تناضل الفنانة المسرحية اليمنية نرجس عباد لتقديم مسرحيتها «قمر» للمشاركة في عدة مهرجانات عربية، منودراما عن نص للكاتب المسرحي السعودي عبدالله عقيل، كانت قد عرضتها قبل عدة شهور في مدينة عدن، وللأسف لم تستطع عباد أن تكرر عرضها في ظل قحط مسرحي يبدو أنه سيطول، والكل ينتظر مهرجان المسرح اليمني الثاني، بدعم من الهيئة العربية للمسرح، ولكن الظروف الأمنية المرتبكة أدت لتأجيله، وهكذا يعيش المشهد المسرحي اليمني شللا تاما، في انتظار أن يعود السلام والأمن وتنتهي الحروب والصراعات.
مسرح فقير
تحملت الفنانة نرجس عباد عدة مهام في هذا العرض، فهي الممثلة وهي المخرجة والمعدة للنص، نحن مع مسرح فقير ويخلو من بهرجة الديكورات والعناصر التكميلية، ربما هذا الخيار أملته الظروف الإنتاجية الصعبة، وهو أيضا لم يسبب خللا جوهريا لأبجدية العرض، وهكذا أصبح يوجد فضاء رحب للممثلة كي تتحرك، ترقص، تبكي، توجد عدة حبال متدلية، تمكنت المخرجة من توظيفها لتفجر عدة دلالات مهمة، كما أنها كانت عنصرا مهما من اللعبة المسرحية.
النص كتبه الكاتب المسرحي السعودي عبدالله عقيل، ولا أعتقد أنه فكر عند كتابته أن يعالج نصه، ليعرض يمنيا ولم يعدل في نصه ليتناسب مع الحالة اليمنية، لكنه رحب بمبادرة عباد، وساهم في دعمها وأعطى للمخرجة حرية التصرف، ولعل من مميزات النص، أنه كان مرنا ويتميز ببعده الإنساني، بذلت عباد جهدا إبداعيا متميزا لتنحت منه عرضا، يكاد يكون معبرا عن واقعها، عاكساً حلما إنسانيا لأي امرأة تبحث عن ذاتها وكينونتها، وتحاول أن تحرر نفسها من كل القيود.
بداية ديناميكية
منذ لحظة ظهور قمر، نجدها تتحرك وتركض وتبحث عن شيء ما، نسمع الشخصية تغني وتلامس الحبال الممدودة، تملأ الفضاء المسرحي، وكأنها تلك الممثلة نرجس المتشوقة لخشبة المسرح، فالحركة هنا أشبه بعناقات مشتاق يسعى لمشتاق، لم تعتمد عباد على مقدمة ذات تدرجات منطقية لخلق حالة درامية، ونسجت لوحتها الأولى بذكاء، لخلق علاقة وثيقة مع المتفرج من اللحظة الأولى، بعيدا عن أي ثرثرة مملة، نجد أنها تزج بالشخصية وبناء في دهاليز الألم، والبحث ولسنا مع وصف أولي لبناء الشخصية، الشخصية قمر مخلوقة وناضجة وجاهزة لدخول حلبة الصراع، الذي رسمها لها قدرها، لكنها منذ اللحظة الأولى تعلن (لا) الرفض، ولا الاستسلام، وتستل علامات الاستفهام لتقذفها بسرعة ككرت من حمم البركان الداخلي الثائر في دواخلها. تتكرر كلمة (أبحثي)، تلعب الألحان والدقات الموسيقية دورا مهما مساعدا لخلق كيمياء التوتر، نسمع لهاث الشخصية، وهي تنظر إلينا كأنها تريدنا شهودا، منذ اللحظة الأولى تهدم المخرجة الجدار الرابع، فهي لا تريد شخصيتها وحيدة ومنعزلة، يكفيها ما حلّ بها، وهي هنا أيضا لتطرح الأسئلة وتضعنا في مأزق أكثر صعوبة، وتستكشف جهلنا، أسئلة وشكوك في كينونتها وغياب للآخر (هو)، تسأل نفسها إن كانت وصيفة أم عشيقة؟ هنالك أيضا (هم) الذين يكتمون أنفاسها ثم يقولون لها تنفسي، ثمة قيود تقيدها وجروح ظاهرة وباطنة، وكأنها أيضا ممنوعة من التصريح العلني، وثمة خوف يجعلها تهمس تارة وتتراجع بجسدها إلى الخلف، العمق المسرحي يظل محدودا، والمساحات ضيقة وكأننا مع إضاءة ترسم لنا بقعة من الأزرق بالعمق، كأنه سراب يحسبه الظمآن لون الماء، كأن الجميع يحضها على البحث وهي لا تريد إلا أن تعثر على نفسها.
يرسم العرض صورة لواقع هذا البلد الذي تعصف به الحروب والصراعات بعد أن غربت شمس الاستقرار، لا نحتاج لوقت كبير لنستكشف كمية الحزن الذي يمزق الداخل، وكذلك يرسم تمزقات العالم الخارجي فهو أيضا في حالة ضياع.
الوجود
عن أي بحث يتحدثون عنه؟ قمر ليست وحيدة هنا وليست حكواتيا ولا بهلوانا جاء ليضحكنا في هذا العرض، تتحول الحبال لمادة تخلق منها المخرجة ذلك الديكور المفقود، بحركة خفيفة وتلقائية، تصنع قمر من الحبال قفص الاتهام، أو قضبان سجن، خلق وهدم، لعبة تصاغ بعفوية لتخلق حالة فيزيائية جسدية وحالة ميتافيزيقية، تجعلنا نغوص مع ألم الشخصية، نرجس هنا كممثلة كست جسدها بزي محتشم، ربما توليه الظروف وكذلك هو حال الشخصية، لكننا مع توظيف الوجه بأشكال جمالية مدهشة، ففي كل حالة علينا أن نتأمل وجه قمر كمرآة للروح الضائعة أو بعبارة أصح الروح التي يراد لها أن تضيع وتتحطم وتزول من هذا الوجود.
الجسد
تارة خلف الحبال المتدلية، وتارة بينها أو أمامها، تهزها، تتمسك بها، تعبث بها، تعزف عليها لحن ماسآتها، ثمة شخصيات وأشياء غير مرئية تعبث بهذا الجسد، تشده، تدفعه، تجره يمنة ويسره، نحن مع جسد لين وثمه قوة مغناطيسية، كأنها تريد أن تعيد هذه المخلوقة لغياهيب الظلمة، وتحاول منعها من الحياة والكلام والبوح، تواضع الإمكانيات لم يمنع من خلق مسرح صوري، يميل لصياغة لوحات فنية يهطل الأحمر في لحظات كدلالة على الثورة والقوة الداخلية والأنوثة.
في بلد الحروب والعنف
عدة مفردات قوية تضخم شعورنا بأننا في فضاء تصليه أجواء وطقوس العنف، يبدو أن هذا العرض يرسم صورة لواقع هذا البلد الذي تعصف به الحروب والصراعات بعد أن غربت شمس الاستقرار، لا نحتاج لوقت كبير لنستكشف كمية الحزن الذي يمزق الداخل، وكذلك يرسم تمزقات العالم الخارجي فهو أيضا في حالة ضياع. تنوع الإيقاعات منحنا نافذة لتذوق فرجة مسرحية، سعت أن تشد بعضها بعضا لبناء معماريات صورية وفراغ المكان أعطى للشخصية حرية أكبر للحركة، ورغم ذلك تتحرك الشخصية خارج الخشبة وهي تغني بتهكم عن هذا العالم، قمر المرأة والحلم الطفولي، تركض، ترقص، تلعب، تختفي، تعلن رغبتها في الهروب، في لحظة القوة ثمة من يكسرها ويحطم الرغبة، يخيم الحزن، تتبعثر قمر، تعلن أنها منهكة، ثم نجدها تنهض معترضة لما يحدث، أهي تخاطبه هو السجان، من هو؟
يعود الواقع ومواقف للحياة اليومية، حيث الانتظار والحلم بسفر إلى مكان يسوده الأمن، وثمة أحلام لبسطاء كشراء لعبة، ثم تكون أغنية «أرقصي يا قمر» وهي رقصة، ودعوة للرقص، بمعنى دعوة للحياة والحرية، بعد الرقص والفرح، نغوص في ظلمة كاملة، كأنها تقودنا لمرحلة جديدة، حيث فعلا نتعايش مع لوحة حزائنية، ويلفظ اسم الموت صريحا بل كأننا نراه حاضرا بقسوته ورعبه، تحاول الموسيقى أن ترسمه، كذلك الإضاءة التي تتلاعب بالأحمر، وهنا تخلق المخرجة عباد تشويهات متعمدة، لتعلن بصراحة «تبا للحرب» ويأتي تصريح قمر ليلعن الكون، ويبكي الأطفال، هنا تصرخ قمر «أنا ميتة حية».
في زمن قصير بحدود نصف ساعة تقول نرجس عباد، ما يجب أن ُيقال وتختتم مسرحيتها بأغنية سلام، فالسلام يظل المطلب الأول والأخير.
كانت خلف قمر، مجموعة متمــيزة من الفنانين، أشرف عليها الفنان عبدالله مسعد العمري، تصحيح لغوي عمر عبدالله صالح، ألحان أنور مصلح، أزياء ومكياج خالد مقيدح، مصمم تعبير حركي علي المحمدي، مصمم ديكور داود راجح، تمثيل وإخراج نرجس عباد ونص عبدالله عقيل. وجاء العرض بدعم كل من الهيئة العربية للمسرح والمنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح.
----------------------------------
المصدر : القدس العربي