة الأعمار للمشاركة في أعمال ندوة متخصصة ضمن أعمال المؤتمر، من خلال التنافس العلمي بتقديم أوراق بحثية منسجمة مع الناظم العام للندوة “نحو تأسيس علمي لمشروع النقد المسرحي العربي” أو منسجمة مع المحاور الفرعية التي حددتها الهيئة على النحو التالي:

  • الخصوصية المفتقدة في النقد المسرحي العربي، والإطار العربي لمدارس النقد العربية وعيب التنظير والتطبيق.
  • جهود تحديث النقد المسرحي العربي تحت المجهر النقدي.
  • أزمة المصطلح المسرحي والنقدي العربي التابع

أرادت الهيئة العربية للمسرح هذه الندوة ومن خلال اشتباكها مع حركية المسرح العربي بمثابة فتح الباب على مصراعيه لقراءة الواقع النقدي المسرحي والمساهمة في تطويره، وهو أمر شغل الكثيرين من المختصين بالشأن النقدي العربي، وشهد حراكاً وبروز جماعات وتنظيمات محلية وعلى مستوى الوطن العربي، تصدى أصحابها لهذه المهمة، ورغم ذلك فما زال المشهد النقدي بحاجة إلى نهوض أعلى وثورة مفاهيمية أبلغ، لربط عجلة النقد المسرحي العربي بكل قوى الجذب وأثقالها المعرفية، ليربط النقد المسرح بالرؤى الفلسفية العميقة وتحولاتها التي تساهم في المنعطفات التي تراكمها الحضارة، ولتعزيز النهوض الثقافي النقدي المجتمعي، وخلق بُنىً نقدية مشتبكة، وليلعب النقد دوره الطليعي العضوي في تنمية وتطوير المسرح بشكل خاص، ليكون للنقد العربي مكانه في المشهد النقدي في العالم أجمع.

وقد شكلت الهيئة العربية للمسرح لجنة علمية لتحكيم ما قدمه الباحثون المتنافسون والذين بلغ عددهم سبعة وخمسين، وذلك لاختيار اثني عشر باحثاً، وضمت هذه اللجنة كلاً من:

الأستاذ الدكتور أبو الحسن سلام من مصر.

الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيدان من المغرب.

الأستاذ الدكتور محمد المديوني من تونس،

وخلصت النتائج المشتركة إلى اختيار اثني عشر باحثاً، وفق متطلبات الندوة المعلنة، فكانت الاختيارات التالية:

  • د. أحمد محمد علي السيد، من مصر، عن بحثه “الخصوصية والاغتراب في قراءة المسرح العربي”
  • د. أمل بنويس، من المغرب، عن بحثها “نحو وعي مركب النقد المسرحي العربي، من التنظير إلى المرافعة”.
  • د. زهور بن السيد، من المغرب، عن بحثها “واقع النقد المسرحي العربي ورهانات تطويره وترسيخ خصوصيته”.
  • حسام الدين مسعد، من مصر، عن بحثه “إعادة تأصيل الأدوات النقدية وتجاوز إشكالية التبعية المعرفية – نظرية النظم نموذجًا نحو تأسيس علمي لنظرية نقدية عربية للمسرح المعاصر”.
  • د. عبد الرضا جاسم حمزة، من العراق، عن بحثه “تفكيك الالتباس وتوحيد الدلالة، نحو معجم نقدي عربي موحد للمصطلح المسرحي المعاصر “.
  • د. علي كريم، من الجزائر، عن بحثه “من التبعية إلى الإبداع نحو بلورة هوية نقدية مسرحية عربية”.
  • د. فاطمة أكنفر، من المغرب، عن بحثها “تفكيك المفاهيم الكولونيالية وتأسيس خطاب مسرحي عابرة للحدود، تجربة خالد أمين”.
  • د. كريمة بن سعد، من تونس، عن بحثها “التأسيس المنهجي في النقد المسرحي العربي: من التنظير إلى التطبيق.
  • د. محمد رفعت السيد يونس، من مصر، عن بحثه “جهود تحديث النقد المسرحي العربي في الألفية الثالثة.
  • د. محمد خالص إبراهيم، من العراق، عن بحثه “كتابة ما بعد الفراغ، نحو تأسيس نقد مسرحي عربي خارج العرف السائد (مسرحية كيف نسامحنا؟) أنموذجاً”.
  • معتز سعد حميد، من ليبيا، عن بحثه “النَّقدُ المَسْرَحيُّ العَربيُّ: إشْكَالِيةُ الخُصوصِيةِ وَأَزمةُ المُصطَلحِ وَرهَاناتُ التَّأسيسِ”.
  • د. محمد نوالي من المغرب، عن بحثه “النقد المسرحي العربي في مفترق طرق المناهج والتجارب”.

وقد صرح الأمين العام للهيئة العربية للمسرح بهذه المناسبة قائلاً: جاءت الأوراق المتنافسة قوية ومحترمة مما سيثري محتوى الندوة المخصصة للنقد في هذا المهرجان، هذا وسنختار الهيئة إلى جانب لجنة التحكيم ثلة من الأسماء النقدية العربية الوازنة للمشاركة في هذه الندوة.

وأكد إسماعيل عبد الله بأن الهيئة التي تعمل وفق استراتيجية التنمية والعمل من أجل مسرح عربي جديد ومتجدد، تولي اهتماماً وأهمية للنقد كشريك أساس في صناعة المسرح وحاضره ومستقبله، وفي النهاية وجه عبد الله التحية لكل الذين شاركوا في التنافس وهنأ المتأهلين منهم.        

        

الاثنين، 10 نوفمبر 2025

وكر الأفاعي - الفضاء المغلق بين الوجود والسمّ قراءة في آليات الخوف والسلطة

مجلة الفنون المسرحية 

                     الدكتورة ميسون حنا


وكر الأفاعي -  الفضاء المغلق بين الوجود والسمّ
 قراءة في آليات الخوف والسلطة لمسرحية وكر الأفاعي للدكتورة ميسون حنا

 نضال الخليل

في عمق الصحراء التي لا نهاية لها حيث يحترق ضوء الشمس ويتلاشى الأفق يقف المغامر ذلك الكائن المنهك يتلمس خطواته الثقيلة بثقل الإعياء ليرافقه الثعبان ذلك المخلوق الغامض نصفه إنسان ونصفه آخر من طينة أخرى.
 من هذه البقعة القاحلة تبدأ رحلة الارتباط والتنافر حيث تتلاقى عناصر الصراع الداخلي والخارجي في رمزيات متشابكة تحمل عبء الوجود الإنساني على خشبة المسرح
النص المسرحي الذي أمامنا لا يقدم مجرد حكاية بصرية عن صراع بين رجل وثعبان بل يفتح نافذة على حالة وجودية عميقة متشابكة بتعقيدات النفس البشرية حيث الارتباط بالرعب والرغبة في النجاة وأطماع السلطة تنسج معاً خيوط سرد لا تترك مجالاً للراحة ولا تسمح للهروب من الحقيقة التي هي أكثر من مجرد سرد تمثيلي إنها استدعاء لمسرح الحياة بمرآته المشوهة
هنا في هذا النص نجد لعبة رمزية متقنة تدور حول فكرة "الارتباط القسري" بين كائنين متنافرين ورغم ذلك مجبرين على الاندماج والتعايش. 
المغامر الذي هو الإنسان في لحظة ضعفه وإرهاقه يعكس صورة الإنسان المعاصر الممزق بين طموحه وألمه بين رغبته في تحقيق الذات وواقع الخوف الذي يلتهم قواه وبين ذلك "الثعبان" الذي يمكن أن نراه كمجاز للظلم للسلطة القمعية التي تلتصق بالإنسان وتلتهمه من الداخل لكنها في الوقت نفسه تظل ضرورية له للبقاء فالارتباط هنا ليس حرية بل قيد مرير محكوم عليه بالثبات في دائرة لا مخرج منها.
إن الثعبان في هذا المشهد ليس مجرد حيوان مفترس أو رمز عدائي  بل هو "الوجود القسري" الذي يصاحب الإنسان ذلك الجوهر المظلم الذي يجسد مفارقة القوة والضعف الهيمنة والخضوع، الحياة والموت يتصرف كمرآة تعكس صراع الذات مع ذاتها حيث يستحيل الانفصال عن "الآخر" القسري الذي يشكل جزءاً من الكيان كأننا نرى في الثعبان تجسيداً لكل ما نخافه من قهر، من ظلم، من استلاب، لكنه في الوقت ذاته لا يسمح بالموت لأنه ذاته يهدد بالموت إن انفصلنا عنه
لغة النص تستخدم الحوار بمهارة فائقة لترسم تلك العلاقة المعقدة التي لا تسقط في فخ البساطة الدرامية بل تزداد تعقيداً كلما تقدم المشهد.
 فالمغامر يتحدث عن إرهاقه وموته القريب والثعبان يقاطعه بتذكيره الحاد بأنه "ميت لا محالة" هنا التعبير عن الهاوية التي يواجهها الإنسان حينما يقف أمام حدود قدره التي لا مفر منها في هذا الحوار تنشأ لعبة توازن دقيقة بين الأمل واليأس، بين القوة والضعف لا يربح فيها أحد بل يظل الكائنان في حالة من التوتر الدائم حيث يشكل كل منهما تهديداً للأخر ورغم ذلك التهديد يتعذر انفصالهما.
النص يعكس أيضاً رؤية نقدية عميقة للسلطة كآلية تنبع من "الثعبان" وتغذيها صراعات الهيمنة بين الكائنات التي تبدو مختلفة لكنها في جوهرها متشابكة في لعبة البقاء. 
إن الزعيم والثعابين الأخرى إضافة إلى المهرج الأكبر وكبير الثعابين كلها رموز سياسية واجتماعية تتشابك في إطار سردي يعكس تناقضات السلطة والهيمنة داخل المجتمع حيث تتقاطع المصلحة الشخصية مع الجماعية والطموح الفردي مع الضرورات القسرية
الوعي النقدي في النص لا يكتفي بعرض الصراع فقط بل يكشف عن العمق الذي يجسد المأزق الإنساني في الانتماء والهويّة في مواجهة الظلم الذي يصنعه الإنسان بنفسه حين يخلع عليه ثوب "الثعبان" ويتحول إلى أداة قهر وتحكم.
 المشهد هنا يجسد التناوب بين الشعور بالعبودية للسلطة والشعور بالعجز عن التحرر منها تلك المفارقة التي تضع الإنسان في دائرة متكررة من الألم والشكوى والرهبة.
هذا التداخل بين الوجود والسمّ يظهر في الأجواء الرمزية التي تحكم المشاهد حيث الصحراء القاحلة ليست مجرد مكان بل هي فضاء استبطاني يعكس وحدة المعاناة والاغتراب حيث تتلاقى القوى المتناقضة لتشكل وحدة مضمرة تتحدث عن حقيقة الإنسان المغترب في نفسه وعن التوتر الذي يرافقه في بحثه الدائم عن مخرج، عن خلاص أو عن فرصة للنمو والتحرر.
الهيمنة في النص ليست هيمنة جسدية فقط بل هي هيمنة نفسية وروحية تلتهم الإنسان داخلياً وتمنعه من استعادة كينونته الأصيلة.
 المغامر رغم استنفاذ قواه لا يفقد رغبة الحياة لكنه مرتبط بشيء آخر أقسى منه الذي هو "الثعبان" الذي يجسّد هذا الظلم الذي لا يفر منه الإنسان.
 هنا التأمل في حالة الارتباط هذه يتجاوز مجرد النظر إلى علاقة العدو والصديق إلى استكشاف معضلة الوجود حيث الحياة والموت يتشابكان في قصة لا تنتهي.
فيما يخص البنية الدرامية فنجد أن النص يستخدم التناوب بين المشاهد والحوارات المتكررة لخلق إيقاع درامي يرتكز على التوتر الداخلي بين الشخصيات والاحتكاك بين الرغبة في التحرر والخوف من المجهول.
 تقنية الدمج بين الإنسان والثعبان في النهاية حيث يصبحان كائناً واحداً تحمل في طياتها فكرة الفناء الذاتي والتشابك الحتمي بين الخير والشر، بين الإنسان وظلاله، بين الذات وما هو الآخر. 
هذه الصورة الدرامية تكشف عن جذر الأزمة الوجودية التي تعاني منها الشخصية وتكشف عن أسلوب سردي مميز يعتمد على الرمزية والشفافية في التعبير.
تأتي رمزية المهرج الأكبر وكبير الثعابين لتؤكد فكرة اللعبة السياسية التي تدور في الخلفية حيث تتحول الصراعات إلى عروض تهريجية تتوسطها مفاهيم الشهرة والسلطة والمال كأن المسرح يحاكي الواقع السياسي والاجتماعي الذي يختلط فيه التهريج بالجد حيث تبدو النهايات مفتوحة على تداعيات معقدة ما بين الإذعان والتمرد بين الانتقال إلى سلطة جديدة أو البقاء أسير السلطة القائمة.
إن النص بهذا المعنى هو رؤية نقدية شاملة لحالة الإنسان العربي - والإنسان بوجه عام - الذي يجد نفسه أسيراً لأفاعي السلطة المتعددة ويحاول أن يستمر في معركة الحياة رغم محاولات "الثعبان" الذي يلازمه يهدده ويشكل جزءاً من كيانه لكن على الرغم من هذه الحالة من الاستلاب يبقى هناك وعي ذاتي خافت رغبة في التحرر ونبض خفي للمقاومة تتشابك فيهما الأضداد بصورة تجعله مأساة كبرى بلا بطل خارق بل إنسان عادي في مواجهة عالم قاتم .

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

من وحي البروفة الأخيرة (ولادة من الموت / تأمل في المعنى الإنساني للمسرح)

مجلة الفنون المسرحية 
من وحي البروفة الأخيرة (ولادة من الموت / تأمل في المعنى الإنساني للمسرح).

   د. علي محمد سعيد 

النص المسرحي الذي سنناقشه يقدم تجربة جمالية ووجودية تتجاوز الحدود التقليدية للبناء الدرامي فيتخلى عن الحبكة الكلاسيكية لصالح انفتاح على فضاءات الشعر والهذيان الداخلي كل ما يتحرك على الخشبة يتحول إلى كتابة داخلية الصوت الجسد الضوء والظل ليست زينة مضافة بل عناصر تؤسس خطابا موازيا وتفتح أفقا من الأسئلة حول معنى الوجود وجدلية الموت والحياة العنوان نفسه ولادة من الموت يضعنا مباشرة أمام هذه الجدلية حيث الولادة والموت ليسا ضدين منفصلين بل صورتين لحركة واحدة كما في رمز طائر الفينيق الذي ينهض من رماده أو في رؤية ابن عربي للموت باعتباره انتقالا من دار إلى دار.
النص يتأسس على حضور البطل الذي يعيش مأزق المبدع في وحدته محاصرا بأطياف نسائية متشابكة الأم بما تمثله من أصل وذاكرة الخادمة بوصفها صوت الواقع العرافة كصورة للغموض والرغبة والفتاة الزهرة باعتبارها رمز البراءة المهددة بالزوال هذا التعدد ليس مجرد توزيع للأدوار بل انعكاس لصراع داخلي يجعل النص أقرب إلى مرآة تعكس التوتر بين الرغبة واللعنة بين الكتابة والانهيار في هذا السياق يبدو الشاب أقرب إلى هاملت معاصر مأزوما أمام ذاته مدفوعا بالبحث عن خلاص مستحيل.
اللغة هنا ليست أداة سردية بل فضاء شعري كثيف مشحون بالصور والاستعارات (ينزلق النهد كأسماك نهر)،  (  الدم يتحول إلى صديد متخثر) هذه اللغة تقرّب النص من مسرح القسوة عند أرتو حيث تتحول الكلمات إلى ضربات حسية تستهدف المتلقي وتخلخل يقينه تكرار مفردات مثل (الدم ،الصديد، اللعنة، الزهرة )يكشف عن هوس متأصل بالجسد والأنوثة والموت وهو ما يجعل الحوار أقرب إلى مونولوج داخلي أو قصيدة مأزومة لا إلى تبادل واقعي للأدوار.
بنية النص تضعه في فضاء المسرح التجريبي أو العبثي حيث يغيب التسلسل السببي للأحداث ويحل محله التكرار والدائرية النهاية التي تسلم سلطة الكتابة إلى الخادمة لا تحسم الصراع بل تعيد تأسيسه في شكل جديد كأن الإبداع نفسه حركة لا تنتهي في هذا الانفتاح يلتقي النص بروح بيكيت في دائرية الزمن وانغلاق الأفق كما يلتقي بيونسكو في جعل الشخصيات أقنعة لقلق وجودي أكثر من كونها كائنات نفسية مكتملة غير أن النص يحافظ على فرادته من خلال اللغة العربية المشبعة بالشعر التي تحمل في طياتها صدى التصوف ورمزية الجسد في آن
السينوغرافيا تعمق هذا الأفق فالضوء يتأرجح بين العتمة والوهج كعلامة على القلق الداخلي والموسيقى تنبع كصوت الذاكرة بينما يتشكل الفراغ المسرحي كمساحة للانفتاح على المجهول كل عنصر بصري أو سمعي يتحول إلى أثر يتجاوز لحظته كما أشار دريدا إلى أن الأثر يبقى حاضرا حتى في غياب الأصل وهو ما يتجلى في انطفاء الضوء أو تلاشي الظل.
المدينة نفسها ( اي القاهرة ) تدخل في النسيج الدلالي للعرض فهي  بما تحمله من تراكم حضاري وزمني تمنح النص بعدا إضافيا كأنها فضاء يولد من رماده مثلما يولد البطل من موت داخلي متكرر حضور المكان هنا ليس خلفية محايدة بل جزء من المعنى الذي يعمّق فكرة الانبعاث.
وعند إدخال هذه التجربة في سياق المسرح العربي المعاصر يظهر أن النص يقف في حوار غير معلن مع محاولات مسرحيين كبار مثل سعد الله ونوس الذي جعل من المسرح فضاء لمساءلة الحاضر السياسي والوجودي في آن عبر نصوص مثل مغامرة رأس المملوك جابر أو الملك هو الملك حيث الدراما تتحول إلى أداة لكشف تناقضات الواقع والبحث عن أفق للتجدد كما يمكن مقارنته بتجربة الطيب الصديقي في المغرب الذي أعاد صياغة التراث في شكل ملحمي وشعري مما جعل النصوص تعيش في منطقة وسيطة بين الحكاية الشعبية والحداثة المسرحية ولادة من الموت ينفتح على هذه الروح ذاتها إذ يمزج البعد الشعري بالهواجس الوجودية ليعيد إنتاج اللغة العربية المسرحية في شكل متوتر حداثي ومرتبط بالذاكرة الثقافية في الوقت نفسه
ما يتبدى في النهاية أن ولادة من الموت هو  تجربة فلسفية وجمالية تستنطق أسئلة الوجود من داخل الجسد والذاكرة واللغة.  الحياة والموت يظهران كحركة واحدة والكتابة تتحول إلى فعل مفتوح يتجاوز حدود الفرد إلى الآخر إن قوة النص تكمن في لغته الشاعرة وصوره الصادمة وقدرته على ربط المسرح بفعل إنساني متجدد حيث كل نهاية تحمل في طياتها بداية أخرى وكل موت يفتح أفقا لولادة جديدة في انسجام مع أسئلة المسرح العربي الحديث وامتدادا لمحاولاته الدؤوبة في جعل الخشبة مرآة للإنسان في قلقه وأحلامه وانكساراته
واخيرا عرض ولادة من الموت هو بناء جمالي وفكري تتداخل فيه أصوات متعددة لصناعة تجربة تتجاوز المألوف يقف في صدارة الأداء كل من الفنانة القديرة أميرة إدريس والفنان الدكتور جمال سليمان والفنانة المصرية بسمة فرح عباس مع حضور ضيف الشرف النجمة انتصار محجوب برين بما يمنح العرض ثقلا تمثيليا يتكئ على خبرات متنوعة ويؤسس لتوازن بين العمق المحلي والانفتاح على الأفق العربي النص الذي خطه الفنان التشكيلي العالمي خالد مرغيني يشي منذ البداية بانحيازه إلى لغة بصرية تتغذى من الحس التشكيلي وتتقاطع مع الدراما في اشتغالها على الرمزية والتجريد هذا النص يجد امتداداته في المعمل الفكري الذي أعده الفنان الدكتور علي سعيد حيث تلتقي القراءة النظرية مع البنية الدرامية لتمنح العرض بعده التأملي على المستوى التقني تشكل إضاءة الفنان المصري العالمي أبوبكر شريف لغة موازية للنص فهي لا تكتفي بإنارة الفضاء بل تعيد صياغته عبر الظلال والانعكاسات فيما يرفد الفنانان هشام كمال وعلي الزين فضاء العرض بموسيقى وغناء يصنعان بعدا سمعيا يوازي الحضور البصري هذه العناصر تنسجم مع الجهد الجماعي لمساعدي الإخراج ناصر كيخا والطيب السر والمخرج المنفذ إيهاب بلاش ما يجعل من عملية التنفيذ جزءا من الرؤية الكلية أما التغطيات الإعلامية التي تولّاها الأستاذ ياسر عركي والأستاذة ماجدة حسن فقد منحت العرض حضوره في المجال العام وأتاحت إعادة إنتاجه في الوعي الثقافي وتتوج هذه المنظومة بالرؤية الإخراجية للمخرج زهير عبدالكريم الذي يشتغل على تحويل العنوان ولادة من الموت إلى بنية درامية تعيد مساءلة جدلية الحياة والفناء وتجعل من العرض مختبرا جماليا وفكريا .

السبت، 6 سبتمبر 2025

المدن تهاجر أيضاً قراءة في العرض المسرحي " سيرك " / عبد الحميد الصالح

مجلة الفنون المسرحية 
صورة من العرض المسرحي سيرك 

المدن تهاجر أيضاً قراءة في العرض المسرحي " سيرك " / عبد الحميد الصالح 
 
       على الرغم من قول ( لبيد )  الكاتب ل( كميله) لاعبة السيرك وزوجة صديقه التي يضمر لها حباً  : "مع كل مايحصل ياكميلة،  ستضاءُ شجرةُ الحياة في هذه المدينةِ ثانيةً " تظل خميرة الأمل  هذه غير كافية لاحتواء  القسوة  والخوف اللذين هيمنا على عالمٍ لاحرية فيه. ومع القسوة وانعدام الحرية هذين  يكون الرحيل خياراً، ومع الرحيل يشتدّ الحنين والتردد بين مواصلة الهجرة أو قبول الوطن بلاشروط ، وهما في الحالتين، البقاء والرحيل طرفا أزمة البحث عن الخلاص الفردي ،النفسي والجسدي معاً.
 
 
 سيرك بلاحدود
 
يشير  االحوار الذي جرى  بين ( كميلة ) و (لبيد) حول الزمن والحرب والهجرة والحب، الى واحدة من خلاصات عالم مسرحية ( سيرك ) للكاتب والمخرج العراقي جواد الاسدي ، السيرك الدال مباشرة على عالم الترويض وتداخل الإمتاع بالمخاطرة، في مجتمع من المهرجين، والحيوانات المدربة،وغيرهم من ذوي المهارات الأدائية.  السيرك منطقة الأخطاء القاتلة  
، (في العالمِ المملُوءِ أخطاءَ، 
مُطالَبٌ وحدَكَ ألا تُخْطِئ)، 
كما يكتب عبد المعطي حجازي في مرثيته الى لاعب سيرك ،حيث تبادل الأدوار بين الحيوان الذي يروّضه الإنسان ، والانسان الذي تروضه السلطة وتختار له التهمة المناسبة لتجعله حبيسَ طاعتها والخوف منها. منشغلا بين قسوتها المباشرة وكوابيس الحروب والكوارث التي تحيق بوطنه ومدنه، فتنشأ الحكاية ، حكاية سيرك الأسدي التي كتبها واخرجها وصمم السينوغرافيا لعرضها .  

ريمون وزوجته كميلة يعملان عارضين في سيرك ومعهما كلبٌ مدربٌ اسمه (دودن)  وهو عنصر أساسي وزميل لهما  في السيرك ، عند حضور ضابط عسكري أحد العروض  ، يدعي انه آهين من قبل الكلب فيأمر بقتله ، ويجعل ذلك ذريعة لتهديد الجميع، ريمون ( علاء قحطان ) الشخصية القلقة الخائفة أصْلا يذعن لمزاج وتفسير السلطة  لسلوك دودن خشية أنْ يؤدي ذلك لاغلاق السيرك، ويذهب بعيداً  الى تنفيذ الأمر  وقتل الكلب ، ليشعر  بالذنب وكأنه قتل نفسه، فهما بحكم العشرة والعمل  متوحدان حتى بالحركة وطريقة الأكل والتناوب على النباح، وعليه فهو في عالم السيرك كان جانياً وضحية في الآن ذاته ، إذ يقول في حواره مع صديقة الكاتب :" لا أعرف لماذا كنت اجاملهم وأبتسم لهم على مضض وهم الذين قتلوا  أخي الشاب عند باب المستشفى قبل عام .. يا الهي كم توجعت وكم نزفت . هاا نسيت أن أقول لك بأن أحد ضباطهم لا يزال يتعقب زوجتي كميلة ويطاردها بسيارته العسكرية طالباً منها الذهاب الى بيته هي تزوغ منه دائماً بصعوبة ، لبيد انا اشعر بالعار من وجودي في هذه المدينة" والى جانبه زوجته  كميلة ( شذى سالم ) التي استُدرجت لاغتصابها من قبل الضابط  وشخصية الكاتب   لبيد  ( أحمد الشرجي)  التي ابدع فيها  وانسجم اداؤه المتلون مع منعطفات الشخصية ،  فكان تلقائيا ويقظاً لمواقع النص وتحولاته ، لاسيما في أدائه وهو يختصر ازمة الانسان الكوني مع الحرب والمصائر المعدة سلفا "الناس كما تعرف أجساد وأرواح، منذ ولادتهم يكتبون كينوناتهم ,, يشيدون بيوتهم , ويؤنسنون حياتهم يشقون الأنهار ويزرعون أشجار الزيتون والنخيل هنا  وابار الماء هناك .. يهبط الأولاد من ارحام امهاتهم ثم يكبرون كموسيقيين ورسامين وفلاسفة وعلماء لكن في غفلة من نضوجهم تسطوا عليهم الجواميس المعدنية ببدلاتهم المعدنية يضرمون النار في الأهالي ويهجرونهم من بيوتهم لنزع ذاكراتهم وطردهم من جناتهم" .
 
شعرية الحكاية
 
قوة الحكاية ليست فقط في خطوطها العامة التي اراد لها الأسدي أجواء غير عربية خاصة ريمون، بل باللغة الشعرية التي قام عليها الحوار . مانحا سينوغرافيا العرض حرية مطلقة في انشاء مفردات دالة – الاشجار  والحريق ومشاهد الدم ، في مستوى عال من التورية ،فالسنوغرافيا كمفهوم حديث  هو بيئة عناصر العرض ومعماره الرؤيوي الذي يقوم على خاصية الاشارة والتلميح والمجاز ووحدة العلاقة بين مكونات العرض بتشكيل الكتلة والضوء واللون والفراغ والحركة،والموسيقى والديكور ليترجم خلاصة وحدة هذه الادوات اثرا بصريا دالا و يمنحها تاثيرا عاطفيا، بضم ساحة العرض والجمهور معا الى مناخ مشترك ،   وكما يعرف المسرحيون ان عناصر العرض المسرح جميعها لاتعمل منفردة ولايمكن تعطيل احداها بالإتكاء على أخرى تاتي ضرورة السنوغرافيا لزجها في ايقاع وانسجام  ، هذا الفن متعدد التخصصات ( السنوغرافيا)  يصلح تماما مع المسرح التجريبي ذي اللغة المتحركة الموحية كالتي عليها لغة ( سيرك) . حيث منحت شاعرية جواد الاسدي طاقة للتخيل والافتراض وتوسعة مديات المعنى المراد من الحكاية بما للشعر من طاقة باطنية على توليد المعنى او اضاءة الهوامش التي يراد تكريسها ، فاللغة هنا  ليست وسيلة  معتادة  كزورق ايصال بل هي حوت متحرك يبحر في عباب المعنى والاشارة وايضاح مالايقال، وهو ما لايجيد أداءه سوى ممثل مثقف يعي ماتنتجه كيمياء تلك  المقاصد المفترضة والاشارات التي يتجهالحوار ُ نحوها  ، فضلا عن  ذلك هي  بحد ذاتها عبء مضاعف على المخرج في تجسيد تلك المقاصد  عبر عناصر العرض الاخرى لاسيما ( السينوغرافيا) وهي تقوم على طاقتي  الفن والشعر الوسيلتين اللتين  يمكن عن طريقهما للانسان ان يصل الى حقائق الحياة الدائمة حسب ارسطو .
 
البيان الوجودي
 
  مضى الاسدي المؤلف الى مناطق قصوى من شعرية الحوار ارهقت الشخصية في بعض جوانبها ، وجعلتها  في تنافس مع تدفق المعاني وتداعي الدلالات والاشارات  والمرامي المتواصل ، وكأنّ الأسدي يريدُ قول كلّ شيء دفعة واحدة في هذا العرض، من تذمر واحتجاج وصراخ ضد الظلم والحرب ، حتى أن المشهد الاخير الذي ادّته  العملاقة  شذى سالم كان وحده  بحاجة الى طاقة فوق العادة جسديا وشعورياً وتركيزا وهو يبدو اشبه بالبيان الوجودي المنسوج   بلغة مركّبة من نمط الكتابة التي تقرأ بتأمل، لاتسمع على عجالة  لولا قدرة شذى على اداء هكذا نص وايصاله قدر الامكان متزامناً مع خروجها من يأس تام بعد ان فقدت آخر أمل بان تكون على علاقة بلبيد الكاتب الذي حلم بها لكن لقاءهما جاء في ظرف جفت فيه ذكورته وتهاوت حياته بحكم الاحداث والزمن . حيث اقتطف هنا نشيدها الاخير :
  أغسل يدي بماء الموتى , متسللة ,إلى مرآتي في جوف الحفرة ,/  أغسله واطهره من غبار الجوع العالق في حنجرته /      العربات والمصفحات تهتك أولاد الجوع والجدات حاملات الاطفال الرضع ,   /إنهم سفاحو الغزو ، غزاة الأرض الثكلى يبتلعون شجر زيتون العرس الدموي ، ينبحون على طمأنينة الأهالي ويعضون روحها وقلبها /القطارات تعوي بعد أن اعلنت إحتظارها على الحدود ،/الهة الرماد يكنسون دمى الاطفال المحزوزة/   وانا في عمق النزيف اجرب إطفاء النار في مسرح السيرك/ صرخت بأعلى صوتي يا الله  لماذا يذهب شعبي كله للذبح تحت وطأة الصمت وخيانة ذوي القربى ./  اما من أحد هل تسمعني ايها الرب ! يا الله يا الله .
 
المدن تهاجر ايضاً
 
في دائرة الشعرية ايضا  هناك مايشبه التشعبات في هذا المضمار كما يرد في مشهد الحديث عن الضابط  لدى اعتقاله كميلة ، - الكلب والضابط ، تم استعراض افعالهما ومواقفهما عبر الإخبار وليس تجسيداً كما اشرنا - ومن ذلك حديث الضابط السادي   عن الشعر والموسيقى  ،والكتب التي في مكتبه والطلب من كميلة قراءة قصيدة محمود درويش ( أبد الصبار ) ومايرد فيها  " لماذا تركت الحصان وحيدا"   وهي مفارقة فعلا  لاتبدو في محلها وتزيد مستوى الانزياح في النص وتحميله الكثير من الاعباء التأويلية ، فكيف لشخصية سلطوية سادية بهذا المستوى ان يكون على هذا النحو من المعرفة والثقافة والاحساس ، الاّ اذا اراد الاسدي  اتجاها جانبيا بالاشارة الى شرطة الثقافة المنتشرين داخل المجتمعات كوسيط خبيث بين الناس والاجهزة القمعية ، وتلك حمولة مبالغ بها في سياق هكذا نص ، رغم جمال القصيدة البارز الذي عرفناه. لكنّ ماهو في صالح هذا النص فقط حسب توصلنا هو تلك الجملة الثاقبة في القصيدة (فالبيوت تموت اذا غاب سكانها ) والبيوت ترحل ، والمدن تهاجر  أيضاً والحضارات تتداعى اذا ما انتهك الانسان وغاب ومات .
بالفعل كما قال جواد الاسدي في كلمته التعريفية بالعرض : الممثل هنا هو المخلص الحقيقي للعرض المسرحي ، امكانية عالية تجلت في  أداء علاء قحطان الذي قدم واحدا من اعقد ادواره المركبة ، وكان مبدعا محترفا مثله احمد الشرجي المبدع ، فقد كانا بحق اكاديميين وعارفين مثقفين في هذا العرض ، تتقدمهما شذى سالم التي قلت فيها هنا ما تستحق وهي على هذا المستوى الرفيع من الاحساس والقدرة على العطاء. هذه الكوكبة بالتاكيد تظافرت معها مكونات السينوغرافيا ومفرداتها بجهود مبدعة أحييهم جميعاً لأنهم معا وبقيادة الاسدي منحوا العرض كل هذا الحضور والتأثير

الجمعة، 29 أغسطس 2025

التفكيك والخاتمة في سياق ما بعد الدراما العربية:قراءة لنص (مهزلة النهاية) لـلكاتب المصري/حسام الدين مسعد

مجلة الفنون المسرحية 
حسام الدين مسعد 

التفكيك والخاتمة في سياق ما بعد الدراما العربية:قراءة لنص (مهزلة النهاية) لـلكاتب المصري/حسام الدين مسعد

السبت، 19 يوليو 2025

مسرحية "نهيل" صراع بين هوية عمان الحداثية والكلاسيكية

مجلة الفنون المسرحية 
مسرحية "نهيل" صراع بين هوية عمان الحداثية والكلاسيكية 

الأربعاء، 25 يونيو 2025

الناقد المسرحي بين الوساطة الجمالية والتحول الثقافي قراءة في وظائف النقد المسرحي المعاصر

مجلة الفنون المسرحية

      

الناقد المسرحي بين الوساطة الجمالية والتحول الثقافي

                قراءة في وظائف النقد المسرحي المعاصر

الثلاثاء، 6 مايو 2025

مسرح العُزلة وانكسار المُثُل

مجلة الفنون المسرحية



مسرح العُزلة وانكسار المُثُل 


الحسام محيي الدين  - بيروت

في مسرحية " إلى أن نلتقي " ، ثمّة ما ينهل من التحوّلات ، أمس واليوم ، نازعاً إلى الاغتراب عما كان يعده صاخباً مدويّاً ككرنفال جميل ، باتجاه التسليم لملامح الواقع البئيس من صمت وغضب وقسوة وقد رفدته يد القدر بقدسية المصير وأحدُ وجوهه التطهير الذي تكلم فيه أرسطو ، حتى انتفاء الاحساس بالزمن بقوة الاخلاص للمسرح الذي هو فن اللحظة / الآن .     

العرض من تأليف وإخراج ميرا ترّو ، أما الأداء فهو لكل من : حمزة كركي ، لين يزبك ، لين الجبة ، وهو قدّم على مسرح زقاق مؤخراً في بيروت .   

تتوضّع المسرحية على فصلَين ؛ فالأول يتكلم عن ثلاثة من رفاق أيام الطفولة في المدرسة : ليث ( حمزة كركي) وهيا ( لين يزبك ) ولارا ( لين الجبّة ) ، جعلتهم العفوية والصداقة القديمة منفتحين على أحاديث المرح والفرح  والعفوية التي غالبا ما تسقط معها حواجز الكلفة والمجاملات ، حتى أنهم يتندرون فيما بينهم وعلى بعضهم بعفوية ومرح وهم يستعيدون ذكريات الطفولة ، وما برع فيه كل منهم من مهارات في صغره . فليث ممثل ، وها هو ينهض ليؤدي مشهداً من  " ماكبث " ، وهيا برعت في الرقص وها هي ترقص بجرأة ومهارة ، أما لارا فصوتها جميل حنون فتغني " لو كنت مغمض عينيا  " ،  وهكذا في جلسات مليئة بالشغف والمحبة على تلة قريبة ، تنتهي دائما بحالة تأمل للنجوم ، التي يبدأ الثلاثة بتعدادها حتى الرقم 326 الذي  نكتشف في مشهدية الفصل الأول من العرض أنه عدد الذين رحلوا عن دنيانا ، أشخاص من أقارب وأصدقاء وأناس يحبونهم شاء القدر أن يرحلوا ، كل في مناسبة ووقت مخصوص به .  بعد هذه الجلسة في الفصل الأول يختلف الثلاثة حول العودة  كل إلى منزله ، فمن سيقود السيارة  ، حتى اتفقوا أن من يصل إلى السيارة أولاً يقودها ، وذلك قبل أن يكون القدر لهم بالمرصاد في حادث سير مؤلم لا نعلم حتى اللحظة ما تسبب به من أضرار في الأرواح . أما الفصل الثاني ، فيظهر فيه كل من " ليث "وهو يجلس بشكل جانبي غير مواجه للجمهور ، بينما " هيا " تحاوره ، أمّا " لارا " فغير موجودة ، وحيث يجري الحديث في منحًى سلبي تراجيدي وجدّي بعكس المرح الذي ملأ لحظات الفصل الأول . هنا يتناول الحوار أحوال الكون بشكل رمزي ، حيث لعب القدر لعبة الموت ، ما دفع الجمهور في الصالة إلى التساؤل عن مصير " لارا " ، إنما حتى آخر مشهد حيث يتساءل " ليث " وهو يمارس عادة تعداد النجوم التي دأب عليها مع صديقتَيه دائما : " أديش صارو ؟" وتجيبه " هيا ": 327  ، أي أنّ " لارا " هي الرقم 327 ، الرقم الزائد عما كان دائما ، والنجمة الجديدة التي هي " لارا " وقد توفيت وصعدت إلى السماء وأصبح لها قصة من قصص النجوم كغيرها ممن فقدوهم ، فيما أصبحت " هيا " على الكرسي المتحرك لانها مقعدة . نفهم هنا، وحتى آخر مشهد ، أنّ التصور الاخراجي وضع الجمهور في حيرة من أمره ، متسائلا عن مصير " لارا " في الفصل الثاني ، حتى اكتشافه من خلال الحوار أنها ماتت جراء بسبب حادثة السير ، ثم في حالة تعتيم فرجوي على ما أصاب " ليث " و "هيا " بأن جعل طريقة جلوسهما بشكل موارب غير مواجه للجمهور ،


ما جعل الأخير في غفلة عما أصابهما نتيجة الحادث ، إلى أن يأتي " ليث " بكرسي متحرك ينقل عليه " هيا " خارج المسرح ، وكانت هذه الصدمة الثانية للجمهور ، أما " ليث " فقد فقَدَ نظره أيضا بسبب الحادث ، وهذا تراكمَ كله في مفاجآت متتابعة رمزاً ودلالات  تجسد ما يقع فعلاً من أحداث مماثلة من حولنا دائماً في لبنان ، لصيقة بهم وبتفاصيل حياتهم اليومية إلى حد كبير ، ما أعطى العرض موضوعية وصدقاً وجدت لها تأثيراً عميقاً في المتفرجين .
ثمة فجوة بين الفصلين الأول والثاني كان لا بد من حفرها بحرفة ، أن يستغل العرض كل لحظات الحياة بين ملهاة  ومأساة ، وعلى قاعدة بسيطة يقبلها الجميع ووردت في الحوار : " كل واحد يعمل اللي بيعجبو " تحمل في طياتها روح الحرية التي لا تتجاوز الحدود إلى إزعاج الآخر أو إيذائه .  وعلى الرغم من تطور الأحداث فإنّ إيقاع اللغة قد خفت وانكسر ، تحت وطأة الفاجعة التي بدأت تتبدى تدريجياً خلال الفصل الثاني :  إعاقة " هيا " ثم عمى " ليث " وانتهاء بموت " لارا " ، وخلقت تشاركيةً من حزن وأسى مع النظّارة ، من ضمن السلم الحدثي الذي لخص حركة


العرض بدرامية مقنعة ؛ فصحيح أن حبكة العرض هي نسيج ما أصاب الأصدقاء بعد حادث سير ويحصل في كل مكان وزمان ، إلا أن رهافة الأداء نمذجتها الأدوار الثلاثة ، بين الفصلين . كان " ليث " مشبعا بالحزن مضغوطا بكلماته المتدافعة بغير فاصل على شفتيه ، محموما بحركاته التي قيدتها إصابته بالعمى ، غير بعيد من " هيا " التي تأرجحت بين يقين وظنون وهي تعبر عن محنة الانسان أمام الموت بتراكم الحكايات والصور . إذن ، المخرجة الشابة " ميرا ترّو " وعَتْ بعُمق عملية الانتقال بين فصل وآخر ، انتقال الأحوال والمصائر وهو يوظف تكنيك المشهدية المضيئة التي تفجر أحاسيس الشخصيات وتنقلها للنظارة ، أما التكنيك الأدائي ، وعلى الرغم من تماثل الثلاثة في الرؤى الشبابية ، إلا أن الاخراج جعل من بروفايل كل منهم تكويناً تشكيلياً خاصاً به ، لا سيما في وضعيات الجلوس المقننة في الفصل الثاني ، حيث انثنى كل من " ليث " و " هيا " بزاوية قائمة بدت مثبتة جامدة قيدت حركة الجسد بما يتماهى والنفس السجينة في كل منهما ، سجينة الفاجعة التي حلّت بهما حتى يقول " ليث " : " الى اللقاء يا أعز العابرين في عمري " . نحن نقرأ في هذا العرض رؤية " بيرانديللو " في مسرحيته الشهيرة " ستة أشخاص يحتاجون إلى مخرج " التي يطرح فيها المشكلة نفسها تقريبا ويؤكد أننا نعيش الوهم لا الواقع ، من زاوية محلية شرقية تمازجت في الرؤية مع التعبير الحركي المبرر منطقياً وهو يشتغل في آليات البحث بين الواقعي والمثالي ؛ فالممثلون شكلوا عناصر طقس أدائي ينتظم الذهن والجسد والصوت ، تنساب فيه الحركات متماوجة بلطف ، واعيةً لمفردات التواصل بالكلمة أو الجسد ، وهي حالة غوص في الذات قريباً من العزلة إذ يبدو أنها خابتْ في التفاعل مع الآخر ، لكنها وجدتْ لحظة مسرحية تلتقي بالجمهور فيستسيغها ، لحظة تواصل مزدوجة على مستويين : الأول بين الصالة والخشبة ، والثاني بين الشخصيات المتحاورة .  بنفس زاوية الرؤية ، تضع " ترّو " يدها أيضا على مجموعة لوازم البصري والسمعي ، حيث رتبت بنفسها مجمل مفردات العرض ، من السينوغرافيا إلى الأزياء وحتى الأغاني والموسيقى ، مع العلم أن العرض لم يتطلب  كبير عناء ولا كثير تجهيزات من ديكور وإضاءة وموسيقى إلى إتمامها بكليتها مشهديا . ذلك أنه لا ديكور لافتا في العرض ، وكان هذا خياراً جيداً لشدّ انتباه الجمهور إلى النص وفكرته وما يريد توصيله من رسائل ، بعيداً من فلسفة الأحداث ، وجاء الاكتفاء بالاضاءة مقنعاً إلى حدّ كبير مع جمال الزركي ، تناوبتها المشاهد في سينوغرافيا واقعية تخدم الحكاية والحبكة معا ، وتعيدنا إلى تقاليد المسرح الفقير للبولوني غروتوفسكي ، بواقع الاختصار في أغراض ووسائل غير مكلفة إلا في حدود الافادة من تقانة الإنارة التي لا غنى عنها لروحية العرض في محاكاة الواقع . 

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption