الرجل الثاني:(يقرأ ماكتب) الثورة حلم الجائعين، وكابوس الشبعانين.
هل تظن أن أحدًا سيقرأ هذا الجدار بعدنا؟
الرجل الأول: لن يقرأه أحد. الناس لا تقرأ الجدران، بل تكتب عليها. كلهم يريدون أن يصرخوا، لا أن يسمعوا.
المرأة: (تهمس وهي تنبش الأرض) تحت هذه الأرض شيء يتحرك.. ربما جذر، أو عظم، أو حكاية لم تكتمل.
الصوت: الحكايات لا تموت، لكنها تتعب. وحين تتعب، تنام في صدور النساء.
أيتها المرأة، لا تحفري الأرض… احفري الذاكرة.
المرأة:(ترتجف) ذاكرتي ممتلئة بالموتى. كل واحد منهم ينتظر أن أذكر اسمه، وأنا نسيت حتى اسمي.
الرجل الأول: (بغضب ساخر) كفي عن هذا الهذيان.. لم يعد في الذاكرة إلا روائح الدخان والخبز المحترق.
كل ما تبقى من الثورة هو جرح يتسلى به الشعراء.
الرجل الثاني: (يتقدم منه) لا تسخر من الشعراء، يا هذا. هم آخر من يؤمن أن الكلمة قد تنقذ.
الرجل الأول: الكلمة؟ لقد صارت سلعة، تباع في المهرجانات، وتزخرف في البيانات الرسمية.
كلمة الحرية وحدها كتبت ألف مرة على أيدي السجانين.
الصوت: حين تباع الكلمة، تهاجر المعاني. وحين يهاجر المعنى، يبقى الصوت فقط.
المرأة: (ترفع رأسها نحو مصدر الصوت) هل تسمعني؟ هل عدت حقًا، أم نحن نهذي باسمك لأننا خائفون؟
الصوت: الخوف ليس عيبًا، العيب أن تتصالحوا معه. كل من يعتاد الظلم، يصبح جزءًا من الجدار.
الرجل الثاني: (يجلس على الأرض) كلنا جدران الآن، يا صوت الجبال. لم يعد فينا دم، بل إسمنت.
الرجل الأول: (بتهكم) ربما نحن الوطن إذن…وطن من إسمنت، وسكانه ينتظرون رخصة للبكاء.
المرأة: (بضحكة حزينة) حتى البكاء صار يحتاج ترخيصًا.. كم هو مضحك أن يتحول الوجع إلى جريمة.
الصوت: ضحككم بكاء مؤجل. والبكاء صرخة الثورة الأخيرة.
الرجل الثاني: (يكتب على الأرض) صرخة الثورة الأخيرة... جميلة، لكنها لن تغير شيئًا.
الرجل الأول: (ينظر إلى الظلمة) هل تعرف ما الذي تغير حقًا؟ الجلاد صار يتحدث باسم الضحية،
والمستعمر صار يوزع المساعدات الإنسانية.
الصوت: نعم، هذا زمن يغتال فيه الوعي بالرحمة، ويخدر فيه الجوع بالتصفيق.
المرأة: (تمسح التراب عن كفيها) أين أولئك الذين وعدونا بالكرامة؟ قالوا سنبني وطنًا جديدًا، لكنهم بنوا سجناً أكبر.
الرجل الثاني: (يرفع رأسه إليها) الوطن الجديد يا أختاه بلا أبواب… نعيش فيه غرباء حتى ونحن في بيوتنا.
الرجل الأول: (بصوت منخفض) لا تتحدثي عن الكرامة. الكرامة صارت شعارًا يعلق في المؤتمرات، تحت رعاية البنك الدولي.
الصوت: الكرامة لا تمنح، بل تنتزع.. لكنكم سلمتموها مقابل الكهرباء والوقود والرواتب.
المرأة: (تقترب من منتصف الغرفة) نحن لم نبعها، يا جيفارا… لقد سرقوها ونحن نيام.
الصوت: النوم اختيار أيضًا. من ينام حين يذبح الحلم، يشارك في الجريمة.
من ينام حين يذبح الحلم، يشارك في الجريمة.
(صمت..يسمع في الخلفية همهمة جماهير كأنها أصوات بعيدة من مظاهرة قديمة)
الرجل الثاني: هل تسمع؟ أصوات الناس تعود… كأن الميدان استيقظ.
الرجل الأول: (ينهض مرتبكا) مستحيل.. لقد هدم الميدان، وبني فوقه مركز تجاري.
المرأة: ربما الميدان في داخلنا… ربما الهتاف خرج من أفواه الأموات.
الصوت: الثورة لا تموت، بل تتخفى. تتسلل بين العيون، وتنتظر لحظة الغفلة لتعود.
الرجل الثاني: لكنها حين تعود، سيطلقون عليها النار من جديد.
الصوت: النار لا تقتل الفكرة، بل تنضجها.
الرجل الأول: (يصرخ) كفى.. مللنا الشعارات..
نريد أن نعيش، أن نأكل، أن ننسى.
الصوت: حين تقتل الحلم لتأكل، ستأكلك الأيام..
أنتم لستم جائعين للطعام، بل للكرامة.
المرأة: (تهتف نحو الظلام) علمنا كيف نحيا إذن.. كيف نبدأ من الرماد؟
الصوت: ابدؤوا بالصدق.. احملوا المرايا بدل البنادق.
واجعلوا الحقيقة محركا لا شعارًا.
فالثائر الذي يكذب، يزرع طاغية جديدًا دون أن يدري.
الرجل الثاني: (ينظر حوله) كأن الجدران تتنفس… هل تسمع أنينها؟
الرجل الأول: إنها تشهد علينا.. كل جدار هنا سمع اعترافًا أو صرخة أو خيانة.
الصوت:كل خيانة تكتب على الحائط، حتى لو محاها الطلاء.
والخونة يظنون أن الذاكرة صدئت…لكنها تصحو في الليل، مثل كلب لا ينسى.
المرأة: (تتجه نحو الصورة الممزقة) لقد مزقوا وجهك، يا جيفارا،
لكن عينيك ما زالتا تنظران إلينا.
هل ترى؟ نحن ما زلنا هنا… بلا ثورة، بلا حلم، بلا وطن.
الصوت:ما زلتم هنا، وهذا يكفي.
أن تبقوا واقفين أمام العدم، هو الثورة الأخيرة.
الرجل الأول: (يتنهد) إذن نحن ثوار بالصدفة؟
الصوت: أن تكون صادقًا في زمن الكذب، هو أن تثور دون سلاح.
الرجل الثاني: (يبتسم بمرارة) جميل..سنثور بالكلمات إذن، لكن من سيقرأنا؟
الصوت: لا تهم القراء، بل الصدى.
فالصدى لا يموت، حتى حين تكسر الأصوات.
المرأة: (تقترب من منتصف الغرفة، ترفع يديها)
يا صوت الأرض، هل ستغفر لنا؟
الصوت: لا أملك الغفران،
لكن الأرض تغفر دائما لمن يزرع فيها صدقًا.
(صمت..ثم تفتح فجأة فتحة صغيرة في الجدار، يتسلل منها ضوء أبيض خافت)