أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

كتاب المخرج المسرحي و القراءة المتعددة للنص تأليف : أ .د . أبو الحسن سلام

مجلة الفنون المسرحية



الأستاذ بقسم المسرح بجامعة الإسكندرية

أستاذ مناهج التمثيل والإخراج

قسم المسرح بكلية الآداب جامعة الإسكندرية

دنيا الوفاء للطباعة والنشر

الإسكندرية 2003

الجزء الأول

الإهداء

إلي روح الفنان الرائد و المعلم : نبيل الألفي

إلي المخرج الفنان : حسن عبد السلام

مقدمة الكتاب
تأسست هذه الدراسة علي عدد من التساؤلات و هي كالآتي :
- إلي أي مدي يمكن القول إن في عالمنا العربي خطاباً للمخرج المسرحي؟
- هل هناك فلسفة تحكم اتجاهات التصوير أو التعبير في العرض المسرحي العربي ؟
- إذا كان لمخرج مسرحي عربي خطاب ما ؛ فما هي ماهيته ؟
- هل هو مجرد ترديد لخطاب النص المسرحي أم أنه خطاب مواز له أو هو خطاب متجاوز للنص أو هو نقيض له ؟
- هل النص هو الذي يستدعي المخرج أم أن المخرج هو الذي يستدعي النص ؟
- ما مدي تعادل الإخراج تشكيلياً و تجسيدياً مع النص ؟
وتكمن أهمية هذه الدراسة في محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات بهدف الكشف عن دور المخرج المسرحي العربي في إنتاج المعرفة عن طريق الفكر الخلاق و الخيال المبدع بما يسهم أو يؤثر في حركة الوجدان و الفكر الاجتماعي المصري بوجه خاص و العربي بوجه عام وذلك بالنظر التحليلي والنقدي لتجارب نبيل الألفي – حسن عبد السلام – سمير العصفوري من الرواد و تجارب شبابية و تجارب ذاتية .

منهجية دراسة الإخراج المسرحي

المرحلة الأولي ( التصور )
أولاً : فكرة الإخراج المسرحي : ( ماهية المخرج – نبذة عن تاريخ الإخراج – نبذة عن
اتجاهات الإخراج و مدارسه )
ثانياً : حرفية الإخراج : ( اختيار النص و الإعداد للبدء في التدريبات - اختيار طاقم
المساعدين والمصممين )
ثالثاً : التصور و الإخراج : ( الأسس النظرية لرؤية المخرج للنص موضع الإنتاج )
رابعاً :وضع مقايسة أو مشروع إنتاج للنص بالميزانية التقديرية و الاقتصادية .
خامساً : اختيار الممثلين و الفنيين .

المرحلة الثانية ( بدء التنفيذ )
وضع جدول زمني للتدريبات .
- بدء تدريبات القراءة ( المنضدة ) .
- تنظيم تقارير سير العمل في : التمثيل .
- الدعاية .
- المناظر و الديكورات و الإكسسوارات و الحيل – إن – وجدت
- الملابس
- الألحان و الغناء – إن وجدت – و التدريبات عليها .
- الرقصات – إن وجدت – و التدريبات عليها .
- تجهيز الأجهزة الصوتية .
- تجهيز الأجهزة الضوئية .

المرحلة الثالثة ( تجسيد حركة الممثلين )
1- الميزانسين ( الحركة علي خشبة المسرح ) وتتم وفق أسلوب مما يأتي :-
أ ) وفق نص الحركة سابق الكتابة بقلم المخرج والتطبيق المكتوب مع قدرات الممثلين
الحركية الجسدية و مواهبهم .
ب) وفق حركة مرتجلة يوجه إليها المخرج في أثناء كل تدريب علي المشاهد و المناظر
حسب جدول ينظم تدريبات الطاقم الفني المعاون و الممثلين في هذا المشهد أو ذاك .
حـ) كتابة الحركة المسرحية و الإرشادات علي النص بمعرفة مساع المخرج
د) تدريبات إعادة الحركة التي تم إجراؤها استناداً إلي نص الميزانسين وفق جدول لا
يتعارض مع جدول التدريبات علي تحسين حركة مشاهد تم تجسيدها
هـ) كتابة حركة الإضاءة الدرامية وفق خطة .
و) كتابة حركات المؤثرات الصوتية وفق خطة .
م) ضبط إيقاع العرض من خلال التدريب الأخير ( بروفة جنرال ) .
ي ) تعديلات ما بعد عرض الافتتاح .

الباب الأول

اتجاهات التعبير المسرحي بين النص و العرض

مدخل حول منهجية الإخراج المسرحي

مقدمة
أولا : تعريف المخرج

هو باعث الحياة في النص المسرحي :
- بما يوافق رؤية المؤلف في حالة ترجمة النص إلى حياة . ( عرض استيعادي لخطاب النص ةلسياقه)
- بما يوافق رؤية المؤلف مع رؤيته في تفسير النص . (عرض مفسر)
- بإعادة صياغة مفردات النص ومعادلتها بمفردات لغة العرض ( عرض خالق ) .

ثانيا : حرفيات الإخراج
تتأسس ماهية المخرج على ( اختيار النص و الإعداد للبدء في التدربيات , اختيار طاقم المساعدين والمصممين , التصور الإخراج : ( الأسس النظرية لرؤية المخرج للنص موضع الإنتاج)
وضع مقاييس أو مشروع إنتاج للنص بالميزانية التقديرية واقتصادياته .
اختيار الممثلين والفنيين .
وضع جدول زمني للتدريبات .
بدء تدريبات القراءة ( المنضدة) : تحليل الأدوار المسرحية .
تنظيم تقارير سير العملية الإنتاجية :
- تدريبات التمثيل ( تدريبات التعبير الصوتي و تدريبات التعبير الحركي )
- خطة الدعاية ( أساليبها ووسائلها و أماكنها و توقيتاتها )
- برامج تنفيذ المناظر والديكورات والإكسسوارات .
- الحيل إن وجدت
- تصميمات الأزياء ( مقاسات الممثلين و الممثلات – ألوان الأقمشة و أنواعها وبرامج تنفيذها )
- الألحان والغناء – إن وجدت – والتدريبات عليها بشكل كاف قبل الجمع بينها وبين الرقصات .
- الرقصات – إن وجدت – والتدريبات عليها على ضوء الموسيقى المطلوبة للعرض .
- تجهيز الأجهزة الصوتية وكتابة نص المؤثرات الصوتية
- تجهيز الأجهزة الضوئية وخطة الإضاءة ( مصادرها و أغراضها و ألوانها و كمياتها وأعدادها )
- الميز انسين ( الحركة على خشبة المسرح ) وتتم وفق أسلوب مما يأتي :
أ- وفق نص الحركة سابق الكتابة بقلم المخرج وتطبيع المكتوب مع قدرات الممثلين الحركية الجسدية ومواهبهم .
ب- وفق حركة مرتجلة يوجه إليها المخرج في أثناء كل تدريب على المشاهد والمناظر
حسب جدول ينظم حضور الطاقم الفني المعاون والممثلين في هذا المشهد أو ذاك.
- كتابة الحركة المسرحية والإرشادات على النص بمعرفة مساعد المخرج .
- تدريبات إعادة الحركة التي تم إجراؤها استنادا إلى نص الميزانسين وفق جدول لا
يتعارض مع تحسين حركة مشاهد تجسد للمرة الأولى- للمرة الأولي -
- كتابة حركات الإضاءة الدرامية ( نسخة خاصة ) .
- كتابة حركات المؤثرات الصوتية و الموسيقي ( نسخة خاصة ) .
- كتابة نسخة دخول الممثلين .

ثالثاً : مهام المخرج :
- استخلاص الفكرة من وراء كل عبارة بالتحليل .
- توجيه صوت الممثل ومشاعره لخدمة الفكرة التي استخلصها خلال رؤيته في إخراج النص المسرحي المعين .
- توجيه حركة الممثل في اتجاه الفكرة المستخلصة من الحوار والعلاقات والدوافع مع مراعاة تناغم الحركة شكلا .
- إيجاد حلول لكل مشكلة من مشاكل التجسيد عن طريق التصوير والتخيل واستشارة
المصممين والمساعدين . والاستعانة بخبراته .

دور التحليل في عمل المخرج
يكشف التحليل عن ما وراء الكلام والأحداث والشخوص ويمكن المخرج من فهم أبعاد الحدث وأغوار الشخصية ويساعد على تقيم مواقف كل شخصية ومستويات كل حدث وكل موقف درامي حتى يسهل عليه بعد ذلك إيجاد معامل تجسيدي لكل حدث و صورة حية لكل شخصية في الحدث ، مع توظيف درامي لكل عنصر .
* خطوات العمل مع الممثلين في رسم الخطوط العامة للتغير الصوتي والحركي :
- قراءة تعرف على طبيعة الفقرة الحوارية ومستوياتها .
- قراءة تجريبية على الفقرة الحوارية حيث يتحسس الممثل مناطق الوقف وأنواعه والنقلات الشعورية . وهنا يتم في أثناء تدريبات المنضدة .
- قراءة تعبيرية جمالية يبرز فيها الممثل مناط التعبير في كل نقلة شعورية يؤديها في دوره عن طريق الحركة والتحريك .
* التعبير الحركي: هي حركة الجسم وسكونه لإعطاء معني أعمق عن المدى الظاهر أو للدلالة على معني غير ظاهر أو للتعبير عن فكرة من ورائها .
* التحريك : هو حركة الجسم في المكان والزمان لتحقيق غرض ظاهر المعني لا باطنها ومنها : ( الشغل المسرحي ) .

تقسيم خشبة المسرح
وتسهيلا لرسم حركة الممثلين لجأ المخرجون القدامى إلى تقسيم خشبة المسرح إلى عدد من الأقسام إذ قسمت عند غالبيتهم إلى تسعة أقسام على شكل خطوط رأسية وخطوط أفقية ( طولية وعرضية ) على النحو المبين في الشكل الآتي :

ولكن الإخراج الحديث لا يعتد بهذه التقسيمات لأنه يستطيع أن يحدد المناطق و تأثيراتها النفسية ببؤر الإضاءة المسرحية , هذا ويري د . كمال الدين عيد أن هذه التقسيمات التي اعتمدها المخرج الكسندر دين في كتابه أسس الإخراج المسرحي إنما هي عمل مدرسي ووصف ذلك الكتاب بالتخلف في الكثير من جوانبه ( 1 ) .

دور المخرج في تحليل الحدث
يعد التحليل العمود الفقري في عمل المخرج المسرحي شأنه في ذلك شأن الناقد المسرحي. ونمثل بمشهد من مسرحية الوزير العاشق وهو يجسد الصراع النفسي الذي يعيشه الوزير ابن زيدون في سجنه. فهو مسجون سجنا ماديا بين جدران الزنزانة وسجنا نفسيا ناتجا عن تحوله من حالة الحرية والثراء والسلطة إلى حالة الذل في السجن وعن سماعه أنباء خيانة محبوبته الأميرة الأندلسية ( ولادة بنت المستكفي بالله ) له .


نماذج تطبيقية من مسرحية ( الوزير العاشق)*

ابن زيدون إذا خانت // 1
تري نسيت // 2
وإن كانت بحق الله قد نسيت
كيف القلب طاوعها
وأعطت كأسها شهدا 3
لمن بالسم جرعني
إذا كانت تريد العشق بعدي ..
فهل تختار زنديقا ..
يصب النار في قلبي
فهذا الفاسق الملعون يجمع في حقيبته ديانات 4
مع التوراة تلقاه ..
وفي الإنجيل نسمعه
وفي القرآن دعواه
وخانت .. آه يا قلبي .. 5
وكيف القلب طاوعها ..
شيئان ضاعا زماني ضاع في حلمي
أبكي على العمر أم أبكي على الحلم 6
يا من أضعت حياتي عنده يوما
أسكنته مهجتي .. ووهبته قلبي
لا خير فيك إذا هانت مودتنا
فالعين للعين تشكو قسوة الألم 7 , 8
أشكو لغيرك لا والله لن أشكو
وإن شربت بنفسي سكرة العدم
يا صاحب السجن لا تعتب إذا انفجرت
هذى السجون / وصار السجن نيرانا //
قيدت بالخوف أحلامي فما سكنت // 9
النهر بالقيد أضحي الآن طوفانا //
غدا يكون حسابي بيننا زمن //
لا تحسب العمر ظلما /
بالذي كانا //
* حفظت العرش والأيام والعشرة /
ولم تبخل بأيامك β
فرغم السجن والأحزان .. والدنيا 10
وسوء الحظ /
حفظ العهد //
قليل من يصون العهد // ( 2 )
ولإرشاد أداء الممثل يعني بتحليل دوره المسرحي في المشهد واستخراج الحالات أو النقلات الشعورية التي ينبغي عليه أداؤها بإتقان ويتم إرشاده لها وقيامه بالتدريب على أدائها في تدريبات المنضدة .
* أنواع الوقف المستخدم :
- وقف تنفس وهدفه إعادة ملء القفص الصدري بالهواء و يرمز له بالعلامة ( β )
- وقف معلق: هدفه زخرفي جمالي و يرمز له بالعلامة ( ! )
- وقف موصول : هدفه الدلالة على عدم اكتمال المعني في الجملة قبل الوقف إلا بوصلها بالجملة أو الجمل التالية لها و يرمز له بالعلامة ( / ) .
- الوقف التام : يوضح اكتمال المعني في الجملة ويرمز له بالعلامة ( // ) .

* تحليل الحدث
ويهدف إلى استخراج الحالات الشعورية للشخصية من سجنها المادي والنفسي حيث تتأرجح مشاعر الشخصية و تتنقل ما بين المشاعر الآتية :
- حالة تأكد ويقين
- حالة تساؤل استنكاري
- حالة افتراض
- حالة اتهام
- حالة عتاب وحسرة وعدم توقع
- حالة يأس وتقويم لما سبق
- حالة إدانة و اتخاذ موقف
- حالة أسى
- حالة هياج – رد فعل ظاهر –
- حالة تذكر و استرجاع و حالة امتنان لوفاء تلميذه زياد الذي أبلغه في رسالة بأمر خيانة ولادة له .
* هدف التقطيع المعنوي : هو تقسيم الجمل وفصلها حتى لا تختلط المعاني وتيسيرا للفهم
* هدف التقطيع الشعوري : هو الهرب من " الإرنان " وهو سيطرة موسيقي الشعر وإيقاعه على أداء الممثل والتعبير الصادق عن الحالات الشعورية المتباينة والمتناقضة في الموقف الدرامي .

في تحليل المشهد السابق :
إن طبيعة الصراع في المشهد نفسية لذلك فهو صراع واثب وتتمثل مستويات الصراع في تنقل شخصية ( ابن زيدون) في حيز مكاني واحد عبر عشر حالات شعورية مختلفة , وربما تكون متناقضة , لذلك فإن الأداء التمثيلي المناسب للتعبير عن هذه الحالات الشعورية المتغيرة في حيز زماني قصير ( زمن المشهد بعد معرفته بأمر خيانة "ولادة" له ) وفي إطار حيز مكاني شديد الضيق ( زنزانته في السجن ) هو الأداء النفسي , ذلك الذي عرفته المدرسة الروسية ونظر له رائدها المخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي, وهي تعني بالتوكيد على إبراز الصفات الداخلية ( الدوافع ) للشخصية المؤداة إلى جانب الصفات الخارجية التي هي مظاهر هذه الدوافع وصورتها الظاهرة للعيان والمجسدة للدوافع والحالات الشعورية في هذا الموقف الدرامي النفسي الواثب الصراع ودوافع متعددة :
1- اليقين 2- الافتراض 3- العقاب 4- الاتهام 5- التهديد والادانه 6- التقويم 7- التساؤل الاستنكاري 8- الحزن 9- التهييج
10- التذكر أو الاسترجاع والشعور بالامتنان( حالة شعورية مركبة )
لذلك يراعي المخرج توجيه الممثل للتنقل عبر الصوت المعبر والحركة المعبرة المكبوتة البطيئة نظرا لطبيعة الدور وعاطفته المختزنة الفاقدة وشعوره بالظلم ونظرا لطبيعة الحيز المكاني والحيز الزماني ( وجوده في زنزانة ) .
- ويوجه المخرج مصمم المناظر والإضاءة والمؤثرات و الموسيقي إلى ضرورة خلق تأثير إيحائي مناسب لكل تلك الحالات بما يناسب النقلات الشعورية غير الطبيعية التي تمر بها الشخصية في حيز زماني قصير لا يتعدى الدقائق .
- ويوجه الأداء إلى الإرنان الموسيقي بحيث تقود موسيقي الشعر أداء الممثل في جمل (العتاب ) فقط حيث عاطفته وليس عقله وحياده الذي يقرر موقفه من الصدمة التي تلقاها وهو في سجنه.
- وكذلك يوجه إلى حركة بطيئة تناسب حالة الحزن التي تمر بها الشخصية ويوجه لحركة دائرية ومنحنية الخطوط توحي بحركته النفسية .
أسئلة يجب على المخرج طرحها على نفسه ثم الإجابة عنها
- هل الحركة مطلوبة في ذلك المشهد الحزين ؟
- هل تحتاج كل نقلة شعورية إلى حركة مصاحبة , تتطابق مع الأداء التعبيري الصوتي لكل نقلة من تلك النقلات السريعة , خاصة والمكان ضيق ( زنزانة ) ؟
- ما هي المشكلات أمام الأداء التعبيري الصوتي ؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة وجب على المخرج أن يبحث عن فلسفة الحركة في حوار النص المسرحي نفسه ( في المشهد نفسه ) أولا .
- ولا شك أن الحركة مطلوبة لأنها تعكس الحالة النفسية للشخصية ( القلق – التوتر – الغليان ) .
كما أنها تشكل مظهرا تعويضيا عن حالة الشخصية وكبتها النفسي وقيدها المكاني (السجن)
والحركة مطلوبة في العرض المسرحي لان كل ما هو متحرك فهو يجذب الأنظار . أما الحركة في هذا المشهد فتتمثل في ضرورة شغل الفاصل الحتمي بين فترات الأداء التعبيري الصوتي والصمت أو السكون الذي يلزم للفصل بين النقلات الشعورية الواثبة في هذا المشهد وربما كان الحل في وضع فن الإشارة وفن الإيماءة بديلا عن الحركة في أماكن الصمت لما تتميز به من قدرة كبيرة على التكثيف والإيحاء .
أما فلسفة الحركة فهي مبنية على التحليل والتخيل المترجم لمظاهر الحركة والأداء والمؤثرات والتنظيم : (تنظيم عمل المخرج وتنظيم خيالاته وصوره وفكره وتنظيم خطوات التنفيذ )
والتنفيذ : هو التجسيد الحي لخيالات النص والإخراج . وصولا إلي العرض الذي هو النتيجة التي لا تكتسب قيمتها بدون الجمهور وبدون الحركة النقدية .

رموز كتابة نص المخرج
يستخدم المخرج المسرحي – على وجه الخصوص – عددا من الرموز التي تيسر عملية تسجيل إرشاداته عند تشكيل صوت الدور المسرحي , ومشاعره وحركته , وتيسر عمليات تنفيذ العرض في عناصره المختلفة مثل الإضاءة والمؤثرات وتغيير المناظر والموسيقي والحيل ودخول الممثلين وخروجهم .. إلي آخره .
وهي رموز متفق عليها – غالبا – غير أنه يجوز لكل مخرج أن يضع رموزه شريطة أن يوضح دلالتها في بداية نسخة المخرج . وتدخل هذه العملية الفنية ضمن مرحلة التنفيذ. ومن المتعارف عليه في عملية إخراج نص مسرحي أن تخصص إدارة الإنتاج أو الجهة المنتجة نصاً خاصا لكل عملية من تلك العمليات تكون في حوزة كل مساعد في عملية الإخراج ومديري خشبة المسرح بدءاً من : ( تدريبات المنضدة حيث يتم تشريح أبعاد كل شخصية تمهيدا لتملك ممثل كل دور لصوت الشخصية المعبر عن مشاعرها وإرادتها وأفكارها وقيمها من خلال تفاعل كل ممثلة وكل ممثل مع الآخرين في المشهد المسرحي بعد استقرار كل ممثل في الدور الذي يتناسب معه جسما – أولا – ثم أداء بعد ذلك )
وكذلك تكون للإضاءة المسرحية في النص موضع الإخراج نسخة خاصة تتضمن خطة الإضاءة التي ينفرد بوضعها مصمم – باستثناء عالمنا العربي , حيث يقوم المخرج بتصميم خطة الإضاءة في العرض المسرحي – وتحدد مواضع حركات الإضاءة الدرامية بتوجيه المخرج الذي يكتبها في نص الإضاءة أو يمليها وفق طبيعة الصراع ومستوياته والرؤية التي وضع أساسها النظري وحدد ألوان الإضاءة وحركة الضوء والإظلام , الخفوت والسطوع والتسلل في السطوع وفي الإظلام تبعاًَ لذلك وتكون للحركة نسخة بيد المخرج المنفذ أو مساعد المخرج في أثناء تدريبات المنضدة حيث يسجل توجيهات المخرج للممثلين كل أمام الفقرات التي تخصه حتى يمكن الرجوع إليها عند النسيان أو الاختلاف أو خروج ممثل على نصه المرسوم له – وغالباً ما تكتب إشارات المخرج بقلم رصاص حتى يسهل محو الكتابة , حيث يتغير التوجيه وفق تدرج الحالة الانفعالية والتخيلية للمخرج من تدريب إلى آخر وحيث يتطور فهمه يوما بعد يوم طول فترة التدريبات لأبعاد الشخصية وعلاقاتها ومن ثم طرق تعبير الممثل عنها , كما أن إضافات الممثلين المبدعين التي يري المخرج فيها مطابقة وتجسيدا أو إضافة لتصوره عن الشخصية , يمكن أن تسجل حين يطلب المخرج ذلك أو يقره أو يطوره ويستنبط منه إبداعا أكثر جدة. وقد تعاد كتابة نص المخرج بالمداد بعد أن تستقر التوجهات وتتأكد الحركة وطرق التعبير في الأداء الصوتي والحركي والمؤثرات والمناظر والإضاءة والصوت .. ( الخ )
وتكون لمدير خشبة المسرح ومساعديه نسخ منها ما يسجل فيها حركة دخول الممثلين وحركة خروجهم وأماكن الدخول وأماكن الخروج ورفع الستار . وكذلك لتغيير المناظر والملحقات الشخصية – خاصة كل ممثل - مثل : ( السيف – البندقية – الزمزمية – المظلة - السكين – الراديو .. الخ ).
وأخري للمؤثرات الصوتية وغيرها للحيل وغيرها للموسيقي بالإضافة إلى وجود نسخة لكل ممثل . حتى يسهل عليه كتابة توجيهات المخرج في الأداء الصوتي والحركي والتعبيري وضبط اللغة والتقطيع .. و ما يتصل بعمله .
من رموز نص الإخراج المتعارف عليها:
أ) في الأداء الصوتي : رموز الوقف والتقطيع التي تستخدم في تدريبات الأداء الصوتي للأدوار
1- ( / ) وقف موصول : وهو وقف حتمي واجب مراعاته في الأداء التعبيري الصوتي لعدم اكتمال المعني .
2- ( ! ) وقف تعليق : وهو وقف جمالي يمكن الأخذ به وذلك يتوقف على حِْسِ الممثل حيث لا يتأثر به المعني .
3- ( // ) وقف تام : وهو حتمي لانتهاء الوصول إلى معني ( اكتمال المعني في الجملة )
4- ( β ) وقف تنفس عندما يتحتم علي الممثل شحن قفصه الصدري بالهواء (الشهيق) ويجب أن يكون غير ملحوظ عند الأداء وهذا يتحقق بالخبرة .
5- ( ) نبر منخفض .
6- ( ) نبر عال .
ب) في الأداء الحركي :- ( رموز السير و العبور و التوقف و الاستدارة و المواجهة والاتجاه )
1- √ / × يعبر أو يسير .
2- 0 يتوقف عن السير .
3- وجها لوجه .
4- يتجه يسارا . و عكسها
5- يتجه يميناً .
6- يتجه لأعلي خشبة المسرح . و عكسها
7- يتجه إلي أسفل خشبة المسرح .
8- يدور يساراً .
9- يدور يميناً .

جـ- التحريك : وهو الحركة غير النابعة من دافع ذاتي للشخصية .

ركائز العرض المسرحي
يرتكز المخرج علي ثمانية ركائز في إنتاج عرضه المسرحي :-
1. القراءة و الفهم العميق للنص ليتمكن من تقييم أحداثه و شخصياته و موقع كل منها عند الآخر .
2. تحليل الحدث و تحديد مستوياته مع تحليل الحالات الشعورية و الدوافع عند الشخصيات .
3. التصور أو رؤية المخرج .
4. تخيل المعادل التعبيري الصوتي و الحركي و السينوغرافي للمشاهد والشخصيات وأدوات تجسيدها ترجمة أو تفسير .
5. التجسيد ( التنفيذ العملي لعملية إخراج العرض ) : التدريبات والتصميمات وبرامج التنفيذ .
6. الأداء التمثيلي وما يصاحبه من أداء راقص أو غنائي أو عرائسي أو سينمائي .. إلى آخره .
7. الدعاية المكثفة و المنظمة ودورها في الحشد الجماهيري و تهيئة الجمهور .
8. طبيعة الجمهور و مدي تفاعله الذي يتوقف عليه نجاح العرض أو فشله فلكل عرض جمهوره المناسب .
9. الحركة النقدية ودورها في تقويم العرض تقويما فنيا مشتملاً علي فنون العرض دون التوقف عند نقد النص المسرحي نقدا أدبيا بعيداً عن ارتباطه بالعرض نفسه حيث يشير لأسلوب نقده .
نماذج تطبيقية في عمل المخرج المسرحي
و نجري تطبيقاً علي عدد من مشاهد مسرحية ( مأساة الحلاج ) للشاعر صلاح عبد الصبور (3)
التطبيق الأول :-
النص : من مسرحية ( مأساة الحلاج ) للشاعر المصري ( صلاح عبد الصبور )
المنظر : مجلس يضم ثلاثة قضاة يمثلون المذاهب الشرعية . و الحلاج بين يدي المحكمة .
المطلوب : تجسيد مشهد المحاكمة بالتعبير المسرحي بالصوت – الحركة – المشاعر .
عناصر التجسيد :
أ- رؤية الإخراج تمثل الأساس النظري لتجسيد المشهد من خلال وجهة نظر المخرج التي قد تترجم المشهد فكراً وقيماً وقد تفسره و قد تضع رأياً آخر مخالفا لرأي المؤلف دون أن تغير شيئا من لغة النص نفسه مستعينة بلغة العرض المسرحي .
ب- تدريبات الممثلين للتركيز على دور اللغة و نطقها و تعبيرها . عن طريق تحليل المخرج لكل دور (علاقاته – دوافعه – أبعاد الدور [ جسميه – نفسية – اجتماعية ] ) والتركيز علي إبراز النقلات الشعورية و المعنوية لكل شخصية .
جـ- التدريبات الحركية :
تتم بعد حفظ الممثل لدوره حتى يتملك كل ممثل خصائص الحركة التعبيرية التي ينهض بتمثيلها ومعايشته لها .
عناصر مساعدة للتجسيد :
المنظر – الملابس – الإضاءة – الموسيقي – المؤثر الصوتي – الحيل – الرقص الغناء (ويعني المخرج بمطابقة هذه العناصر لرؤيته في إنتاج العرض و يراعي ضرورتها الدرامية).
خطوات التنفيذ :
1- في تحليل الأداء التمثيلي ( تطبيقاً على مشهد محاكمة الحلاج في مسرحية صلاح عبد الصبور):
يتم ضبطه لغويا و تقطيعه صوتيا و تشريحه تعبيريا وفق الحالات الشعورية في تدريبات المنضدة , حيث ينصرف اهتمام المخرج بتحليل الأداء التمثيلي و التوجيه نحو مناط القول في كل نقلة شعورية أو معنوية. وتحديد طبيعة حركة الممثل وفق الشرط الموضوعي والشرط الذاتي فهو منهم أمام القضاة ووقوفه حتمي وحركته مقيدة وحواره مونولوج.


الحلاج أنا رجلُ من غمارِ الموالي //
فقيرُُُُ الأرومة و المنبت //
فلا حسبي ينتمي للسماء ولا رفعتني
لها هامتي //
ولدت كآلاف من يولدون /
بآلاف أيام هذا الوجود /
لأن فقيراً بذات مساء /
سعى نحو حضن فقيرة /
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية //
نموت كآلاف من يكبرون /
حين يقاتون خبز الشموس /
ويسقون ماء المطر /
وتلقاهم صبية يافعين
حزانى على الطرقات الحزينة /
فتعجب كيف . نموا واستطالوا وشبت
خطاهم /
وهذى الحياة ضنينة //
تسكعت في طرقات الحياة . دخلت
سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات .(4)




الفصل الأول
القراءات المتعددة للنص
تمهيد :
تمر التجربة المسرحية بعدد من القراءات المتدرجة عبر عدد من المستويات : القراءات السبع للمسرحية قراءة المؤلف للشخصيات الدرامية والأحداث التي تبرز خبراته المعرفية و التقنية علي مسرح ذهنه , فقراءة المخرج المسرحي و قراءة الممثل للشخصية في إطار علاقاتها ودوافعها و محيطها الدرامي , وبعدها قراءة الناقد المسرحي للعرض ثم القراءة المتجددة والمتعددة للجمهور في كل ليلة عرض , بل في كل بلدة يعرض فيها .
و هذه القراءات تبعد الشخصية الدرامية عن تصور الكاتب و هو مبدعها الأول , فهي في كل مرة تقرأ فيها أو تعاد قراءاتها تبتعد عن مبدعها الأول فتصبح في كل مرة شخصية جديدة غريبة عليه غريبة عنه و بذلك تكتسب الخلود , لأنها لم تعد ملكا لمن خلقها من العدم و لا هي ملك لمن جسدها فكرا عبر أساس نظري عند الإخراج و لا تصبح ملكا لواحد ممن جسدوها بالتمثيل علي خشبة المسرح , بل هي ملكية عامة . هي مشاع بين الجميع لأنها تأخذ من الجميع بالقدر الذي يثريها و يجعلها تتجدد ومن ثم تعيش أبدا .
و لسوف نناقش في هذا الفصل أوجه القراءات في النص المسرحي وصولاً إلي دور المخرج المسرحي في إعادة كتابة النص بلغة مرئية غير مسموعة وأداء تجسيدي في آن واحد .





القراءة الأولي
قراءة الكاتب المسرحي لفكر الشخصية
الكاتب المسرحي و التجديد في الشكل
هل يقرأ الكاتب المسرحي فكرة شخصيته قبل كتابتها ؟ إن قضية التجديد في الشكل المسرحي قد خضعت لضرورة حياتية تتصل بطابع التجديد الذي هو حتمية للبقاء , كما خضعت لضرورة ذاتية تتصل مباشرة بذات المبدع نفسه , و ما يلامسها من ضرورات موضوعية تتصل ببيئته و تفاعل الفكر فيها مع القيم , وهي ضرورة تفرضها حتمية التلامس و الاحتكاك , و الرغبة في التفرد و السبق لإثبات الذات و نشدان الذكر أو الخلود .
وقد تبرز ضرورة التجديد الحياتية علي ضرورة التجديد الذاتية عند كاتب من الكتاب , أو عمل إبداعي من إنتاجه دوناً عن أعماله السابقة و اللاحقة لذلك الإنتاج الإبداعي الجديد . و قد يحدث العكس تماماً .. فلا قاعدة تضبط النزوع إلي التجديد .
فهذا يوسف إدريس – علي سبيل المثال – ينحو إلي التجديد .. انطلاقاً من فكرة البحث عن شكل مسرحي محلي أو قومي يحل محل الشكل الغربي الأوربي للمسرح . و هو أمر واكب دعوة شوقي عبد الحكيم و أحمد بهجت للبحث عن مسرح الفلاحين في مصر ولحقت بها دعوة توفيق الحكيم إلي إيجاد شكل أو قالب مسرحي عربي و تجربة مسرح السامر التي جسدها محمود دياب . وقبل ذلك محاولات الطيب الصديقي المخرج المغربي من خلال مقامات " بديع الزمان الهمزاني " .
إن هذه الدعوات قد واكبت الصحوة القومية العربية التي شاعت في توجهات الزعيم الوطني ( جمال عبد الناصر ) في مصر نحو وطن عربي واحد ( من المحيط إلي الخليج )
ولقد لصقت بتلك الدعوات المتكررة للبحث عن شكل عربي مسرحي .. تنظيرات وكتابات إبداعية مسرحية ظهرت في مصر و في سوريا و في المغرب العربي و في الأردن . إذ كتب المسرحيون المغربيون تنظيراً حول الشكل المسرحي , يرفض المسرح الأرسطي التقليدي هدفه التطهيري , كما يرفض المسرح الملحمي البريشتي و هدفه التغييري , ويدعو بشكل مسرحي يحسبه جديداً , و يوسع هذا الشكل الذي ينشده تنظيراً و كتابه هنا و هناك ؛ و ما هو إلا خليط من اتجاهات مسرحية متعددة ومتضاربة الأهداف والعناصر و الركائز .. منها الأرسطي , و منها الملحمي , التي تختلط ببعض الأساليب الفنية للأدب العربي . و لقد سبق إليها الكاتب المسرحي المصري نجيب سرور فيما أبدع من نصوص مسرحية جمع فيها عناصر المسرح الملحمي بعناصر فنية تراثية عربية دون طنطنة تدعي التنظير .

نفي النص المسرحي :
ليس ما دعا إليه الاحتفاليون المغاربة في المسرح سوي خليط من كل هذا من خلال أسلوب مسرح القسوة الذي دعا إليه الكاتب المسرحي الفرنسي ( أنتونان أرتو ) حيث نفي النص المسرحي و إيجاد شكل جديد للمسرح يستبدل المنظر في العرض المسرحي بالفضاء المسرحي , كما دعا إلي أحداث فيها إثارة الرومانسيين و دسائس أحداثهم و رموز القديسين , بهدف تصوير الأحداث تصويراً يبرز قسوة الشخصية في عنفها و عنفوان مشاعرها و مسالكها إسقاطاً للكبت وطلباً للتطهير منه . كما رأي رولان بارت من منظور نقدي , ميتة المؤلف فور انتهائه من كتابة نصه الإبداعي و قبله رأي المؤلف المسرحي الفرنسي جان جيرودو أن الشخصية المسرحية تفارق كاتبها فور فراغه من كتابتها .
إذا فهذه دعوات لتجديد شكل المسرح بعيداً عن الموضوع ؛ لذا فهي دعوة شكلانية , إذ تري الشكل باعثاً أو خالقا للمضمون . و في ذلك عودة لاتجاه قديم في الأدب و الفن علي المستوي العالمي عربياً ثم أوربياً (الشكلانيون الروس ومدرسة براغ).
أما التجديد بدافع الضرورة الموضوعية فينبع من قوة الموضوع الذي يطرحه الكاتب نفسه في إيجاد شكل جديد يولد من خلاله , و هو ما فعله ( لويجي بيرانديللو ) حين تعذر موضوع له علي الخروج في الثوب التقليدي وامتنعت الشخصيات عن الظهور في الشكل الذي أراد صياغتها في إطاره . و لما طالت مدة مكوث الشخصيات في تصوراته الذهنية , و امتنعت عن التجسد في روايته التي أراد لها أن تتجسد في شكلها , اهتدى لخروجها من تلك المشكلة إلى شكل جديد يضع فيه شخصيات قصته وأحداثها و هو الشكل الذي جاء في مسرحيته ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) فهو لم يؤرقه الشكل المسرحي , حتى يبحث له عن مضمون , مثلما فعل يوسف إدريس بعد ذلك في ( الفرافير ) أو مثلما فعل توفيق الحكيم الذي يؤرقه الشكل دائماً فيبحث للشكل عن المضمون الذي يكون مناسباً لمقاسات الثوب الجاهز الذي تشكله الفكرة عنده , و ذلك عكس ما كان يفعله باكثير في مسرحه حيث يستدعي المضمون الشكل الملائم أو المناسب له , و كما يفعل كتاب المسرحية الملحمية وكتاب المسرحية الوجودية .

و أخلص مما تقدم إلى ما يأتي :
إن مصادر الشكل في المسرح تحتمها ضرورتان :
أولا : توجه ذاتي نابع من رغبة الكاتب المسرحي في إظهار تفوق و بروز شكلي أو مظهري – أي نابع من فكرة تسيطر عليه , أو رغبة في سبقه لغيره في الدعوة لشكل جديد أو ابتكار شكل جديد .
ثانياً : توجه موضوعي , حيث يستدعي الموضوع شكله الذي إن تعسر الكاتب في الحصول عليه وطالت مدة بحثه اضطر تحت إلحاح موضوعه الإبداعي إلى أن يبتدع له شكلا يطابقه و لا يطابق سواه , و هذا ما فعله ( بيرانديللو ) مع شخصياته وهو ما لم يتم إلا من خلال وجهة ديمقراطية أو حوار فكري ديمقراطي بين الكاتب و شخصيات روايته وهو حوار ديمقراطي متقطع أو يتم في ذهن الكاتب عبر تأملاته و انقطاعه فلقد ( كان الفراغ يخيم من حوله , فلم يفكر أو يتحدث إلا للشخصيات التي تنشأ في ذهنه ) .
وقد نشأت في ذلك الوقت شخصيات رأي أن يصبها في قصة و لكنه لم يفعل ( .. ) ورأى أن الوقت قد حان ليكتب قصته بدلا من التفكير فيها .
ولكنه لم ينجح في جعل الشخصيات تعيش , أجل إنه رسم الشخصيات لأناس مسّهم الضّرر فهي قصة أب يجد ابنة زوجته في دار للدعارة و هي تأبى الخضوع لغرائز الرجل الذي يرفض الشيخوخة .
وكان لدى بيرانديللو العناصر التي تقوم عليها قصة ممتازة و لكن القصة لا تسير . . وعجز عن كتابتها و ظلت تدور في ذهنه بضع سنوات تراوده و قد تحدث عنها إلى ابنه منذ سنة 1915 و لكنه لم يحقق فكرتها و على ذلك رأى أن يتحدث عن هذه الشخصيات و عما دار في ذهنه – بشأنها .
إذن فالموضوع يتمحور حول ( فكرة المؤلف الذي لم يستطع تحقيق شخصياته على الورق فيطلقها إلى حيث تستطيع العيش , أين تعيش إذن ؟ في المسرح , أمام خشبة المسرح ظلاله وأضوائه؟ و من تقصد هذه الشخصيات ؟ مدير المسرح بالطبع . . حيث أن المؤلف لم يعد راغباً فيها , فله مشاغله وأرزاؤه . . و هي الآن تريد أن تعيش )
إذاً فتلك مسرحية بلا قصة و إنما هي أحداث سوف تنسج أمام الجمهور؛ سوف تنسجها شخصيات ليست لها قصة و لا شئ في ذلك فلقد كانت إحدى روائع اليونان القديمة بلا حدث تلك هي مسرحية "الفرس" لإسخيلوس – لذلك فلا يضير مسرحية ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) أن تكون بلا قصة ذلك أن المسرحية – أي نص مسرحي – هو عبارة عن الأحداث التي ترتبت عن قصة قد انتهت فأحداث ( أوديب ) لسوفوكليس تبدأ بعد انتهاء قصتها , و كذلك أحداث ( عطيل ) أو ( مكبث ) و (روميو و جولييت ) بعد ما كان من أمر العداء التاريخي بين عائلتيهما .
غير أن الجديد في ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) هو أنها تضع الشخصيات في حالة صياغة لوجودها الذي دفعها إليه المؤلف و اختفى , و هو نفسه الذي صنعه يوسف إدريس بعد ذلك في (الفرافير ) مع ( السيد و الفرفور ) إذ دفع بهما أمام الجمهور ليصوغا جوهر وجودهما في وسط اجتماعي عليهما صنعه , في مواجهة المجتمع البشري القابع في القاعة .
وهذا لا يبتعد عن إطار الفكر الوجودي المادي الذي يؤمن بأن ( الوجود أسبق من الماهية) في مقابل الإطار الفكري للوجودية المثالية عند أفلاطون و أوغسطين و كيركجارد )
الذي يؤمن بأن ( الماهية أسبق من الوجود ) أي أن جوهر وجود المخلوق يتحدد في الغيب قبل أن يولد و يرى الوجود , غير أن شخصيات بيرانديللو وشخصيات يوسف إدريس في كلتا مسرحيتيهما توجد أولا ثم تنطلق بعد ذلك في مواجهة مع الغير في وسط أو محيط بيئي من أجل إعادة صنع جوهر وجودها, إذاً فهي في صراع مع الموجود قبل وجودها الذي هو من صنعها هي و هو صراع ( الأنا مع الغير ) مع اعتراف بحق ذلك (الغير) في الوجود بالشكل الذي يرضاه ذلك الغير – مع التزام باحترام كل (أنا) لغيرها في صياغة جوهر و جودها .
و لئن استقبلت مسرحية ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) استقبالا فيه حفاوة الشباب ليلة عرضها في عام 1921 على مسرح " فاللي دي روما " بما دل عليه التصفيق الحاد المتصل , فقد استقبلها جمهور الشرفات و المقاعد المرتفعة الأسعار بالصياح المنتظم "مهرج , مهرج " و " إلى المجاذيب , إلى المجاذيب " الأمر الذي ترتب عليه نشوب معركة بالأيدي بين طرفي الجمهور في حضور المؤلف و ابنته بعد مناقشة حامية بين النقاد الصحفيين و الممثلين بعد العرض نفسه حيث اشتجرت الآراء النقدية حولها .
و مهما يكن من أمر ذلك الشجار الفكري حول عمل إبداعي فإننا نخلص إلى ما يأتي :
- إن الإبداع قد جاء من ناحية الشكل و ليس من ناحية الموضوع .
- إن الموضوع هو الذي قد يستدعي الشكل الملائم له .
- إن الشكل قد يستدعى المضمون .
- إن التمرد و هو الانفلات من الإطار التقليدي يشكل أساس البحث عن جديد و من ثم نقطة الانطلاق نحو الإبداع , فلا إبداع دون تمرد على مألوف .
- إن التمرد في المسرحية نتاج رفض الشخصية الدرامية للإطار التقليدي الذي ارتضاه لها المؤلف , حين يخلق لها جوهر وجودها قبل أن يوجدها في نصه ( البيئة الدرامية )
- إن الفسحة الفكرية الديمقراطية بين الكاتب و شخصياته الدرامية التي تحتم بحث المؤلف عن شكل جديد ترضي به الشخصيات لتتجسد و تظهر أحداثها و دوافعها و علاقاتها أو هي تصوغها في حرية لا يحدها سوى التزامها بحرية غيرها فهي تصنع ذاتها أمامنا فكراً وشعوراً وتفاعلا و دوافعا بالشكل الذي ترى معه تحقق جوهر وجودها , غير أنها لا تقف حائلا قوياً أو مانعاً شديداً أمام غيرها ليحقق جوهر وجوده , لأنها إن فعلت ذلك تحول الصراع إلى قطبين متناقضين يتحتم قضاء قطب منهما على القطب الآخر مما ينتج مأساة للمقضي عليه , أولهما معاً كما حدث في ( هملت ) شكسبير حيث لم يتبق من أطراف الصراع أحد , الأمر الذي أدى إلى أيلولة الوجود الفاعل و المسيطر إلى قائد الجيوش الأجنبية الذي أصبح أمر بلاد الدنمرك في يده بعد سقوط الملك و صنائعه و سقوط البطل هملت , مما دفع ( بريخت ) في قراءاته النقدية للشخصية إلى أن يتهم ( هملت ) بالخيانة وبانعدام صفة القيادة أو الرؤية السياسية .
ونخلص في النهاية إلى أن الإبداع في الكتابة المسرحية وليد القراءة المتأنية و المتأملة من المؤلف نفسه لفكر الشخصية , لنوازعها و توجهاتها و مشاعرها و لإرادتها , بحيث يتركها تحقق في ذهنه كل ما تريد و شكل هذه الإرادة و يكتفي فقط بمدها عبر تصوره الذهني بما يلزمها لا لتوجد و تتجسد و لكن لتصنع بنفسها جوهر هذا الوجود و التجسد يتركها تأخذ من معين خبراته النظرية و العملية ما يلزمها وما تحتاجه لتعبر عن جوهر وجودها قولا وفعلا و شعورا وفكراً ودوافع و علاقات يعطيها على قدراتها لتوجد حاجتها إلى الوجود , ويتركها بعد ذلك لتخلق جوهر وجودها من خلال الممثل الذي يجسدها حياة كاملة , دائمة التفاعل و التجدد في كل مرة تظهر فيها في مواجهة جمهور , و هي تغير شكل وجودها من ممثل إلى أخر و من ليلة عرض إلى ليلة عرض تالية .
و معنى ذلك أن الكاتب يجب أن يمر بمرحلتين عند كتابته لنص مسرحي و هي مرحلة معملية : تلك التي يحاول فيها البحث عن شكل مناسب تقبله شخصيات مسرحيته المتصورة عن طريق حواره الديمقراطي مع شخصياته , ذلك الحوار الذي يتم في ذهنه , حيث ينقطع الكاتب لشخصياته فمثل هذا الحوار المتصور بين الكاتب و شخصياته لو كان قد دوّن في نص لجاز أن يطلق عليه ( نص مسرحي معملي ).
أما المرحلة الثانية بعد أن يظهر النص نفسه إلى الوجود فهي ( مرحلة تجريب في النص المسرحي) إن كان الشكل فيه مبتدعاً أو غير مسبوق . وحيث ننتهي من القراءة الأولى للنص المسرحي , نجد أنفسنا أمام القراءة الثانية للنص المسرحي و هي قراءة المخرج .
القراءة الثانية
قراءة الدراما تورج للنص المسرحي
لا يخلو الإخراج المفسر للنص المسرحي من رؤية خاصة بالمخرج و في ذلك إلزام له بإجراء إضافة فكرية يحتملها فكر المؤلف كما هو في نصه المسرحي و يضفي على هذا الفكر توكيداً وإثراء وإضاءة لجوانب وقعت في الظل – في رحلة تأليفه لذلك النص – و رأى المخرج المفسر إضاءتها ووضعها في بؤرة الاهتمام حين استشف دورها في بلورة المغزى الذي يريد إيصاله توكيداً للمغزى الذي أراده المؤلف بعمله الإبداعي المؤلف .
و ذلك يلزم المخرج المفسر بإجراء ترتيبات على النص المسرحي نفسه قبل البدء في مرحلة التنفيذ و في أثناء التنفيذ أيضاً , وهذه الترتيبات لا تضيف حرفاً إلى الحوار مع أنه قد يلجأ إلى حذف فقرة أو جزء من حوار بعض الشخصيات و استبداله بجمل ضوئية أو بجمل حركية أو بجمل صوتية أو موسيقية أو تكوينية أو تشكيلية لونية . . فالحركة لغة والضوء لغة و النغمة لغة و اللون لغة , و كلها تشكل إلى جانب الكلمات في الحوار لغة العرض المسرحي .
وقد تضطره الرؤية التي أحس بها فكرياً فيها و عايشها ثم جربها على النص المؤلف في مرحلة الإعداد له و إنتاجه أن يقدم أو يؤخر أو يحذف مشهداً من النص لأن ضبط إيقاع العرض لابد و أن يتوافق مع إيقاع العصر الذي يعرض فيه حتى يظل الحضور المسرحي مدخلا للتفاعل الممتع بين الأداء و التجسيد و بين الجمهور .
لذلك يلجأ المخرج المفسر إلى إعداد النص المسرحي حتى يتمكن من توجيهه , بل توجيه العرض المسرحي لكشف المغزى بما يوافق فكر أو أيديولوجية أو وجهة ما , في أسلوب ثري ممتع فمؤثر و مقنع و سواء أجرى المخرج نفسه ذلك الإعداد للنص المسرحي أم عهد به إلى المؤلف نفسه – بعد جلسات نقاش و جدل و تفاهم منسجم و متعاون عن اقتناع بدور كل مبدع منهما – أم عهد به إلى ( دراما تورج ) ( كاتب غير المؤلف الأصلي للنص ) , فإن الإعداد – هنا يشكل بالضرورة لوناً جديداً من قراءة النص المسرحي نفسه .
وتعد قراءة المعد أو ( الدراما تورج ) للنص المسرحي و هي القراءة الثانية في عملية إنتاج عرض مسرحي استند إلى الاتجاه المفسر للنص ضرورة ثانية يرتكز إليها العرض المسرحي , بل تدخل في صلب نظرية العرض المسرحي – في اتجاهه المفسر للنص -
قراءة المعد المسرحي لفكر النص
هناك من النصوص المسرحية ما يحمل بعديد من الخطوط الفكرية التي تبدو متعارضة في نظر المخرج المفكر الأمر الذي يدعوه إلى قطع اتصال خط فكري منها .
ففي مسرحية ( سليمان الحلبي ) لألفريد فرج يلجأ المؤلف إلى المقابلات الفكرية , حيث يقابل موقفاً درامياً بموقف درامي آخر يشابهه من حيث الموضوع و من حيث الوجهة وشكل السلوك وصولا إلى تشابه الموقفين أو مقاربتهما ببعضهما في مشهدين مختلفين من حيث الشخصيات و من حيث ترتيب موضعهما في النص المسرحي نفسه فالنص قائم على البناء الدرامي المتوازي , حيث يسير حدثان دراميان في خطين متوازيين منذ بداية النص حتى نهايته وهو بناء درامي شبيه ببناء شكسبير للأحداث في مأساة (الملك لير) ومن قبله البناء الدرامي عند تورانتوس الروماني.
إن ألفريد يقارب بين فكرة ديمقراطية الغرب , متمثلة في حوارية ( كليبر ) و المهندس (جابلان )
وفكرة الشورى العربية عند المسلمين , متمثلة في حوارية ( سليمان الحلبي ) مع رفيق دراسته الأزهرية ( محمد ) ليقارب بين المدنية الفرنسية و المدنية المصرية في ذلك الوقت . إن تلك المقارنة أو المقاربة الديمقراطية هنا مقاربة تلفيقية لأن كليبر هو قائد جيش غاز مستعمر والغزو اغتصاب أرض وطن الغير ينفي عن الغازي صفة الديمقراطية .

المخرج معداً للنص المسرحي
في عام 1987 أخرجت لطلاب قسم المسرح بآداب الإسكندرية نص مسرحية (سليمان الحلبي ) ضمن مشروعات إنتاج عروض لطلاب ( الفرقة الرابعة ) و حين شرعت في التدريبات الأولية للعرض ( قراءات المنضدة ) بعد توزيع الأدوار على الطلاب, لم تكن لدي رؤية فنية للنص , بل كان هدفي هو تدريب طلاب الفرقة الأولى على الأداء المسرحي الجماعي من خلال ( الكورس ) و تدريب طلاب الفرقة الثانية على أداء الأدوار الأولى والثانية ( الرئيسية و المساعدة ) : ( سليمان – كليبر – جابلان – السادات – الشرقاوي – محمد – حداية – ابنته ) . و هذا هو إطار عملي أستاذاً لمشروع التخرج في التمثيل – غير أن عملي مبدعاً لم يكن قائماً في بداية التدريبات – لم يكن محل نظري .
و لقد ساعدتني إحدى المعيدات – تخصص ديكور مسرحي فنون جميلة – في تصميم المناظر المتعددة لأحداث المسرحية و بنائها , و كذلك في توفيق الأزياء وفق كل شخصية – من المخزون لدينا – و لأن المناظر متعددة و متلاحقة و يتطلب تغييرها أسلوباً عملياً وفعالا مع غياب عمال مسرح مدربين و فنيين متخصصين في إدارة خشبة المسرح , خاصة وأن العرض سيتم بقاعة التدريبات بالكلية حيث المساحة الفضاء و أسلوب الاعتماد على لغة الجسد والممثل أكثر من الاعتماد على غيرها من عناصر العرض المسرحي , لذلك فإن تغيير الملابس بين الطلاب الذين يمثلون أكثر من دور مسرحي سيكون مستحيلا و تغيير المناظر سيكون أشد صعوبة , و لقد حاولت المعيدة ( المصممة ) حل هذه المشكلة بأن تصنع منشورين على عجلات ( برياكوتا ) و هي قاعدة خشبية متينة مثلثة الشكل استخدمها المسرح اليوناني القديم في تغيير المناظر , و بهذه الطريقة يمكن تغيير ستة مناظر تحمل على القاعدتين المثلثتين ذات المحور و العجلات فيشكل كل منظرين متحركين مع منظرين ثابتين المنظر الأساسي لكل مشهد – في إطار المنظر المسرحي البسيط .
ولكن بعد العديد من التدريبات و خاصة تلك التي استهدفت تثبيت حركة الممثلين (الميزانسين) التي جعلتها نابعة من الحوار ( الحركة المترجمة للحوار . . تلك التي يغلب عليها التحريك لا الحركة النابعة من الدوافع الفكري للمؤلف – الفكر المتحرك ) تأملت فكر النص تأملا إبداعياً و بعين الناقد التفكيكي و اجتهدت في نقض المغزى الذي رمى إليه المؤلف , حيث سعى نحو مواجهة حضارة الغرب التي حملتها الحملة الفرنسية على مصر بقيادة " نابليون " وتصدي " كليبر " لحضارة الإسلام والعرب التي حملها " الأزهر " و شيوخه بقيادة " الشيخ السادات " "و الشيخ الشرقاوي " و تصدّي " سليمان الحلبي " لكليبر بوصفه رمزاً للحضارة الغازية .
إذاً فنحن أمام مواجهة بين حضارتين : الحضارة المادية الغربية و الحضارة الروحية الدينية المسلمة الشرقية .
وحيث وصلت إلى هذا الاستخلاص فإن الحركة ( الميزانسين ) يجب أن تتغير فلا تنطلق من الحوار و إنما تنطلق من نقض المصدر الفكري الذي أصدر الحوار و فعل العلاقات بين شخصيات النص المسرحي (سليمان الحلبي ) و أطراف الصراع و من هنا فإن الحركة قد اتخذت شكل مواجهات متتالية بين " سليمان الحلبي " نائباً عن الحضارة الإسلامية آنذاك ( الأزهر ) و " كليبر " نائباً عن الحضارة الغربية الغازية , و لما كانت المواجهة تتطلب الإيقاع السريع و كان تعدد مناظر الديكور يشكل عائقاً , وكذلك تغيير الملابس عند من يمثل أكثر من دور , لذلك اختزلت المناظر إلى منظرين فقط و ضعتهما في مواجهة دائمة لبعضهما البعض منذ بداية العرض إلى نهايته بما يشكل ضلعي مربع أجلست المتفرجين في الضلعين المتقابلين المتبقين من المربع الذي يحيط بفضاء الأداء التمثيلي – و قد أغضب ذلك المعيدة قطعاً – لأن مجهودها ضاع سدي و ذلك فكر الدراما تورج مع أن المخرج هو نفسه الدراما تورج هنا.
ولما كان الكاتب قد ارتكز على الأسلوب المركب في كتابة نص مسرحيته تلك تحقيقاً للبناء الدرامي المتوازي مما يحقق التجاور في الأحداث الدرامي الرأسي ( المنطقي ) للأحداث – وفق أسلوب كتابة المسرحية الدرامية التقليدية* - و كان ذلك سبباً في احتواء النص على أكثر من مقولة درامية أو فكرة أساسية منها ما يتعلق بصراع الحضارتين المادية و الدينية , ومنها ما يتعلق بالتاريخ المدوّن في محاضر التحقيق مع " سليمان الحلبي " من قبل السلطات الفرنسية الغازية بعد اغتياله لكليبر في حديقة قصره في ناحية الأزبكية ومنها ما كتبه ( الجبرتي ) في يومياته عن هذه الحادثة , ثم فكّر المؤلف الذي يستعرض كل هذه الآراء و يواجهها ببعضها البعض في شبه حياد أمام جمهور معاصر ليرى رأياً آخر غير الذي دوّن في محضر التحقيق ونقله الجبرتي عن سبب قتل " سليمان " لـ " كليبر " – تأسيساً على النهج الملحمي البريختي– و لأن خلاصة ما حاوله ألفريد فرج في نصه هذا كان إبراز تحليله للدور الحقيقي وراء إقدام ( سليمان ) علي قتل ( كليبر ) حيث دأب " كليبر " علي إذلال الشعب العربي المصري المسلم – مجرد الإذلال – و هو ما يؤكده جدل " كليبر " نفسه مع مهندس الحملة " جابلان " الذي أراد به " الفريد فرج " أن يسجل الأسلوب الديمقراطي للفرنسيين في التعامل مع بعضهم البعض في موازاة الأسلوب الديمقراطي للأزهريين في التعامل مع بعضهم البعض , ذلك الذي دار بين " سليمان " "والشيخ محمد " زميله في الرواق في الأزهر أو بينه وبين الشيخ الشرقاوي حيث افصح كليبر عن نواياه من وراء فرض ( إثني عشر مليون فرنك ) علي المصريين متضامنين كغرامة للفرنسيين و فرض ( ثمانمائة ألف فرنك ) علي السيد (محمد أبو الأنوار السادات) شيخ الجامع الأزهر فقال لجابلان : " لا أريده أن يدفع أريده أن يركع " فإذا تحقق لكليبر هذا الذي يريد ؛ وركع شيخ الأزهر – رمز الإسلام وقدوة المسلمين – فقد ركع العالم الإسلامي كله !! و لذلك كان التحدي الحقيقي الذي لم يجد له متصدياً سوي ثورة الشعب المصري ووقفة علماء الأزهر و امتناع الشام عليه . تلك التي أجبرت نابليون إلي جانب طموحه في العودة ليشارك في حكم باريس نفسها إلي الفرار إلي فرنسا . في حين لم يجد أسلوب المواجهة المباشر و السافرة من كليبر أمام فردية القرار و السلوك من (سليمان) فكأن الفعل العنيف من المستعمر كليبر أدي إلي رد الفعل المساوي له من قبل الوطني العربي المسلم " سليمان " : المنازلة الفردية .

قراءة المعد لفكر المخرج
ولما كان توجه رؤيتي مخرجاً لنص ( سليمان الحلبي ) قد تبلور في إبراز شكل المواجهة بين الحضارة المادية التي تستند إليها الحملة الفرنسية و الحضارة الإسلامية التي يستند إليها الأزهريون و من ورائهم الشعب المصري فقد أهملت أو أخفّت صوت الأفكار أو المقولات الأخرى في النص . فإذا كان ألفريد فرج قد أهتم بإبراز ديمقراطية الفرنسيين فأنني كمعد لم أر أهمية لديمقراطية المستعمر , و إذا كان ألفريد فرج قد أهتم بإبراز أسلوب الحوار الديمقراطي لدى المثقفين الأزهريين و إبراز روح (سليمان) الديمقراطي فإنني لم أر أن ذلك قد غير من إصرار ( سليمان ) الفردي على قتل كليبر فكليبر على الرغم من سماعه للرأي الآخر ( رأى جابلان المهندس الفرنسي المدني ) الذي كان يرى ضرورة أخذ كليبر المصريين باللين إلا أنه ينفذ فحسب ما يريد تنفيذه ( إخضاع الشعب المصري وركوع علماء الأزهر ) .
كما أني أرى أن اغتيال كليبر لا يعد بحال اغتيالا سياسياً , ذلك أن الاغتيال السياسي هو فعل وطني فردي عنيف ضد زعيم وطني يرى قاتله غير ذلك و لم يكن كليبر زعيماً وطنياً و لكنه قائد عسكري غاصب و محتل و ديكتاتور متسلط و دموي و التصدي له يكون من جنس فعله , وهذا يجب إبرازه في العرض .
لذلك كله فإن النص كما كتبه مؤلفه ألفريد فرج يشكل عبئاً على الرؤية التي ارتكز عليها الإخراج , وهي ترتكز بدورها على المغزى الذي أراده المؤلف ألفريد فرج من وراء نصه: ( سليمان الحلبي ) من هنا جاءت ضرورة إعداد النص لبلورة هذا المغزى وإضاءته مع خفوت صوت الأفكار الفرعية المؤدية إلى ذلك المغزى و التي تصب في مصبه .

فلسفة إعداد النص المسرحي
استهدف نص سليمان الحلبي لألفريد فرج الانتصاف لـ" سليمان الحلبي " الثائر العربي المسلم الذي شوهه الكّتاب الفرنسيون و غيرهم , حتى أن الجبرتي لم يأخذ فيما كتب عن حادثة اغتيال الجنرال كليبر علي يد سليمان بغير ما ورد في تحقيق السلطة الفرنسية في ذلك الحادث , وقد وقف ألفريد فرج في هذا النص موقفين :-
الموقف الأول : يريد ألفريد فرج وضع الحضارة الإسلامية ممثلة في الأزهر عن طريق (سليمان الحلبي ) الطالب الأزهري , والحضارة الغربية الاستعمارية ممثلة في الحملة الفرنسية عن طريق ( كليبر ) في مواجهة بعضهما بعضاً , ليأخذ المتلقي موقفاً تصويبياً من هذه الواقعة التاريخية فلا يأخذ برأي المحقق الفرنسي الذي اعتبر سليمان قاتلا مأجوراً من والي حلب التركي , وإنما يضعه في مكانه الصحيح اللائق به بوصفه ثائراً وطنياً مدفوعاً بحميته على عروبته و إسلامه , وأزهره رباط عقيدته . و قد اتخذ الإعداد قاعدة أولي للانطلاق في الجزء الأول من العرض .
الموقف الثاني : أما الجزاء الثاني من قراءة الإعداد للنص نفسه رأي أن ألفريد فرج يعقد مقارنه أو صورة مقارنة بين ما يسلكه الفرنسيون حيث يقطعون الطريق علي الناس و ما يسلكه ( حداية الأعرج ) و هو قاطع طريق مصري . فالموقف واحد : ( قطع طريق ) موقف متشابه . هذه حرابة و تلك حرابة . الأجانب بالجيوش و المدافع و الخيول و قاطع الطريق ( حداية ) – و هو شخصية ابتكرها خيال ألفريد فرج – بالخناجر و السيوف والسياط . فالموقف متشابه وإن اختلف الجنس ( فرنسي ) ( مصري ) إلا أنه هنا جنس واحد ( قطاع طرق ) و فعل إرهابي واحد : حرابة .
لذلك ضفّر الإعداد بين صورة الحرابة الفرنسية و صورة الحرابة المحلية , الأولي يقودها (جنرال كليبر – ساري عسكر فرنسيس )
أما الثانية فهي بقيادة ( ساري عسكر حداية ) – كما أطلق هو على نفسه –
و ذلك على النحو الآتي :

فقرة من نص قراءة الإعداد المسرحي للمشهد الافتتاحي لمسرحية ( سليمان الحلبي )

( إضاءة موقع في قلعة قديمة متهدمة ) ( رهط من المصريين و البدو يعبرون بجوار المبنى )
قاطع طريق :( يبرز من الخرابة ) هوب . .
( يتوقف الناس . . يستديرون إلى الشمال ثم يتحركون إلى الخلف )
( إظلام " قاطع الطريق " و إضاءة " جندي فرنسي " )
جندي فرنسي :( يبرز لهم حين يستديرون طلباً للعودة فراراً من قاطع الطريق )
هوب . .
الفلاحون :( يتوقف الناس . . يستديرون إلى الجنوب ثم يتحركون )
( إظلام " جندي فرنسي " و إضاءة قاطع طريق )
قاطع طريق : هوب . . لا يتحرك أحد (شاهراً سيفه )
الفلاحون :( يستديرون للخلف في محاولة متكررة للهرب )
( إضاءة الجندي الفرنسي و إلى جانبه جندي آخر )
الفرنسيان : هوب . . لا يتحرك أحد
الفلاحون :( يستديرون في أماكنهم ) ( إظلام الجنديين الفرنسيين )
( إضاءة قاطعي طريق )
قاطعا الطريق : هوب ( يستديرون مع إظلام منطقة قاطعي الطريق وإضاءة الفرنسيون الجنود في مواجهة المارة )
الجنود الفرنسيين : هوب ( يستديرون مع إظلام منطقة وجود الفرنسيين وإضاءة منطقة قطاع الطرق )
قطاع الطرق : لا يتحرك أحد . . ( إظلام قطاع الطرق مع استدارة المارة )
الجنود الفرنسيين :( عليهم الضوء ) لا يتحرك أحد . .
قطاع الطرق : ( يحاصرون المجموعة بأسلحتهم ) ويرغمونها على الركوع و هم حولهم شاهري الأسلحة )
الجنود الفرنسيين :يحاصرون الجميع وأسلحتهم موجهة للخارج نحو الجمهور الذي يحيط بالمشهد)
( يتجمد التكوين و تضيق دائرة الضوء لتحصرهم )
صوت سليمان : ( صدى من بين جمهور المشاهدين )
" إذا كان الغزو بالسلاح يخلق للغزاة حقاً من العدم
فإن المناسر يحق لها ما تغتصبه من مال في الطريق
(صوت طرقعة كرباج في الهواء)(إظلام تدريجي)وفجأة(إضاءة أسطع)
(محاولة الجوقة للهرب و تسللها هنا و هناك)(طرقعة كرباج في الهواء)
صوت : هوب . . لا يتحرك أحد ( تتخذ المجموعة شكل صف واحد )
( يتجمد المشهد مؤقتاً )
ضابط فرنسي : اسمك ؟
واحد : سليمان الحلبي ( يدفعه الضابط من كتفه إلى داخل الحدود )
ضابط فرنسي : اسمك ؟
واحد : سليمان الحلبي ( يدفعه الضابط من كتفه إلى داخل الحدود )
ضابط فرنسي : اسمك ؟
واحد : سليمان الحلبي (يدفعه الضابط من كتفه إلى داخل الحدود)
ضابط فرنسي : اسمك ؟
واحد : سليمان الحلبي (يدفعه الضابط من كتفه إلى داخل الحدود)
ضابط فرنسي : اسمك ( تخفت الإضاءة تدريجياً و الصف لا ينتهي )
واحد : سليمان الحلبي ( تتحرك الجوقة نحو الصالة و هم يرددون كلام الكورس في بداية مسرحية (سليمان الحلبي ) كما كتبها ألفريد فرج)
(إضاءة وجه سليمان مسترجعاً الأحداث)
مجموعة الكورس : في الرابع عشر من أبريل سنة 1800 أنذر الجنرال كليبر مدينة مصر بالتسليم . و رفض الثوار . و في اليوم التالي بدأ الهجوم (تذوب مجموعة الكورس بين جمهور الصالة )
( إضاءة أسطع على خشبة المسرح )
- الحدود و الفرنسيون -
ضابط فرنسي : تقدم اسمك ؟
واحد : سليمان الحلبي
ضابط فرنسي : اسمك ؟
واحد : سليمان الحلبي
ضابط فرنسي : اسمك ؟
واحدة : سليمان الحلبي
ضابط فرنسي : بيير.اسمها سليمان الحلبي ( موجهاً كلامه لزميله ) يتضاحكان
(تخفت إضاءة المشهد مع دوي طلقات المدافع)(تتجه المجموعة نحوالصالة)
مجموعةالكورس 2 : دوّت طلقات المدافع على الجانبين طوال النهار حتى تصدع متراس البحر وتدفق الفرنسيون تحت وابل من المطر والرصاص من ثغرة في ناحية أبي العلاء ورموا الحطب من منافذ البيوت .
وأضرموا النار فاشتعلت و أتسع الحريق و اشتد و امتد في أنحاء بولاق .
( طرقعة كرباج في الهواء – الجوقة في حالة هرج )
صوت حداية : هوب . . لا يتحرك أحد ( يخرج لهم )
حداية : لا يتحرك أحد . . النساء في هذه الناحية والرجال في هذه الناحية
الكورس : ( ينفذون أمره )
حداية : كل واحد منكم يخلع ما عليه من الملابس و يلقي بها على الأرض و يحمد الله أن حداية الأعرج . . شيخ منسر الناحية سيبقى له حياته إن أطاع .
( تبهت الصورة و يركز الضوء على وجه سليمان في عمق المنظر بين أطلال الخرابة )
سليمان : إذا كان الغزو بالسلاح يخلق للغزاة حقاً من العدم فإن المناسر يحق لها ما تغتصبه من مال في الطريق
( إظلام سليمان )
( إضاءة كليبر و على وجهه قناع و خلفه طابور من الجند الفرنسيين في مواجهة سليمان الحلبي و خلفه طابور من الأزهريين و على وجهه قناع كل في مواجهة الطابور المواجه . وبين الطابورين المتواجهين حصرت مجموعة الكورس في تكوينها السابق حيث تخلع لحداية ثيابها وبقية العصابة تجمع الحاجيات المنهوبة )
الكورس : تحت أجنحة النار استعر القتال من بيت إلى بيت , ومن شبر إلى شبر
فرد من الكورس : و من بولاق
ثان : إلى باب اللوق
ثالث : إلى المدابغ
رابع : و الناصرية
خامس : و المحجر
سادس : و قناطر السباع
سابع : و سوق السلاح
ثامن : إلى باب البرقية
الكورس : جرجر الفرنسيون ذيول الدمار ( يتقهقر طابور الفرنسيين و يكشف كليبر عن وجهه و كذلك سليمان ) ( إظلام )
( إضاءة وجه كليبر وصالة العرض و جنوده يقتحمون الصالة و ينهبون الجمهور )
على لسان كليبر : فوق جثث القتلى و أنقاض البيوت و ألسنة اللهب
(تؤدي كأمر للجند ) : اقتحموا الخانات و الوكائل و الحواصل , ونهبوا الودائع والبضائع و استولوا على ما في البيوت من أمتعة و أموال و ما في المخازن من غلال و سكر و قطن و أرز .
(إظلام الصالة ووجه كليبر) ( إضاءة الكورس )

الكورس : أما خط الأزبكية
فرد من الكورس : وخط الساكت
فرد من الكورس : و الرويعي
فرد من الكورس : و بركة الرطل
فردان من الكورس : و باب البحر و الخروبي و العدوي إلى باب الشعرية
الكورس : فقد أصبحت خرائب تقشعر لها الأبدان
( إضاءة وجه سليمان )
سليمان : وزاد من بشاعة المشهد الدرامي أن عسكر الفرنسيين , مدفوعين بفكرة النهب , أخذوا ينبشون الجثث من تحت الأطلال و الخرائب و يجردونها من الحلي و الأشياء الثمينة.. ثم يطرحونها فوق الأنقاض صورة للهول و للفظاعة .
( تبهت الإضاءة على وجه سليمان و تسطع تدريجياً على وجوه الكورس و الأسلحة في أيديهم في تكوين هجومي )
الكورس : صورة للهول و للفظاعة .. صورة للهول و الفظاعة
( إضاءة وجه الجبرتي مع شحوب إضاءة الكورس )
الجبرتي : و في الخامس و العشرين من أبريل
مجموعة من الكورس : في الخامس و العشرين من أبريل
مجموعة 2 من الكورس : زاد من بشاعة المشهد الدرامي
الجبرتي : الأمان الوافي الشافي
مجموعة الكورس 1 : الأمان الوافي الشافي
الكورس 2 : زاد من بشاعة المشهد الدرامي
الجبرتي : لجميع المصريين
الكورس 1 : لجميع المصريين
الجبرتي : فخرج الناس
الكورس 1 : خرج الناس
الكورس 2 : خرج الناس من أطلال بيوتهم
الجبرتي : ينظرون
الكورس1 : خرج الناس
الجبرتي : ينظرون ما يكون
الكورس 2 : وزاد من بشاعة المشهد الدرامي
الكورس 1 : إن عسكر الفرنسيين
الكورس 2 : مدفوعين بفكرة النهب
الكورس 1 : مدفوعين ......... بفكرة النهب
الكورس 2 : مدفوعين ........ بفكرة النهب
الجبرتي :وفي السابع والعشرين من أبريل دخل كليبر مدينة مصر
الكورس (يردد فرادي) : دخل كليبر مدينة مصر . دخل كليبر مدينة مصر
( إضاءة الصالة )
( كليبر علي فرسه و لجند يحيطون بموكبه و طبول قوية الموكب يتجه إلي خشبة المسرح )
الجبرتي : دخل كليبر مدينة مصر في موكب حاشد رهيب
(يتفرق الكورس بأسلحتهم في أنحاء الخشبة في وضع تخفي)
وقد منحه ضباطه لقب فاتح مصر
كورس الجند : فاتح مصر ( يرفع كليبر يده لأعلي من علي فرسه )
الجبرتي : ( يخرج المصريون " الكورس " يشاهدون الموكب )
وفي يوم 2 مايو 1800 نقض الجنرال كليبر إعلان الأمان (يجمع الجند الفرنسيون السلاح من المصريين) نقض إعلان الأمان
الجبرتي : وأصدر إعلاناً بأن يدفع المصريون متضامنين ثمناً لدمائهم
كورس الجند : متضامنين
كليبر : مبلغ اثني عشرة مليون فرنك
كورس المصريين : اثنا عشرة مليون ؟!
كورس الجند : فرنك
كليبر : وأن يدفع السيد محمد أبو الأنوار السادات وحده غرامة قدرها ثمانمائة ألف فرانك
كورس الجند : ثمانمائة ألف فرنك
المنادي 1 : ( من الصالة يدق الطبل من فوق حماره )
أن يدفع المصريون متضامنين مبلغ اثني عشرة مليون فرنك
و أن يدفع السيد محمد أبو الأنوار السادات وحده غرامة قدرها ثمانمائة ألف فرنك
كورس المصريين : وحده؟!
المنادي 2 :وأن يصادر مال سائر زعماء الثورة الذين غادروا البلاد ( من الصالة)
المنادي 3 :يصادر مال سائر زعماء الثورة ( من الميزانين ) أو(من الصالة)
المنادي 4 : يصادر مال سائر زعماء الثورة ( من الصالة )
( يصبح المنادون الأربعة أمام الـ Stage مباشرة )
المنادون : يصادر مال سائر زعماء الثورة الذين غادروا البلاد
( يتفرقون ألي خارج دار العرض و هم يكررون كل علي حده )
الجبرتي : ومن هنا تبدأ قصتنا ( تبهت إضاءة الجبرتي و تضاء الحدود و طابور العابرين عن نقطة التفتيش و جنديان فرنسيان )
( إضاءة صورة كليبر في العمق )
كليبر : إن بلداً تدمدم فيه المقاومة ليس محتلاً بعد
( تخفت إضاءة كليبر و تسطع إضاءة موقع التفتيش )
جندي فرنسي 1 : تقدم .. اسمك ؟
رجل 1 : سليمان الحلبي
جندي 1 : اسمك
رجل 2 : سليمان الحلبي
جندي : اسمك
رجل 3 : سليمان الحلبي
( اظلام تدريجي )

* خلاصة القراءة في فكر الدراما تورج :
إن النص وفق إعداد يختلف عن نسق النص الأصلي الذي وضعه المؤلف ألفريد فرج , قد جاء وفق رؤية نظرية ركزت علي فكرتين اثنتين :
إن سرقة الغزاة للوطن تعطي الحق لقطع الطرق في سرقة المواطن .
إن الغزو الحضاري الأجنبي يقاوم بمواجهة حضارية وطنية و قومية .
وقد اقتضى ذلك تداخل بعض المقاطع الحوارية و المشهدية في المشهد الافتتاحي علي نحو ما ورد في نص الإعداد السابق .
وكذلك اقتضت مادة السرد المعلوماتي الجافة كما وردت في نص ألفريد فرج أن تعد علي نحو يؤكد حسن الاستهلال الذي يشكل عنصر الجذب في كل عمل أدبي أو فني . ولئن كان هذا من صلب عمل المخرج إلا أن " الدراما تورج " بصفته وسيطاً درامياً بين النص المسرحي و المخرج يمكنه كتابة الأساس النظري للعرض نفسه اعتماداً علي النص الأصلي للمسرحية و هكذا تتحول قراءة " المعد " للنص المسرحي المزمع إخراجه وفق رؤية مفسرة تبعاً لمنهج الإخراج المفسر – إلي نص أقرب في أسلوب كتابته أو إعادة كتابته علي وجه الدقة من نص المخرج , لا نص المؤلف دون خروج عن المضمون أو الأثر الفكري والدرامي للنص .
علي أنه من اللافت للنظر في حركتنا المسرحية العربية غياب مثل هذا اللون من القراءة للنص المسرحي , و هي القراءة التي عرفتها دول شرق أوروبا الاشتراكية و خاصة ألمانيا الديموقراطية و علي وجه الخصوص ( مسرح البرلينار إنسامبل ) الذي أنشأه ( برتولت بريشت ) المؤلف والمخرج والمفكر المسرحي , و من قبله أستاذه ( بيسكاتور ) في مسرحه السياسي .
ومن الجدير بالنظر إلي الخليج العربي ندرك التوجهات العامة ( الأيديولوجية الدينية ) التي يناسبها مسرحيا التوجه نحو الإعداد المسرحي , لفترة طويلة من الزمن حتى تنضج حركة التأليف المسرحي في المنطقة , في ظل حرية سياسية أكبر و معاناة فنان خاصة و أن التأليف: وهو التعبير عن المحتوى بأسلوب خاص بالمؤلف نفسه بحيث يبدو فيه تفرده عن غيره من المؤلفين السابقين له في مضمار تخصصه الإبداعي أو غير الإبداعي , وبحيث يكون لمؤلفه مغزاه الخاص به , و حيث تستخدم فيه محتويات و عناصر أسلوبية لا تصلح إلا حيث نسقها و نظمها إلاّ حيث سبكها في مؤلفه ذاك وفق حالة معايشة أو هيمنة بما لا يوجد بديلا لذلك المحتوى عنها بحيث يخدم حاجة اجتماعية و حضارية بشكل فيه إمتاع و إقناع إلى جانب خدمته أو تلبيته لحاجة فردية تخص المؤلف نفسه على ألسنة الشخصيات المعبرة تعبيراً فردياً ذاتياً يعكس مشاعرها ويعكس دافعها وإرادتها المستقلة عن المؤلف نفسه .
و بذلك يكون التأليف وهو على مراحل قادمة و تترك الساحة للإعداد حتى يبرز المؤلف الخلاق .


المخرج وضرورات الإعداد

حول عرض الشجرة المقدسة : وهو إعداد عن نص ( جرنيكا ) للكاتب الأسباني فرناندو آرابال ،
وقد أعده مخرج أردني شاب ، وتدور حول الخراب الذي أحدثته الحرب الأهلية في أسبانيا وما جرى في ظل ديكتاتورية الجنرال فرانكو .
هامش 1 :أعدم في ظل تلك الأحداث الشاعر والمؤلف المسرحي فريدريكو غارثيا لوركا .
هامش 2 : أبدع الفنان العالمي بابلو بيكاسو لوحته الشهيرة ( جرنيكا ) متأثراً بتلك الحرب القذرة التي دمرت قرية جرنيكا وهي اللوحة التي أدان بها بيكاسو الفاشية التي لا تعيش إلاّ على القهر وإشعال فتيل الحرب الأهلية .
هامش 3 : أراد آرابال بمسرحيته ( جرنيكا ) أدائه الفاشية والحرب الأهلية : فالمسرحية إذن هي مسرحية موقف . ولأنها كذلك فهي تدلي بصرختها الإدانية من خلال حدث واحد بسيط لا يتفرع ليكشف عن أزمة لا تطور فيها وصراع ساكن حيث لا يتساوى رد الفعل مع الفعل مما يبدو معه الإيقاع شديد الخفوت .
هامش 4 : شاهدت من قبل في مصر معالجتين مسرحيتين لهذا النص أحدهما بإخراج محترف للفنان عبد الغفار عوده في منتصف الثمانينات بإنتاج المسرح المتجول بمصر وقد صدر المنظور المسرحي برسم مقلد للوحة بيكاسو الشهيرة بعرض خلفية الفضاء المسرحي ( بمسرح الغرفة ) وطرز العرض بأداء غنائي من شعر حمدي عيد وألحان وغناء وعزف على العود للراحل عدلي فخري ، ودراما حركية لعلي الجندي . وبذلك مال إلى المباشرة وأسلوب الأوتشرك أو المنشور المسرحي دون أن يشعرنا بمأساة الإنسان ويحضنا على إدانة الفاشية لأننا لم نجد للعرض صدى مأسوياً ما في نفوسنا .
أما العرض الثاني لذلك النص شبه العبثي فقد شاهدته محكّـماً لأحد طلاب قسم المسرح بجامعة الإسكندرية مشروعاً لتخرجه . وقد لجأ إلى تفاصيل منظرية فملأ فضاء قاعة العرض بمخلفات حقيقية (زبالة ) وروائح كريهة كما لو كنا في مقلب زبالة فيه كل ما لا يخطر على بال أحد من مخلفات حقيقية نثرها ، هنا وهناك وحشر أسفلها الممثل ، كما حشر الممثلة في علبة هي ( دورة المياة ) ولأن الروائح والقبح قد زكم أنوفنا وجعلنا نغض أبصارنا ، فما بقى لنا إلاّ أن نسمع ما يقال وبتلك الطبيعية المبالغة ضاع التأثير الدرامي .
فماذا عن المرة الثالثة التي أرجو أن تكون الأخيرة التي أشاهد فيها هذا النص في فعاليات عمون وشبابها المسرحي ؟
تمهيد 1 : لأن العرض إعداد عن النص الأصلي لآربال ، لذلك أقف عند نص الإعداد بوصفه المادة أو النواة التي انبنى عليها العرض .
أسباب المخرج لإعداد النص : دوّن المخرج المعد على غلاف المتن المعد ما يأتي : ("ملاحظة: المقصود بالإعداد هنا .. العمل على تعديلات جذرية في بنية النص الدرامي مما اقتضى التكثيف والاختزال في بعض مساحات النص والإضافة في مساحات أخرى " )
تعليق نقدي على تلك الأسباب :
1- معلوم أن كلاً من النص المسرحي والقصيدة الشعرية كليهما يقومان على التكثيف . والادعاء بأن نص أرابال خال من التكثيف ينفي عن آربال صفته مؤلفاً مسرحياً .
2 - إذا كان حق المخرج أن يحذف بما لا يخرب بنية النص ولا يهدم مقولته بأن يستبدل مكان الفقرة الحوارية بلغة بصرية أو صورة أو مؤثر درامي أكثر إمتاعاً وأبلغ أثراً فهذا لا يعطيه الحق في أن يضيف كلمة واحدة حتى ولو كانت لازمة للموقف وهذا يعاقب عليه القانون -
3 - إن موجة الإعداد المسهلة التي أصابت شباب المسرح العربي تستأهل الوقوف والمساءلة حيث انتشرت عدوى الإعداد واكتسحت فضاءات مسرحنا العربي ، حتى أن الواحد منّا تصيبه الدهشة عندما نجد ( حلم ليلة صيف ) لشكسبير و ( كما تهواها ) تعد باللهجة العامية المصرية وكذلك ( شمس النهار ) لتوفيق الحكيم .
النص المعد بين المادة والشكل والتعبير :

أولاً : المادة : لم تختلف مادة النص المعد عنها في النص الأصلي . فالفكرة بوصفها النواة ترى الفاشية تقتل روح الإنسان . أما المغزى الذي يريد الكاتب أن يصلنا فهو أنه من العبث أن يطلب المرء المنطق أو يسعى إلى تحقيقه في ظل أوضاع أو بيئة لا منطق فيها لا على المستوى الحياتي ولا على المستوى الإنساني .

ثانياً : الشكل : يتأسس على البناء الدرامي : الصراع و الشخصيات و الحوار والنص الموازي.
الشخصيات : فانشو : رجل عجوز - ليرا : سيدة عجوز مع صحفي - كاتب -
جندي.
الصراع : ظاهري : يتمثل في عدم مقدرة المرأة على الخروج من تحت ركام دورة المياة
وطلبها النجدة من الرجل زوجها وفشل محاولاته في إخراجها .
باطني : حيث تردد الزوج في مجرد طلب النجدة من أحد خوفاً أو رغبة في التخلص منها
(ديماجوجية الزوج )
الحوار : واقعي حياتي غير أنه يميل في أكثر من موقف إلى تأكيد اللامنطق ، ومثال ذلك
قول الزوجة : "قل لي إنك تحبني " وقول الزوج : " هل تريدين أن أحك لك نكتة حتى يضيع الألم " وردها عليه : " أنت لا تجيد إلقاء النكات " . والكثير من اللاملاءمة الكلامية مع الموقف المأزوم وعن قصد فيما يشبه الميلودرامية وعبثية الموقف:
" فانشو : .. صدقيني .
ليرا : لكن فيم أصدقك
فانشو : لست متأكداً . قولي لي فقط إنك تصدقينني
ليرا : ( بآلية ) أصدقك
فانشو : لا .. بهذه اللهجة
ليرا : ( بسعادة ) أصدقك
فانشو : ولا هكذا ( بتوسل ) قولي ذلك لي جيدا .إنك عندما تريدين فإن بوسعك أن تقولي لي الأشياء بطريقة حسنة
ليرا : ( بلهجة أخرى ) أصدقك
فانشو : ( يائساً ) لا .. ولا هكذا ، حاولي مرة أخرى
ليرا : ( تبذل مزيداً من الجهد ، كممثلة فشلت في أداء دورها ) أصدقك
فانشو : ( بحزن شديد ) لا حاولي بجدية أكثر
ليرا : ( دون أن تتمكن من ذلك ) أصدقك
فانشو : ( بغضب ) لا .. لا .. ليس هكذا
ليرا : ( تبذل جهداً يستنفذ قواها ) أصدقك
فانشو : ( بمنتهى العنف ) ولا هكذا
ليرا : ( بصدق يملأ صوتها ) أصدقك
فانشو : ( بتأثر ) تصدقينني .. إنك تصدقينني
ليرا : ( متأثرة هي الأخرى ) نعم أصدقك
فانشو : ما أسعدني "

النص الموازي : إرشادات ما بين الأقواس حول المنظر حول بواعث التعبير .

ثالثاً : التعبير : يرشد النص الموازي إلى طبيعة التعبير بالكلمة وبالحركة والإشارة ، غير أن المغزى من وراء هذه الأدوات التعبيرية الدرامية مقيد بفهم المتلقي لما وراء الكلمات والأفعال . فهذه الفضفضة الكلامية حول تدريبها على قول كلمة ( أصدقك ) بالطريقة التي ترضيه يكشف عن سادية الرجل في بيته وممارسته التسلطية على زوجته وهو متلذذ في وقت هي فيه على شفا حفرة من الموت . وهو مواز لفاشية نظام الحكم . الكاتب يسقط على نظام العسكرتارية التي أشعلت الحرب الأهلية وهي تتلذذ برؤية البلاد تشوى وسط لهيبها وما موقف الرجل هنا في أسرته سوى موقف الحاكم المتسلط من البلاد فهو والجنرال صنوان والمرأة والبلد شيء واحد وما سقوط الشجرة إلاّ رمز لسقوط البلاد نفسها .
المغزى الديماجوجي : " أريد أن أفعل من أجلك أشياء كثيرة " لتأكيد ديماجوجية تعلق زوجته : " كم عددها "
" فانشو : أتريدينني أن أستدعي الموظف المختص حتى تكتبي وصيتك
ليرا : إنك لا تفكر إلاّ في التباهي "
كما أن البالونات التي كانت تمسك بخيوطها ثم تطلقها واحدة وراء الأخرى .هي الأنفس أو الأرواح التي خرجت عن الأجساد وتصاعدت نحو السماء خاصة وأنها سوداء
ملاحظات حول الإعداد : حذف المخرج دور الصحفي ودور الكاتب ولا أدري مبررات ذلك .
حذف بعض الكلمات والجمل أو غيّر بعضها بأخرى وهذا تعد على النص .
مثال :
1- ليرا : ( إنني في حالة سيئة ) .. سأموت ولن يفتكرني أحد
حذف ( إنني في حالة سيئة ) مع أنها جزء من مبدأ السببية وقرينة على ما تفترضه
2- فانشو : كلا أنا سأتذكرك ، وسأذهب لزيارتك في القرافة ومعي زهرة ( وكلب ) وسأردد في جنازتك بصوت متهدج ( يا لجمال الجنازة ) ( يا لجمال الجنازة )
حذف المعد المخرج من العبارة جملة ( وكلب ) مع أنها إشارة إلى الوفاء فهي معادل رمزي لذكراها .
غير جملة ( يا لجمال الجنازة ) بجملة ( يا هيبة الجنازة ) وهذا بعيد عن قصد الشخصية فالجمال هنا شيء مظهري والهيبة عبرة الموت والشخصية لا تقصد العبرة بالموت كما أن عدم تآخي كلمات الحوار في الجملة يعطيها معنى العبثية ويحققان طبيعة انحراف الصورة عما هو منطقي في معناه .
الإخراج : ارتكز على خطين أحدهما يميل شيئاً ما إلى التجريد في الحوائط المائلة على وشك السقوط إحالة إلى البلاد لا البيت الأسري فحسب وأحل العرض التلفازي المتقطع محل الصحفي والكاتب فيما يشبه التدخل أو القطع المتعمد لتسلسل الحدث كشفاً عن الدور المتقدم للإعلام ووسائل الاتصال الأكثر معاصرة والألصق بالواقع الحالي . إلى جانب عنصر التنويع باستخدام الصورة المتتابعة دون قصد أو استهداف للتغريب الملحمي. وكذلك استخدم معادلاً بصرياً ثابت الصورة عن طريق زجاج نافذة دورة المياة التي تخرج منها يد الزوجة ولم يظهر من جسم الزوجة سوى سيقانها وثبات الصورة يؤكد حالة الملل وذلك في صميم الصورة العبثية . واستخدام البالونات السوداء معادلاً رمزياً للأرواح ولا أدري لماذا سودها . هل هي شريرة في نظره. وكان يمكنه تركها فاتحة الألوان ومتعددة ومتباينة بتباين الأرواح البشرية ثم تلوينها بالإضاءة مختلفة الألوان .
أما الجانب الواقعي فيتمثل في القصف المتقطع وأزيز الطائرات والسيارة العسكرية التي تدوي في الشوارع وحول البيت .
أما عن إظهار ساقي المرأة في العرض بديلاً عن إظهار وجهها حسب النص فهو لون من ألوان الإثارة ربما وربما لمزيد من شغل فكر المتلقي للتفكير فيها بوصفها رمزاً ولخلق حالة من الملل عن قصد .
الأداء : هناك انفصام واضح بين التعبير الصوتي للممثل والتعبير الحركي ، فحركة الممثل حادة وعنيفة .. إذ كم مرة يقفز من فوق دورة المياة نحو الأرض في الوقت الذي يعجز فيه عبر محاولتين صنعهما المخرج دون أن يرشد النص الموازي إلى ذلك في جذب الزوجة وربما كان ذلك لتأكيد عبثية الحركة بالنسبة لعجوز ( عدم الملاءمة الحركية للشخصية ) .
والأداء الصوتي بصفة عامة جاء رتيباً وفيه الكثير من الملل وهو وإن كان لصالح المغزى الذي يريد الكاتب العبثي إيصاله دائماً وهو اللاجدوى والتكرار والتداعيات وطلب المنطق في أوضاع أو أوساط لا منطق فيها .
الإضاءة : لم تكن موفقة إلى حد كبير إذ كان يمكن أن توظف مع المؤثر الصوتي للقصف الجوي وأن توظف مع البالونات ( الأرواح ) لو لم يسودها المخرج .
الموسيقى والمؤثر الصوتي : كانت موفقة إلى حد ما في القصف وكلاكسات السيارة العسكرية .
الحركة الدائرية لسيارة الدورية : موفقة حيث تجسد حالة الحصار وإحاطة النظام الفاشي أو سيطرته الأمنية على كل المناطق وتجسد لا نهائية تلك السيطرة وفيها توكيد للصورة العبثية.
والعرض في النهاية موفق من حيث اختيار نص يتماس مع واقعنا العربي الراهن في صراعنا مع عسكرتاريات الداخل وقهر الخارج . وموفق من حيث توظيف عناصره إلاّ من هنات قليلة يمكن تداركها . وهو يكشف عن مخرج واعد.
غير أني آخذ عليه إسقاط المقاربة الفكرية بين نهاية العرض وبداية نص ( في انتظار جودو ) لبيكيت .
( بعد زوال الغبار وصعود البالونات إلى السماء تظهر الشجرة في العمق جرداء يجلس بجانبها شخصان أحدهما بقبعة والآخر يتفحص حذاءه ) وهما يذكراننا ( بفلاديمير واستراجون ) في مسرحية بيكيت ( في انتظار جودو ) إذ يستمر جلوس الرجلين وانتظارهما لفترة ثم يسدل الستار .
هل هذه المقاربة غير جديرة بالتجسيد تجسيد عبث الكتّاب والمثقفين والإعلام فإسقاطه لدور الكاتب والصحفي وحذفه للشخصيتين فيه هدم لمقولة المؤلف دون مبرر وهو بلا شك يعد تسطيحاً لموقف الكاتب من تبعية المثقفين للسلطة الفاشية وتوكيداً لديماجوجية السلطة على مستوى الرجل في الأسرة والجنرال في البلاد والمثقفين أيضاً .

المخرج بين الوسيلة والموضوع والتعبير

لكي يجسد كاتب مسرحي ما فكرة ما أو حدثاً أو شخصية أو جواً أو حالة درامية ما فهو يقوم بوضع الفكرة أو الحدث أو الشخصية أو الحالة الدرامية في شكل درامي : فالشكل إذن بكل عناصره التأليفية هو بمثابة الوسيلة وعن طريق هذه الوسيلة يؤسس الموضوع أو المحتوى ليعبر من خلال تمازج الوسيلة والموضوع عن الدلالة الأساسية لنصه المسرحي .
والمخرج يفعل ذلك إذ يتخذ النص وعناصر العرض الأخرى وسيلة للتعبير عن موضوع ذي دلالة رئيسية .
ففي مسرحية ( علماء الطبيعة ) يجسد الكاتب السويسري فريدريتش دورينمات فكرة مؤداها أن كل مصائب الكون سببها العلماء . فكيف دلل دورينمات على ذلك ؟ اتخذ الكاتب اللغة غير الكلامية واللغة الكلامية كعلامة ثلاثية الوظائف بوصفها ( وسيلة وموضوعاً وتعبيراً ) وفق تعبير " بيرس " وتفصيل ذلك على النحو الآتي :
وسيلة الكاتب : دخول أحد العلماء مستشفى المجانين بإرادته .
البعد الموضوعي : خوف العالم من وقوع اكتشافه لأسرار الكون في أيدي أية دولة من
الدول فتستخدمها لإهلاك الإنسانية .
البعد التعبيري : يتمثل في أقوال العالم وفي أفعاله وطريقة أداء ذلك .
ولأن المسرحية تتأسس على عدد لا يحصى من العلامات منها اللغوي ومنها غير اللغوي ( المسموع والمرئي , الحقيقي والطبيعي والوضعي والأيقوني والرمزي ) لذلك تدخل أمريكا عالماً أمريكيا ويدخل الاتحاد السوفيتي عالماً سوفيتياً للمستشفى نفسه - وتلك وسيلة أيضاً - ليتجسسا على العالم المكتشف - وذلك موضوع أيضاً - ولكنهما بدلاً من سرقة الاكتشاف العلمي من العالم الأول يقرران عدم الخروج من المستشفى العقلي - وذلك هو التعبير - .
والمخرج الذي يتصدى لذلك النص ذي المغزى الفكري أو الفلسفي لابد أن يتفهم ذلك فيلاحظ في دخول العالم الأول إلى مستشفى المجانين موضوعاً دل على موضوع آخر (مدلول) فدخوله إلى مستشفى المجانين كان دلالة على خوفه من فناء الكون ويرى في دخول العالم الأمريكي والعالم السوفيتي إلى المستشفى خلف العالم الأول موضوعاً (دالاً) على موضوع آخر مغاير للموضوع الذي أدخل العالم الأول نفسه من أجله مستشفى المجانين . فكلا العالمين الأمريكي والسوفيتي جاسوس أي (وسيلة أيضاً) وظفت من قبل دولتها لسرقة بحث العالم الأول .
على المخرج أن يرى في هؤلاء العلماء الثلاثة علامة دالة .. يدل العالم الأول على الحرص على الكون من الدمار وموضوع دخول العالمين الثاني والثالث هو دلالة زائفة لأنهما غيرا من الموضوع وعبّرا عن موضوع آخر كان هو الموضوع أو الدلالة الحقيقية ، إذ قررا التضامن مع العالم الأول والاعتكاف بمستشفى المجانين حماية للعالم من توظيف علمهم أو اكتشافاتهم العلمية وسيلة إلى تدمير العالم على المخرج ملاحظة أن العلماء الثلاثة بوصفهم وسائل لموضوعات قد انتهوا إلى التعبير عن دلالة واحدة وهي دلالة التمرد على دولهم الكبرى حماية للعالم بأسره من شرور حكام دولهم . وأن ذلك هو رأي الكاتب إذ أحسن التقنع وراء تلك الشخصيات . فإذا أحسن المخرج فهم ثلاثية الوظيفة العلاماتية أتقن تجسيد الصورة المسرحية وأمتع بها وأقنع بفكرة المؤلف فكان مترجماً لذلك الفكر أما إذا نظر إلى تلك الدلالة ( تعبير النص ) على أنها دعوة للتخلف باعتبار المسرحية في تعبيرها النهائي دعوة لنبذ العلم وللنفي الاختياري للعلماء فلاشك أن وسائله وموضوعه وتعبيره سيأتي نقيضاً لتعبير النص بوسائله وموضوعه . وهنا يكون أسلوبه بالضرورة قائماً على ما يعرف بقراءة الإساءة ( تفكيك النص ) لأنه عندئذ يكون قد نظر إلى تعبير النص على أنه دلالة زائفة أراد المؤلف ترويجها .




الفصل الثاني
ارتباك الإبداع المسرحي في فن المؤلف وفن المخرج
حول مفهوم الارتباك لغة واصطلاحاً :

ربك لغة : خلط - اختلط عليه الأمر وضعفت حيله (1)
ارتباك Embarrassment confusion entanglement(2)

الارتباك اصطلاحاً : هو قصور وظيفي ناتج عن خلل في الأداء بوصفه المظهر المجسد لخلل في الفهم ومن ثم خلل في التصور - إذا كان الأداء مسبوقاً بتصور ما - فخلل الفهم أو التصور يؤدي إلى خلل في صور تجسيده أو خطوات تحقيقه تحققاً مادياً .
وإذا كان الإدراك والفهم مرحلتين من مراحل التفاعل العقلي مع المادة فهذا يعني أن المادة تخضع للاختيار الذاتي أو الموضوعي أو لهما معاً . والاختيار في ذاته لون من ألوان التقدير الجزئي الذي يتأسس عليه التصور . فإذا أصاب اختيار المبدع لمادة إبداعه خلل ما ، تجسد ذلك الخلل في التصور ومن ثم في التكوين أو التجسيد المادي للصورة الإبداعية سواء في النص أو في الأداء أو في العرض . وإذا أدرك الخلل عن طريق الجمهور وفهم الناقد الفني من خلال تدقيقه في تلقي الصورة الإبداعية وعناصر تركيبها مادة وشكلاً وتعبيراً بالتحليل أو بالتفكيك كشف عن أسباب ارتباكها أو تناقضها .
الإشكالية :
كثيراً ما يصاب الإبداع المسرحي تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وتصميماً ونقداً بآفة الارتباك . ويستوي في ذلك الإبداع العالمي والعربي والمحلي فالكثير من الإبداع المسرحي يمكن تضعيفه ضمن قائمة المرتبكات الإبداعية نتيجة لوقوع المبدع مؤلفاً في حيرة أمام اختياره لمادة إبداعه وحيرته أمام تشكيلها ، وهي حيرة لم يستطع حسمها فيترتب على ذلك إنتاج صورة مسرحية مرتبكة (مشوشة - ضعيفة أو زائفة) والأمر نفسه يحدث مع المخرج ومع الممثل ومع مصمم المناظر والأزياء والمؤلف الموسيقى ، إلى جانب حيرة المخرج أمام اجتياز عقبات الإنتاج في سبيل تحقيقه لتصوره أو التوفيق بين التصور وعناصر الإنتاج المعطاة .
فعندما يختل توازن انتباه الفنان المسرحي المبدع ( مؤلفاً - مخرجاً - ممثلاً - مصمماً) نتيجة لعدم استغراقه التقريبي في عمله الإبداعي وعدم توزيع انتباهه على كل عناصر عمله الإبداعي بالتساوي ترتبك الصورة الإبداعية ، ومن ثم يفقد الإبداع قدرته على خلق الإثارة الامتاعية والإقناعية للمبدع نفسه قبل المتلقي ، والإشكالية هنا تتمثل في عدم إدراك المبدع نفسه لعدم استمتاعه هو بعمله وعدم إدراكه لانتفاء عوامل الإقناع والمصداقية عن عمله نتيجة لعدم توحده مع شخصياته ومع عناصر تشكيله لفنه .

همية الدراسة :
عند تفكير المؤلف المسرحي بالصفات في رسم الشخصيات ورسم الفعل المسرحي بديلاً عن التفكير البصري بالصور ترتبك الصورة لأنها لا تحقق لدى المتلقي درجة معينة ومناسبة من الاستثارة التي تمسك بتلابيبه إذ يمتعه تألقها وبارتباكها ينتفي دورها الإمتاعي ودورها الاقناعي وهما ركيزتا تحقق الأثر الدرامي المبدع والأمر نفسه ينسحب على المخرج والممثل والمصمم المسرحي وتستهدف هذه الدراسة فهم أسباب الارتباك لدى المبدع المسرحي وصولاً إلى تقويم حركة الإبداع المسرحي .

المبحث الأول
نهار اليقظة في المسرح المصري
- بين وهج التحريض ولهيب التعريض -

لا تكتسب أي حركة من حركات المجتمع صفتها التي تنتسب إليها تاريخياً إلاّ بالقدر الذي تغيّر فيه من مصير مجتمعها في اتجاه التقدم وتحقيق المستقبل الأفضل المأمول من جموع الشعب في ذلك المجتمع ، أو في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ رجوعاً إلى ماضوية مظلمة .
وقياساً على ذلك فإن صفة الثورية التي يكتسبها مجتمع من المجتمعات في طور من أطواره التاريخية ترتبط بحجم التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تحدثها ثورة ذلك المجتمع .
فإذا وقفنا عند ثورة يوليو 1952 نجدها قد أحدثت تغييرات جوهرية ؛ غيرت مصائر عدد من الطبقات الاجتماعية المصرية إذ رفعت من شأن الطبقات الشعبية على حساب الطبقة العليا ؛ مع أن منابع رجالها ترجع إلى الطبقة المصرية الوسطى . ولأن من مصائر ما قد تغير في مصر بعد ثورة يوليو 1952 ، فكان من الضرورة بمكان أن تتغير وسائل التعبير عن تلك التغيرات سواء في الحقل الثقافي أو في الحقل الأدبي والفني بل لابد من استحداث وسائل جديدة أكثر وفاء بالحاجة إلى التغيير المطرد لحاقاً بالفكر الجديد والمتجدد وبأساليب التفاعل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي .
ولقد جرت على المسرح بوصفه وسيلة الحضور التأثيري الفعّال الكثير من التغيرات في البنية الإنتاجية وفي الإمكانات المادية بما يمكن أهله والقائمين عليه من تفعيله لينهض جنباً إلى جنب مع وسائل الاتصال الجماهيرية الفاعلة في كسب التأييد لفكر الثورة ولتوجهاتها التنويرية والتثويرية فأنشأت المعاهد الفنية المتخصصة في فنون التمثيل والموسيقى والباليه والسينما وأنشأت مؤسسة المسرح والسينما ودور النشر والعديد من دور المسارح والسينما ودار التليفزيون وجهاز الثقافة الجماهيرية في كل ربوع مصر وهيئة الفنون والآداب .
كما شجعت على ظهور العديد من المواهب الفنية في الأدب وفي الفن فظهرت كتابات موالية للثورة متفاعلة مع توجهاتها فكانت ( الأيدي الناعمة ) لتوفيق الحكيم تجسيداً للشعار الذي أطلقته الثورة على لسان قائدها (جمال عبد الناصر ) حيث ( العمل حق . العمل واجب . العمل شرف ) فرأينا البرنس العاطل عن العمل حسب العادة ورأينا الأستاذ الحاصل على الدكتوراه في ( حتى ) كليهما عاطلين عن العمل ؛ الأول بإرادته والثاني لعدم حاجة المجتمع إلى دكتوراه في ( حتى ) .
ورأيناه يسوغ للحاكم الفرد المطلق أسلوب حكمه شريطة التزامه بنصرة القانون في مواجهة البطش في مسرحية ( السلطان الحائر ) ويرسخ في وجداننا فكرة ( تقسيم العمل ) ومبدأ عدالة التوزيع على قدر حاجته ) في أسلوب مسرحي تعليمي حمله مسرحيته ( شمس النهار ) . غير أنه عندما يرى توجه الدولة في الستينيات وجهة بوليسية ينقد توجهها في مسرحيته ( بنك القلق ) ومن الغريب أن الدولة لم تصادرها بل نشرتها مسلسلة في كبرى جرائدها ( الأهرام ) في عصرها الذهبي برئاسة هيكل غير أنه يضمر موقفاً معارضاً لفكرة التأميم فيكتب ( مجلس العدل) وينقلب على قائد ثورة يوليو بعد موته في (الحمار يفكر ) و ( الحمار يؤلف)
كذلك أسهم ألفريد فرج بالعديد من المسرحيات التي دعمت فكر ثورة يوليو ودفعت من أجل كسب التأييد الجماهيري لتوجهاتها فكتب ( حلاق بغداد ) طلباً لحق الكلمة على لسان"أبو الفضول " . ذلك المثال الشعبي للمعارضة التلقائية الذي يطلب المثالي على المستوى الاجتماعي ويطالب دائماً ودون كلل ( منديل الأمان ) من السلطان .
وكتب ( سليمان الحلبي ) في أوج الدعوة القومية نحو وطن عربي من " الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي" التي أرتفع بها صوت قائد ثورة يوليو ليعيد النظر في بطولة بطل عربي كان رمزاً لمواجهة حضارة الإسلام لحضارة الغرب الغازي ، ويدعونا إلى إعادة النظر فيما كتب عنه ظلماً وإقلالاً للدور الذي قام به في جرح كرامة العدو الغازي وإخصاء غطرسة جنرالاته .. ولاشك أن ذلك نوعٌ من تكريم أبطال أمتنا وتعظيم دور النضال ضد الغزاة والمستعمرين في سبيل تحرير الوطن .
وكما كتب ممجداً دور الكفاح الفلسطيني المسلح في ( النار والزيتون ) في وقت المد الثوري المصري وكشف عن تواطؤ هيئة الأمم المتحدة وبريطانيا وأمريكا في التوطيد لعصابات الصهيونية في اغتصاب أرض فلسطين العربية وتشريد شعبه ؛ كتب عن الأسلوب التلفيقي في نظام الحكم داعياً إليه وحاضاً على كسب التأييد له في مسرحية (الزير سالم) حيث الصراع على كرسي الحكم بين أفراد عائلة واحدة في أصولها (بكر - تغلب ) فلقد اتفق كل من الزير سالم وحساس وكليب على حيلة ما تنفذها ( جليلة ) أخت جساس وزوج كليب لتمكنهم من الدخول على حسان ( التبع ) مغتصب ملكهم ليتخلصوا منه ويقتله كل من الزير سالم وجساس في الوقت الذي يحجم كليب عن إخراج سيفه من جرابه ومع ذلك يتنازل الزير سالم لأخيه كليب عن العرش فيحقد عليه جساس وينتهز أول فرصة تسنح لقتل كليب على إثر مشادة تافهة ، وهنا يرفض الزير سالم الدية ويطالب بالعدالة المستحيلة ( أريد كليباً حياً ) وتدور المذابح وتسيل الدماء ولكن بعد مقتل الزير وجساس يجتمع رأي القبيلة على لسان ( مرة ) شيخها على تنصيب (هجرس) ابن كليب ملكاً لأنه يحمل دم كليب ودم عمه الزير سالم وأمه جليله وخاله جساس فعنده اجتمعت دماء القبيلتين المتصارعتين لذلك فهو أهل للجلوس على العرش حقناً للدماء . وهو أسلوب يرفضه هجرس دون أن يفهم أبعاد الصراع . ولقد أراد ألفريد فرج أن يسوغ لفكرة التحالف في أسلوب الحكم ، وقد كانت وليدة في فكر الثورة المصرية آنذاك حيث الدعوة الحارة ( لتحالف قوى الشعب العامل ) وهي دعوة تلفيقية لأن التحالف لم يكن بين كيانات حزبية لكل منها فلسفة وبرامج ولم يحدث التحالف وفق حوار نقدي يجري بين أحزاب وإنما المسألة عبارة عن نماذج طبقية جمعت جمعاً تعسفياً فنأت التجربة بذلك عن فكرة التحالف (التوفيقي) ووقعت في براثن التلفيقية مع أن لفتة ألفريد فرج إلى رفض هجرس تولي العرش دون أن يكشف له عن أسباب الصراع كانت محاولة منه إلى الإشارة إلى أن التحالف تم بعد كشف أسباب الصراع ليضفي على الفكرة التلفيقية التي انبنى عليها جلوس هجرس على العرش صفة التوفيقية عبثاً .
وهو قد أدرك أنه كان تلفيقياً في محاولته كسب التأييد لفكرة تحالف قوى الشعب العامل المصرية بعد ذلك فكتب مسرحية ( جواز على ورقة طلاق ) وفيها يؤكد استحالة التزاوج بين الطبقات ، تلك التي تبناها في مسرحية ( الزير سالم ) .
وكتب ألفريد فرج رائعته المسرحية ( علي جناح التبريزي وتابعه قفه ) مروجاً أيضاً لفكرة التأميم التي أقدمت عليها ثورة يوليو كخطوة حتمية أولى نحو بناء النظام الاشتراكي وفق تصوراتها ، وإن كانت قد توقفت عند فكرة التأميم ولم تتخطاها مما وضع تجربتها في دائرة ( نظام رأسمالية الدولة ) دون أي ادعاء بأن نظامها قد كان نظاماً اشتراكياً . وفي المسرحية يوزع شخص غني نبيل ما ورثه عن أبيه على الفقراء ويدور في بلاد العالم ليحتال على الأغنياء والحكام ويستولي على أموالهم وكنوزهم ويعيد توزيعها على الفقراء الذين لا عمل لهم موهماً التجار والأغنياء والملوك بأن له قافلة كبيرة سوف تصل وعندئذ سيرد لهم ما حصل عليه منهم أضعافاً مضاعفة . وهؤلاء وأولئك لطبيعتهم الجشعة ولطمعهم يأملون في الحصول على المزيد من المال والغنى فيصدقونه ويعطونه طائعين مفاتيح خزائنهم وعناصر تجارتهم فيوزعها على الشحاذين والمعدمين الخاملين الذين لا عمل لهم ولا دور لأحد منهم في دورة الإنتاج التي تحقق الوفرة وتشكل الطرف الأول من معادلة مجتمع ( العدالة الاجتماعية ، والرفاهية ) .
والمسرحية ترسخ فكرة البعد الواحدي لحركة التاريخ فهذا الشخص ذو السمات الكريزمية هو الذي يغير بمفرده مصائر البلاد وأحوال ناسها . وهذا ممالئ لفكر ثورة يوليو وتوجهاتها نحو التأميمات . غير أن سمات فكرة الاشتراكية الطوباوية واضحة في تلك المسرحية وهي كمسرحية شوقي عبد الحكيم (الملك معروف ) التي يوزع فيها الملك كل ما يملك على شعبه الخامل الذي لا دور له في حركة الإنتاج وعندما لا يتبقى في المملكة شيء ليوزع على أحد يخرج الملك معروف وشعبه زاحفين نحو مملكة ( العون ) المجاورة ليتسولوا جميعاً قوت يومهم . فكلتا المسرحيتين تنتقضان الفكر الاشتراكي الطوباوي .ولو أعدنا قراءة مسرحية توفيق الحكيم ( مجلس العدل ) لوجدناه يعري فكرة التأميم حيث (الفران) المكلف بإنضاج رأس مال رجل ما (صاحب الأوزة ) فإذا به يستولي عليها يؤممها لصالح القاضي (الحاكم ) الذي يتخذه صديقاً وعندما يحضر صاحبها يحكم عليه بغرامة وتتوالى نماذج التحالف ( فلاح - واعظ " مثقف " - صرماتي " عامل متدني") فيحكم عليها القاضي بغرامة .
فالمسرحية أشبه بالتحالف الذي يضم ( الفلاح والمثقف والعامل والمؤمم والقاضي حاكم فوق هؤلاء جميعاً). وتلك وقفة نقدية لفكرة التأميم ولفكرة التحالف .
ولو تأملنا المشهد الأول من ( مأساة الحلاج ) لصلاح عبد الصبور سنجد شكلاً من أشكال التحالف الشكلي لعناصر أو نماذج طبقية لا تأتلف . وتحضرني هنا مناقشة تمت بيني وبين الشاعر العربي " شوقي عبد الأمير " في ( ندوة صلاح عبد الصبور ) التي عقدت (بالمجلس الأعلى للثقافة في أوائل 2002 ) وقد طرح تساؤلاً حول توقفه عند حلاج عبد الصبور ، ذلك التساؤل الذي عبر به شوقي عبد الأمير عن حيرته أمام هذا النص مما جعله يتساءل بصيغة تعاكسية واحدة :
" أين ينتهي الحلاج ليبدأ صلاح عبد الصبور ؟ وأين ينتهي صلاح ليبدأ الحلاج ؟ "
فكانت مداخلتي تقوم على أن الحلاج لم يمثل في المسرحية في مفتتحها ، كما لم يمثل في نهايتها لسببين : أحدهما خاص بالشكل - حيث يصوغها الشاعر المسرحي وفق دائرية الأسلوب ، إذ تبدأ المسرحية بالحلاج مصلوباً وعند قدميه فقراء الناس من الحرفيين وحثالتهم ، أولئك الذين سلموه للسلطة نظير " دينار من ذهب قان" وانتهت المسرحية كما بدأت وهي في ذلك تتقارب أسلوباً مع (بيكيت ) جان أنوي .
أما السبب الثاني فهو خاص بالفكر في هذه المسرحية .. فالحلاج ثوري فاقد لثوريته (مصلوباً في ساحة الكرخ ) وتحت قدميه حرفيو البلاد وحثالتهم باكين ندماً على ما فعلوه به إذ سلموه للسلطة وهو طليعتهم -وهذا شبيه بطليعة الحركة العمالية واليسارية المصرية التي تم اعتقالها من قبل ثورة يوليو في نهاية الخمسينيات ومع توجه الثورة المزعوم نحو ما زعمت أنه الاشتراكية -
وفي المشهد الافتتاحي للحلاج في مقابل الثوري المصلوب والحرفيين نجد رموز الطبقات الاجتماعية المصرية لا البغدادية ( الواعظ - التاجر - الفلاح ) فالتاجر ممثل الطبقة الرأسمالية العليا والواعظ ممثل المثقفين ( مثقف الطبقة العليا أيضاً ) والفلاح ممثل البرجوازية الصغيرة .
وفي رأيي أن صلاح عبد الصبور يجمع بين نماذج تحالف قوى الشعب العامل في تجربة مصر الستينية (رأسمالية وطنية - مثقفين - عمال - فلاحين ) يجمعهم في مشهد واحد أو شكل أو إطار هو سياسي حزبي على مستوى واقع ستينيات حركة يوليو التي أذاع لسانها أنها مباركة يجمعهم جمعاً تلفيقياً (مجموعة باكية مهمومة - مجموعة ضاحكة صاخبة مخمورة ) ولا اهتم بما إذا كان توفيق الحكيم أو صلاح عبد الصبور قد قصداً ذلك أم لا ؛ فالناقد واجد واصف فمقوّم لما يصف وفق نظريات يستدعيها الإبداع .
وخلاصة الرأي عندي أن صلاح عبد الصبور قد سكن الحلاج أكثر مما سكنه الحلاج . وقد سكنهما معاً فعل نظام حركة يوليو دون أن يرضى عبد الصبور أو النظام عن تلك السكنى .
لاشك أن إيقاع الفكر السائد في المجتمع يؤثر على الكاتب المسرحي فلقد ساد المجتمع إيقاع الفكر التلفيقي الذي تمثل تجسيداً سياسياً فيما عرف بنظام تحالف قوى الشعب العامل - الذي ضم عينات من العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسماليين وهذا التلفيق العلوي لنماذج متضاربة المصالح والأهداف من بين الطبقات في مصر الستينيات فرض نفسه فرضاً على إيقاع مجتمعنا المصري ، ومن ثم فرض نفسه على الكثيرين من كتابنا ومبدعينا ومفكرينا ، فلقد تأثر يوسف إدريس في قصصه وفي مسرحه وظهر ذلك في باكورة أعماله القصصية التي أصبحت باكورة مسرحياته وهي ( جمهورية فرحات ) حيث تناول فيها فكرة الاشتراكية الفابية ( نسبة إلى فابيوس القائد الروماني الذي خطط للتصدي لاكتساح هانيبال للإمبراطورية الرومانية وإلحاق الهزائم المتكررة بها فرأى فابيوس أن يترك جيوش هانبيال تتقدم نحو روما عبر الجبال والوهاد فينال منها التعب الكثير وتعمل القوات الخاصة على مهاجمة تخوم فيالق جيش قرطاجنة تحت قيادة هانيبال ، في حين يدخر فابيوس كل قواه ويحشدها على أبواب روما قوية عفية مستعدة للمعركة الفاصلة بين جيوش قرطاجنة المنهكة والمتراخية وجيوش روما بقيادة فابيوس وبذلك حقق النصر عن طريق معارك فدائية متفرقة يعقبها بالمعركة النهائية الحاسمة وبذلك حقق فابيوس هدفه الاستراتيجي مسبوقاً بتحقيق أهداف مرحلية. ولقد رأى بعض مفكري إنجلترا ومنهم الكاتب المسرحي المفكر جورج برنارد شو تكوين الجمعية الفابية التي تستهدف تحقيق التحول الاشتراكي في المجتمع الإنجليزي على مراحل - تماماً كما فعل فابيوس في مواجهته لهانيبال - تمهيداً لتحقيق النصر النهائي ) .
ولقد اتبع يوسف إدريس التكنيك نفسه في تحقيق الصول فرحات لليوتوبيا ( دولة العدالة حيث يحصل كل من فيها على قدر حاجة جنباً إلى جنب مع تحقيق الوفرة الإنتاجية ففرحات يحلم بتحقيق المدينة الفاضلة على مراحل متقطعة ويتداخل مع حلمه عرض لقضايا السلوك الاجتماعي في الدولة البرجوازية من قضايا ضرب ونهب وسرقة وسب وما يحيا فيه مجتمع البرجوازية الصغيرة وحثالة الطبقة العاملة غير أنه يجمدها واحدة وراء الأخرى ليستكمل حلمه مرحلياً وصولاً إلى المدينة الفاضلة التي يتخيلها ويسرد خطوات تحقيقها في حلم يقظته على معتقل سياسي يساري يدعى محمد لا يكتشف أنه معتقل سياسي إلاّ بعد أن يفرغ من إتمام حلم اليقظة بمدينة فاضلة عادلة . ولاشك أن نهاية مسرحية ( جمهورية فرحات) تنطوي على نقد لسلوك ثورة يوليو. إذ كانت - وقتذاك - تنادي بتطبيق عربي للاشتراكية وهي تعتقل المفكرين الاشتراكيين . ولم تتعرض هذه المسرحية مع ذلك للمصادرة بل تم عرضها على الجمهور ولا أدري هل كان ذلك لعدم إدراك الجهات الرقابية لمحتواها النقدي الذي تبلور في النهاية أم بسبب صحوة تنوير تلامست مع التوجهات الرقابية - آنذاك - .
وتأثر نجيب سرور في شعره وفي مسرحه بالثورة وبرحلة الخلاص الوطني على المستويين الاجتماعي والاقتصادي فكتب :
ياسين وبهية ليكشف عن فشل فكرة المخلص الغائب وكتب آه ياليل يا قمر - قولوا لعين الشمس - حيث عنى بتسجيل مدى التحالف النضالي وتواصله بين ( الفلاح )أو نموذجه في(ياسين وبهية ) وبين العامل أو نموذجه في ( آه ياليل يا قمر ) وبن الجندي عطية الذي تعاطف مع أم بهية ومه بهية في نهاية (آه يا ليل يا قمر ) والذي ارتبط ببهية ( الوطن/الرمز) في نص ( قولوا لعين الشمس ) :
عسكري 4 : أنا عايز مصلحتكم
عندي سر يهمكم
بهية : سر إيه ؟
الأم : قوله يابني
عسكري 4 : بس لو عرفوا إني قلته .. يجلدوني
الأم : قوله يابني .. فك عن نفسك وقول . دانا زي أمك تمام
عسكري 4 : الليلادي هايدفنوهم . بس مش هايطلعوهم من هنا إنما من باب ورا ..
أوعي ياامه السر ده .. يطلع لحد " (1)
فهذه المحاولات الثلاث - كما نرى - محاولات توفيقية - من حيث الشكل - بين فكرة واحدة وهي فكرة ( الخلاص ) عن طريق النضال الفردي وروح الفردية في الريف وعن طريق الجماعات وروح التشرذم - وهي روح فردية في مضمونها - وفي المدن أو التحالفات الآنية ضد المحتل . ثم عن طريق الجيش حيث الفرد القائد يأمر فيطاع . العمل الجماعي شكلاً ، ولكنه فردي مضموناً . جماعة ساعية للعمل دافعها إرادة فردية ديكتاتورية . وربما فسر ذلك بأنه جعل نهاية ( ياسين وبهية ) هي بداية ( آه يا ليل يا قمر) فالجديد ينبع من القديم حقاً كما هو معلوم في القانون الطبيعي لذلك فمراحل النضال من أجل الخلاص متصلة ونابعة من بعضها.
ومن الملاحظ أن ثلاثية نجيب سرور المسرحية تلك منقادة بالتحولات الاجتماعية بمعنى أن إيقاع الفكر السياسي الاجتماعي لثورة يوليو وتحولاتها هو الذي يقود إيقاع ذات الفنان وليس العكس فالأعمال تسجل رحلة الخلاص الوطني من الاستغلال والقهر ببطل مخلص غائب ثم بحركة تحالف فلاحية عمالية باعتبار أن تاريخ الحركة العمالية بدأ مع عمّال محالج القطن وهي صناعة رأسمالية ريفية ولما تفشل يتسلمها العسكرتارية حيث يتزوج عطية (العسكري ) من بهية بعد مقتل أمين الذي يتمثل فيه العنصر الريفي والعنصر العمالي معاً .
وليس في الثلاثية استشفاف مستقبلي ، إنما هو الماضي يعاد رسم صورة له ، يستحضر مجسداً بالسرد والرواية والمباشرة لذا فهو أقرب إلى المنحى التعليمي ، وربما عبّر جلال العشري عن ذلك حيث اعتبر الثلاثية ( وثيقة تاريخية بل وثيقة نفسية واجتماعية وإنسانية)(2)
وأخلص مما تقدم إلى أن ذات نجيب سرور كانت ذاتاً وسطية ، لأنه وفق بين عمل الشاعر والكاتب المسرحي وعمل المؤرخ . لأنه تقيد بوظيفتين ( التأريخ والاستشفاف) قيد واقعي تاريخي أو شبيهه مع تحليق فهو مقيد محلق في آن واحد .
وربما كان مرجع ذلك هو المحيط الاجتماعي وإيقاعه العام الذي ربط الشاعر نفسه به في الثلاثية . حيث تجري تحولات اجتماعية عظمى وقتذاك رأى نجيب سرور أن يسجل نضال الطبقات الكادحة المصرية في تاريخ التحولات الاجتماعية والسياسية على عكس الذي رآه يوسف السباعي الذي سجل دور ضباط ثورة يوليو في إجراء التحولات الاجتماعية والسياسية . وسرور متقارب في ذلك - وإلى حد ما - مع سعد الدين وهبة الذي سجل في مسرحه مراحل القهر التي مرت بها الطبقات المصرية الكادحة خاصة في الريف المصري وإن نحا نجيب سرور نحو المباشرة في سخريته من الإقطاع في ياسين وبهية وسخريته من المحتل والحكومة في نص آه يا ليل يا قمر :
" بهية : ينتقم لك ربنا يا أبو العيال
عسكري 4 : وانتي رخره ما تشتميش
بهية : أنا بادعي ع اللي يتم لي العيال
عسكري 4 : تبقي برضو بتشتمي .. الدعا زي الشتيمة
بهية : وانت مالك . ياطويش ؟
عسكري 4 : أنا مالي إزاي يا ست . وانتي بتسبي الحكومة " (3)
الخلاص إذن هو محور الثلاثية أما المسرحية الرابعة ( منين أجيب ناس ) فهي تكشف عن سبب عدم تحقيق الشعب المصري لأهدافه في الخلاص ذلك لأنه ( لا يوجد ناس) والخلاص لن يتحقق أبداً إذ أن ياسين مخلص بهية في نصه الأول يحمل عبء خلاصها وهو لا يعدو أن يكون فرداً وهي رمز لمصر - طبقاتها الشعبية - بدليل أنها ثابتة لا تتغير من مسرحية إلى أخرى بينما يتغير المخلص ( مين في آه يا ليل يا قمر ) وعطية في ( قولوا لعين الشمس) رمز العسكرتارية . ومن مرحلة النضال الفردي إلى مرحلة النضال شبه الجماعي المسلح إلى النضال بالعسكر ومع ذلك لا خلاص لبهية الوطن ذلك أنه ( لا ناس) ومعنى ذلك إلغاء لكل أطروحات الخلاص الثلاث السابقة .
أما سعد الدين وهبة فقد كرس بدايات مسرحه لقضايا المجتمع وللفساد السياسي والاجتماعي وآثاره السلبية على الطبقات الدنيا وخاصة في الريف المصري فكتب (المحروسة - كوبري الناموس - السبنسة - كفر البطيخ ) وانشغل في المرحلة التالية على بداياته المسرحية بنقد تجربة الثورة في مسرحيات ( المسامير - سكة السلامة - يا سلام سلّم الحيطة بتتكلم - ومجموعة مسرحياته القصيرة: الوزير شال التلاجة وغيرها )
واهتم نعمان عاشور بقضية الحراك الاجتماعي قبل الثورة وتفاعلاته المرهصة بقدوم الثورة في ( الناس اللي تحت ) وفي ( الناس اللي فوق ) وتفاعل مع قضايا المجتمع في عهد الثورة فكتب ( برج المدابغ ) وكتب (عيلة الدوغري ) حول صراع الأجيال حول تقسيم الموروث وإن كان قد اقتبس فكرتها من (بستان الكرز ) لتشيكوف .
وفي حين تناول محمود دياب مجتمع الريف في سمره وفي تداوله لقضاياه ومشكلاته ( ليالي الحصاد ) وعرّج على القضية الوطنية والقومية في ( باب الفتوح ) وفي ( رسول من قرية تميرة للسؤال عن الحرب والسلام ) و ( أهل الكهف 80 )
كتب عبد الرحمن الشرقاوي للمسرح الشعري ( الفتى مهران ) معبراً عن روح التمرد الثوري وكتب (النسر الأحمر ) وكتب حول كفاح الشعب الفلسطيني ( وطني عكا ) وكتب ( عرابي زعيم الفلاحين ) في أيام السادات حتى أنها عرضت بميدان قصر عابدين بإخراج أحمد زكي بناء على طلب السادات نفسه.
ولأن المسرح يقوم على ربط الفكر بالحياة مهما كان مجرداً كما يقوم على كشف القيم الضرورية لإنقاذ الأرواح وتعميق وعينا بالواجب ، لذلك فإن الحماس بوصفه عاطفة لا يغيب مطلقاً عن الإبداع المسرحي كتابة أو عرضاً أو إنتاجاً أو نقداً ؛ فالحماس والفكر لا يفترقان في مجال المسرح . ولأن التجربة المسرحية لا تكتمل دون حركة نقدية نشطة لذلك شهدت مصر الثورة حركة نقدية في المسرح وعلى وجه الخصوص في نقد نصوصه . من هنا ثارت القضايا بين النقاد حول كتابات المبدعين المسرحيين المصري منها والعالمي فنشط ذلك كل من محمد مندور ولويس عوض ورشاد رشدي ورجاء النقاش وبهاء طاهر وفؤاد دواره وجلال ا لعشري وفتحي العشري ورشدي صالح وأحمد عباس صالح ومحمود أمين العالم وفريدة النقاش . وفاروق عبد القادر وسمير سرحان ومحمد عناني ولويس مرقص ولطيفة الزيّات وفاطمة موسى وشفيق مقار ونسيم مجلي وأمير سلامه وغيرهم وغيرهم . فاشتعلت المعارك النقدية بين الكتاب والمخرجين وبين الكتاب والمخرجين والنقاد وبن النقاد والنقاد ؛ ويكفي أن نقف في هذا الحيز عند قضية أو قضيتين نقديتين لندرك ضراوة تلك المعارك النقدية وجدواها في إزكاء حركة المسرح أدباً وعرضاً .

ارتباك العلاقة بين المؤلف ومخرج نصه :

ولعل أول القضايا التي أود الوقوف عندها هي القضية التي ثارت بين مؤلف مسرحي هو (يوسف إدريس ) ومخرج مسرحي هو ( سعد أردش ) حيث اضطلع الثاني بإخراج مسرحية الأول وهي (الجنس الثالث ) من إنتاج المسرح القومي وعند مشاهدة المؤلف لعرض مسرحيته تلك أرْبَدَ و أزْبَدَ ولجأ إلى تقطيع أوصال نصه وإلصاقه على جدران المسرح القومي وسوره الخارجي صفحة صفحة ، محتجاً بأن سعد أردش قد ارتبك في فهم نصه ذاك ، محتجاً بأن سعد أخرج النص إخراجاً قائماً على الإيهام في حين أن النص - كما يزعم يوسف إدريس نص يقوم على التغريب لا الإيهام ؛ ذلك لما رأى المخرج أردش يجسد مشهد لقاء البطل ( عبد الرحمن أبو زهرة ) بشخصية أخرى هي ( عشماوي ) في ميدان العتبة في السابعة من مساء اليوم المحدد مستخدماً الإضاءة الإيهامية ( ألترا فايلوت) التي تنعكس على معطف الدكتور ( أبو زهرة ) وهو يصعد درجاً أو مدرجاً مظلماً في عتمة تامة حتى لا تظهر سوى الألوان البيضاء أو الفسفورية وهي ألوان ملابس ( البطل الدكتور العالم ) فيبدو وفق الحركة الانسيابية التي رسمها له المخرج كما لو كان يطير نحو الفضاء وذلك بحق تجسيد إيهامي كما قال المؤلف يوسف إدريس لكن هل نص يوسف إدريس نص تغريبي حقاً حتى يمكن القول إن سعد أردش عندما جسده وفق عناصر إيهامية قد ارتبك في التصور أو الفهم؟! واقع الأمر .. لم يكن النص ملحمياً ولا صلة له البتة بنظرية التغريب الملحمية ! لأن الحدث انبنى على الإيهام حيث عالم في معمله لا يعطيه جهاز الحاسب الآلي في كل التجارب التي يجريها إلاّ نتيجة واحدة وهي رقم سبعة (4) حتى أنه يحدد له السابعة من مساء اليوم السابع ( الجمعة ) بميدان العتبة ليلتقي بعشماوي الذي ينقله إلى صحراء وسور كبير خلف أبوابه ( هي ) التي يناديها عشماوي فتفتح له ليدخل العالم بستاناً شاسعاً تتحول فيه الأشجار إلى نساء فاتنات راقصات ( وهو استلهام من رسالة الغفران ) للمعري وارتباط رقم سبعة بوجداننا وتراثنا الديني معلوم وارتباط اسم عشماوي بمنفذ أحكام الإعدام في حياتنا المصرية المعاصرة معلوم وسور البستان وارتباط دخوله بشخصية رضوان في تراثنا الديني معلوم وانقلاب أشجار الرمان والفاكهة إلى فتيات حسان وحور عين معلوم من ثقافتنا الدينية وقصة الإسراء والمعراج واستلهامها أدبياً (رسالة الغفران ) ثم ( الكوميديا الإلهية ) لدانتي ومن قبلها (التوابع والزوابع ) لابن شهيد الأندلسي . إذن فالحدث في مسرحية ( الجنس الثالث ) حدث إيهامي البناء والعناصر والتقنيات وتأسيساً على ذلك كان فهم المخرج سعد أردش ومن هنا يتضح لنا أن ارتباك في تعقيب يوسف إدريس الإنتقادي وليس النقدي هو الذي أثار تلك القضية المفتعلة .
ارتباك النقد المنطلق من نظرية لا تطابق النص المسرحي
أما القضية الثانية فهي موقف الناقد د. أحمد شمس الدين الحجاجي النقدي من نص مسرحية ألفريد فرج ( الزير سالم ) التي تناول فيها قصة ( المهلهل بن ربيعة ) التي التقطها من كتب السيرة وصاغها وفق المنهج المسرحي الملحمي ، تحت عنوان ( الزير سالم ) فصدمت إعادة كتابته لتلك السيرة في أسلوب مسرحي أحد النقاد الباحثين وهو د. أحمد شمس الدين الحجاجي فعبر عن عدم رضائه عن شكل تناوله للسيرة الشعبية .
إلاّ أنني على الرغم مما قاله عن ألفريد فرج من أنه قد"وضع أكفانا جديدة حول
السيرة " (5) أرى أن ألفريد فرج قد تمثل الاتجاه المسرحي الملحمي خير تمثل ، على الرغم من اعتراض د .حجاجي من أن " هؤلاء الكتّاب المسرحيين الذين تمثلهم كاتب السيرة لم يستطع أن يتفوق عليهم أو يحتويهم وإنما النقيض من ذلك ، لقد تفوقوا عليه " وكأن التفوق هو المطلوب مجرداً . كانت أمامه نماذج مسرحية سابقة يحاول تقليدها أو السير على هديها مما أفقد العمل بعض أصالته " يقصد ( السيرة ) ذاتها . وكأن التراث حين يستلهم مقصود به إلى ذاته . فالكاتب حين يعوّل على التراث فإنه في الحقيقة يعيد صياغة الحدث إسقاطاً على الحاضر المعيش ؛ بهدف التأثير به على الحاضر نفسه ، واستشفاف المستقبل .
إن الحادثة التاريخية المستلهمة من التراث لا تشكل سوى وسيلة يفاد بها في الحاضر المعيش. يقول د.عز الدين إسماعيل : " إن كل عودة إلى التراث تحمل منظوراً مغايراً، يعدّل اتجاه الماضي ويسهم في إضافة بعد تفسيري من صنع الحاضر نفسه " (6)
على أن كل ما يهمنا مما كتب د. الحجاجي في دراسته تلك ، هو قوله : " إن ألفريد استلهم التراث بطريقة بريختية فلم يخدم التراث وإنه في طريقته تلك قد بنى المسرحية حول استرجاع الماضي محاولاً بذلك أن يحوي السيرة كاملة وأن يجعلنا نعيش في جوها بالطريقة السردية للأحداث غير المترابطة "
وهذا الذي يقوله د. الحجاجي من خواص المسرح الملحمي الذي يعد المؤلف أحد المتأثرين به في الوطن العربي . وإنه انطلاقاً من هذا الفهم ، حين استلهم المؤلف التراث الشعبي أراد أن يحمله منظوراً مغايراً ويضيف بعداً تفسيرياً للحادثة التاريخية أو اللقطة التراثية كشفاً عن تناقضاتها . من هنا اختلفت الفكرة وإيقاعها في المسرحية عنها في السيرة الشعبية المستلهمة . وكلمة استلهام التي يرددها الناقد تعني ذلك بالضرورة . يقول " وإذا كانت فكرة العدل قد وضحت في السيرة أكثر من وضوحها في المسرحية ، فإن فكرة الحقيقة تاهت وسط دروب فلسفية أراد المؤلف أن يحوطها بها " .
ولما كان ألفريد فرج - هنا - ساعياً إلى كشف طبيعة العلاقات وطبيعة الأفكار من خلال الحياة اليومية البشرية للشخوص المكونين للحدث أو للحادثة التاريخية ، فإنه يستعرض الأفكار التي تبنتها الشخصية المتصارعة دون أن يبرز فكرته من وراء ذلك إلاّ في نهاية ( الحدوتة ) التي جعلها افتتاحية لمسرحيته تلك وفق تقنية دائرية الأسلوب . وفي هذا تأكيد لخواص الدراما حيث يبدأ الحدث حينما تنتهي ( الحدوتة ) . وبالنظر إلى مسرحية (أوديب) وتقنية كتابتها ندرك صحة ذلك .
وبالمثل تبدأ مسرحية ( الزير سالم ) حينما انتهت ( حدوته الثأر بين بكر وتغلب ) :
" مرة : الآن يا ولدي . حضر أمراء بكر وأمراء تغلب
وتصالحت القبيلتان على مبايعتك والولاء لك .. " (7)
فهذه كما قلت بداية درامية ، حيث تبدأ المسرحية بعد انتهاء القصة . ولكن أسلوب الكاتب كان أسلوباً ملحمياً ، لذلك عليه أن يغير النمط الإيقاعي الذي يناسب الدراما في شكلها الأرسطي ليرسخ نمطاً إيقاعياً آخر يلائم الدراما الملحمية ، حيث يضع المتلقي في وضع يؤهله للحكم على ما عرض أمامه عن طريق تجميع خيوط الحدث وملابساته وطبيعة الصراع والمتصارعين ، والقضية المتصارع عليها ، وعليه أن يظل محايدا حتى النهاية ، وعندها أو بعدها يضع رأيه محدداً - يقرر بينه وبين نفسه إلى أي المواقف ينحاز - لذلك فإن .. ( ألفريد فرج ) يبدأ بعد النهاية في كشف طبيعة صراع جديد ترتب على النهاية التي سبقت هذه البداية ، مستخدماً أسلوب البناء الدائري للحدث :
" جليلة : ( تلمسه بحنان ) ولدي .
هجرس : ( يشيح عنها ويبتعد خطوة )
مرة : ( مسترسلاً ) بكوني سيد قبيلة بكر ؛ وجدك لأمك جليلة ؛ وعم أبيك الراحل كليب سيد قبيلة تغلب وملك جميع العرب القيسيين ، بكريين وتغلبيين .. سأجهر بالمبايعة - وعندئذٍ تدق الطبول ، ويرفع فرسان القبيلتين السيوف حتى تتلامس أطرافها في ود لأول مرة منذ سبعة عشر عاماً إكراماً لموكبك وأنت تتقدم إلى عرش أبيك ، عرش جدك ربيعة أخي ، لتتخذه كرسي مملكتك ، إيذاناً بأن أعمامك التغلبيين وأخوالك البكريين ارتضوا أن يكونوا لأوامرك طائعين ، ولأحكامك خاضعين . تقدم يا ولدي .
جليلة : ( بحنان ) تقدم
هجرس : ( بانفعال مكظوم ) لا أريد هذا العرش يا أمي .
جليلة : آه .
هجرس : ( بانفعال مكظوم ) بتّ طول الليل أفكر . ( يصيح ) عرش على بحيرة دم .
العرش .. ولا أعرف حتى لماذا قتل خالي جساس ابن عمه الملك وأبي .. أو لماذا انتقم منه عمي الأمير سالم بهذه المقتلة الفظيعة .
جليلة : لا تلق أسئلة تستنفر الأحقاد
هجرس :إنما أسأل لأفرغ الصدور من الأحقاد
جليلة : عادة غير ملكية . الملوك لا يطرحون الأسئلة يا ولدي ، بل يجيبون عليها .
أسماء : ارتق العرش وأنت مغمض العينين . كن ملكاً جيداً .
( تضحك في تهكم صاخب ) " (8)
ولأن المؤلف هنا لا يؤمن بثبات الظاهرة ، على أساس أن كل ما في الوجود في حركة مستمرة ولا ثبات لشيء ؛ لذلك فإن ما كان معتاداً يجب أن ينظر إليه على أنه غريب ، وغير طبيعي عند صاحب النظرة الديالكتيكية ( الجدلية المادية ) . من هنا جعل ألفريد فرج لشخصية ( هجرس ) نمطاً إيقاعياً مغايراً لنمطي إيقاع ( جليلة ) أمه و ( مرة ) جده لأنهما مع العادة :
" جليلة : مشينا سكة طويلة إلى هذه المصالحة يا ولدي أما العرش أو استئناف الحرب
هجرس : ( يلمس العرش ) أيها العرش . أيها الفخ . يا قدري . أيها القبر . "
ولقد اختلف إيقاع فكر الشخصيات وإيقاعات القيم في المسرحية عنها في السيرة ، وهذا راجع لطبيعتين: طبيعة إيقاع ذات الفنان الكاتب ، وطبيعة المحيط البيئي المتلقي . من هنا اختل توازن إيقاع الفكرة في المسرحية عنها في السيرة - من جهة نظر د. حجاجي - فالزير سالم " يريد العدالة الكاملة ، فلقد كان عربيداً في الفكر لا يطلب إلاّ الحقيقة الكاملة . العدالة الحق ، جوهر العدل ، وخلاصته النيرة فما دام كليب قد مات غدراً وغيلة فليعد كامل الحياة "(9)
ونحن لذلك لا نوجه اللوم للمؤلف كما فعل د. حجاجي حين قال : " في ثنايا المسرحية لا نشعر بأن الزير طالب حقيقة .. فالحقيقة لم تكن ضالة لحظة من اللحظات "
ونحن نقول نعم لما قاله د. حجاجي ، ولكنه لتطرف الزير لم يرها مع أنه يطلبها . والمؤلف بحكم رؤاه المؤسسة على الجدل المادي والتاريخي ، من حقه أن يصور لنا الحادثة بهذا الشكل بحيث يكشف لنا عن أهداف الشخصية الرئيسية وموقفها المتطرف غير الريادي ، في الوقت الذي كان يجب عليها ؛ وزمام الأمر بيدها أن تتعامل طلباً لتحقيق فكرة محددة ، فإذا بها ترفض أن تبدأ من حيث انتهى إليه واقع الأمر . ولكنها تتطرف طلباً لتحقيق فكرة مستحيلة مع كونها عادلة . من هنا انحرفت عن الطريق الواقعية المؤدية إلى العدل - نسبياً - وليس مطلقاً .
فكأن المؤلف أراد أن يوصلنا إلى أن التطرف في طلب الحق يؤدي إلى ضياع الحق ، لأنه عندما تطرف ضاع منه التحقق ومن ثم ضاع الحق . وهذا موقف فيه غرابة ، سلكته الشخصية لأنها رسمت شخصية ملحمية ، ما تطلبه فيه غرابة ودهشة ، وليس شيئاً عادياً .
لقد أثارت هذه الغرابة في موقف الزير الباحث الدكتور حجاجي ولم يقنعه " إذا كان الكاتب في مقدمه يرى أن الحقيقة الكاملة التي يريدها الزير سالم هي عودة أخيه فنحن لم نقتنع بهذا "
والمؤلف حقيقة لم يتوقف عند ما يريده " الزير " ليؤكد فحسب حقه وعدالة موقفه ، كما زعم أو أوحى بذلك فهم الناقد ، ولكنه قال في مقدمة المسرحية تعليقاً على قول الزير : " كليب حياً ، لا مزيد " فعلق ألفريد " طلب مضحك ومؤس ، إلاّ أن ظاهره عدل ، ولعل باطنه عدل كذلك . عدل لا معقول ، إلاّ أنه عدل ، كما أنه لا معقول " .
إذن فألفريد فرج لم يطلب من المتلقي أن يقتنع لأن ألفريد نفسه لم يكن يقتنع بهذا الطلب ، فهو يراه مع عدالته يتطلب معجزة ، بمعنى أنه ممتنع . من هنا وجد فيه غرابة ، وهي وسيلة من وسائل المسرح الملحمي في تصوير الحادثة ، انتفع بها ألفريد ولم يدركها الناقد .
أما قول حجاجي : " فلا نتصور أن تكون فكرة عودة كليب حياً هي الحقيقة التي يريدها الزير.إنها ليست حقيقة الواقع ولا الفلسفة ولا الفن .. وهي ليست حقيقة على الإطلاق "
فمن المدهش حقاً أن هذا هو بعينه الذي لا يؤدي إلاّ إلى ما يراه ألفريد فرج نفسه : ( إن ما يرى الزير أنه الحقيقة ليس حقيقة من أي نوع . ذلك لأنه التطرف الذي لا يؤدي إلى أي شيء.
إذن فقد نجح ألفريد فرج في تصوير غرابة الطلب مع عدالته - الممكن والمستحيل معاً - السهل واللاسهل ، الحق واللاحق . وهذا نوع من التصوير المغرّب ، الذي يجعل المتلقي يقترب من الحدث المصور، ويبتعد عنه في الوقت نفسه . بينه وبين الحدث مسافة ، وصولاً إلى أن الحقيقة - منذ البداية - نسبية .
وهذا النوع من التصوير كما قلنا أحد عناصر الدراما الملحمية الرئيسية - إن لم يكن العنصر الأساسي (عنصر التغريب ) .
ومن الغريب حقاً أن يرى د, حجاجي في ذلك التصوير تناقضاً : " والتناقض بين الفكر والحدث لم يؤثر فقط في فكرة المؤلف وإنما يؤثر أيضاً في بناء المسرحية وأشخاصها "
وذلك دون أن يلمح القصد من وراء ذلك : فالفكرة : (طلب العدل والحق كاملين) هي فكرة (الزير) وليست فكرة ألفريد فرج . والفعل (الحدث) كان متطرفاً وصولاً إلى تحقيق تلك الفكرة المستحيلة ، من هنا ظهر التناقض بين فكرة الشخصية وبين فعلها - ومن ثم أثر ذلك في سير الأحداث وأشخاصها عند إعادة تصوير ألفريد لهم تصويراً حداثياً .
ولكشف ذلك التناقض كان على المؤلف أن يتبع تقنيات ( تجاور الأحداث ) لا تقنيات تتابعها وتواليها المنطقي. وهذه أيضاً خاصية من خواص الدراما الملحمية .
ومعنى ذلك أن ألفريد لم يكن مرتبكاً في بنائه للأحداث على طريقة التجاور ، في حين ارتبك فهم الناقد فطالبه ببناء غير متجاور ( منطقي التصاعد ) إذ بنى نقده على أساس مقاييس الدراما الأرسطية . ومن الغريب حقاً أن الناقد قد أراد أن يخرج ألفريد من ورطته - حسب قوله - فهو عنده متهم :
" وإذا حاولنا أن نبرئ المؤلف من وضع أكفان جديدة حول السيرة ، فإن علينا أن نتناول رؤاه لها " فالكاتب في المقدمة رأى في السيرة جوانبها الثلاثة " العدالة والحقيقة والزمن " فهو يرى في الزير " طالب عدل لا معقول " يرفض الصلح إلاّ بشرط وحيد مستحيل هو " عودة كليب حياً " وهذا في رأيي يدعو للدهشة وللتفكير والمشاركة في تبين الأمر جلياً . وهذا هدف للمسرح الملحمي .. غاب عن الناقد!!
أما فكرة العدل التي ربطها الكاتب في مقدمته لمسرحيته ، لم يربطها بالزير فحسب ، وإنما ربطها أيضاً بموقف آخر وهو تصور أن في تولي ( هجرس ) ابن كليب المقتول ، للعرش فيه إقامة للعدل النسبي بين القبيلتين . " ونحن لا نشعر مع كل هذا بأن عدلاً قد أقيم أو أن عدلاً قد تحقق "
والدكتور حجاجي محق في هذا ، لأن العدل لا يحققه فرد مهما أوتى من قوة ، وإيمان عميق بفكرة العدالة. وهذه هي وجهة نظر المسرح الملحمي أيضاً . فالبطولة ليست للفرد في المسرح الملحمي ، ولا تعترف الفلسفة المادية الجدلية والتاريخية التي يهتدي بها المسرح الملحمي ببطولة فردية . ولكنها معقودة للوسط الاجتماعي في ظل الصراع الطبقي وطبيعة الحراك المادي المتفاعل . وهذا ما حدا بألفريد فرج أن يوصل إلى المتلقي فكرة أن العدل لا يتحقق بفرد ( زيراً ) كان أم غير ( زير ) ( هجرساً ) أم غير (هجرس ) والناقد قد وعى ذلك .
فالمؤلف إذن قد نجح في أن جعل المتلقي ( الناقد ) ينتقد موقف كليب الانتهازي : فكليب لم ينل الحكم عن طريق العدل فهو لم يقتل ( التبع حسان ) ومن حق جساس أن يرفض سيادته ، لم يكن "جساس " طالب عدل في حين طلب الملك ، فالزير شريكه في قتل حسان، والوحيد الذي كان طالب عدل في المسرحية هو الزير . غير أن طلبه للعدل بنى على غير أساس فقد قدم قوم جساس ، كل ما يمكن تقديمه دية للزير إلاّ أنه رفض ، ومن ثم فقد أصبح طالب عدل لا معقول . ومع أن الكاتب قد حصر العدل في دائرته ، فقد أوقع عليه العقاب كما أوقعه على غيره . لقد تعذب الزير سبع سنوات ثم فقد ذاكرته بعد ذلك .وفي النهاية " التحم بجساس وقتل كل منهما الآخر وهكذا أوقع العقاب بطالب العدل قبل أن يقع على منتهكي العدل " (10)
أليس غريباً هذا .. أن يعاقب طالب العدل .. إن هذا الطرح قد جعل د. حجاجي في موقف المتسائل الشبيه (بموقف التوراة ) التساؤلي ، الذي شغل بريشت : " ولماذا يصاب الإنسان الخير بمثل هذه العقوبات الشديدة ؟
لقد نجح المؤلف حقاً في تصوير الموقف غريباً على غير العادة مثيراً للتساؤل والدهشة . وهذا كما أوضحنا مسلك الدراما الملحمية ، فهمه ألفريد فرج ووقع به أحداث مسرحياته وشخوصها ، ولم يفهمه د. احمد شمس الدين الحجاجي بعد !!
وحين يقول د. الحجاج مستقرئاً السيرة : " وحين قتل كليب رفض البكريون أن يقدموا جساساً للقصاص. وهنا لا مفر أمام الزير من أن يعلن أن العقاب سيقع عليهم ، حتى يعود كليب " يعلق على ذلك بقوله " إن دعوة كليب حياً " إنما هي رد فعل لتعنت البكريين ورفضهم تحقيق العدل وإيقاع القصاص بالقاتل " فإنه يبرر للزير طلبه . فلكل فعل رد فعل وذلك هو العادي والمنطقي . في حين أن الأمر غير العادي الغريب المثير للدهشة والداعي إلى الوعي بما يجري هو : " أن دعوة كليب حياً طلب عادل حين يرفض أهل الجاني توقيع القصاص الشرعي على القاتل ولم يكن أبداً عدلاً غير مقبول . ولكن هذا من الوجهة النظرية فحسب إلاّ أن تطبيقه لن يكون ممكناً أبداً والزير يعرف هذا . من هنا تنبع غرابته وشذوذه عن العادة وكون القاص الشعبي قد أوقع القصاص كاملاً على الجناة في السيرة ؛ فهذا أمر أخلاقي ، بمعنى أنه تناول أخلاقي للحدث. وهو ما دعا ألفريد في المسرحية إلى رفضه ، لأن القول بعودة ( كليب حياً ) غريب حقاً . وهذا يحيلنا إلى دور الكاتب الأيديولوجي الفكر في إعادة إنتاج دلالة الموروث واكتشافه بكل ما يشتمل عليه من تناقضات وتلك كانت وجهة عرفتها الكتابة المسرحية والنقدية في مصر في ظل التيارات المعرفية التي وفدت مع الحراك الثقافي والفكري إبان ثورة يوليو 1952م .
فإذا كنّا قد وجدنا في السيرة أن العادة والتقاليد تبعاً للأخلاقية هي التي تنتصر . وأن الحاكم لابد أن يكون فرداً ففي المسرحية دعوة للوقوف موقف الدهشة والغرابة من هذه التقاليد ومن ثم رفضها ، فاستئثار فرد بالحكم في الوقت الذي تم فيه تخليص البلاد بفعل جماعي هو أمر غير منطقي ويؤدي إلى الدكتاتورية والتسلط ( كليب ) وإلى الدسيسة والغدر ( جساس ) واللامبالاة ( الزير ) والتطرف عند كل حالة من الحالات الثلاثة السابقة .
والقضية هي أننا أمام مغتصب ( التبع حسان ) تشترك ثلاث قوى في قتله . إحداها (جبانة) مدعية وهي لم تشارك في قتل الغاصب ( كليب ) والأخرى تتنازل للجبانة عن حقها في الحكم ، فيكون للأولى أن تحكم في حين أن الطرف الثالث (جساس) يرفض الاعتراف بكليب حاكماً مستحقاً للحكم ، بينما انزوت القوة المتنازلة (الزير) تلهو وتعربد وتعبث . فالزير تنازل لكليب أخيه ، ثم انصرف للهو واللامبالاة. وجساس اتجه إلى التآمر لإدراكه أن القوة الحاكمة (كليب) لم تشترك في قتل الطاغية المستعمر، ولكنها وثبت منتهزة إلى العرش . وهكذا تسقط القوة الانتهازية الحاكمة بغدر القوة المتربصة ، ويؤدي ذلك إلى تحارب القوتين اللامبالية والغادرة ليصفي كل منهما الأخرى تصفية مادية بطريق الإرهاب فتتولى قوة جديدة من صلب كل القوى ( هجرس ) أمور الحكم والملك .
ولقد أخطأ الثلاثة منذ البداية ، فقد كانت العدالة قاضية بأن يتولى الثلاثة الحكم ، فيشكلون جبهة حاكمة - وتلك فكرة توفيقية تأثر بها ألفريد وهي دعوة لكسب التأييد لفكرة (تحالف قوى الشعب العامل) - التي عرفت في مصر الستينيات والتي رفضها الكاتب نفسه بعد ذلك في مسرحيته التالية (جواز على ورقة طلاق) ربما لاكتشافه أن فكرة (تحالف قوى الشعب العامل) تلك هي فكرة تلفيقية وهذا على كل حال يشكل معادلاً موضوعياً للواقع السياسي في الستينيات ولحرب اليمن التي دارت بمشاركة مصر والسعودية وجند الإمام أحمد وولده البدر من بعده حيث كتبت المسرحية في تلك الأثناء تأثر بها ألفريد وتفاعل معها انطلاقاً من حدث مستلهم من السيرة ، غير أن الناقد ارتبك في فهم ذلك .
صورة ارتباك البناء في النص المسرحي
كثيراً ما يرتبك البناء الدرامي في نص من النصوص المسرحية ففي مسرحية (مجلس العدل ) لتوفيق الحكيم يناقش القاضي صاحب الأوزة ( المدعي ) فيما يدعيه بعد أن يصدر عليه حكماً بالغرامة. والمنطق الحياتي لا يسمح بهذا الارتباك لأن صدور الحكم يتم بعد مناقشة أطراف القضية وليس قبل ذلك غير أن ذلك وإن بدى ارتباكاً حيث الحقيقة الحياتية أو التاريخية فإنه لا يعد ارتباكاً من الناحية الإبداعية فالقاضي منحرف وهذا واضح من أول جملة يتفوه بها في افتتاحية المسرحية إذ يخاطب "الفران " بقوله : " مالك يا صديقي الفران " فالفران كان منوطاً به إنضاج أوزة دفع بها صاحبها إليه (فهو صاحب رأس مال) لكن الفرّان يؤمم الأوزة ( رأس ماله ) ويذهب بها إلى بيت القاضي الذي يلتهمها. فالقاضي إذ يقول للفران ( يا صديقي ) في خطابه انحراف عن المنطق العلاقاتي بين الشخصيتين على مستوى الواقع الحياتي المعيش ولتأكيد انحراف المسلك القضائي ( انحراف العدالة ) فإن المناقشة تتم بعد صدور الحكم لتوكيد المنطق المعكوس للصوص ( المؤمم والمنتفع ) ومن أمثلة الارتباك الإبداعي في النص عدم مطابقة الصورة المسرحية للواقع البيئي ففي افتتاحية مسرحية (مجنون ليلى ) لأحمد شوقي نرى ليلى تخرج وخلفها رجل غريب من خيمة لتعرف الشباب ( من الجنسين ) الذي يمرح ليلاً في الساحة بين الخيام بابن عوف رسول الحسين بن علي إلى ليلى وسيطاً من أهل قيس وإشفاقاً عليه. والواقع البيئي الصحراوي لا يعرف مثل هذا السلوك . وإنما الواقع يقول إن والد ليلى هو المنوط بذلك التعريف لا ليلى فالبيئة صحراوية في العصر الأموي في الجزيرة العربية وليست باريس، ولأن كل بيئة لها مقتضياتها وقيمها وثقافاتها فإن في تصوير ليلى على ذلك النحو يجعلها ليلى الباريسية وليست ليلى العامرية . ومهما يكن حق المبدع في مغايرة الحقيقة التاريخية أو الاجتماعية عند رسم شخصية مسرحية أو موقف درامي ما ، فلن تصل تلك المغايرة إلى حدود رسم صورة مناقضة تمام المناقضة للبيئة دون مقتضى درامي .


المبحث الثاني
استلهام الكاتب المسرحي للتراث بين الارتباك الاتصالي والوعي الحداثي

تباينت كتابات كل كاتب من كتّاب المسرح ومبدعيه عن غيرها وتميزت بمقولة رئيسية ارتبطت بإيقاع الفكر الذاتي للكاتب نفسه متفاعلاً مع إيقاع فكر مجتمعه وعصره ؛ بحيث تشكل التيمة الرئيسية الأثيرة لديه . وما فتأ - من ثم - يعالجها في أعماله كلها أو في غالبية أعماله المسرحية من زوايا إبداعية متابينة ومتفاوتة ؛ غير أنها مطبوعة أو ممهورة ببصمته الإبداعية .
وهو أمر حري بالبحث أن يتتبعه ويرصده ومن ثم يضعه على مائدة التشريح والتحليل أو التفكيك البحثي أحياناً . لنرى مَـنْ مِـن كتاب المسرح العالمي قد شغل بمقولة سائدة في عصره ومن منهم شغلته مقولة الإنسان مجرداً ، ومن شغلته مقولة الذات ومن انشغل بمقولة البيئة ومن اشتعل مسرحه بمقولة صراع الطبقات ومن حاول أن يشعل بمقولة التراث حياة أمته ، ومن شغلت حسه مقولة الجنس ومن منهم وظّف المسرح في خدمة مقولة فلسفية ومن حركت قلمه مقولة الفكر . هذا من ناحية الموضوع .
أما من ناحية المعالجة الإبداعية فإن من الكتابات المسرحية ومن الإبداعات الأدائية في العروض المسرحية وفي تلقيها ما انسجم شكله مع موضوعه وتناغمت تقنياته مع قيمه الفكرية والجمالية ومنها ما ارتبك الأداء فيها فكشف عن خلل يبطل فاعلية الإبداع فيه ويحجب دوره الإبداعي ومن ثم الإقناعي فيعجز عن تحقيق التأثر الدرامي المنشود .
وإذا كان هذا هو حال كتّاب المسرح وفنانوه في العالم على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والفنية، فإن كتّاب المسرح العربي وفنانيه قد انشغلوا - وخاصة المصريين منهم - بذلك كله ، كل حسب ثقافته وانتماءاته ووعيه ، وفيما يتعلق باستلهام التراث فنحن نجد الكاتب المسرحي المنشغل أبداً بالتراث يرى في التراث أنه مكتف بذاته ، فكل شيء في التراث : الماضي والحاضر والمستقبل ؛ ومن ثمّ فهو يمهد العقول أو يجتهد في ذلك غاية الاجتهاد خدمة لعودة سيطرة التراث والفكر الماضوي على حياة مجتمعنا المعاصر . لكن إلى أي مدى يتمكن مثل ذلك الكاتب من بسط نفوذ التراث أو الفكر الماضوي على حياتنا المعاصرة ؟! تلك إشكالية أولى وكذلك نجد الكاتب المسرحي المشتعل بالوطن وبالفكر القومي مثيراً لنقع غبار المعارك الوطنية والقومية بوقود الفن وأسلحته المسرحية ، فإلى أي مدى ينجو إبداعه من الارتباك الذي تحدثه تضارب المقولات الفكرية القومية والمواقف المتباينة في زحمة الشعارات السياسية ومزاحمات اللافتات الأيديولوجية وتلك إشكالية ثانية.
كما إننا نجد الكاتب المشتغل بمقولات العصر مستظلاً في كتاباته بفكرة قبول الآخر، فكرة الكونية ، فكرة تراجع الأنا القومية ، تراجعها عن التشبث المستميت بالهوية القومية . وفي ذلك التراجع ربما يرتبك الإبداع وتلك إشكالية ثالثة .
ومن الكتّاب من ارتبك إبداعه بين فكره وعاطفته أو زاحمت الصفات في مسرحه شخصياته وأزاحتها أو طمست ملامح إنسانيتها ؛ فأبطلت بذلك تأثيرها الدرامي . ولعل معالجة فكرة (الخطايا السبع ) التراثية - الدينية - خير مثال على قيمة استلهام الإبداع المسرحي لها من منظور اكتفاء التراث بذاته كما هو عند كريستوفر مارلو من كتّاب المسرح الإليزابيثي أو عند جيته أو عند إبسن أو من منظور حداثي أو تفكيكي كما هو عند بريشت .

صورة الخطايا السبع بين الوعي التراثي والوعي الحداثي
- التصوير الإبداعي للفكرة بين الاستعراض والباليه والمسرح -

إن ما يفرق بين وعي المبدع المستلهم للتراث من منظور ثقافة الثبات ، ووعي المبدع المستلهم للتراث من منظور ثقافة التغير يتمثل في أن المبدع من منظور اليقين لا يخرج عن كونه مجرد مؤدي ، وإنتاجه الأدبي أو الفني لا يتعدى حدود الأداء ؛ لأنه يقف عند عتبات ترجمته الواعية لفكرة تراثية أو لموضوع تراثي يؤمن به . وبما أن التصور أو الرؤية التي يستند إليها في استلهامه المترجم للفكرة التراثية هو عبارة عن ترجمة ؛ فإن الخيال الذي يشكل التصور يكون مقيداً بمحدودية الفكرة التراثية نفسها ومقيداً بضوابطها التي غالباً ما تكون متصلة بمعتقد أسطوري أو خرافي الملامح والسند .
أما المبدع من منظور حداثي فهو لا ينظر من خلال واحدية المنظور في توجه اتباعي لا تردد فيه ؛ وإنما يراجع عبر تعدد المنظورات إلى الفكرة الواحدة وتوالد المعنى في كل مرة ثم التوحيد بينها مع صياغة الرؤية الإبداعية حولها وما للخيال والتفسير من أدوار في خلق تلك الرؤية ، بحيث تستأهل أن توصف بالإبداع .
وللتأكد من صحة هذا الفرض نتوقف عند التناول المسرحي المتعدد والمتباين لفكرة (الخطايا السبع ) تلك التي شغلت عدداً من كتاب المسرح ومبدعيه بدءاً من التمثيليات الدينية للعصور الوسطى وما تداخل في صياغاتها من خلط بين الوحدات والأنواع مع التهجين في أساليب الفن ما بين المأساة والملهاة والحوار الدرامي والغناء والشعر المباشر لها من العهد الجديد في نص مارلو ( مأساة الدكتور فاوستس ) وفاوست جيته ما أصاب تصويرهما لها من ارتباك إبداعي ، إذ نفرت صورة الخطايا السبع عند كليهما عن البناء الدرامي فظهرت عند مارلو على هيئة استعراض لعدد منن الصفات أو الفقرات التي تستعرض أمام فاوستس في إطار تسلية ميفستوفوليس له دون أن تشتبك تلك ( الصفات / الشخصيات ) أو الأنماط مع الشخصية المحورية ( فاوستس ) بل هي تمر أمامه وفق الاستدعاء لتصف نفسها ليس إلاّ كلون من ألوان المفاخرة بذاتها . ثم وقوفاً عند نظرة بريشت الحداثية لتلك الفكرة ، حيث صورها بأسلوب السيناريو الشعري الغنائي في باليه : ( الخطايا السبع للبرجوازي الصغير ) تصويراً معنوياً - غير تجسيدي كما فعل مارلو وجيته ولينين الرملي وصبحي في الهمجي - من جهة نظر البرجوازية الصغيرة؛ فهي خطايا إذا عطلت حصوله على الثروة والملكية. فقد جعل بريخت الكلام عن الخطايا السبع نقداً يعلق به على فعل مضاد لهدف ذلك البرجوازي الصغير في الحصول على الثروة، وذلك رواية تغنى على لسان الأسرة البرجوازية الصغرى أو أحد أفرادها ، فهي خطيئة فحسب إذا لم تحقق له كل النفع الذي يأمله بعد أن خطط لنجاحه في الحصول عليه. وبذلك قصر بريخت فكرة الخطايا على البرجوازي الصغير الطامح أبداً للاستحواز والملكية وليست مسألة شائعة يقع فيها كل البشر من الميلاد إلى المعاد أو من بدء الخليقة حتى الغناء الكوني .
وكذلك عالجها جيته في " فاوست " كشخصيات نمطية ( صفات ) فظهرت مرتبكة في البناء الملحمي السمات الذي تأسس عليه نص مسرحيته تلك فبدى غير ممتع غير مقنع كما هو الأمر عند مارلو . وبما يكشف عن الطبيعة الاستعراضية لصياغة مارلو لتلك الخطايا / الصفات في نصه وملامح ذلك أيضاً في فاوست جيته . وفي اتجاه ترجمة الفكرة بقناعة ثقافة الثبات ورسوخها في فكر المؤمن بها والداعية لها بما لا يبتعد عن الإرشاد الأخلاقي الوعظي ( الخطاب الديني ) والأمر نفسه فعله لينين الرملي ومحمد صبحي في معالجتهما المسرحية المصرية للخطايا السبع في مسرحية ( الهمجي ) من حيث الموضوع، وإن جاء الشكل ملحمي الملامح حيث وظف الرواة في هيئة ملائكية ( الزي الأبيض ذو الجناحين - وفق الصورة التراثية الدينية ) في تقديم كل لوحة من اللوحات السبع توظيفاً أخلاقياً ، باعتبار كل البشر خطائين . وقد فصل الرملي وصبحي الشكل عن المضمون باستخدامهما لتقنية الحكي التغريبي من ناحية وإلحاقها بتجسيد الخطايا من خلال شخصيات نمطية ( الحسد - الكسل - النهم - الغضب - إلخ ) في مباشرة لا تبتعد بالخطاب عن أسلوب المباشرة الوعظية وأساليب الإيضاح بالأنماط .
وهكذا تباينت معالجات المبدعين المسرحيين لفكرة الخطايا السبع ما بين البذور الأولى لفن الاستعراض في تصوير مارلو ، وفن الباليه ممتزجاً بفنون الغناء والسرد التمثيلي والرقص والموسيقى بإبداع بريخت ، وفن المسرح كما هو عند لينين وصبحي بما تعكس تباين ثقافة كل مبدع تعرض لهذه الفكرة سواء ولى وجهه شطر محراب التراث أو جال ببصره في الموضوع التراثي فخرج له من كهف عمى البصيرة ليضعه أو يعيد إنتاجه في عصر ثقافة التفكيك التي أحكمت قبضتها على حياتنا المعاصرة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الجغرافيا المكانية والبشرية .
غير أن الإشكالية تتبدى للباحث في مدى اقتراب استلهام المبدع المسرحي من الفكرة الدينية التراثية ومدى ابتعاده عنها . وإلى أي مدى أصاب هذا الاستلهام متعة الإبداع ومصداقية الإقناع أو وقع في الارتباك الإبداعي سواء تزيا تصويره لها بزي الاستعراض مستهدفاً إبراز مهارات أدائية فردية أو ثنائية أو جماعية تتيح في عمل إبداعي مشاركة استطرادية أو إلحاقية ( ملحقة على البناء الإبداعي الرئيسي ) باعتبار أن الاستعراض لون من ألوان اصطناع طريقة مبالغ فيها مع إتقان التعبير عن غرض من الأغراض بما يواكب قدرة العارض المستعرض نفسه .
حيث يحرص على إبراز أفضل ما لديه من طرق وأساليب أدائية ومهارات فنية لإضفاء مزيد من الإمتاع حتى وإن لم يجانبه الإقناع ولذلك كثيراً ما يكون الاستعراض منفصلاً عن نسيج العمل الدرامي الذي وضعه المبدع في صياغته لعمله ، بمعنى أنه لا يدخل في نسيج عمله الدرامي . وبذلك لا يكون مقنعاً مع أنه ممتع لزيادة عناصر الشكل فيه عن حاجة الموضوع الذي تصدى النص نفسه لمعالجته وبهذا لا يتوازن الاستعراض شكلاً مع موضوعه لانتفاء الحبكة التي تربط عناصر الشكل بالموضوع المعروض.
أو تزّيا بزي الباليه أو بزي المسرح الشامل أو بزي المسرح الدرامي .

ارتباك معالجة مارلو لفكرة الخطايا السبع في
( مأساة الدكتور فاوستس ) (11):

" فوستس : لن أذكره من الآن فصاعدا . اغفر لي هذا
إن فوستس يقسم إنه لن يتطلع إلى السماء ،
ولن يذكر اسم الله أو يصلي له ،
وسأحرق أنا جيله وأذبح قساوسته ،
وسأجعل أرواحي تدمر كنائسه .
إبليس : افعل هذا ، وسنجزيك كثيراً .
لقد جئنا من الجحيم يا فوستس لنعرض عليك
شيئاً من التسلية واللهو
اجلس وسترى الخطايا السبع الماحقة في صورها الحقيقية .
سوف أسر لهذا المنظر كما ابتهج آدم بالجنة في
اليوم الأول الذي خلق فيه .
فوستس : سوف أسر لهذا المنظر كما ابتهج آدم بالجنة في
اليوم الأول الذي خلق فيه .
إبليس : لا تتحدث عن الجنة ولا عن الخليقة
ولكن عليك أن تنظر إلى هذا المشهد ،
وأن تتحدث عن الشيطان
ولا تتحدث عن شيء سواه
هيا بنا .
( تدخل الخطايا السبع الساحقة )
والآن افحصها يا فوستس
بحسب تعدد أسمائها وطبائعها
فوستس : ومن تكون هذه الأولى ؟
الكبرياء : أنا الكبرياء
إني أحتكر أن يكون لي ولدان
فأنا شبيها ببرغوث أو فيد
أستطيع أن أزحف إلى أي ركن أشاء
فأحط مرة على جبين إحدى الفتيات كالشعرالمستعار
أو أقبّل شفتيها كما لو كانت مروحة من الريش
ولكن تباً لك ، ما هذه الرائحة ؟
سوف لا أنطق بكلمة أخرى ما لم تعطر الأرض كلها
وتكسها بالأبسطة
فوستس : ومن تكون الثانية ؟
الجشع : أنا الجشع وليد الوضاعة والخسة ،
ولو طلب لي التمني لوددت أن يتحول هذا البيت
بجميع سكانه إلى ذهب ،
حتى أحبسكم جميعاً في الأقفاص الجميلة .
إيه يا ذهبي العزيز .
فوستس : ومن تكون الثالثة ؟
الغضب : أنا الغضب
لا أعرف لي أباً ولا أماً
فقد انطلقت من فم أسد
ولم أتجاوز نصف الساعة من عمري
وأخذت أطوف العالم كله منذ ذلك الحين بهذين
السيفين ،
أصيب بهما نفسي إذا لم أجد من أنازله
لقد ولدت في الجحيم ؛ وسأظل أرنو إليها ،
إذ لابد أن بعضكم سيتولاني بأبوته .
فوستس : ومن يكون الرابع هذا ؟
الحسد : أنا الحسد :
جئت من والد ينظف المداخن
وأم تشبه الجمبري
إني لا أستطيع القراءة ،
لذا كم أتمنى لو أحرقت جميع الكتب
إن رؤية غيري يأكل يزيدني نحولا.
كم تمنيت أن يحل بهم القحط حتى يشمل العالم أجمع
فيهلك الجميع وأبقى أنا وحدي
إذن لرأيت ما أكون عليه من السمنة ،
ولكن أيحق لك أن تجلس وأنا واقف ؟
ألا من طاعون يفتك بك !
فوستس : اذهب عني أيها الوغد الحسود !
ومن تكون الخامسة ؟
البطانة : من أنا يا سيدي ؟ أنا البطانة .
مات عني والداي ولم يتركا لي بحق الشيطان
إلاّ معاشاً هزيلاً لا يكاد يعدو الثلاثين أكلة في اليوم
الواحد ، تتخللها عشر أكيلات بين وجبتي الإفطار
والغذاء مما لا يكفي لسد حاجتي . إني أنتمي إلى
سلالة ملكية ! فقد كان جدي فخذ خنزير سمين
وكانت جدتي برميل خمر كبير ،
كما كان والدي بطرس ومارتن من صناع البيرة
المعتقة .
ولكن أمي كانت امرأة مرحة لطيفة محبوبة من
سكان المدينة بأسرها
وكانت تدعى السيدة مارجري صاحبة بيرة
مارس .
والآن هلا تدعوني يا فوستس للعشاء
بعد أن سمعت قصة سلالتي كلها ؟
فوستس : ولو رأيت رأسك معلقة على المشنقة !
أنك سوف تلتهمين جميع أنواع الطعام التي
تقدم لي .
البطانة : إذن فليخنقك الشيطان
فوستس : أخنقي نفسك أنت أيتها البطانة !
من تكون السادسة ؟
الكسل : أنا الكسل . ولدت فوق شاطئ مشمس .
حيث أستلقي هناك منذ ذلك الحين
لقد ألحقت بي أذى كبيراً بإحضارك لي من هناك
فلتدع البطانة والفسق يحملاني إلى هنالك،
فلن أفوه بكلمة بعد الآن ولو كان فيها فدية ملك .
فوستس : ومن تكون هذه الفتاة الخليعة - آخرة السبع ؟
الفكهة : من أنا يا سيدي
إن أول حرف من اسمي يبدأ بالحرف ف
إبليس : إلى الجحيم ! إلى الجحيم ! ( تخرج الخطايا ) "

تقنية الصورة بين الاستعراض والدراما

تتبدى إشكالية تقنية تصوير مارلو للخطايا السبع في ( مأساة الدكتور فاوستس) - الذي باع روحه للشيطان في سبيل الحصول على قدراته الخارقة - في انتماء تلك الصورة إلى أسلوب الاستعراض لا إلى أسلوب الدراما - بغض النظر عن شيوع هذا الأسلوب في تمثيليات المسرح الديني للعصور الوسطى وبغض النظر عن إدراك مارلو لطبيعة فن الاستعراض أو عدم معرفته . إذ أن صياغة هذا المشهد صياغة استعراضية ، لا صياغة درامية ، وذلك يتضح من سبب عرضه الذي أعلنته شخصية إبليس على فوستس :
" لقد جئنا يا فوستس من الجحيم لنعرض عليك
شيئاً من التسلية واللهو "
هذا من حيث النظرة التفكيكية في قراءة الشكل الفني للمشهد نفسه . أما من حيث الحتمية الدرامية ، فإن المشهد لا يدخل في لحمة النسيج الدرامي وسداه من حيث البناء ولو جربنا حذفه لما تأثر البناء الدرامي للمسرحية . ولو راجعنا علاقة فوستس بالشخصيات (الأوصاف أو الخطايا) التي تمر أمامه مرور الكرام لما وجدنا لها أثراً . فهو يكتفي بدور المذيع الذي لا دور له سوى الربط بين الفقرات التي تعرض أمامنا أو التعليق السطحي الذي لا يقدم الحدث ولا يؤخره .
واللوحة بهذا الشكل لا تعدو عن أن تكون (عرضاً) أو (استعراضاً) وهو كذلك بالفعل، إذ يمكن أن تعرض هذه الشخصيات المنمطة ( الصفات ) بالرقص وبالغناء وبهما أو بالعرائس أو بخيال الظل أو غيره من فنون الاستعراض . وربما كان ذلك ما فهمه بريشت من قراءته لذلك المشهد أو تلك اللوحة ، فألهمته بكتابة الفكرة على شكل نص (سيناريو) للباليه - متجاوزاً أصول الإنتاج في فن الباليه من حيث هو دراما راقصة بالتوازي مع عمل موسيقي خاص به - فأبدع سيناريو يحمل فكره التقدمي الحداثي المضاد لثقافة الثبات ولكل ثقافة الطبقات البرجوازية وأهمها الصغيرة ؛ لأنها تشكل بأعدادها الكبيرة وباستعداداتها الرصيد الاستراتيجي للطبقة العاملة - في عرف طليعتها الثورية ، التي كان بريشت نفسه أحد دعاتها من خلال فن المسرح والشعر، لذلك وظف وعيه الطبقي في إعادة إنتاج صورة الخطايا السبع فرأى أن يقصر وجودها على البرجوازية الصغيرة لا على كل البشر ،وفق ثقافة الثبات التي تؤمن بأن الخطيئة مخلوقة مع البشر منذ بدء الخليقة ، ذلك أن البرجوازية الصغيرة طامحة متطلعة دوماً إلى الملكية ولا يعد خطيئة في نظرها - هكذا رأيه - إلاّ ما يعطل حصولها على ما يحقق لها الامتلاك والاستحواز . ولاشك أن بريشت بذلك ينطلق من ثقافته التفكيكية ، فهو لا يستلهمها في مسرحه استلهام مارلو أو جيته الذي حوّر في مسميات الخطايا السبع في إعادة توظيفه لها في ( فاوست) أو كما فعل إبسن في ( بيرجنت ) ولا لينين الرملي ومحمد صبحي في معالجتهما لها مسرحياً ، وإنما يكشف عن صور تناقضاتها ويعزلها عن البشرية فهي ليست عدوى غريزية تصيب كل بني البشر ، وإنما هي مرض محصور في طبقة اجتماعية واحدة ، هي طبقة البرجوازية الصغيرة . هذا من حيث الموضوع . أما من حيث الشكل الفني فإن صياغة مارلو للفكرة ربما تعد البذرة الأولى لفن الاستعراض متأثراً بأسلوب تداخل فنون الكتابة الذي ارتبك به أسلوب كتابة المسرحية الدينية في العصور الوسطى أو توسل به لتحقيق أو توصيل الخطاب الديني . وسواء أدرك مارلو ذلك أو لم يدرك فإن مشهد الخطايا هو نموذج أول للمشهد الاستعراضي غير أننا لا نستطيع إلاّ أن نقول إن بريشت كان مدركاً في صياغته لفكرة الخطايا السبع كيف يطوعها لفكره بالكيفية التي تتسق مع أسلوبه التغريبي بالإضافة إلى أنه حقق شمولية الفنون وتكاملها بصياغته للفكرة في قالب يجمع بين فنون الباليه والموسيقى والغناء والسرد التمثيلي وهو أسلوب ابتدعه ؛ فحقق دعوة نيتشه وهيجو إلى تكامل الفنون مثلما فعل فاجنر عن طريق فن الأوبرا ولكن من خلال فن الباليه .

بريشت والتناول الإبداعي في كتابة نص للباليه

مع أن المتعارف عليه أن فن الباليه قصة راقصة يتضافر فيها الرقص مع الموسيقى المؤلفة تأليفاً مخصوصاً تبعاً لكل باليه على حده ؛ إلاّ أن بريشت قد آثر أن يكتب نصاً درامياً للباليه ، أو هو بمعنى آخر قد اختار الرقص وسيطاً تعبيرياً أقوى تأثيراً من الكلمة ، لكنه رأى أن يصحب الرقص نص درامي إيضاحي ( مواز ) وحوار شعري غنائي وسردي بين الابنتين تارة والأبوين تارة أخرى لتوضيح ما يريد توضيحه من جوانب معالجته للخطايا السبع فكسل ( آنّا ) الثانية عن ممارسة الخطيئة يعد خطيئة تنبهها إليها أختها (آنّا ) الأولى مديرة الرحلة عبر سبع الولايات الأمريكية في سبيل جمع المال اللازم لبناء منزل الأسرة في لويزيانا على ضفاف نهر المسيسبي .
وتعاظمها على الناس وتقاعسها عن إبراز مفاتنا للرجال يعد خطيئة ثانية تنبهها إليها أختها مديرة الرحلة وغضبها من قسوة الفنان بطل فيلم تمثل أمامه دورا مساعداً في تعامله مع حيوان أليف تعاطفاً مع الحيوان ( يمثل فوقه دور الفارس ) بحيث يفقدها عملها يعد خطيئة ثالثة تستوجب اللوم والتحذير . وكذلك نهمها في الأكل بما يزيد وزنها ويعطل رشاقتها المنصوص عليها في تعاقدها للعمل في السينما يعد خطيئة رابعة تستوجب المؤاخذة والشدة. وممارستها للجنس بدون مقابل مادي ( على هيئة مضامدة أي الالتزام بالمناكحة مع رجل معين ) هو خطيئة كبرى لا تحقق الملكية ومن ثم تستوجب نهرها والوقوف ضدها بكل شدة. والجشع في ابتزاز الرجال ( العشاق ) وإفلاسهم تماماً لدرجة انتحارهم يعد خطيئة لا تغتفر . وللغيرة من أخريات ( برجوازيات صغيرات ) يمارسن ما تمارسه ( آنا ) الثانية في سبيل الملكية يعد الخطيئة السابعة والأخيرة التي لا تجوز ممارستها .
وهكذا تنجح الأختان ( آنا ) ( واحد ) و( آنا ) إثنان في تحقيق حلم الأسرة في الملكية بتمويل مشروعها لبناء منزل على نهر المسيسبي في لوزيانا من خلال ممارسة الثانية لكل الطرق غير الشريفة في سبيل الغاية المنشودة بتوجيه ( آنا ) الأولى ) وإرشادات الأسرة المتطلعة إلى الملكية .
وتتجلى براعة بريخت الإبداعية ووعيه الطبقي والفني في تناوله أو إعادة تناول فكرة الخطايا السبع تناولاً معنوياً بحيث جعلها من ناحية ( خطايا للبرجوازي الصغير ) الطامح دائماً إلى الملكية . ومن ناحية أخرى صياغتها بحيث تشكل جزءاً من نسيج عمل فني تمتزج فيه فنون متعددة هي فن ( الحكي الدرامي وفن الغناء وفن الباليه وفي الموسيقى ) بما يحقق أسلوبه وفق نظريته في التغريب الملحمي ، ويخلق شكلاً إبداعياً شاملاً لعرض مسرحي. وهو ما يكشف عن أن بريشت بذلك يعد رائداً لفن المسرح الشامل أيضاً . وبالنظر إلى تناول مارلو للخطايا السبع وتجسيدها على هيئة شخصيات تستعرض أمام فوستس للترفيه عنه كمكافأة يقدمها له ميفيستوليس بسبب طاعته له بعدم ذكره اسم الله يتضح انفصال عرضها التصويري عن نسيج النص الدرامي ، وتصوير فوستس كما لو كان مجرد مقدم برامج أو مذيع ربط تليفزيوني أو مسرحي ؛ فلا صراع بين فوستس والصفات أو الخطايا السبع ولا حدث بينهما وبينه. والصورة بذلك يمكن أن تعد بذرة لفن الاستعراض .



حول الفكر الحداثي للخطايا السبع في إبداع بريشت :

" الخطايا السبع للبرجوازي الصغير " باليه تعبيري في سبع صور ، أخذ بريشت عنوانه من الخطايا السبع التي يذكر الإنجيل أن الدين يحرمها ، والله لا يغفرها . لكنه غيّر من هذه الخطايا وجعل بدلاً منها سبع صفات هي في نظر البرجوازي الصغير أكبر الخطايا .
الباليه يمثل عائلة أمريكية تعيش في ولاية " لوزيانا " مكونة من الأبوين وولدين وبنتين، ولا حلم للعائلة إلاّ أن تبني منزلاً صغيراً على شاطئ المسيسبي ، لكن الأبوين بدلاً من أن يزيدا من عملهما وعمل ابنيهما من أجل تحقيق هذا الحلم فضلاً أن يوفدا البنتين كي تطوفا أنحاء أمريكا وتجمعا المال اللازم بأي وسيلة وبكل وسيلة؛ لا تهم الوسيلة فكل الوسائل مشروعة! .. وتجمع الابنتان المال اللازم ، وتحقق العائلة حلمها البرجوازي ، فتبني البيت الريفي على شاطئ المسيسبي ، وتلقي الابنتان كل التقدير من المجتمع البرجوازي الذي تعيشان فيه .

تقنيات التناول الإبداعي في كتابة نص الباليه :
مع أن المتعارف عليه أن الباليه قصة راقصة يتضافر فيها الرقص مع الموسيقى المؤلفة تأليفاً مخصوصاً تبعاً لكل باليه على حده ؛ إلاّ أن بريشت قد آثر أن يكتب نصاً درامياً للباليه ، أو هو بمعنى آخر قد اختار الرقص ( الباليه ) وسيطاً تعبيرياً أقوى تأثيراً من الكلمة ، لكنه رأى أن يصحب الرقص نص إيضاحي وحوار بين الابنتين تارة ، وبين الأبوين تارة أخرى لتوضيح ما يريد توضيحه من جوانب معالجته للخطايا السبع .
( النص )
يمثل هذا الباليه رحلة لأختين تعيشان مع أسرتهما في مدينة " لويزيانا " إحدى مدن جنوب الولايات المتحدة .
تخرج الأختان من مدينتهما في رحلة تزوران فيها سبع مدن مختلفة .. تاركتين باقي أفراد الأسرة في انتظار المال الذي ستجمعه الشقيقتان من رحلتهما .. لتبني به الأسرة منزلاً جميلاً يضم كل أفرادها . واسم كل من الشقيقتين ( آنّا Anna ) إحداهما تقوم بدور المديرة الفنية للرحلة .. والأخرى تقوم بدور السلعة .. الأولى اسمها ( آنّا ) رقم (1) والثانية (آنّا) رقم (2) .
تظهر على المسرح مائدة صغيرة .. وخريطة تبين خط سير الرحلة للمدن السبع ، أمام الخريطة تقف "آنا " رقم واحد .. وبيدها مؤشر صغير . وفي جانب آخر من المسرح لوحة دائمة التغيير للأماكن التي ستزورها الشقيقتان في أثناء رحلتهما .. في نهاية كل لوحة تبين " آنّا " رقم اثنين إلى أختها " آنا " رقم واحد ومعها باقي أفراد الأسرة .. الأب والأم وولدان . بينما يأخذ شكل المنزل في الارتفاع درجة درجة بعد كل زيارة لمدينة من المدن السبع .. إلى أن يكمل ويتم البناء .. وذلك بفضل تحاشي الأختين للخطايا السبع الكبرى.
نشيد الأختين
نشأنا أنا وأختي في لويزيانا
حيث تجري مياه المسيسبي تحت ضوء القمر
كما سمعتم كثيراً في الأغاني
وحيث نريد أن نعود إليها ثانية
اليوم قبل غد ( الغد )
لقد رحلنا منذ أربعة أسابيع
لكي نجرب حظنا في المدن الكبرى
آملين أن نحققه في سبع سنوات
ثم نعود ثانية
بعد ست سنوات خير من سبع
لأن والدينا وشقيقنا ينتظروننا في لويزيانا
حيث نرسل لهم كل المال الذي نكسبه
ومن هذا المال سيبني
بيت صغير على شاطئ المسيسبي في لوزيانا
آنا (1) : أليس كذلك يا " آنّا " ؟
آنا (2) : بلى يا " آنا " .
آنا(1) : إن أختي جميلة وأنا واقعية
وإذا كانت أختي طائشة فأنا معقولة
وإننا في الحقيقة لسنا شخصين منفصلين
وإنما شخص واحد فقط
واسمنا كلتانا هو " آنّا "
ولنا ماص ومستقبل
كما لنا قلب ودفتر توفير
وكل منّا تعمل ما فيه مصلحة للأخرى
أليس كذلك يا " آنّا " ؟
آنّا (2) : بلى يا " آنّا "
اللوحة الأولى
الكسل في ارتكاب الخطيئة :
كانت هذه أول مدينة في الرحلة ولكي تحصل الأختان على أول كسب لهما نفذتا حيلة ، فقد كانتا ترتادان حدائق المدينة وهما تتلصصان باحثتين عن الأزواج من بين المتنزهين ، ثم تلقى "آنّا"(1) بنفسها على الزوج كما لو كانت تعرفه من قبل وتحتضنه وتوجه إليه اللوم العنيف .. إلخ .وتضعه بالاختصار في موقف لا يحسد عليه بينما تحاول "آنا " (2) فجأة نحو الزوج وتبتز منه بعض المال بحجة إبعاد أختها عنهما .
وقد نفذتا هذه الحيلة بسرعة عدة مرات إلى أن حدث ذات مرة بينما كانت تحاول " آنا " (1) أن تبتز بعض المال من زوج أخذته جانباً وهي مطمئنة إلى أن أختها قد أبعدت زوجته ، وإذا بها تفاجأ وهي مذعورة بأن أختها جالسة على مقعد وقد وقعت في سبات عميق ، فاضطرت إلى إيقاظها ودفعها إلى العمل دفعاً .
نشيد العائلة
إننا لنأمل أن تكون ابنتنا " آنا " حريصه
فقد كانت دائماً تحب الراحة
وإذا يدفعها إنسان من فراشها
فإنها تبقى نائمة طيلة الصباح
وكنّا دائماً نقول لها : إن الكسل
هو بداية كل الخطايا يا " آنا "
فقد كانت دائماً إبنة عاقلة ،
مطيعة ومخلصة لأبويها ،
وإنّا لنأمل أن تبقى كذلك دائماً
وألاّ نتهاون ف أي لحظة في أثناء العمل .
اللوحة الثانية
التعاظم على الناس بأحسن ما عندك :
في كباريه صغير قذر تصعد " آنّا " (2) على المسرح وتستقبل بتصفيق أربعة أو خمسة متفرجين كان منظرهم قبيحاً لدرجة أنها اشمئزت وكانت تلبس ملابس متواضعة ، ولكنها أرادت أن ترقص رقصاً محتشماً نظيفاً وكانت تبذل كل ما في وسعها ولكن دون جدوى ، فقد كان ملل الحاضرين يزيد في كل لحظة ؛ فكانوا يتثاءبون كما يتثاءب سمك القرش ( وهم يلبسون أقنعة ذات فم واسع مفتوح تظهر منه أسنان كبيرة ) ثم يرمون فضلات موائدهم على المسرح ثم يطفئوا المصباح إذ يقوم أحدهم بإطلاق رصاصة على المصباح الوحيد الموجود فيطفئه ، ولكن " آنّا " (2) تستمر في رقصها متمسكة بفنها إلى أن يحضر صاحب الكباريه ويأتي براقصة أخرى على المسرح - راقصة عجوز بدينة كريهة المنظر تصعد على المسرح لكي تريها كيف يكون الرقص بنجاح في مثل هذه المواخير ، ورقصت العجوز الشمطاء رقصاً بذيئاً منحطاً ، ولكنها لاقت نجاحاً منقطع النظير . ولكن آنا (2) رفضت أن تنحدر إلى هذا المستوى من الرقص فما كان من " آنا " (1) التي كانت واقفة بجانب المسرح والتي كانت تحاول وحدها أن تشجع أختها بتصفيقها إلاّ أنها سرقت رداءها وأعادتها إلى المسرح دون رداء وأجبرتها على الرقص مثل العجوز الشمطاء وذلك تحت تصفيق الجمهور وتهليله ، فكان ذلك نصر وتهدئة للأخت الباكية .
نشيد الأختين
عندما تم تزويدنا
بالملابس الداخلية والخارجية والقبعات
وجدنا وظيفة راقصة في كباريه
ولم يكن الأمر هيّناً على " آنّا "
فالملابس والقبعات تعطي الفتاة إحساساً بالعظمة
لذلك أرادت أن تكون فنانة وأن تقدم فناً
في ممفيس التي كانت مدينة رحلتنا
ولم يكن هذا هو ما يتطلبه الجمهور
لأن الجمهور يدفع ويريد
أن يرى شيئاً ممتعاً نظر ما يدفع
فإذا أرادت راقصة أن تخفي مفاتن جسدها
فإنها لا تلاقي أي نجاح
لذلك قلت لأختي بكل جد يا " آنا "
إن التعاظم من شأن الأغنياء
فاعملي ما يطلبه الناس منك وليس
ما تريدين أن يطلبوه منك
وفي بعض الأمسيات كنت احتاج لكل جهدي
ولم يكن سهلاً أن أنزع منها هذا التعاظم
وكنت أواسيها وأقول لها
فكري في بيتنا في لويزيانا
وكانت تقول حينئذ : نعم يا " آنا "

نشيد العائلة
ولم تتقدم الأمور كثيراً
لأن ما كانت ترسلانه
لم يكن بالقدر الذي يكفي لبناء منزل
فقد كانتا تستهلكان كل ما تجمعانه من مال
وكان لزاماً علينا أن نفيقهم من غفوتهم
وإلاّ فلن تتقدم الأمور
لأن ما كانتا ترسلانه
لم يكن بالقدر الذي يكفي لبناء منزل
وكان لزاماً علينا أن نفيقهم من غفوتهم
فقد كانتا تستهلكان كل ما يجمعانه من مال .

اللوحة الثالثة
الغضب على العادات الدنيا
لقد أصبحت " آنا " الآن ممثلة ثانوية في السينما وكان النجم رجلاً من طراز دوجلاس فيرنباكس . وكان يركب حصانه ويقفز به من فوق سلة من الزهور . ولكن الحصان لم يكن متمرناً فيضربه الفارس ويقع وقعة شديدة ، ولا يمكنه الوقوف ثانية بالرغم من محاولات الفارس .. وتقديم السكر له .. وحينئذ يضربه الفارس ثانية بقسوة وفي هذه اللحظة تتقدم الممثلة الثانوية وقد تملكها الغضب فتأخذ العصى من يد الفارس وتضربه هو بدلاً من الحصان وفي الحال تطرد " آنّا " من عملها ، ولكن أختها تمسك بها وتهزها بعنف ثم تعيدها لتركع على ركبتيها أمام البطل مقبلة يده مستعطفة إيّاه لكي يعيدها إلى عملها .
نشيد الأختين
والآن تتقدم الأمور فقد أصبحتا في لوس أنجلوس
حيث تفتح الأبواب أمام الفتاتين
خاصة إذا تكاتفتا سوياً
فإن الأمور تسير إلى الأمام دون توقف
إن من يريد أن يغضب لكل هفوة يراها
فإنه سيدفن سريعاً
ومن لا يتحمل حقارة الآخرين
كيف يطلب من الناس أن يتحملوه
ومن لا يريد أن يتسامح أبداً
فإنه يأثم على الأرض
اللوحة الرابعة
النهم في الأكل
أصبحت " آنا " الآن نجمة يربطها بعملها عقد رسمي ينص على أن يبقى وزنها ثابتاً وألاّ يسمح لها بأن تأكل شيئاً تريده .. وفي يوم من الأيام سرقت " آنا" تفاحة وأكلتها كلها خلسة ، ولكن عندما أعيد وزنها اتضح أنه قد زاد جراماً واحداً مما دفع المتعهد أن يشد شعره غضباً ، ومن ذلك اليوم اضطرت ألاّ تأكل إلاّ تحت رقابة أختها وأن يقدم لها الطعام بمعرفة خادمين يحمل كل منهما مسدساً وألاّ يسمح لها أن تأخذ إلاّ قطعة صغيرة من اللحم
نشيد العائلة
وصل خطاب من فيلادلفيا
يفيد بأن " آنا " بخير وأنها الآن بدأت تربح
وأنها وقعت عقداً للعمل كراقصة
يحرّم عليها أن تأكل كثيراً
وهو أمر عسير لأنها نهمة
إذا أرادت أن تلتزم بنص العقد
لأنهم في فيلادلفيا لا يريدون ممثلة بدينة
ولذلك بالطبع
فإنها ستوزن كل يوم
والويل لها لو زاد وزنها جراماً واحداً
لأنهم قرروا أن يقف وزنها عند نقطة ثابتة
52 كيلو دون زيادة أو نقصان
وما يزيد على ذلك فهو مرفوض كالخطيئة
ولكن "آنا" شديدة التفاهم
وتهتم بأن يكون العقد عقداً
وكانت تقول دائماً يمكنك أن تلتهمي في النهاية
في لويزيانا يا " أنا " كثيراً من الفطائر وشرائح اللحم والفراخ
والحلوى ذات العسل الذهبي الجميل
فكّري في تينا في لويزيانا
وانظري كيف ينمو طابقاً فوق طابق
كوني حريصة فإن النهم من الخطايا
اللوحة الخامسة
الدعارة بدون ثمن
لقد أصبح لآنّا صديق فتى جداً يحبها ويهديها الكثير من الملابس والجواهر - وعشيق كانت تحبه وكان يأخذ منها - من ثم - هذه الجواهر . لكن " آنا " (1) عابت عليها ذلك بشدة وأجبرتها على الانفصال عن فرناندو وأن تبقى مخلصة لإدوارد ، ولكن في أحد الأيام مرت " آنا " (2) أمام مقهى ورأت أختها " آنا" (1) تجالس فرناندو والذي كان يحاول بدون أي نجاح أن يتودد إليها ولكن " آنا " (2) هجمت على أختها بشدة وتشاجرتا حتى وقعتا على الأرض أمام إدوارد وأصدقائه وأمام جمهور الفضوليين وأطفال الشارع حتى سخر منهم الكبار والصغار وهرب إدوارد وهو في شدة الانزعاج ، ولكن "آنا"(1) عابت الأمر على أختها وأرسلتها ثانية لإدوارد بعد أن ودعت فرناندو وداعاً مؤثراً .

نشيد الأختين
لقد وجدنا في بوسطن رجلا
كان يدفع بسخاء عن حب وعن غرام
وكم تعبت مع أختي
لكي تحبه . ولكن رجلاً آخر
كانت هي تدفع له وأيضاً عن حب وعن غرام
وكنت كثيراً ما أقول لها : إنك بدون إخلاص
تفقدين نصف قيمتك.
لأن الرجال لا يدفعون كثيراً لامرأة ساقطة
ولكنهم يدفعون للتي يحترمونها
إن ما تعملينه لا يمكن أن تقوم به إلاّ
تلك التي لا تحتاج إلى أحد
أما الأخريات اللاتي ينسين حقيقة أوضاعهن
فلن يصادفن إلاّ المتاعب
وكنت أقول لها لا تجلسي بين مقعدين
ثم أزور فرناندو
وأقول له إن هذه الأحاسيس
هي الخراب بالنسبة لأختي
إنما تعمل ذلك تلك
التي لا تحتاج إلى أحد
أما الأخريات اللاتي ينسين حقيقة أوضاعهن
فلن يصادفن إلاّ المتاعب
لكني كنت بكل أسف أقابل فرناندو كثيراً
ولم يكن في الحقيقة بيننا شيء
ولكن أختي رأتنا مصادفة
فهجمت عليّ في الحال
إن هذه أشياء مؤسفة
ينساها الإنسان كثيراً
ولا يقوم بها
من كانت الأضواء مسلطة عليه
وبذلك أظهرت جسدها العاري الجميل
وهو أثمن من مصنع صغير
وجعلته فرجة رخيصة مهينة
للفضوليين وأطفال الشوارع
وهذه الأشياء تحدث دائماً
عندما ينسى الإنسان نفسه
ولكن هذا ما تفعله المرأة
التي لا تحتاج إلى أحد
وكم كان صعباً إصلاح كل هذا
وداع فرناندو والاعتذار
لإدوارد والليالي الطويلة
التي كنت أسمع فيها بكاء أختي وهي تقول
لقد كان هذا صواباً ولكن كم كان صعباً .
اللوحة السادسة
الجشع في السرقة والخداع
وبعد مرور مدة قصيرة خسر إدوارد كل ما يملك بسبب " آنا " وأطلق الرصاص على نفسه ومات. ونشرت الجرائد صوراً لآنا وهي مبتسمة وكان القراء - وفي أيديهم هذه الجرائد - يحيونها باحترام ويتبعونها في كل مكان وهم يطمعون في أن يكون خرابهم على أيديها . ولكن عندما ألقى شاب ثان بنفسه من النافذة منتحراً بعد ذلك بمدة قصيرة وبسببها أيضاً تدخلت الأخت وأنقذت شاباً ثالثاً كان يريد أن يشنق نفسه وأخذت من أختها آنا (2) ما ابتزته من أمواله وأعادتها إليه ، وقد فعلت ذلك لأن الناس كانوا قد بدءوا يبتعدون عن أختها بسبب جشعها الذي أساء إلى سمعتها .
نشيد العائلة
ذكرت الجرائد أن " آنا "
وهي الآن في تينسي وحولها ينتحر
الناس بكل الوسائل وقد جمعت هناك مالا ً كثيراً
ونشر مثل هذه الأشياء في الصحف
شيء جميل يزيد من الشهرة ويدفع
أي فتاة إلى الأمام
إذا لم تكن هي
جشعة للغاية
وإلاّ أخذ الناس بسرعة
يتحاشونها .. ويبتعدون عنها
إن من يظهر جشعه
يبتعد الناس عنه
ويشيرون إليه بالبنان
ذلك الذي لا حد لجشعه
فإذا أخذت بإحدى اليدين
يجب أن تعطى باليد الأخرى
ويسمى ذلك الأخذ والعطاء
وتكون القاعدة
جنيها مقابل جنيه
ومن حسن الحظ فإن ابنتنا "آنا" حريصة
ولا تأخذ من الناس آخر قميص لهم
والآن فاعلم أن الجشع العاري
ليس مما يوصى به


اللوحة السابعة
الغيرة من السعداء
ومرة أخرى تظهر آنا وهي تسير في طرقات المدن الكبرى وتشاهد في أثناء سيرها ( آنّات) كثيرات أخر ( تحمل الراقصات أقنعة تجعلهن جميعاً شبيهات " بآنّا " يمارسن الجشع وغيره دون تورع أي أنهن يرتكبن الخطايا التي حرمت عليها هي وتكون الفكرة الأساسية التي يقدمها هذا الباليه هي " أن الأخريات سيصبحن الأوليات " إذ بينهن شبيهات أخريات بفخر تحت الأضواء تحس " آنّا " (2) خطاها بتعب منحنية القامة ، ولكن بعد ذلك يبتدئ النصر فتسير بينما تقع الأخريات الواحدة بعد الأخرى ويخرجن من أزقة مظلمة .
نشيد الأختين
وكانت آخر مدن رحلتنا سان فرنسيسكو
وقد صار كل شيء على ما يرام . ولكن " آنا "
كثيراً ما كانت متعبة
كل امرأة كانت تقضي يومها في التراخي
لا تحفل بشيء وفخورة تغضب لكل ما هو وضيع
مستسلمة لرغباتها سعيدة
لا تحب إلاّ الحبيب
وتقبل منه دائماً ما تريد
وكنت أقول لأختي المسكينة
يا أختي : لقد ولدنا جميعاً أحرارا
وكان يمكننا أن نسير في الحياة كما يحلو لنا وفي وضح النهار
ونسير في طريق ملتو إلى أبواب النصر
ولكن إلى أين نذهب . هذا ما لا تعرفينه
يا أختي اتبعي نصائحي وتنازلي عن رغباتك
التي توقعك كما وقعت الأخريات
دعك من هؤلاء الحمقاوات
اللواتي تكون نهايتهن سيئة
لا تأكلي ولا تشربي ولا تكوني خاملة
فكري في عاقبة الحب
تذكري ما يحدث إذا فعلت دائماً ما تريدين
لا تفرطي في شبابك فإنه لا يدوم
يا أختي اتبعي نصائحي وسترين في النهاية
إنك ستنتصرين على كل الأخريات
وستقضين صامدة أمام العقبات المخيفة
ولن ترتعدي أمام الأبواب المغلقة
ثم عدنا .. أختي وأنا إلى لويزيانا
حيث تجري مياه المسيسبي تحت ضوء القمر
كما تعلمون من الأغاني الكثيرة
لقد بدأت رحلتنا منذ سبع سنوات إلى المدن الكبرى
لنجرب حظنا الآن
لقد حققناه
والآن لقد بنيناه وهاهو ماثل أمامنا
منزلنا الصغير في لويزيانا
منزلنا الصغير على نهر المسيسبي
في لويزيانا " (12)
تعقيب نقدي عام
تتجلى براعة بريشت الإبداعية في تناوله أو إعادة تناوله للخطايا السبع تناولاً معنوياً بحيث جعلها من ناحية خطايا للبرجوازي الصغير الطامح دائماً إلى الملكية ومن ناحية أخرى صياغتها بحيث تشكل جزءاً من نسيج عمل فني تمتزج فيه فنون متعددة هي فن الحكي الدرامي ، وفن الغناء وفن الباليه ، وفن الموسيقى ، وبما يحقق أسلوبه وفق نظريته في التغريب الملحمي ، ويخلق شكلاً إبداعياً شاملاً لعرض مسرحي . وهو ما يكشف عن أن بريشت بذلك يعد رائداً من رواد فن ( المسرح الشامل )
وبالنظر إلى تناول مارلو للخطايا السبع وتجسيدها على هيئة شخصيات تستعرض أمام فوستس للترفيه عنه كمكافأة يقدمها له ميفستوفوليس بسبب طاعته له بعدم معودة ذكر اسم الله ، تتضح انفصال عرضها التجسيدي عن نسيج النص الدرامي ، وتصوير فوستس كما لو كان مجرد مقدم برامج أو مذيع ربط تلفازي أو مسرحي إذ لا صراع بين فوستس والصفات ( الخطايا ) ولا حدث بينه وبينها . والصورة بذلك يمكن أن تعد بذرة لفن الاستعراض .
وإذا كان مارلو قد جسد الخطايا السبع بوصفها صفات مجردة أو أنماطاً ورموزاً ، فإنه جعلها تقدم نفسها بنفسها في حالة فخر وزهو بنفسها ، فهي هنا ليست مذمومة من جهة الدين ولا هي محببة من جهة فوستس - مشاهدها الأوحد في الحدث بهدف التسلية لا أكثر ولا أقل - أي لا أثر درامي لها.
فإن بريشت في تناوله للخطايا السبع بوصفها صفات معنوية مذمومة من قبل البرجوازي الصغير من حيث طريقة الممارسة في إطار وعيه الطبقي الحاد بما هو نفعي له دون غيره ، وبما يحاول دون الملكية التي ينشدها ويسعى إليها سعياً حثيثاً وفق تخطيط وفكر مدروس ومبرمج ، وإدارة تنفيذية شديدة الوعي على المستوى الطبقي والبراجماتي وشديدة الصرامة في التزام برامجها والخطوات المرحلية لتحقيق هدفها النهائي ، حيث تعمل باستمرار على تصويب مسار رحلتها نحو الثراء ، وذلك استرشاداً بما يناسب كل مرحلة من إرشاد أو وصية تقبح أو تذم الفعل الذي يبعدها عن تحقيق هدف منشود في الخطة أو عامل إحباط لمرحلة من مراحل الوصول إلى حيازة المال والثراء ، وذلك بعد وقوع الخطيئة وفيما يشبه التحذير من ناحية ويشبه النقد الذاتي من ناحية ثانية . ولاشك أن بريشت قد انتبه للبذرة الاستعراضية في نص ( مأساة الدكتور فاوستس ) وإبسن في ( بيرجنت ) ولينين الرملي في (الهمجي ) واعتقد أن كل هؤلاء الكتاب قد انتبهوا إلى ذلك ، فإذا كان بريشت قد انطلق من هذه الصورة التي رسمها مارلو للخطايا السبع الذي فصلها عن نسيج نصه التراجيدي لتبدو على هيئة ( نمر ) أو فقرات ، بشكل حيلها إلى عرض نماذج أو موديلات للصفات كما لو كانت كل صفة منها زياً من الأزياء الأخلاقية في عرض للأزياء أمام شخصية عظيم ( ضيف زائر ) بترتيب من مضيفه وهو هنا (مفيستوفوليس) الذي يحتفي به على ذلك النحو الكرنفالي ( الاحتفالي ) فإن بريشت قد صاغ عمله كسيناريو لباليه تتخلله أغان تمهيدية ونقدية، في حين أن جيته في ( فاوست ) (13) يصور صفات متعددة أيضاً تصويراً احتفالياً أيضاً مثل صفات ( النقص ، الخوف ، الرجاء ، الدين ، الحاجة ، الهم ) سبع صفات يصورها بوصفها شروراً لا مهرب منها سوى بصفة أخرى واقية منها وهي صفة ( الحصافة ) وهي عنده وسيلة تقييد ( للخوف والرجاء ) حماية للناس من شرهما . ففي ثنايا الأحداث من عمله الملحمي الدرامي (فاوست) وفي الجزء الثاني تتنقل الأحداث عبر عشرين منظراً ( مكاناً ) من خلال استهلالين تعقبها أحداث النص المسرحي الأول الذي يستغرق ثلاثة وثمانين ومائة صفحة ، وتدير الحوار في أحداثها سبعة وثمانون شخصية . ويتضمن الجزء الثاني من النص المسرحي خمسة فصول اشتملت على أربع عشرة شخصية تدير عشرين مكاناً ومنظراً تضاف إليها جوقات متعددة من الشياطين والصبيان والرهبان والملائكة وجند السماء ومجاميع نوعية . هذا فضلاً عن اللغة المدججة بالمعلومات والمزدحمة بأسماء الأعلام والأماكن والحوادث والمعارف التي اثخن بها جيته جسد النص ، الأمر الذي حدا بالمترجم د. عبد الرحمن بدوي أن يحشد لها تسعين وخمسمائة حاشية في هوامش جزئية للنص وهو ما يحول بينها وبين التجسيد في عرض مسرحي ، ويصيب متلقيها بالارتباك في التركيز والاستيعاب حيث ارتباك النص نفسه . ففي تناوله لفكرة الخطايا عالجها أيضاً كصفات تلبست شخصيات نمطية تؤكد البعد الديني الأخلاقي عند البشر جميعاً .
وحتى مع الإعداد الذي وضعه شعراً د. محمد عناني (14) للمسرحية نفسها وهو قصير (في فصل واحد ) لم يتجسد هذا النص المعد أيضاً على المسرح حتى الآن .
على أن معالجة إبسن لها متفرقة في المشاهد الأخيرة من مسرحية ( بيرجنت ) لم تخرج عن ذلك التصوير أيضاً ، فهي صفات لصيقة بالبشر جميعاً - مخلوقة معهم - ولا تنتهي إلاّ بنهاية البشر ، فهي إذن دينية أخلاقية - وهي وإن ارتبطت بنسيج الشخصية - إلى حد ما - إلاّ أنها لا تحدث الارتباك الذي يحدثه تصوير الخطايا كما هي عند مارلو أو عند جيته.
أما المعالجة المسرحية المصرية للخطايا السبع فنجدها عند لينين الرملي في عرض من إخراج محمد صبحي وتمثيله بعنوان ( الهمجي ) حيث تحولت الخطايا إلى عناوين يتبع كل منها لوحة يقدم لها راويين في هيئة ملاك ( ذكر وأنثى ) وآخر في هيئة شيطان وذلك في انفصال تام عن الحدث الذي يشخص أو يجسد بعد الرواية أو التقديم بما يحيل الرواة إلى مجرد مقدمي برامج أو فقرات في عرض مسرحي أمام الجمهور . ويلي كل تقديم صورة تجسيدية ممثلة للصفة المذمومة أو الخطيئة التي يجب تجنبها ويأتيها الارتباك في استخدام تقنية تغريبية (الرواية والأقنعة) في موضوع ديني أخلاقي إيهامي يستهدف التعليمية في حين أن المنهج التغريبي الملحمي كل لا يتجزأ تقنيات وأسلوب ومضمون وتلقي. وهكذا ظهر الاختلاف في المعالجة بين مارلو وجيته وابسن الذي وضع الخطايا على هيئة الاعتراف الأخير لبيرجنت أمام ملاك الموت الذي ظهر متنكراً في هيئة قس يحمل شبكة صيد الأرواح حيث يعترف له بيرجنت بأنه اقترف ( الجشع والإشراك والكفر والقتل .. ) وظهر فاوست جيته موكب المساخر بذرة للاستعراض ، كما ظهر عند مارلو وذلك تتويجاً لمثالية الفكر والتوجه بعكس بريشت الذي نحا به فكره المادي الجدلي إلى قصر الخطايا على البرجوازي الصغير .
أخلص مما تقدم إلى أن اختلال توازن انتباه المؤلف أو المخرج أو المصمم أو الممثل هو نتيجة عدم استغراقه التقريبي في عمله الإبداعي في توزيع انتباهه على كل عناصر عمله الإبداعي بالتساوي مما يربك الصورة الإبداعية ومن ثم يفقد الإبداع قدرته على خلق الإثارة الإمتاعية والإقناعية للمبدع نفسه قبل المتلقي .




المبحث الثالث
الارتباك الإبداعي في فن المخرج المسرحي
إذا كنا قد قلنا إن تفكير المؤلف المسرحي بالصفات في رسمه للشخصيات وللفعل المسرحي يشكل السبب الرئيسي لارتباك إبداعه في النص وضربنا لذلك بعض الأمثلة والشواهد من بعض النصوص المسرحية العالمية والمصرية ، مع التركيز على معالجة بعض كتاب المسرح ومفكريه لفكرة (الخطايا السبع ) بين الإبداع الحداثي الواعي ، والإبداع التراثي المرتبك ؛ فإننا نقف في هذا المبحث على نماذج من الارتباك الإبداعي لعدد من إبداعات الإخراج المسرحي ، إذ عندما يختل توازن انتباه المؤلف أو المخرج أو الممثل المسرحي أو مصمم المناظر نتيجة لعدم استغراقه التقريبي في عمله الإبداعي في توزيع انتباهه على كل عناصر عمله الإبداعي بالتساوي ترتبك الصورة الإبداعية ؛ ومن ثم يفقد الإبداع قدرته على خلق الإثارة الإمتاعية والمنطقية الإقناعية للمبدع نفسه قبل المتلقي، والمحزن فعلاً هو عدم إدراك المبدع نفسه لعدم استمتاعه وعدم اقتناعه المضمر بعمله ذاك، وبعدم توحده مع شخصياته في أثناء إبداعه لعمله كتابه أو إخراجاً أو تمثيلاً أو تصميماً.

الارتباك الإبداعي في صورة العرض المسرحي ( لمخرجين رواد )
كثيراً ما ترتبك الصورة الإبداعية في فكر أحد المخرجين المسرحيين نتيجة لضيق وقت العملية الإنتاجية أو لعدم إطالة المخرج في تأمل النص المسرحي نفسه أو عدم الدقة في تحليل المواقف والأحداث وتحليل الأداء المسرحي أو سوء توزيع الأدوار . وبالمعنى التام نقص عملية الاكتمال الفكري والمعرفي بالنص موضع الإخراج بوصفه القاعدة الأساسية التي ينبني عليها الاكتمال الفني المجسد تجسيداً إبداعياً لحياة النص المسرحي أو الاكتمال الفني إذا كان النص ملحمياً ما بعد حداثي . وهنا أتوقف أمام تجربة إخراج الفنان حسين جمعة لمسرحية ( الإسكندر الأكبر ) لمصطفى محمود التي لعب دور الإسكندر فيها الفنان والمخرج كرم مطاوع وذلك في أوائل السبعينيات من القرن العشرين على المسرح الروماني بالإسكندرية . وعلى وجه الخصوص المشهد الذي يقتل فيه الإسكندر أخاه في الرضاعة ( كليتوس ) عندما عارضه على ملأ من القادة والجند . فلقد شكل المخرج حسين جمعة المشهد في تكوين جماعي حيث قادة الإسكندر وجنده يصطفون خلفه وكليتوس في مواجهته عن بعد وبينهما المشادة الكلامية بينهما دائرة يحتد الإسكندر وينزع عن أحد الجنود حربته ويدفعها في صدر كليتوس فيرديه قتيلا بعد أن حاول القادة المقدونيين منعه من إشهار سيفه فصاح فيهم ( هل أنا معتقل ؟! ) فلما فزعوا تاركين إياه وكليتوس نزع الحربة وقتل بها كليتوس . والارتباك هنا جاء من اعتماد المخرج على المعلومة الخاصة بحادثة القتل من كتب التاريخ المقررة على تلاميذ المدارس في مصر - في فترة ما - ولو بحث المخرج وسعى نحو الاكتمال الفكري والمعرفي (التاريخي ) لعلم أن الإغريق لم يعرفوا الحربة سلاحاً في حروبهم ، إذ أنها لم تكن مستعملة بعد في حروبهم في تلك الحقبة التاريخية وإنما السيوف القصيرة كانت سلاحهم الحربي . هذا من ناحية نقص المعارف . غير أن هناك نقصاً في الاكتمال الفني الذي يتوج عن طريق الإمتاع والإقناع بتحقق الأثر الدرامي الذي تستهدفه الصورة المسرحية حيث أن عملية ترك القادة للإسكندر والإخلاء بينه وبين كليتوس ثم نزعه للحربة من أقرب جندي ودفعها في أحشاء كليتوس تم بسرعة لا تمكن من خلق حالة الإشباع للحظة أو للقطة ، بحيث يمهد الجمهور تمهيداً نفسياً ، ويوترهم أو يشوقهم - إلى حد ما - تحقيقاً للبعد الجمالي للصورة وهو البعد الذي يحقق حالة الإمتاع من ناحية ويخلق ما يعرف بأفق التوقعات بحيث يتأرجح ظن الجمهور ما بين التساؤل المتباين هل سيقتل الإسكندر كليتوس أم لا . ولقد شعر بذلك الفنان كرم مطاوع ممثل دور الإسكندر في ذلك العرض وبحسه الإخراجي الإبداعي اعترض على تجسيد المخرج حسين جمعة لذلك الموقف وهنا تنحى حسين جمعة قليلاً وأخرج كرم مطاوع المشهد ، بأن جعل المسافة التي بين الإسكندر وبين كليتوس ستة أمتار في ( أرينا) المسرح الروماني ، ثم عند ترك القادة له والإخلاء بينه وبين كليتوس نزع من أحد القادة سيفه وتقدم به في تؤدة نحو كليتوس شاهراً السيف إلى أن أصبحا قاب قوسين من بعضهما بعضاً ثم توقف برهة وطعنه في هدوء . وبذلك حقق إخراج كرم مطاوع لذلك المشهد حالة الإشباع والتوكيد وخلق لدى الجمهور حالة التوتر والتشويق وأفق التوقعات فحقق الإمتاع وهو الأصل في الفن قبل أن يحقق الإقناع ومن ثم الأثر التراجيدي . وبذلك انتفى الارتباك الإبداعي من تلك الصورة المسرحية على المستويين (مستوى الاكتمال المعرفي التاريخي ) و ( مستوى الاكتمال الفني).
وفي إخراج مسرحية ( شركان في بيت زارا ) للمؤلف المصري مصطفى بهجت على مسرح سيد درويش بالإسكندرية في نهاية الستينيات استبدل مخرجها محمد عبد العزيز الكورس البشري بماكيت خشبي متحرك على قاعدة ذات عجلات يدخلها عمال المسرح في لحظة إظلام وتسقط عليها إضاءة درامية ذات ظلال ويصاحب ثبات حركتها في المشهد بتسجيل صوتي لحوار الكورس . وبذلك وقع المخرج في الارتباك الإبداعي الذي كان يمكنه تلافيه لو أنه جسد مواقف الكورس وهم من (الأشباح) الذين يظهرون لشركان قائد الثورة الذي غدر بهم وهم رفاقه ، ولو كان قد جسدهم بمجموعة ممثلين بشر حقيقيين لما وقع في الارتباك الذي أثار حفيظة المؤلف - آنذاك - وانتفى عنه الإمتاع ومن ثم الإقناع فالتأثير الدرامي .
وفي إخراج جلال الشرقاوي لمسرحية ( الزلزال ) لمصطفى محمود وهي مسرحية ذهنية تأسست على حدوث تجربة لتفجير نووي في صحراء قريبة من منطقة سكنية آمنة فزلزلت البيوت مما ظن معه أهالي المنطقة أنه زلزال .
والارتباك في إخراج جلال الشرقاوي حادث في الأسلوب الفني المغاير تمام المغايرة للأسلوب الأدبي للنص من ناحية وفي آليات تجسيد الصورة المسرحية للحدث الرئيسي عن طريق ( الديكور ) .
فمن ناحية الأسلوب فإن المسرحية فكرية ذهنية والقاعدة المعروفة عند إخراج نص فكري أو ذهني أن يجرد العرض في الأداء وفي الأزياء وفي المناظر والملحقات وهذا ما يتبع عالمياً مع المسرحيات الذهنية وذات الطابع الفلسفي ، غير أن الفنان جلال الشرقاوي أخرجها إخراجاً طبيعياً يعني بالتفصيلات الجزئية في المنظر وفي الحركة فأقام ديكوراً كاملاً (بانوهات كاملة ومركبة لغرفة معيشة حوائط وأريكة تركية الطراز وثريا مدلاة من سقف الغرفة .
وقبل حدوث الهزة الأرضية ( الزلزال ) كانت والدة البطل ( سيدة الدار ) تجلس قاعية على الأريكة وظهرها مستنداً إلى حائط الخلفية في مواجهة الجمهور ، لكن بعد حدوث الزلزال تتأرجح خشبة المسرح بالمنظر وترتج ارتجاجاً عظيماً تقع على إثره بعض جوانب في حوائط الغرفة ويخرج اللهب من بعض ثغرات في الحوائط ومنها ثغرة كبيرة خلف الأريكة مباشرة ومع ذلك تظل الأم في مكانها والنار تخرج من خلفها دون أن تمسها بأي سوء حتى ظننت أنها ( إبراهيم الكليم )وذلك هو عين الارتباك في التصور أولاً وفي آليات التجسيد ثانياً . كما أن الثريا كان محتماً سقوطها ما دام الزلزال هدم حوائط البيت ولكنها مع ذلك لم تهتز هزة واحدة !! وهذا عجيب والأعجب كمنه أن الجمهور استمتع دون أن يلحظ ما لاحظته فجعلني أرفع عقيرتي في أثناء العرض ( النجفة لم تتحرك ) مما لفت انتباه الجمهور . فالإبهار أو شكلانية الصورة غطت على موضوعاتها حيث خشبة المسرح تتأرجح كلها لأن المنظر مثبت على طبلية : منصة بعرض خشبة المسرح ومتصلة من جوانبها الأربعة بحبال مختفية يرفعها العمّال نحو أعلى بضع سنتيمترات ومع دفع العمال للديكور من الخلف وحركة الممثلين عليها يتأرجح ومع فتح شناكل لتكوينات ( تفريعات في الحوائط على هيئة كسور وثغرات وحزم إضاءة حمراء تتقاطع في دخولها من تلك الفتحات في حوائط الديكور مع دفعات من هواء المراوح الجانبية تدخل حزمة الضوء الأحمر متقطعة فتحدث حالة الإيهام عند الجمهور بأن ناراً تخرج من خلف الحوائط إلى داخل الغرفة من الثغرات - ومع ذلك لم تحترق الحاجة ست البيت ولم تتململ في جلستها على الأريكة .




الارتباك الإبداعي في تجريب مخرجين شبّان
كانت للمخرج الأردني ( رائد عودة ) تجربة إخراجية أولى إذ تصدى لإخراج (كاليجولا) لألبير كامو ، انطلاقاً من أن كل العروض التي قدمها من تصدوا لإخراج ذلك النص لم يقنعوه أو حسبما قال: " إن كل ما سبق لم يشبع رؤيتي الإخراجية فكل مخرج من المخرجين الثلاثة " ( يقصد :سعد أردش ، والسوري جهاد سعد ، والأردني حكيم حرب) وهو قطعاً لم يشاهد العرض الذي أخرجته لنص كاليجولا 1997م في مصر وعندما يسأل عن الجديد الذي قدمه على صعيد التقنية والمعالجات المختلفة التي سبقته إلى تقديم كاليجولا يجيب ( الجديد في عرضي أنني أقدم الشخصية المحورية "كاليجولا " بثلاثة مستويات أعبر عنها من خلال ثلاث شخصيات . كما قدمت في عرضي مقاربة موضوعية للمستويات الثلاثة مستفيداً من أطروحات فرويد حول الأنا العليا " الليبيدو " والأنا السفلى والمستوى الوسيط بينهما، ضمن شرائح اجتماعية متباينة المستوى المعيشي والثقافي وجعلت تفاعلات الشخصية وصراعاتها واقعية وقريبة إلى نفس المتلقي وهمومه
وشجونه"(15)
وإذا كنا نلاحظ ارتباكاً في فهم المخرج للفلسفة الوجودية المادية التي صدر عنها نص ألبير كامي ، فإن ذلك يتجسد في العرض نفسه الذي شاهدناه للنص الذي أعده المخرج نفسه عن أصل نص كاليجولا . ويتضح هذا الارتباك في أنه أسس نظرته لمضمون نص كامي على أطروحات فرويد حول مستويات الأنا مبتعداً عن جوهر فلسفة الوجودية المادية حيث مقاومة الأنا للآخر انطلاقاً من كون الأنا جزيرة منعزلة ونظرة الأنا إلى الآخر بوصف الآخر مجرد شيء إلى أن يتم التعامل في سبيل محاولات تحقيق كل من الأنا والآخر لجوهر وجوده فيصطدم كل منهما بالآخر حيث يدركان أن حريته ليست مطلقة ولكنها حرية تلتزم بعدم التعدي على حرية الآخر . ولأن كاليجولا يظل طوال الوقت يفكر في الآخر بوصفه مجرد شيء من هنا فهو يعمل طوال الوقت وبإصرار وإرادة لا تحدها حدود على نفي الآخر قيمة ووجوداً مادياً فهو ينفي من وجوده ومن وجود الآخرين فكرة الصداقة وفكرة الحب وفكرة الأسرة وفكرة الدولة وفكرة الثقافة فهو لا يعترف بالأدب والشعر ولا الفن ولا الدين ولا شيء ذو قيمة عنده سوى المال الذي يجب أن تمتلئ به الخزينة فهي الدولة والدين والقيم كلها . وموقفه من الآخر يتجسد في علاقته بأعيان مملكته ومساعديه إذ يعمل فيهم التقتيل ويحيل نسائهم إلى عاهرات عموميات في قصره الذي أحاله إلى دار دعارة نظير رسم نقدي .
وهو لمزيد من الرغبة في السيطرة على الأرض يريد السيطرة على القمر - أي المستحيل - دون جدوى.
فشخصية كاليجولا إذن بلورة فكرية فلسفية للوجودية المادية ومن هنا فإن التعامل معها يجب أن ينطلق من منطلق تلك الفلسفة وتعامل المخرج الشاب معها بوصفها ( ثلاثية الأنا) وجعلها حالة فردية مأزومة نفسياً ( عصابية ) ومن ثم مال تجسيده لها إلى الوجهة التعبيرية القائمة على إسقاط الذات لمعاناتها الداخلية الذاتية فاستحال الحوار بين الأنا والآخر إلى ما يشبه المناجاة - مناجاة النفس الواحدة لنفسها عبر الترديد الخافت للأنا الثانية وللأنا الثالثة لكل ما تصدره الأنا الأولى تعبيراً عن أزمتها النفسية ومعاناتها الذاتية. وفي رأيي فإن كاليجولا لم يكن يعاني أزمة نفسية ما بقدر ما كان صاحب فكرة مجنونة بزغت في عقله وآمن بها أشد الإيمان وعمل على تحقيقها عن وعي تام وبخطى حديدية ثابتة. ومن كان على تلك الحالة لا يكون مأزوماً على المستوى النفسي ، لأن المأزوم حائر دوماً ومرتبك أبداً حتى يشفى من أزمته ولم يكن كاليجولا حائراً ولا متردداً ولا مرتبكاً ، وإنما كان مثالاً لفكرة الأنا المنقطعة لذاتها والمحققة لجوهر وجودها الأوحد والنافية للآخر بدأب وحزم ومفاجأة . فيتحد صارخ ومعلن للآخر ( شيريا زعيم المعارضة الذي يدبر مؤامرة ضد كاليجولا مع عالم كاليجولا لذلك وتشجيعه له على الرغم من ضبطه له متلبساً مع آخرين في اجتماع خاص أو جلسة تآمر ضد كاليجولا) .
ومن مظاهر الارتباك في رؤية المخرج الشاب في عرض كاليجولا إلغائه لشخصية (هيليكون ) التي رسمها ألبير كامي في النص الأصلي صورة للعقل المراجع لخطوات كاليجولا في كل مرحلة من مراحل تنفيذه لمخططه الانعزالي والاغترابي .
إلغاء المخرج الشاب للمشهد الذي ينصب كاليجولا نفسه محل الآلهة ( فينوس ) فيرتدي زيّاً نسائياً خليعاً وينتصب على قاعدة مجسداً تمثالها والأعيان والرعية راكعة عند قاعدة التمثال الذي هو (كاليجولا/فينوس ) يقدمون الأموال والهبات . وكذلك إلغائه لمشهد الشعراء ، حيث يجسد موقف كاليجولا من الشعراء وذلك كله يمثل إسقاطاً أراده كامي نقداً لموقف ستالين في الاتحاد السوفيتي من الدين ومن الشعراء والأدباء ومن فكرة الأسرة والصداقة ، وقد كتبت هذه المسرحية في زمن سطوة ستالين وتنكيله بزملائه ورفقاء الثورة ونفيه للكثير من القيم الاجتماعية . ومثل تلك المشاهد تجسد ذلك الموقف الديكتاتوري تجسيداً نقدياً يكشف عن سطوة الأنا واستبدادها في عزل نفسها عن الآخر والقعود عند فكرة القطيع البشري .
ولعل من مظاهر الارتباك أن يصطنع المخرج الشاب حلاً للخلاص من تلك الشخصية المتسلطة في نهاية العرض بأن يسقط له حبل مشنقة من سقف الفضاء المسرحي ليوحي بأن الخلاص من مثل تلك الشخصية لا يتحقق إلاّ بحل إلهي من السماء . وهو بذلك يلغي دور الآخر المادي ليحل الآخر الميتافيزيقي . وذلك مناقض تمام المناقضة لفكر كامي الوجودي المادي الذي لا يؤمن بالميتافيزيقا (عالم ما وراء الطبيعة ) ومن ثم ينتهي الحدث في النص الأصلي بتكالب الأعيان بقيادة ( شيريا ) زعيم المعارضة على كاليجولا بسيوفهم فيفتكون به . وذلك متطابق مع فكر المؤلف ومع الوجودية المادية حيث تؤمن بوجود جبري وبماهية اختيارية اختياراً بشرياً مادياً فنحن نوجد جبراً ونحيا اختياراً - وفق تلك الفلسفة -







ثبت مصادر ومراجع الباب الأول
الفصل الأول
* المسرحية من تأليف الشاعر المصري فاروق جويدة نشرتها دار غريب بالقاهرة في طبعتين الأولى في يناير 1981 والثانية معدلة وفق النص الذي أخرجه فهمي الخولى من بطولة عبد الله غيث وسميحة أيوب للمسرح الحديث والمونولوج ( من المشهد الرابع في السجن )
1- راجع النص : المنظر الأول من الجزء الأول من صـ 7 : 17 و كذلك مونولوج الحلاج أمام قضاته من صـ 96 : 101 طبعة روز اليوسف – القاهرة يناير 1980
2- أحمد زكي , فن التمثيل المسرحي , سلسلة كتابك 149 , القاهرة , دار المعارف 1978 من صـ 47-48
3- أحمد زكى , نفسه , صـ 49
الفصل الثاني
- لويس معلوف ، المنجد في اللغة والأدب والعلوم ، ط التاسعة عشرة ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكية مادة : ربك ، ص 247 .
2- قاموس إلياس العصري ، ط. التاسعة ، القاهرة ، المطبعة العصرية ، 1970 ، ص 239 .
3- آه يا ليل يا قمر ، ص 135 .
4- جلال العشري ، مقدمة مسرحية : آه يا ليل يا قمر - سلسلة مسرحيات عربية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
5- آه يا ليل يا قمر ، ص 131 .
6- د. أحمد شمس الدين الحجاجي ، " الزير سالم بين السيرة والمسرح " ( مجلة الفنون الشعبية) ع (7) السنة الثانية ، القاهرة ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر ، يناير 1984م ، ص 64 .
7- د. عز الدين إسماعيل ، ( فصول ) م2 - ع3 السنة 1982 ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
8- ألفريد فرج ، الزير سالم ، نفسه .
9- المصدر نفسه ، ص 17 .
10- راجع : ألفريد فرج . مقدمة مسرحية الزير سالم ، نفسه ، ص 8 .
11- ألفريد فرج ، الزير سالم ، القاهرة ، المؤسسة المصرية العامة للكتاب .
12- برتولت بريشت ، الخطايا السبع للبرجوازي الصغير - باليه في سبع لوحات - ترجمة : محمد النحاس ، مجلة ( المسرح ) ع 63 ، القاهرة ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر يونيو 1969م
13- جيته ، فاوست ، النص المسرحي (1) ، (2) ترجمة : د. عبد الرحمن بدوي ، الكويت،سلسلة من المسرح العالمي الكويتيةع (233) في أول فبراير 1989،ع (234) أول مارس 1989م .
14- جيته ، فاوست ، عن يوهان فولفجانج فون جيته ، إعداد شعري : د. محمد عناني ، مجلة المسرح ع 112 ، مارس ، 1998 ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
15- رائد عودة في محاورة محمد جميل خضر له مسرحية " كاليجولا " أول عمل إخراجي لمخرجها (عمون ) نشرة مهرجان عمون لمسرح الشباب الثامن ، ع الثاني ، الثلاثاء ، 31/8/2002م ، ص3


الباب الثاني
الإخراج المسرحي في تجارب الرواد


الفصل الأول
القراءة المفسرة للنص المسرحي (1)
نبيل الألفي
مناهج الإخراج المسرحي و تجارب الرواد في مصر
ظهرت في لغتنا العربية ترجمات لعدد من الكتابات الأجنبية حول مناهج الإخراج ومدارسه المختلفة , كما ظهرت كتابات استعادية لقراءات في مدارس الإخراج المسرحي ومناهجه,بأقلام مخرجين مصريين كبار منهم سعد أردش (1) و أحمد زكي (2) , كما ظهرت أخيرا دراسة إمبريقية موسوعية حول (مناهج عالمية في الإخراج المسرحي ) للدكتور كمال عيد(3) ومن أسف أن لا توجد دراسة متكاملة علي أي مستوي أو منهج أفقي أو رأسي تتناول جهود مخرجينا المسرحيين , حتى في مجال الرسائل العلمية ؛ إن وجد من بينها ما تعرض لنفر من أولئك المبدعين في فنون الإخراج , فإن تعرضهم لا يعدو وريقات تعد علي أصابع اليد الواحدة – وذلك في حدود ما أعلم – و إن ظهرت بعض الكتب حول حياة نبيل الألفي أو كرم مطاوع أو عزيز عيد إحياء للذكري وتجديداً للدور الريادي و تبرير ذلك عند كمال عيد في مقدمة كتابه الموسوعي المشار إليه يتمثل في " عدم بروز منهج له حدوده و خصائصه , الذي يمكن أن يميزه بالأساس العلمي المقعد " فمن وجهة نظره " هناك اتجاهات مختلفة التكوين و النشأة تعود إلي مدارس أوربية درسناها في مسارح أوربا , لكنها لم تصل بعد في نتائجها إلي مستوي المنهج المحدد بالمزايا و الخصائص و القواعد و الظواهر المسرحية اللامعة "
ومع ذلك فليس هناك ما يمنع من رصد جهود عدد من مخرجينا المسرحيين رصدا إمبريقيا أشبه ما يكون بمبحث يعطي طلاب علوم المسرح و لو نبذه قصيرة عن دور بعض المخرجين ممن لهم بصمة في حياتنا المسرحية . غير أن ذلك لا يحول دون عرض موجز لبعض المناهج الإخراجية العالمية كمقدمة تمهيدية .
في مناهج الإخراج المسرحي
* البداية العلمية لفن المخرج المسرحي :-
أرجع الباحثون في تاريخ المسرح البدايات المنهجية لفن المخرج المسرحي إلي جورج الثاني ( دوق مقاطعة ساكس ميننجن ) وعدوا المحاولات الإخراجية الأولي لرجل المسرح القديم اسخيلوس وسوفوكليس و يوربيدس و لرجل المسرح في عصر النهضة شكسبير و راسين وكورني وموليير ومن تبع دربهم علي طريق التأليف و الإخراج و التمثيل و الإدارة مجرد محاولات , لا تدخل في إطار التخصص الذي نعرفه اليوم في مجال الإحراج المسرحي .
وهكذا بدأ مفهوم الإخراج في التبلور و التحور عبر الأساليب المختلفة للمدارس الأدبية (الكلاسيكية والطبيعية والرومنسية و الواقعية و التجريدية و الرمزية و التعبيرية و الملحمية والتسجيلية ) بعد أن كان الإخراج في بداياته مقصورا علي تنظيم عناصر العرض المسرحي, في إطار الترجمة الحية للنص المسرحي بالتجسيد التمثيلي مع المصاحبة الموسيقية والغنائية واللوحات الراقصة و الأزياء و الأقنعة وبالقليل من الملحقات , وذلك علي مر العصور التي كانت العروض خلالها تقام في مسارح الهواء الطلق و في الأماكن المفتوحة التي تتسع لعشرات الآلاف , غير أن الأمر قد تغير بالقطع منذ إجراء العروض المسرحية بعد مغيب الشمس وقد كانت قبل ذلك تتم قبل غروب الشمس .
لاشك أن كل عصر يبتكر أساليب تعبيره عن نفسه بالفن الذي ينبع منه ومن تفاعلاته الحضارية وآليات الحياة الثقافية القومية و الوطنية , أو يفد إليه من حضارات أخري مجاورة زمانا و مكانا , يري فيها ما يفي بحاجته إلي التعبير عن نفسه و عن تفاعلاته الحيادية والثقافية .
ولأن النص المسرحي قد تطور وفق تطور المجتمعات عبر العصور و ظهرت فيه مؤثرات النظريات العلمية و الفلسفية و النفسية حتى انتهي إلي ما انتهي إليه من تنوع في المدارس الفنية و الأدبية , فإن أسلوب النص المسرحي يتصل بأسلوب عرضه و لأن المسرح المصري وافد غربي نصا و نظرية و عرضا لذلك اتخذ أساليب النص المسرحي و العرض المسرحي الغربي برغم كل الادعاءات و الدعوات التنظيرية في مصر أو في المغرب نحو مسرح مصري أو عربي خالص
حول الكتابات النظرية لمخرجي المسرح المصري ( نبيل الألفي ) :
لعل نبيل الألفي هو أول من مارس الكتابة النظرية في مجال الإخراج المسرحي المصري وربما العربي بعد أستاذه زكي طليمات , فكتابه الموسوم ( من عالم المسرح – تجارب ودراسات ) الصادر في عام 1960 يؤكد ذلك (1) يبدأه ( بنغمة دخول ) و ينهيه (بنغمة خروج ) و بين نغمة البداية و نغمة النهاية تقع فصوله أو عناوينه : تمهيد في قسمات من وجه مسرحنا المعاصر و يتحدث فيه عن النقد و النقاد – قصة القلق و يتحدث فيه عن البحث عن الخلود – حديث الإعداد المسرحي للقصة الطويلة و يتناول (زقاق المدق ) – امتدادات مع المحاولات الجديدة في كتابة المسرحية .
يقول نبيل الألفي من منظور نقدي لنص عرض عليه بقلم كاتب جديد " إننا معشر المشتغلين بالإخراج والتمثيل المسرحي , قد رأينا في حقلنا من قبل أعمالا قد اختفت ملامحها , ورجالا قد اندثرت معهم في التراب قيمتهم ... لأن إنتاجهم كان نفحه من حياة, ليست مقرونة بمادة تستطيع أن تصمد مع الزمن, ولأنهم لم يكن حولهم النقاد ليتعهدوا إنتاجهم بالدراسة والمناقشة .. !
ونحن اليوم أيضاً , إذا أردنا أن نقف علي شيء من فن أسلافنا في الحقل , فلن نقف إلا علي أسماء .. أسماء كأنها عناوين بغير مواضيع .."
وتأسيسا علي ذلك التقويم المبدئي المقتضب لدور المخرج المسرحي في مصر و هو تقويم علم من أعلام المسرح في عالمنا العربي سوف يجد البحث نفسه أمام تجارب عدد قليل من المخرجين في مسرحنا المصري تشكل بعض عروضهم ملمحا يستأهل التسجيل و التحليل, خاصة تلك التي أسهمت في وضع لبنة في حركة إنتاج العروض المسرحية في مصر . ولعل اسم نبيل الألفي هو أول اسم يستأهل الوقوف عنده لغزارة إنتاجه الإبداعي وإنتاجه التنظيري يقول في ( نغمة الدخول ) " عندما أزاول نشاطي كمخرج أو ممثل أو مدرس – أشعر أمام نفسي أنني مطالب أيضا بتجديد و تقويم لونين من الإخلاص و الثقة : إخلاص للفن الذي أحببته و اتخذته طريقا لحياتي ؛ و ثقة أنصار المسرح في إنتاجي و في إخلاصي لهذا الإنتاج " (7)
وهو إذ ينطلق من موقف منهجي يجد نفسه أمام مسؤولياته منن ناحية و حيرته بين توزيع طاقاته بالتساوي بين جهود الإبداع في مجال الإخراج و جهود التنظير في مجال الفكر المسرحي نفسه , وجهود التعليم و التدريس و مسؤولياته الجسام . لذلك يصرح " من هنا كان إحساسي بمسؤولية موقفي يتضخم مع كل مهمة آخذها علي عاتقي , ومن هنا كان استغراقي في عملي يحول بيني و بين الكتابة بالرغم من أنني مغرم بها هي أيضا " (8)
ولا شك أن الكثير من القضايا و المشكلات النقدية و الفنية كانت قد نشأت و تراكمت علي مر الأيام في ظل تحولات كبيرة حدثت في مجتمعنا في ظل نهضة اجتماعية و تفاعلات سياسية وثقافية وفنية تشابكت خيوطها وانعكست علي فنوننا و أدبنا المسرحي و أدلي فيها النقد بآرائه التي قد تصيب وقد تحيد عن الصواب , غير أنها – فيما يبدو – قد تركزت حول النص المسرحي لا العرض و فنونه باعتبار أن الحركة النقدية عندما كانت ومازالت محمولة علي أطراف أقلام الأدباء أو أساتذة الداب – مع أنها الآن دائرة علي ساحة أقلام صحافية يدعي الكثير منها حرفة النقد – من منظور انطباعي و إذا كانت كتابات مخرجي المسرح العالمي منهم و المصري لا تخرج عن لون من التنظير إن كانت للمخرج الكاتب وجهة نظرية متبلورة أو لون من ألوان التأريخ أو السيرة أو شكلاً من أشكال إثارة القضايا و عرض المشكلات التي مر بها هذا المخرج أو ذاك في أثناء عمله الإنتاجي و الحلول الفنية التي اجتاز بها حصان فنه الجامح تلك المعوقات أو لونا من ألوان التحليل الفني و طرق أو أساليبه الإخراجية كشفاً عن دور التصور في عمله الإبداعي أو لونا من ألوان النقد الذي وجه إلي إبداعه أو وجهه هو نفسه إلي بعض من عمله أو بعض من أعمال غيره كتابا أو نقادا أو مخرجين أو فنانين أو إداريين . ومن هذه الناحية فإن كتاب نبيل الألفي يتضمن شيئا من ذلك كله و هذا ما ينصح به عنوانه الفرعي ( تجارب و دراسات ).
ويصدق رأينا في اهتمام الكاتب بالنقد ودوره , إذ نجده يبدأه بالنقد و علاقة ذلك بالعرض المسرحي . مركزا علي ما كتبه بعض النقاد حول عروض ( إيزيس ) تأليف / توفيق الحكيم و( دموع إبليس ) تأليف / فتحي رضوان و ( قهوة الملوك ) تأليف / لطفي الخولي و كانت ثلاثية من إخراجه . فنراه يقول عن تلك الكتابات النقدية : إنه لا يعتقد أن النقد حول تلك العروض " كان من الممكن أن يصل إلي مستويات أعمق , أو يؤدي إلي نتائج أفضل لو اتفقت في الرأي سائر الأقلام .. لأن الواقع الذي لا سبيل إلي إنكاره هو أن نموها الفكري و الثقافي لا يطرد أو تدب فيه الحركة بدافع فقط من أولئك الذين يتفقون معنا تماما في وجهة النظر , وإنما يحدث العكس كذلك , فالعقول التي قد تكون أبعد أثرا في تربيتنا و صقلنا , هي العقول التي تعارضنا و لا تتفق دائما معنا في الرأي .. " (9)
وإذ يكشف نبيل الألفي الفنان الكبير و المعلم عن سعة صدره للنقد فإنما هو يكشف عن أصالة المعدن الذي يكون عليه المبدع الحقيقي و المعلم التنويري الحق – وهو نوع من الرجال نفتقده الآن كثيراً في حياتنا العلمية و الاجتماعية و السياسية و الفنية – يقول : " لا أجد أية غضاضة في أن ينفعل الناقد غاضبا أحيانا في دفاعه عن حقيقة مطموسة , أو قضية شريفة؛لأن غضبة صغيرة عادلة في مثل هذه الحالة,قد تضيء العالم من حولها..(10)
ولأنه يعلم أن النقد نفسه متفاوت النظرة ما بين اتجاه و اتجاه مغاير و ما بين أسلوب وآخر وناقد وآخر لذلك يحدث عندنا أحيانا أن ناقدا يرفض مسرحية , لمجرد أنها ترتكز في بنائها وصياغتها علي تصوير مأساة مجموعة من الناس في مشاكلهم و قضاياهم , و في أسباب معيشتهم و حياتهم اليومية .. ويصرخ الناقد قائلا : إن هذا ليس بفن و ليس بمسرح علي الإطلاق !!
ثم يحدث أن يتكلم نفس الناقد عن مسرحية أخري , فيشيد بقيمتها الفنية , و يتغنى بعبقرية الأديب الذي صاغها , لمجرد أنها مسرحية تصور مثلا مأساة الإنسان المطلق في صراعه الأبدي ضد الزمن أو ضد الموت ... و هنا يرتفع هتاف الناقد قائلا : هذا هو الفن, و هذا هو المسرح !! ( 11 )
ونبيل الألفي لا يكشف فحسب عن تفاوت نظر الناقد , وإنما هو يكشف عن تهافت النقد عندما يتحول إلي مجرد انتقاد قائم علي الانطباع , استحسانا لا سلبية و لا مأخذ فيه أو استهجانا لا إيجابية ولا ميزه فيه للعمل موضوع النقد , لذلك يعلق نبيل الألفي علي مثل ذلك الناقد بقوله : " كان الأجدر و الأكرم لمثل هذا الناقد أن يقول لنا في صراحة إن العمل المسرحي في الحالة الأولي يتعارض مع اتجاهه , و أنه في الحالة الثانية يتفق تماما مع ميوله ونزعته .
لأنه ليس من الإنصاف في شيء أن نزن إنتاج المؤلف من الوجهة الفنية بمعيار كهذا ! فالنتيجة التي نستطيع أن نصل إليها علي ضوء مقارنة من هذا القبيل : تعني أن المؤلف في الحالة الثانية كان أقل استجابة لمشاكل الناس وحياتهم اليومية , ولا تعني إطلاقا أنه كان أكثر أو أقل فنا من الوجهة المسرحية.. " (12)
يرفض نبيل الألفي مثل ذلك اللون من النظرة الانطباعية ذات الصيغة الأيديولوجية – ربما – و هو تأكيدا لذلك الرفض يعرض لنموذجين من النقاد " فأحدهما مثلا قد يسقط التجربة برمتها في وعاء المسرح ( الرومنتيكي ) و يشير في نهاية مطافه إلي أن هذا الضرب من المسرح قد دالت دولته , وانقرض منذ سنوات عديدة , لأن المدرسة ( الرومنتيكية ) لم تستطع أن تمنح المسرح : لا أحلامها وأساطيرها , و لا ثورتها و نموذجها المثالي للإنسانية..
أما الناقد الثاني فقد يهاجم المسرحية و مؤلفها لا لشيء إلا لأن المؤلف في علاجه لموضوعه لم يسلك سبيل " جوته " أو " إبسن " أو غيرهم ممن يضع الناقد خصائص إنتاجهم عند قمة الفن الدرامي و هنا نلاحظ أن الناقد الأول قد أعد للمسرحية قالبا أسقطها فيه . ثم رفض القالب و المسرحية معاً ! كما نلاحظ أن الناقد الثاني لم يقتنع بالمسرحية , لأنها لم تجيء علي غرار النماذج التي جاء بها المتقدمون !! " (13)
و نبيل الألفي إذ نقد القوالب الجاهزة , لا يرفض التمسك بتراث المسرح العالمي و لا يدعو إلي إغفال دراسته , و لا يجحف بدوره أي من هذين الناقدين اللذين ضرب بما مثلا في خطوة نقد كل منهما بالمعلومات و إنما هو يقصد الإشارة إلي أن أسلوب كل منهما في النقد " لا يعني أن المسرحية نفسها بين الناقدين قد أخذت مكانها الصحيح في الميزان لأنهما كليهما قد نظرا ألي المسرحية من خارجها..(14)
ألا يوجه نبيل الألفي المخرج و المفكر المسرحي العربي هنا إلى النقد البنيوي إذ يري أن نقد النص و نقد العرض المسرحي لا يجب أن ينطلق من خارج العمل الإبداعي نفسه ؟! بلي هو بذلك مع نقد المسرح وفق النظرية البنيوية .
* جدلية التفكير بين المخرج و النص المسرحي :-
يسجل نبيل الألفي للمسرح المصري تقليدا أصيلا كان متبعا في حياتنا المسرحية حيث تعرض النصوص التي يتقدم بها مؤلفوها أو مترجموها أو معدوها إلي لجنة القراءة التابعة للفرقة المسرحية لتقرأ و تحلل وتقوم ويرفع بذلك كله تقرير فني من كل عضو كلفته اللجنة بذلك , و في هذا الإطار يشير الألفي إلي تقرير كتبه حول نص فتحي رضوان (دموع إبليس) و قد تقدم به إلي المسرح القومي و قد جاء في نص تقريره عنها : " تجربة مسرحية جديدة ذات طابع فلسفي , تلتقي الشخصيات خلال فصولها وتفترق في صياغة فنية قد تكون بعيدة عن منهج المدرسة الواقعية و لكن القيم الأخلاقية , و النظريات الفلسفية , و الأحداث التي ينهض في غمارها صراع العواطف في هذه التجربة , تعتبر جميعها ذات جذور أصيلة في حياة الإنسان .. "(15) ويضيف الألفي " و كانت المسرحية في رأيي من حيث الصياغة و المضمون معا عملا مسرحيا جديراً بأن يحقق وجوده علي المسرح , غير أنني – نتيجة لانطباعات عامة تبلورت لدي بعد القراءة الأولي – أدركت أن المسرحية في مجموع تركيبها تخفق وتنبض نزوعا إلي خلق عالم كبير , عميق المعاني , أدبي العبارات , متعدد الجوانب , ساحر الأجواء ؛ وأن المؤلف ضاربا مع شخصياته في شعاب مثل العالم العريض التركيب , لم يستطع أن يجتاز سائر المنحنيات في تكامل فني .. " (16)
هكذا يكشف لنا نبيل الألفي عن أساسين من أسس عملية الإنتاج المسرحي الأولي يتمثل في دور لجنة القراءة في الفرقة المسرحية في قراءة النصوص و اختيار الصالح منها – و هو دور افتقدته الحركة المسرحية منذ فترة السبعينيات – أما الأساس الثاني فيتمثل في جدلية التفكيرين المخرج و النص المسرحي .
ويكشف لنا أساساً ثالثا لابد من توافره في الحياة المسرحية لكي تنبض و ترتقي سبل التنوع والتطور وهو( دور التحليل في عمل المخرج المسرحي ) و هو دور تال لدوره في اختيار النص ومسئوليته في تقديم مؤلفين محليين , فتحليل نبيل الألفي لنص ( دموع إبليس) من خلال تقريره الفني حول النص تبلور عبارته الأخيرة إذ يقول إن " تحقيق العرض المسرحي لهذا العمل الأدبي قد يستلزم التخفيف بعض الشيء من حدة الصياغة اللغوية في بعض فقرات الحوار, و قد يتطلب لمسة تعديل هنا أو محاولة اختزال هناك كي يتسق التركيب الجمالي والسيكولوجي في بناء الشخصيات والأحداث.." (17)
و يتضح إحساس المعلم و الرائد عند نبيل الألفي في تبنيه لأعمال مسرحية لمؤلفين محليين جدد " أحب أن تتكاتف إمكاناتي كمخرج مع إنتاجي المحلي في الأدب المسرحي خصوصاً إذا وجدت في متناول يدي من هذا الإنتاج قطعة فنية جديرة بأن يبذل في سبيلها الوقت والجهد " (18)
كما أنه يرسخ فينا تقليدا جديرا بالعناية وهو ضرورة التقاء مخرج نص ما بمؤلف ذلك النص أو بمترجمه أو بمعده طالما أن ذلك الأمر كان متاحا – و هو تقليد افتقدته حياتنا المسرحية منذ السبعينيات أيضا , حيث سادت الروح الانفرادية و فشت عوامل التباعد والتنافر بين الأصول و الفروع و نأت الأنا قبول الآخر مع أننا عبرنا انطلاقا من عبور 1973 أليس جسر هويتنا التي كانت علي مر العصور رمز عبور الأنا نحو الآخر معانقة فكرية و إنسانية صادقة ..
إن عبور المخرج نبيل الألفي نحو المؤلف فتحي رضوان علي جسر اللقاء الفكري بينهما قبل بدء إخراجه للعمل هو درس واجب الحرص عليه بين مخرجينا الشبان لأن في ذلك تقريباً لوجهات النظر ولاكتشاف كل منهما للآخر و لتبادل الخبرات النظرية و العملية حتى وإن تأسس العرض بعد ذلك علي اختلاف قراءة المخرج للنص عن قراءة مؤلفه له، يقول الألفي : " إنه حرص علي أن يلتقي بفتحي رضوان ( و أن أتكلم معه حول مسرحيته , كعادتي في كل مرة أقبل فيها علي إخراج مسرحية لأحد مؤلفينا المعاصرين, إذ قل أن نجد بين إنتاجهم قطعة جميلة تكاد تخلو من كل شائبة و ليس في هذا أي لون من التجريح أو التعريض بإنتاج أحد . لأن القطع المسرحية البالغة الروعة و الجمال من سائر الوجوه , شيء نادر الوجود , حتى في تراث الأدب المسرحي العالمي و قد لا تحظى ببعض هذه القطع النادرة إلا في كل بضعة قرون من الزمان .. ) (19)
ولا شك أن جدلية التفكير بين المخرج و المؤلف المسرحي تخلق نوعا من المقاربة الثقافية بين فكريهما , حيث تتضح وجهات نظر مشتركة حول العالم الفني الذي تخلقه مسرحية المؤلف وحول المنحنيات والجوانب التي قد يفتقر إلي شيء من الإصلاح أو إلى مزيد من الضوء , كي يتم تحقيق ذلك العالم علي المسرح في انسب صوره " (20)
وكلما كان المؤلف بعيدا عن التزمت كان إقبال المخرج علي عمله أكثر حماسا و أبعد حبا, وكلما كانت استجابة المؤلف لدواعي تعبير بعض المواقف أو العبارات أخذا بوجهة نظر مخرج نصه , كلما كان حماس المخرج أكبر و كان إحساسه بالمسؤولية أكبر .
* المخرج و سلطة الدراماتورج :
كثيرا ما يسفر الالتقاء بين المؤلف و المخرج حول نص ما خلال جلسات العمل عن تصور إخراجي متكامل , و تعديلات قد يجريها المؤلف أو يسمح بإجرائها بمعرفة المخرج أو بمعرفة وسيط بينهما هو المعد ( الدراماتورج ) و في ذلك يقول نبيل الألفي : "إن المؤلف إذا عاد إلي قطعته المسرحية فأجري بها بعض التعديلات . فإنه لا يخرج بذلك عن المألوف , و لا يأتي عملا يقلل من شأنه أو شأن إنتاجه " (21)
ولتأكيد وجهة النظر تلك يحيلنا الألفي إلي تاريخ الأدب المسرحي فيقول : " الشائع في تاريخ الأدب المسرحي يقودنا إلي أن معظم الشعراء و الأدباء الممتازين كانوا يلجأون إلي ضروب شتي من التعديلات في أعمالهم , ليصلوا بها إلي مستويات أجمل و أعمق " (22) ثم يتوقف مؤكدا ذلك بمسرحية هملت وبمسرحية فاوست " نذكر علي سبيل المثال أن "هملت " قد صدرت باسم شكسبير في طبعة أولي عام 1603 متضمنة 2143 سطر من الشعر , ثم صدرت في طبعة ثانية مشتملة علي عدة تغيرات وإضافات سنة 1604 و تتمة 3815 سطر من الشعر . و هذه النسخة الثانية هي التي أعيد نشرها في نفس العام , وفي عام 1611 وهي أيضا النسخة التي اعتبرت أساسية و متكاملة في نظر الناشرين الذين أعادوا إصدار طبعات جديدة للمسرحية خلال القرون المتتالية بعد وفاة الشاعر المسرحي"(23)
ويعطي مثالا آخر من جوته الذي بدأ يصوغ " فاوست " منذ عام 1773 وانه ظل يجري بها التعديلات ويدعمها بالاضافات , ويعيد كتابتها من جديد , و لم ينته من أمر صياغتها في جزئيها المعروفين لنا اليوم, إلا في يوليو عام 1831 , و ظل أيضا يضفي علي قطعته الأدبية لمسات أخيرة بعد ذلك التاريخ حتى يناير 1832 , قبل وفاته ببضعة أسابيع , وحتى أصبح أمر تأليف هذه المسرحية بعد ذلك في نظر النقاد الأوربيين يقارن ببناء إحدى كاتدرائيات القرون الوسطي , التي كان يستلزم تشييدها بضع عشرات من السنين"(24)

* الدراماتورج بين المشروعية و الموضوعية :
تستمد الدراماتورجية مشروعيتها من توافقين يجب أن يتوافر في الإقدام علي العرض المسرحي لنص ما التوافق الأول يحب أن يتم بين النص بوصفه نصا أدبيا دراميا و التجسيد علي المسرح , بمعني قابلية النص للتجسيد علي المسرح في حياة نابضة تشع إمتاعا و تشع إقناعا . و ذلك أمر تدركه خبرة المخرج و الممثل أكثر مما تدركه خبرة المؤلف , أما التوافق الثاني و هو الأول في الترتيب علي سلم الأولويات فهو توافر الشروط الموضوعية في النص بمعني ملاءمته للوسط الاجتماعي الذي سيعرض عليه , فبدون تلك الملاءمة لن يحقق العرض الأثر المطلوب و هو ذلك الأثر الذي ينتج عن تفاعل المجتمع ( مجتمع المتفرجين) مع العرض نفسه , فبدون ذلك التفاعل يفشل العرض و يغلق المسرح أبوابه .
من هذا المنطلق تشارك المؤلف فتحي رضوان مع المخرج نبيل الألفي في فهم متطلبات العرض المسرحي لنص الأول حتى يتحقق كلا التوافقين اللذين أشرت إليهما توافق (الإمتاع و الإقناع) و(توافق الاقتناع و التأثير) لذلك فلم يزعج المؤلف فتحي رضوان "أن يتطلب التركيب الجمالي للعالم الفني الذي صاغه شيئا من التقديم و التأخير في تتابع حركة مشهدين من المشاهد لم يكن من الطبيعي مثلا , أن تجيز مقولات الشخصية " شاهر " أن يتكلم في صدر المسرحية مستخدما تشبيهات أهل الفلك و طلاب علم الطبيعة فيخاطب زميله قائلا : " .. فنحن في هذه الدار بغيرك , كالشموس و الكواكب , إذ زال من الكون قانون الجاذبية اصطدم كل بالآخر .. " لأن خصائص حرفة شاهر كما وردت في المسرحية تدلنا علي أنه يعمل خادما في دار " السيد " و أنه شاب قروي يجيد الزراعة ويحسن ركوب الجياد " (25)
وهكذا يؤكد نبيل الألفي للمخرج المسرحي دورا إضافيا إلي أدواره وهو دور الدراماتورج غير أن ذلك الدور لا ينطبق علي أي مخرج , بل هو دور لا يقدر عليه من هو أقل من نبيل الألفي – المخرج الرائد – ذلك أن وظيفة المخرج الدراماتورج في آن واحد هي حض للمؤلف علي تأمل نصه من جديد, و هذا دور نقدي للمخرج لوضع النص علي قاعدة انطلاق العرض المسرحي . يقول نبيل الألفي : "لقد كان المؤلف يتأمل معي قطعته من جديد , و لم يكن يجد أية غضاضة في أن يقرني علي مثل هذه الملاحظات , بل كان يسعده أن يجري هو نفسه بعد ذلك عدة اختصارات , أو يضيف فقرة هنا أو هناك في بعض مقاطع من الحوار ... ووصلنا أخيرا بالتجربة إلي شاطئ العرض المسرحي, فكانت في رأيي من أفضل التجارب التي حققتها للمسرح القومي " (26)
ولا شك أن مثل تلك الجهود التي يبذلها المخرج المسرحي – صاحب التجارب الريادية – جديرة بأن تسجل كلها بكل خطواتها لدى مركز متخصص لحفظ ذاكرة المسرح المصري مثل ( المركز القومي للمسرح ) و تلك أمنية تمناها من قبل د . علي الراعي عندما حث وزارة الثقافة علي إنشاء ذلك المركز في عام 1980 لتحقيق مثل ذلك الهدف . يقول الألفي :" وكم أتمني أن تأخذ المكتبة العربية بنشر طبعات للمسرح متضمنة تفاصيل إخراجها , علي نحو ما في بعض البلاد الأخرى , حتى أجد المجال الصحيح لنشر كل الدقائق و التفاصيل عن بعض هذه المسرحيات التي كنت أعيد خلقها داخل نفسي طوال فترة عرضها من الأيام و الأسابيع والشهور كي تخرج علي الناس , كما أردت لها أن تخرج , في عالمها الفني الذي تنفست فيه حياتها لأول مرة علي المسرح .. " (27)
* جدلية التفكير بين المخرج و الناقد :
يشكل النقد بالنسبة للعروض المسرحية ( عودة الروح ) فالنص يحيا بالعرض و العرض يحيا بالجمهور , غير أن انتهاء عرض نص مسرحي ما يعني موت النص و لا يعيد الروح إلي العرض المسرحي سوي النقد . و ليس هناك مؤلف مسرحي حقيقي ولا مخرج مسرحي متمكن من فنه , إلا و يتمني ( عودة الروح ) لعرضه المسرحي و الفاشلون فحسب هم الذين يرفضون ما يوجه ألي أعمالهم من نقد يحتفي بالإيجابيات و يلفت النظر إلي السلبيات ومنطق الارتباك أو الضعف في النص أو في العرض المسرحي . و لأن نبيل الألفي رجل مسرح بحق فإنه يحتفي بالنقد الذي يستهدف أعماله الإبداعية , و إذا انطلق النقد من داخل العرض المسرحي نفسه من بنيته الفنية , فهو يري أن استخلاص الحكم النقدي يكون ضعيفا , " إذا جاء عن طريق النظر إلي العمل الدرامي من الخارج .. " (28)
وانطلاقا من هذا الرأي يأخذ نبيل الألفي علي د . لويس عوض في نقده لعرض مسرحية (دموع إبليس) فهو يري أن د . لويس حاول " أن يسكب المسرحية برمتها في وعاء المسرح الديني , مسرح (الكرامات ) و ( المعجزات ) و ( الآلام ) فهو يري مثلا من بين ما يراه في ( دموع إبليس ) أن شخصية ( عصماء ) قد بدأت حياتها علي غرار " مريم العذراء " , ثم هو يفترض – كي يستكمل وجهة نظره – أن المؤلف قد بني انتحار الشخصية علي ما جاء في سورة مريم : " قالت يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا.. " لأنه يستنبط أن مريم إذ قالت هذا كانت و لاشك تفكر في الانتحار...!!" (29)
ويري نبيل الألفي مخرج العرض .. و من حقه كمخرج وجه إلي عمله نقدا من ناقد كبير أن يعقب علي نقد الناقد حتى و لو كان هو لويس عوض ؛ إذ استند فيها لويس عوض علي أساس الوراثة , و لأن النقد يفتقر إلي المصداقية إذا تعري من أسبابه و شواهده, لذلك يعرض نبيل الألفي أسباب تعقيبه النقدي علي نقد لويس عوض ابتداء من نقضه لفكرة الوراثة التي بني عليها لويس عوض تفسيره لشخصية " عصماء " ارتكازا علي بناء شخصية عصماء نفسها من واقع رسم المؤلف لتلك الشخصية فهي لم تذكر كلمة واحدة عن أمها طوال المشاهد التي عاشتها في المسرحية ! و هي ترتبط بأبيها بعد موت أمها فتصبح صديقة لأبيها و أختاً له و أماً و عملت علي أن تستكمل لنفسها صورة أمها في نظر أبيها . غير أنها تقع في الخطيئة بعد اكتمال أنوثتها و يتسلل الحب إلي كيانها , و هو في النهاية يلفت نظر الناقد ( لويس عوض ) إلي ضرورة تتبع الشخصية مسترشدا بخيوط حياتها في النص ليري بوضوح كيف انتحرت , وكيف كانت مأساتها في جملتها " وله بعد ذلك أن يحكم علي خطيئتها أو انتحارها بالضعف أو القوة وفقا للمعايير الأخلاقية , و أن يري إذا كانت شخصيتها شبيهة بإحدى شخصيات التاريخ أو التراث أو أنها لا تمثل إلا نفسها .. " (30)
هكذا يحتاج النقد إلي التفنيد و يحيا به و تتحقق فائدته بالاستخلاص . هذا وقد خلص نبيل الألفي في نهاية نقده لنقد لويس عوض ألي ما يأتي : -
" .. رأيي يتلخص في أن الأمر – حين نريد أن نصدر حكما نقديا سليما علي أية شخصية في أية حادثة درامية – لا يتطلب منا أن نبدأ بالنظر إلي الحادثة , فنربطها بحادثة مماثلة , بقدر ما يتطلب منا أولا أن نري الشخصية و البواعث و العوامل التي تحركها .. وما ينطبق علي نظرة الناقد – مع تتبع الخيوط التي انفعل بها هو , و التي يراها أكثر دلالة – قد ناقش الشخصيات في أفعالها و تصرفاتها من خلال مجالها النفسي , وعلي ضوء ظروف العالم واعتباراته التي تشتبك به , بدلا من أن يبادر بمحاولة وضعها في " إناء معين " لمجرد تشابه في نغمة , أو تطابق في حادثة ؛ إذن لربما وصل في مناقشته للمسرحية إلي نتائج وأحكام غير التي وصل إليها .."
ولا يكفي المخرج الفنان الناقد الذي أراده لنفسه و النقد الذي نقد به ناقده بالرضا ولكن روح العدل اقتضته أن يري في نقد لويس عوض جواز الصحة و السلامة فيما وصل إليه شريطة أن يصل إليه عن طريق معطيات الشخصية و العمل الفني من بنيته لا من خارجه : " وحتى لو وصل إلي نفس النتائج و الأحكام , فإنه في هذه الحالة يكون قد وصل إليها علي أساس النواة , لا علي أساس القشرة و شتان ما بين الطريقتين ... !! " (31)
ولا شك أننا نخلص مما تقدم إلي أن المخرج المسرحي هو ناقد مسرحي قبل أن يكون مخرجا, وإلا فكيف يحلل أحداث النص و يحلل الشخصيات و يحلل أداء كل شخصية ويقوم ذلك كله حتى يجسد الصورة المسرحية تجسيدا يتسم بالصدق الفني حتى يمتع ويقنع فيؤثر .
يفتقد مسرحنا منذ الثمانينات إلي الكتابات النقدية لمخرجينا حول ما يوجه إلي عروضهم من نقد – ربما إحساسهم بأنه مجرد نقد صحافي – وربما لأن مخرجينا في تلك الفترة غير مؤهلين للتصدي بالنقد لما يوجه إلي عروضهم من نقد أو ( انتقاد ) و غير مؤهلين لمناقشة قضايا فن المسرح , كما كان يفعل أساتذتهم الكبار .. أو لسيادة الرأي الواحد في مجتمعنا بدءا من السبعينيات و تبرم المجتمع و قياداته من الرأي المعارض من وجهات النظر النقدية.
إن الأزمة التي مر بها مسرحنا نابعة من سياسة طالما نبه إليها نبيل الألفي فيما كتب و فيما أذاع أو نشر و هذا ما يتضح في رده علي محاولات الفريد فرج في بدايات حياته النقدية والتأليفية , حين هاجم تجربة إخراج نبيل الألفي لمسرحية ( إيزيس ) لتوفيق الحكيم قبل أن يري عرضها النور : " فسياسة المسرح علي مقياس اتجاه معين " لا يتناسب إذن مع ظروف مسرحنا المعاصر , لأنها تنبع من صميم تجاربه و إنما تحاصره من خارجه و تفرض عليه أن يدور في دائرة محدودة فتقيد بذلك حركة اكتشافه لطاقاته وإمكاناته .
أما سياسة المسرح " علي مقياس التجربة المسرحية الصالحة " فإنها علي العكس من ذلك , تتفق مع ظروف مسرحنا تماما , لأنها تتيح لعملية الإنتاج أن تضرب في آفاق عريضة حتى تكتشف نفسها , و تتبين جوانب الضعف و القوة بين عناصرها و مقوماتها " (32)
* جوهر عمل المخرج المسرحي :
هل يتمثل جوهر عمل المخرج المسرحي كما يقول سعد أردش في كونه " العقل المدبر وهو تلك البصيرة الواعية مقدما بالهدف الأخير الذي يجب أن يحققه العرض المسرحي وهو بهذه الصفة يقود عمل الأفراد و المجموعات المشاركة في العرض موحيا لهم بالمنهج و بالطريقة وبالأسلوب , بحيث يحقق من خلال الوحدة الفنية للعمل الدرامي بالهدف الأخير للعرض .
أم هو قبل ذلك يحتضن النص و يخلق عالمه داخل ذاته كما يقول نبيل الألفي (33) " فإذا كان علي أن أنهض بإخراج إحدى المسرحيات التي وافقت عليها فعلي أن أحتضنها كشيء عزيز , وأعيد خلق عالمها داخل ذاتي فبل أن أشرع في اتخاذ أية خطوة نحو إخراجها , و قد أدافع عنها دفاعا لا يعرف التخاذل إذا تعرضت لهجوم لا يرتكز علي أساس سليم .. "
ولأن المخرج هو العقل المدبر و البصيرة الواعية بالهدف الأخير الواجب تحقيقه من خلال العرض المسرحي , فإنه بذلك يسير وفق برنامج عمل يستهدي بالمنهج و هو في البرنامج يخطط لملامح الأداء والخطوط العامة للتصميمات ( المناظر و الملابس و الموسيقي والإضاءة والملحقات ) جنبا إلي جنب مع الأداء التمثيلي . و هو برنامج مكتوب بعد جهد التحليل الذي ينتهي إليه المخرج وصولا إلي رؤية إخراجية متكاملة .
ولو توقفنا لنتأمل جهد نبيل الألفي المنهجي في إخراجه لمسرحية ( إيزيس ) لتوفيق الحكيم " بغض النظر عن المشكلات ذات الرائحة الذاتية التي أثارها مقال نقدي لألفريد فرج في مستهل حياته الأدبية حيث هاجم النص و المخرج قبل أن يخرج العرض إلي النور" (34)
سوف نجد أن نبيل الألفي لا يترك شاردة و لا واردة متصلة بنص ( إيزيس ) الذي يقوم بإخراجه فهو يخطط للملامح الخاصة بالأزياء تخطيطا تفصيليا بعد رجوعه المتكرر وتعاونه مع أحد المختصين بالمتحف المصري بالقاهرة علي اعتبار أن مسرحية ( إيزيس ) مستلهمة من التراث الفرعوني , و باعتبار أن أسلوب إخراج نبيل الألفي لها ينحو نحو الواقعية التاريخية , واقعية دوق ساكس ميننجن MENINGEN و نبيل الألفي في ذلك إنما يستقرئ منهج لوي جوفيه الذي يقول " في الحقيقة أن أي مسرحية تخرج نفسها بنفسها" والمقصود بالطبع أن أسلوب إخراج نص مسرحي هو من جنس الأسلوب الأدبي و الفني لذات النص .

نص المذكرة الفنية أو المخطط الفني لأزياء مسرحية "إيزيس " (35)
1- إيزيس : ( الآنسة أمينة رزق )
القطع المكونة لملابسها من الممكن أن تتألف من الآتي :
" ثوب أو رداء خارجي , قميص داخلي له حمالات علي الكتفين , نقاب , حزام للخصر, غطاء رأس , غلالة شفافة أو قطعة فضفاضة من القماش لتتشح بها أحيانا , صندل)
(ويلاحظ أن رسم الكرسي " العرش " هو العلامة الهيروغليفية التي تشير إلي اسمها , ومن الممكن أن يحلي به غطاء رأسها في المنظر الأخير)
وحول الشخصية نفسها يكشف نبيل الألفي عن ملامح رئيسية في الشخصية :-
" بعض الملامح الواضحة في شخصيتها :-
• الوفاء الزوجي .. , الأمومة ..
• تؤمن بقلبها , تستجيب لهمساته , و تتحرك بوحيه ..
• إيجابية في وفائها , و لها صبر و جلد في طريق بحثها و كفاحها , وهي صلبة غاية الصلابة في اتجاهها نحو أهدافها البعيدة ..
• لا يخلو سلوكها و لا تخلو تصرفاتها من الفهم السياسي ...
• تبدأ المسرحية وهي في حوالي الخامسة و العشرين و تنتهي وهي قبيل الخامسة والأربعين من عمرها ..
• تبدأ هائمة , و تتطور نحو الصقل و التركيز ..
فقسمات تكوينها النفسي تتطور و تتبلور و تتركز خلال بحثها و كفاحها و تجاربها ومأساتها ..




* مراحل التعبير الرئيسية في ملابسها وفقا لبناء المسرحية :
أ- في المنظر الأول , و الثالث , و الرابع من الفصل الأول , وفي المنظر الأول من الفصل الثاني : المرحلة الهائمة ؛ مرحلة البحث .. في السوق , وفي القرية , و علي ضفاف النيل , وأخيرا في مملكة "ببلوس "
- وحدة في اللون و التكوين , مع بعض تغييرات جزئية طفيفة وفقا .. لتأثر ملابسها برحلة بحثها ...
وكذلك يراعي المخرج العديد من المشكلات :
" ونظرا لضيق وقت التغيير بين هذه المرحلة , و المرحلة التالية أي بين المنظرين الأول والثاني من الفصل الثاني , ينبغي أن تلاحظ إمكانات سرعة ( التغيير ) في تكوين الملابس الخارجية وقطعها .. "
ب- في المنظر الثاني من الفصل الثاني : بعد ثلاث سنوات ؛ بعد أن استعادت زوجها وعاشت معه في الخفاء عيشة هادئة و أنجبت ولدا .. خصب , أول الأمومة , وأول تفكيرها العريض في الطريق السياسي . ( 36)
(ينبغي أن يلاحظ نفس الاعتبارات الخاصة بسرعة التغيير , كما في ملابس المرحلة السابقة)
جـ- في المنظر الأول و الثاني و الثالث من الفصل الثالث و الأخير : يعد أكثر من خمسة عشر عاما ؛ مرحلة فيها جلال النضوج .. أكبر سنا , و اعمق تجربة , و أكثر صلابة .. ويصح أن تشمل الملابس بعض تغييرات جزئية في مناظر هذه المرحلة , و بالأخص في المنظر الأخير , منظر المحاكمة حيث تتبلور شخصيتها في صورتها النهائية الكاملة .

* اقتراحات الألوان :
( من الممكن أن ننزع بها إلي المزاج أو التدرج أو الانتقال الصريح وفقا للمراحل السابقة )
• أزرق بلون السماء الصافية .. ( يعبر عن نقاء الشعور , و العاطفة الثابتة )
• شفافية وراءها الأحمر القاني .. ( تعبر عن شفافية القلب في إدراك الأشياء , وعن دمويته وحركته الدائبة )
• غلالة سوداء شفافة تختلط بشعر فاحم السواد مرسل عندما تكون هائمة , ومصفف عندما تكون في حالة اتزان ..
• وأخيرا اتشاح بالسواد , أو بالأزرق القاتم , أو بالرمادي المائل إلي السواد يختلط مع رأسها بالشعيرات البيضاء .. ( ويصح استخدام البني القاتم الذي يوحي بصلابة الصخر ) (37)
إن المخرج يقف عند عتبات الاقتراح علي مصمم الأزياء أو المناظر , انطلاقا من رؤيته العامة , لكن لا يقرر و لا يفرض , بل يقترح لأن المصمم فنان مبدع متخصص له شخصيته و له بصمته الفنية .
يفرق المخرج نبيل الألفي بين الشخصية في التراث الفرعوني و الشخصية نفسها في النص المسرحي من خلال " توت "
2- توت : ( الأستاذ حسين رياض )
القطع الرئيسية في ملابسه تتألف من الآتي :
( رداء , غطاء رأس , حزام , صندل )
بعض معالم شخصيته لدي الفراعنة :-
• شخصية جليلة ..
• يسكن القمر , و يعمل فيه طوال كل شهر , حتى يرد إليه ما يفقد منه و يعيده بدرا في تمامه وكماله
• إنه يمثل المحافظة علي نظام العالم ...
• كما يمثل الكتابة , و الفن , و ترتيب الزمن ..
* بعض معالم شخصيته في المسرحية :
- له في المسرحية أيضا شخصية جليلة ؛ و ينعكس في تكوينها النفسي جانب كبير من شخصية " المؤلف " فهو ( رجل حكمة , فنان , و حامل قلم .. ) .
- أنه مع بداية المسرحية يريد أن يعيش بقلمه و حكمته في دائرة فنه , بعيدا عن محيط الصراع الواقعي الذي يرتطم مباشرة بالظروف الاجتماعية و السياسية المرتجفة المخلخلة ..
- و لكنه عندما يبدو أمر الواقع سافراً فإنه في هذه الحالة يتبين طريق قضيته , فيلتزم بها ويتحمل مسئوليتها و يكافح في سبيلها بكل قواه و إمكاناته .. مهما كانت الوسائل و الأساليب .
- فإيجابية هذه الشخصية نحو المجتمع , ليست إيجابية حكيمة تصر علي أن تتبين مواضع أقدامها قبل أن تضرب في طريقها نحو الهدف .
* و هو يربط ذلك بمراحل التعبير في الشخصية من خلال ثلاث مراحل تمر بها :-
( أ ) مرحلة الكاتب الفنان الذي يؤثر الهرب من الواقع ..
(ب) مرحلة اقترابه من قضية الواقع و تبنيه لمعالمها و اعتناقه لها ..
(ج) مرحلة التزامه بالقضية و كفاحه في سبيلها ..
وهو يقترح حسب فهمه للأصول علي مصمم الأزياء بعض قطع في ملابسه و تكوينه :-
* أن تأخذ ملابسه طابع الإيحاء بالقراطيس و الأقلام و المزامير .. (38)
و يقترح الألوان كذلك :
( تتدرج مساحات الألوان وفقا لمراحل التطور في الشخصية )
* من الأخضر الهادي الحالم ... إلي الأحمر الطوبي ....
* أو من البنفسجي الرائق الحالم أيضاً .. إلي الأصفر الدافئ المائل إلي البني ........إذا لم يكن في هذا ما يعكس الكثير من الدقة و النعومة .
و علي غرار توت و إيزيس , اشتملت المذكرة علي الإرشادات و التحديدات والاقتراحات الخاصة بشيخ البلد , وطفون , و أوزوريس , و مساط , و الفلاحين ... وسائر الشخصيات الأخرى التي تلتقي و تفترق في عالم المسرحية .. (39)

* دور التحليل و التفسير في التدريبات :
لعل من أهم ما يضطلع به المخرج المسرحي في أثناء تدريبات التحليل ( المنضدة ) أن يكشف للممثلين عن أسباب إرشاده لممثل هذا الدور أو ذاك لكيفية إلقاء الشخصية التي أوكل إليه أداءها ( لماذا يكون " إلقاء " الشخصية في هذا المشهد متدفقاً سريعاً ؟ أو كيف كان " إيقاع " الحركة في ذلك الموقف بين اليأس و الرجاء متأرجحا بين الاسترخاء والتحفيز .. ؟! )
ولعل من واجبات المخرج أيضا أن يشرح للقائمين علي تنفيذ خطة الإضاءة أو المناظر المسرحية ( لماذا يحدد اللون الأسود مقرونا باللون الأحمر في منظر من المناظر أو قطعة من قطع الأزياء كأن يوضح لأي من هؤلاء أن اقتران اللون الأحمر باللون الأسود بهدف مشاركة اللونين في دعم الإحساس بالجريمة في موقف معين و ارتباط ذلك بشخصية معينة لتوكيد الإحساس بالقتامة و الكراهية و ظلمة الليل المحيطة بالشخصية أو بالموقف الدرامي, فاللون الأسود في الطبيعة مقرون بالليل , وهو في العرف مقرون بالحداد , وفي المزاج مقرون بالقتامة و الكآبة .. و بذلك سيعمل علي إثارة ذلك الإحساس لدي المتفرج
وسيشارك بنصيبه في إحياء الصبغة الدرامية إلي جانب الانفعال , و الحركة , و الحوار, والإضاءة , والجو العام الذي تجري الحادثة في نطاقه .
إن المخرج مطالب أمام ممثليه و الطاقم الفني و التقني الذي يعاونه في تحقيق عالم العرض المسرحي الذي هو بصدده بتقديم تفسير نظري أو تحليل لكل ما يشير إليه بالنسبة للممثل أو للمصمم أو الفني أو للعامل , و أن يشرح لماذا ينفعل بتكييف حادثة درامية علي هذا النحو أو ذاك . و لماذا جاءت صياغته الفنية لهذا الموقف علي تلك الصورة و في هذا الإيقاع و بهذه الألوان دون غيرها – ذلك إذا كان المخرج يمتلك القدرة علي التحليل والتفسير و إلا فلماذا يقدم علي إخراج عرض مسرحي –
وعلي المخرج أيضا في تحليله لتجربة العرض في بدايات قراءاتها الجماعية الأولي المتتالية كيف يري الجزء فيها علي ضوء رؤيته للنص ككل و كيف يتحسس العلاقات بين الأجزاء ويربطها بالكل و كيف يفسرها , و كيف يصدر حكما علي الشخصيات أو يقومها في الموقف الدرامي , وكيف يصوغ العلاقات الإيقاعية للأداء انطلاقا من تقويمه للقيم وللأفكار الفرعية مرتبطة بفكرتها الأساسية و أن يعلم الممثلين و الأطقم الفنية العاملة معه كيفية أداء ذلك كله – وفق تخصص كل منهم – وذلك هو الأساس المنهجي الأول وربما الأخير في عمل المخرج و ليس مجرد تحقيق الحركة و الملابس و المناظر والعناصر الشكلية للعرض , وذلك بالطبع لا يتأتي لمخرج ما بدون دراسة تأمليه و تحليلية و نقدية للنص علي أن يضع في ذهنه أن مثل تلك القراءة الدراسة للنص إنما هي مجرد بداية لعمله, و هو بذلك علي العكس من الناقد الجاد الذي تشكل دراسته للنص و العرض بعد مشاهدته له هو في ذاته نهاية المطاف رحلة العرض المسرحي فعن طريق دراسات البداية التي يقوم بها مخرج عرض مسرحي ما ودراسات النهاية التي يقوم بها ناقد جاد ذو منهج أو مسلح بنظرية نقدية للعرض المسرحي نفسه يمكن لتاريخ الفن المسرحي أن يحفظ جهود مخرجيه و فنانيه ومنتجيه فلا تضيع و تتواري في الظل .
اعتدنا في حالات القراءة المسرحية المتخصصة أن نلجأ إلي نص المؤلف سواء أكان نصا مؤلفا أو مقتبسا أو مترجما , و لم نعتد مجرد التفكير في أن للمسرح نصين للعمل المسرحي الواحد : الأول هو النص الدرامي الذي كتبه المؤلف أما الثاني فهو النص المسرحي و هو نص المخرج .
ومع أن ظاهرة وجود نص إخراج للنص الدرامي قد بطلت في أيامنا هذه التي تراجعت فيها قيم كثيرة و أصول عرفها الرواد و تمسكوا بها , و من هؤلاء الرواد يبرز بحروف من نور اسم الفنان المخرج و المعلم نبيل الألفي , فما من نص أخرجه نبيل الألفي للمسرح إلا و تجد له نصا إخراجيا معادلا تنظيريا و تجسيديا لنص المؤلف سواء انطلق من منطلقات الترجمة الحياتية لذلك النص علي خشبة المسرح أو انطلق اتجاه منطلق تفسيري فهو في كل أحوال إعادة إنتاج دلالة للنص المسرحي بالتجسيد الحي يؤسس عمله علي تصور ومنهج, وأسس نظرية يعادلها بمعادلات تجسيدية إبداعية .
و ما دمنا قد وقفنا عند التصور و المنهج و الأسس النظرية للعملية الإبداعية , فقد وقفنا عند دور الفكر في عمل المخرج المسرحي المصري " فالمخرج بداية يكون مثقفا , مفكرا , ولابد أن يكون معتنقا لأسلوب فني – حتى و إن اقتصر هذا الأسلوب علي عرض مسرحي بعينه – أو لابد أن يكون صاحب نظرية و في الحالة الأولي فإن جهود المخرج تصب في إطاري الترجمة و التفسير , و في الثانية فإن جهود المخرج تتخطى تلك الحدود لتصبح جهود خلق وفق أسلوب ينطلق من أسلوب النص , إلي آفاق جديدة من إبداع المخرج الفنان و حتى تشكل أسلوبا إبداعيا " (40)
* المخرج بين التأثير و التأثر :
لا عمل في مجال الابتكار أو مجال الإبداع إلا وفيه نصيب التأثير و التأثر ولا شك أن التأثير والتأثر كليهما مرتبطان ارتباطا وثيقا بعاملين رئيسيين أحدهما ذاتي و الآخر موضوعي و لا شك أن إرسال نبيل الألفي إلى فرنسا كان له تأثير كبير علي فنه و من مظاهر ذلك أن نبيل الألفي كان قريب الشبه من حيث كونه رجل مسرح من المخرج و رجل المسرح الفرنسي لوي جوفيه Louis Jouvel
( 24 / 12 / 1887 – 1951 م ) فقد كان جوفيه ممثلا و مخرجا و معلما مسرحيا بكونسرفتوار باريس : ( أكاديمية المسرح الفرنسية ) و هو القائل : " ليس لي إلا مهنة واحدة , لم أكن , و لن أكون إلا رجل مسرح " (41) و هو كذلك في الحقيقة " إذ اشتغل بالتمثيل و الإخراج والإدارة الفنية كما كان موليير ودرس التمثيل في أكاديمية المسرح , و كان صديقا لكثير من الشعراء و الكتاب الدراميين في عصره " (42)
وإذا كانت " محاولات جوفيه في الإخراج المسرحي لتفسير تعبير القديم والجديد , أو التراث والتجديد محاولات ناجحة في المسرح العالمي لتقديم التراث المسرحي في صورة عصرية تستعمل ما أتت به المدينة الحديثة من تقنيات متطورة كانت قد دخلت إلى كل مكان " (43) فإن محاولات نبيل الألفي في الإخراج المسرحي قد توجهت الوجهة نفسها. لقد تعانق الفكر مع الجمالية في كل الأعمال التي قام نبيل الألفي بإخراجها , تعانقت" الصورة القديمة للمسرح بكل ما فيها من ورع كشكل من أشكال تحقيق التراث و الجذور والتمسك بهما في مقابل شكل يعني بفلسفة الجمال و الفكر المعاصر متمثلا في التجديد عند جوفيه و كذلك عند نبيل الألفي .
لقد كان كلاهما واعيا برسالة المسرح و بدوره في صنع تلك الرسالة و تأكيدها كل في مجتمعه وإذا كان جوفيه قد عكف علي تصميم جديد لخشبة المسرح (44) فقد صمم نبيل الألفي مسرح بيرم التونسي بالإسكندرية و كرس جهوده في الأشراف علي بنائه في حي الشاطبي علي كورنيش البحر مباشرة .
وإذا كان جوفيه علي غير عادة بعض المخرجين إنه لا ينضم إلا لتفكيره و لا تنفيذ أو يعتمد إلا علي ما يوحي له به تصوره و رؤيته في عملية الإخراج لأنه هو الذي يلد العمل الفني وليس الآخرون (45)
فإن نبيل الألفي كان كذلك لا يعتمد إلا علي ما يوحي له به تصوره و رؤيته في عملية الإخراج , لقد كان يؤمن مثلما كان جوفيه يؤمن بأن الاعتماد علي الذات من أدق مهمات الإخراج (46)
ولقد كان مفتاح التفكير وبداية طرق الإخراج عند نبيل الألفي من داخل منظور الشخصيات – تماما كما كان عند لوي جوفيه لقد آمن نبيل الألفي بما آمن به جوفيه من أن لكل عصر علاماته و أماراته الجديدة التي يأتي بها العصر و يثرها في أشكال و عادات ورموز , و كل ممثل يرمي هذه القضايا من زاوية نظر مختلفة , و الطريقة أحيانا ما تكون جديدة , و أحيانا أخري تكون مستهجنه أو عفي عليها الزمن , لكن كل شكل أو عادة أورمزأوتقليد فإنه ينتمي إلي قواعد عليا..هذه القواعد هي كلمات الشاعر الدرامي (47)

وإذا كان جوفيه " في كتاباته المسرحية يؤكد علي حق الكاتب المؤلف الدرامي , و يجعله هو الأساس في كل مراحل الفن المسرحي " (48)
فإن نبيل الألفي كان كذلك " فلا مسرح بدون الدراما و لا مسرح بدون المؤلف الدرامي. في العصور القديمة كان الدراميون المؤلفون هم سادة المسارح و مديروها وممثلوها .. شكسبير وموليير .
موليير أخرج و مثل في دراماته التي كتبها .. و في وقت متأخر انفصلت الوظيفتان المسرحيتان , المخرج الممثل و الكاتب الدرامي , لكن العلاقة الفنية لم تنفصل أبدا . وظلت قائمة حتى وقتنا هذا , والمتتبع لأسلوب عمل نبيل الألفي في الإعداد التمهيدي لأية مسرحية يقدم علي إخراجها سيجد أنه يبدأ عمله بعد القراءة التأملية و التحليلية للنص الذي بين يديه بالاتصال بمؤلف النص المسرحي ومناقشات عمل وتفاهمات حول تعديل هنا أو تعديل هناك , فالأمر كما فهم كمال غيد عن جوته أن الدراما الجيدة يحتل جزء صغير منها مكانه علي الورق المحرر , أما الجزء الأكبر منها فانه يحتل خشبة المسرح والإضاءة و طاقات الممثلين و انفعالات الشخصيات , و الصوت و الحركة , بل يمتد هذا الاحتلال إلي جماهير الصالة في أحيان كثيرة (49)
ويتشابه تعاون نبيل الألفي مع الفنانين التشكيليين صلاح عبد الكريم أو صلاح طاهر في عرض مسرحية ( الأميرة تنتظر ) من تأليف الشاعر المصري صلاح عبد الصبور (50) ومع عمر النجدي في عرض مسرحية ( ثورة الزنوج ) للشاعر الفلسطيني معين بسيسو
(51) يتشابه مع تعاون عدد من الفنانين التشكيليين الأمريكيين مع المخرج ( إليا كازان Alia Kazan 26 / 3 / 1914- 25 / 2 / 1983 ) و مع التعاون الذي تم بين كمال عيد و لطيفة صالح و كرم مطاوع و رؤوف عبد المجيد و محمد عبد العزيز و سكينة محمد علي (52)
وفي مجال تدريس فنون التمثيل و الإخراج كان نبيل الألفي خير مثال للانضباط و الصرامة ولكنها صرامة الأب , كان يقدر مسؤولية المعلم في مجال الفنون فلا يلتقي بطلابه في محاضرة دون أن يعد محاضرته وفق منهج علمي وبالإضافة إلي ذلك كان يحمل في حقيبة يده المكتبة صورا ضوئية للمحاضرة بعدد طلابه , و لا يكتفي بساعتين هما زمن المحاضرة أو التدريب العملي بل يتجاوزها إلي ساعات ست تتخللها استراحة قصيرة يوزع فيها (ساندويتشات) علي طلابه من جيبه الخاص .
أما من حيث منهجية المحاضرة فقد كان صورة مما كان عليه لوي جوفيه يرشد طلابه نحو (جمع الأفكار و تعميقها بعد تصنيفها فكره فكره ثم كتابة تقرير يجمع فيه كل طالب ما حصل عليه من أفكار , و بعد ذلك يناقشها معه ثم يدعوه إلي التعبير عن كل فكرة مما جمع وأحصي وصنف بعد أن يستعرض معه وسائله التعبيرية المناسبة لكل فكرة و بعد أداء الطالب التعبيري للأفكار واحدة فواحده يترك الأستاذ المجال لزملائه و زميلاته لمناقشة أدائه التعبيري ليرسخ قيمة النقد و قبول وجهات النظر المغايرة و هذا هو نفسه الذي كان لوي جوفيه يفعله مع طلابه إذ ينصحهم بالآتي :-
• لا يكفي أن يفكر الممثل , بل عليه أن يشع أفكارا .
• الاستغراق في التأمل بالقلب , و المعدة , و ليس باصطناع العلل علي نحو إبداعي .
• لا يكفي ثقة الممثل في الفهم وحده .
• ليكن العمل واسعا عريضا , أو بابا مفتوحا علي مصراعيه ليستقبل كل الأفكار .
• الممثل واجبه الطاعة بلا سفسطة , و الاستعداد الدائم للاستقبال .
• الممثل يجب أن يكون مستعدا لإعطاء كل نفسه إلي العمل المسرحي و ذلك بتجريد نفسه من أحاسيسها ليتعلم أحاسيس مناسبة لما يتعلم للدور .
• ضرورة أن ينهي الطالب عمله في المحاضرة بقدر كبير و لأعلي و أكمل ضمير لأن التعليم لصالحه في النهاية .
• لا يجب التفكير في النجاح دوما . فالفشل موجود كذلك في الحياة , و في المسرح أيضا
• إن الفهم للدراسة العلمية يعادل الإحساس تماما و الأهم عند جوفيه هو تعلم المحاضرة والتدرب علي إنجاز ما تم أولا بأول , إن التدريب هو الطريق الوحيد و الأمثل لتحقيق مستوي ناجح في فن التمثيل المسرحي .. (53)
وإذا كان منهج جوفيه في تعليم فن التمثيل هو في ذاته منهج فني يرتكز علي ما يأتي:-
( البدء من الكلمة – التدريب علي أدوات ذات فاعليه و مستويات انفعاليه – اعتماد الحركة علي الإحساس فالإحساس يقود الحركة و يثريها بعد أن يولدها – رفض آلية الأداء الصوتي – توظيف كل العناصر في خدمة الكلمة ( تمثيل – إخراج – ديكور – موسيقي) أن ينوب الممثل عن الجماهير ويكون مندوبهم – البحث عن تقنية خاصة بالدور) فإن منهج نبيل الألفي في تعليم فن التمثيل لم يختلف عن ذلك كثيرا (54)
* المخرج و التدريب النهائي للعرض المسرحي :
يولي المخرج للتدريبات النهائية لكل عرض مسرحي يخرجه أهمية كبيرة لضبط الإيقاع العام للأداء التمثيلي مع المجموعات و المناظر و الملابس و الإضاءة و لا يخلو الأمر من العديد من المشكلات الفجائية و هي متعددة يقول نبيل الألفي : " إن الممثل الذي يتخلف مثلا عن تدريب من التدريبات النهائية للمسرحية لا يقدر عادة أهمية حضوره أو تخلفه ؛ أو لعله لا يدرك في الغالب أنه جزء من كل ؛ و إذا حدث أن أدرك ذلك , فهو قد لا يزن بعين الفهم : أين يقف من هذا الكل ؟ و إلي أي مدي يؤثر فيه و يتأثر به ... ؟!"
وهو يفرق بين الممثل الذي يتخلف عن التدريب في نهاياته ؛ فمن الممثلين من يتخلف لارتباطاته بعمل تلفزيوني أو سينمائي أو إذاعي و هذا أمر يدخل في ضغوط حياتية يعاني منها الفنان في مصر , و "الممثل الذي لا يعي من أمر فنه و مسئولية دوره شيئا كبيراً, فيهمل مثلا حفظ دوره حتى يوم تقديم المسرحية"
وهو لا يلوم ذلك الممثل , و إنما يتكلم " عن الممثل الذي يقدر مسئولية دوره تقديرا منعزلا , فيقع هو أيضا في الخطأ و يتسبب في بعض المشاكل لأنه نظر إلي المسألة دون الإحساس بالكل إلي جانب الجزء...
هذا الممثل الطيب في الغالب , قد تكون لديه مصلحة خارجية يريد أن يحققها .. و المخرج قد يتجاوز عن تخلفه مرة أو مرتين أو أكثر , من أجل تحقيق هذه المصالح ؛ ما دامت التجربة في مراحلها الأولي , والوقت يسمح بتدارك الأمر دون أن يكون هناك كبير ضرر.. ولكنه قد يأخذ الأمر علي هذا النحو أيضا في المراحل النهائية , فيرجح كفة قضاء مصلحة خارجية , بسيطة , و يتخلف مرة قبل موعد العرض بخمسة أيام مثلا ...
ثم يأتيك في الغد قائلا : " و أية خطورة في تخلفي ؟ أليست هناك أربعة أيام أخري , سنعيد خلالها التدريب – علي نفس هذا الفصل الذي أشترك فيه – مرة أو مرتين ؟! " (55)
ويعلق نبيل الألفي عل موقف ذلك النوع من الممثلين فيقول :
" وهو في هذه الحالة , ينسى أن هناك – إلى جوار دوره , و الفصل الذي يشترك فيه – سائر الأدوار الأخرى و سائر الفصول . . .
ولا يضع في اعتباره أن التدريبات النهائية تتطور من مرحلة إلى مرحلة , و أن " الأداء التمثيلي " في هذه الأيام القليلة الباقية , تنضم إليه تدريجياً باقي عناصر العرض . . . "
ويعطي الأستاذ نبيل الألفي أهمية كبرى للتدريبات النهائية التي تسبق العرض المسرحي إذ " أن المخرج يضع في برنامجه في هذه الأيام الأخيرة , على أساس أن يأخذ الأداء إيقاعه النهائي مع بعضه بعضا من جهة,ومع عناصرالعرض المتصلة به من جهات أخرى."( 56 )
ولأن ضبط إيقاع العرض المسرحي , يعد الخطوة الأخيرة في عمل المخرج قبل افتتاحه أمام الجمهور , فإن " هذا يتطلب من المخرج عادة , أن يبتعد قليلا إلى الوراء في الصالة , ليضبط ترابط الأداء في مجموع العرض على نحو أكثر شمولاً . . دون أن يسمح وقته , بل دون أن تسمح طبيعة هذه المرحلة , بأن يعود إلى خشبة المسرح , حيث يضبط مع الممثل مسألة فرعية تتعلق بمدى قوة انفعاله بهذه العاطفة, أو بمدى سرعة حركته في تنفيذ تصرف معين من تصرفات الشخصية التي يؤديها . . . " ( 57 )
ولاشك أن ضبط إيقاع العرض المسرحي يتحقق بمشاهدة المخرج المراجعة للعرض الذي ينتهي من إخراجه مراجعة شاملة , لوضع اللمسات الفرعية في صقل الأداء التمثيلي , التي قد يفتقر إليها في تصوير الدور المسند إليه , كان مجالها ذلك التدريب الذي تخلف عنه , وليس مجالها هذه التدريبات النهائية في الأربعة أيام الأخيرة , حيث ينبغي أن تتطور لمسات المخرج إلى مستويات " الإيقاع العام " , الذي يشمل توافق الأداء التمثيلي مع وسائل العرض الأخرى في وحدة متضافرة . . ! !
ويشير نبيل الألفي إلى الكثير من المفاجآت التقنية و الإدارية التي تعترض تحقيق المخرج لعالم المسرحية ما بين نظرة المؤلف البعيدة عن الإحساس بزمن التجربة و عالمها المركب , وبعيدة أيضاً عن تقدير الظروف المادية و غير المادية التي يشتبك بها المخرج في تحقيقه لعالم المسرحية !! و منها تقاعس المشرف على تنفيذ الملابس قبل حلول موعد التدريب النهائي العام , " لقد ربط إنجاز مهمته بموعد العرض أمام الجمهور . . و يبدو أنه لم يفهم لماذا ينبغي أن ترتدي الشخصيات و المجموعات ملابسها في التدريب النهائي للمسرحية . . ! !
لم يضع في اعتباره , أن المخرج ينبغي أن يطمئن إلى الترابط و التوافق بين ألوان الملابس والشخصيات و المواقف في حركة العرض , وسط هذه المناظر بالذات , وتحت هذه الإضاءة عينها ..و أن هناك لمسات أخيرة من الممكن أن تأخذ مجالها على ضوء النظرة الشاملة !!"(58)
لا شك أن تلك المعوقات و ذلك الفهم القاصر عن إدراك أهمية التدريب النهائي في اطمئنان المخرج على الإيقاع العام الذي يتمثل في تعاقب سائر المعطيات المكانية والزمانية وتآلفها في عالم العرض المسرحي كوحدة متكاملة .











الفصل الثاني
المخرج والقراءة المفسرة للنص المسرحي (2)
حسن عبد السلام *

بطاقة ذات الفنان :
الاسم : حسن عبد السلام
الحرفة : مخرج مسرحي
السن : 75 عاماً
مدة الإخراج : 45 عاماً
الوظائف التي عمل بها :
مفتش للمسرح المدرسي بالتربية و التعليم .
مخرج و مشرف بالفرقة النموذجية لمصلحة الفنون 1955
مديراً للمسرح ( الثقافة الجماهيرية )
مشرفاً عاماً للإدارات الفنية ( الثقافة الجماهيرية )
مديراً للمسرح الحديث .
مديراً عاماً للمسرح الغنائي .
رئيساً لقطاع الفنون الشعبية الاستعراضية 1979
المجالات التي أخرج لها :
المدارس الثانوية - المؤسسات و الشركات - مصلحه الفنون - مسارح المحافظات بالمسارح الجماهيرية - مسارح القطاع الخاص - مسارح القطاع العام .


التخصص : إخراج
المسرح الشامل - الأوبريت - الكوميدية الموسيقية - الدراما الغنائية .
تنويعات في الإخراج :
أخرج الفودفيل - اخرج الفارس - أخرج الكوميدية الهادفة و الإنسانية - أحرج الدراما السياسية - أخرج المسرحية الفلسفية و التاريخية - أخرج أنشودة أكتوبر 1991 (بمناسبة أعياد أكتوبر )
الإضافات المسرحية :
أول من قدم الكوميديا الموسيقية - أول من قدم المسرح الأسيوي - أول من قدم الملحمة الشعبية من خلال الفنان الشامل - أول من قدم الكوميديا السوداء الموسيقية ( طبيخ الملائكة ) - مشروعات قدمتها لبلدي - مسرح السامر - مسارح القرى من النوبة إلي مرسي مطروح - الفرقة النموذجية للثقافة الجماهيرية - مشروع الفنان الشامل لفرق الآلات الشعبية .
ملحوظة :
* و يقدم التلفزيون له أكبر عدد لمخرج مسرحي مثل :
1- المتزوجون . 11- جوليو و وروميت .
2- أهلا يا دكتور . 12- سكر زياده .
3- سيدتي الجميلة . 13- العالمه باشا .
4- هالة حبيبتي . 14- سندريلا و المداح .
5- موسيكا في الحي الشرقي . 15- سهره مع الجريمة .
6- أخويا هايص و أنا لايص . 16- الانسان و الظل .
7- فارس بني خيبان . 17- الشيطان يسكن في بيتنا .
8- القشاش . 18- الزنزانه .
9- العسكري الأخضر . 19- عطشان يا صبايا .
10- طبيخ الملايكه . 20- و أخيراً أنا و الحكومه .

قدمت للحركة المسرحية ما يقرب من 200 مسرحية منها علي سبيل المثال لا الحصر :-

المسرحيات الغنائية و الأوبريت و الكوميديا الموسيقية و الغنائية :-
1- ليلة من ألف ليلة أوبريت
2- نوار الخير أوبريت
3- عطشان يا صبايا أوبريت
4- أيوب المصري ملحمة شعبية قدمت في باريس – موسكو
5- أولاد حارة بمبة مسرحية غنائية
6- زقاق المدق دراما موسيقية
7- طبيخ الملائكة كوميديا سوداء موسيقية
8- سيدتي الجميلة كوميديا موسيقية
9- هالة حبيبتي كوميديا موسيقية
10- موسيقى في الحي الشرقي كوميديا موسيقية
11- جوليو و روميت كوميديا موسيقية
12- مجنون بطة كوميديا موسيقية غنائية
13- فارس بني خيبان كوميديا موسيقية
14- أخويا هايص وأنا لايص كوميديا موسيقية
15- أنا و الحكومة كوميديا موسيقية غنائية
16 – أولاد ريا و سكينة كوميديا موسيقية
17- الترباس كوميديا موسيقية
18- الجرئ و المليونير كوميديا موسيقية
19- الملاك الأزرق كوميديا موسيقية غنائية
20- مين ما يحبش زوبة كوميديا موسيقية
21- رقص الديوك كوميديا موسيقية
22- الصول و الحرامي كوميديا موسيقية
23- المنولوجست كوميديا موسيقية
24- الكدابين قوي كوميديا موسيقية
25- دربكة و همبكة كوميديا موسيقية
26- العالمة باشا كوميديا موسيقية
27- آه من حلاوتها كوميديا موسيقية غنائية
28- هللو دولي كوميديا موسيقية
29- سوق العصر كوميديا موسيقية
30- سكر زيادة كوميديا موسيقية
31- سندريلا و المداح كوميديا موسيقية غنائية
32- امبراطور عماد الدين كوميديا موسيقية سياسية
33- العسكري الأخضر كوميديا موسيقية
34- القشاشين كوميديا موسيقية
35- الأخوة الأندال كوميديا موسيقية
36- تيجي نلعبها كوميديا موسيقية
37- مزيكا يا مزيكا أغاني و استعراضات درامية
مسرحيات اجتماعية :
38- المتزوجون
39- أهلا يا دكتور
40- العيال الطيبين
41- ابتسامة وراء قضبان تأليف وإخراج
42- الصغيرة تأليف و إخراج
43- هليت و نورت تأليف و إخراج
44- يا أنا يا أنتي يا دنيا فودفيل
45- كلام خواجات
46- زواج بالأرباح
47- الرعب اللذيذ كوميديا بوليسية
48- الموقف خطير جدا
49- طار فوق عش المجانين كوميديا بوليسية
50- هات من الآخر
51- من أجل حفنة نساء
52- عفواً سأقتلك
53- ليت الشباب لتوفيق الحكيم
54- يوم راجل ويوم أرنب
55- لو كنت أنا قطة
56- دكتور بالعافية
مسرحيات فلسفية :
57- الشيطان يسكن مدينتنا للدكتور / مصطفى محمود
58- الإنسان و الظل
59- الزنزانة المستشار / سيد الشوربجي
60- المرأة التي تكلم نفسها كثيراً
مسرحيات سياسية :
61- الفت حمدان
62 - القرية المفقودة
63- سهرة مع الجريمة
مسرحيات من الآداب العربية و العالمية:
64- شجرة الدر
65- دكتور فاوست
66- راشومون مسرح آسيوي ياباني
67- وراد الأفق
68- شعب الله المختار على أحمد باكثير
69- مأساة الحلاج
70- المزيكاتي
71- ماكبث
72- هاملت
73- روميو و جوليت
74- تاجر البندقية
75- مريض بالوهم
76- البخيل
77- العظة
78- عدل السماء
79- القيامة
انشودة أكتوبر 1991
عمل قومي 4000 ممثل وراقص
80- قيس و لبنى
81- يوليوس قيصر
82- مصرع كليوباترا
83- مجنون ليلى
84- الأستاذ كيلونوف
85- شهداء الوطنية
86- المنقذة
87- أحمس الأول
88- مرتفعات ويزرنج
89- دنشواي
90- ملك القطن يوسف إدريس
91- المهزلة الأرضية
92- عنتر زمانه
93- عنترة
94- في سبيل التاج
95- روعة أم
96- عالم يجن الجن
97- الإنسان
98- دموع الشمس
99- ثلاث رجال و امرأة
100- الجزيرة المفقودة بهجت قمر

ومكتبات الفيديو في مصر و الوطن العربي فيها أكبر رصيد لمخرج تصل إلى خمسين مسرحية .
نبذه مختصرة عن حياة المخرج المسرحي " حسن عبد السلام " :
ولد حسن عبد السلام داخل أسرة متدينة جداً لا تعلم شيئاً عن المسرح أو أي نوع من أنواع الفنون إطلاقاً .
وكان والده من رجال الأزهر المتدينين فكانت طفولته في نطاق أسرة متدينة .
ويقول " حسن عبد السلام " عن حياته إنها عبارة عن " صدفة " و ليست نتاج تفكير وتدبير وخطط.
ظلت حياته تسير عادية حتى دخل المدرسة " الخديوية الثانوية " و كان يحب الرياضة جداً وكان يفضل نوعين من الرياضة هما الجمباز و الشيش و كان متفوقاً جداً في رياضة "الشيش" وتأكيداً لمقولته إن حياته كانت معظمها " صدفة " ففي أثناء ما كان يتدرب الشيش كانت نافذة المكان الذي يتدرب فيه يطل على مكان سمع فيه ذات مرة أصوات وتكبيرات و خناق و لكن هذا الشغب كان يسير بشكل منظم و كان قد سمع جملة منهم مثل " إليك عني ماذا تريد مني " لفت انتباهه ما يفعله هؤلاء فوجد نفسه ليس متفرجا فقط و لكنه بدأ يستوعب هذا الكلام و يتفاعل معه ووجد " حسن عبد السلام " أن هذا الشيء الذي جذب نظره قد سرقه من نفسه وفي اليوم التالي وجد نفسه يدخل باب المكان المجاور لمكان التمرين و من الملاحظ أنه لم يعرف أن هذا المكان يسمى " المسرح " وفي البداية يقول " حسن عبد السلام" إن مفردات " التمثيل و المسرح " كانت غريبة عليه أي أنه لم يكن يعرفها .
وعندما دخل إلى قاعة المسرح سأل واحداً "من هؤلاء " ؟ و ماذا يفعلون ؟ "فقال له : إنهم ممثلون يمثلون و كانت لفظة تمثيل جديدة لم يسمعها من قبل , ثم وجد شخص وقور يعطي التعليمات للمثلين و حينما سأل عنه فاتضح له أنه المخرج و رئيس الفريق .
أخذ يتردد على هذا المكان كثيراً وأراد أن يشترك معهم لأنه أحب هذا الفريق فأعطي له المخرج مقطعاً من مسرحية " مصرع كليوباترا " للشاعر أحمد شوقي و كان دور حابي .
وفي أثناء حديثي معه وجدت أنه كان متذكراً هذه اللحظة و كأنها كانت أمس وهذه اللحظة كانت منذ عام 1942 أي منذ حوالي 60 عاما ووجدته يقول لي المقطع الذي قام بإعطائه إياه المخرج و هو " حابي من الرعية من الأبطال الشقية ...... الخ " .
قال "حسن عبد السلام هذا المقطع بقوة أمام المخرج و شعر المخرج بحبه الشديد وإجادته للتمثيل والدور و من هنا كانت بداية " حسن عبد السلام " الفنية و بداية رحلته مع الفن عام 1942 .
ومن هنا بدأ حلم الإخراج يراود " حسن عبد السلام " :
فسألته منذ متى راودك حلم الإخراج ؟
فأجاب بأنه أخذ يمثل كل عام مع هذا الفريق حتى أصبح في يوم من الأيام رئيس هذا الفريق "بالصدفة" كان منذ طفولته يذهب إلى الإسكندرية كثيراً فقد كان حلمه أن يصبح قبطاناً و عندما غادر الإسكندرية ذاهباً إلى القاهرة كان يحلم أن يصبح رئيساً للوزراء .
ومن هنا نستشف أن "حسن عبد السلام " كان يراوده حلم القيادة فأراد أن يصبح مخرجاً حتى يكون رئيساً للممثلين ففكرة القائد كانت تلعب دوراً خفياً بداخله , لأنه اكتشف بعدما تعلم أن الإخراج قبل أن يكون موهبة فهو في المقام الأول و الأخير قيادة و القيادة أهم من أي شئ أخر , فالمخرج قائد قوي يلتزم الجميع بتنفيذ أوامره , فعلى الرغم من كل ما يجب أن يحمله المخرج من موهبة و خبرات وفكر شامل فهو قبل كل هذا يجب أن يكون قائداً .
و عن أول مسرحية قال " حسن عبد السلام " :
إن أول مسرحية أخرجتها للمسرح هي " العظة " أو " عدل السماء " و كان قد أخرجها للمدرسة الخديوية الثانوية و حول قصة أول تجربة إخراج له , فقد كانت المدرسة تأتي بمخرج يخرج لهم مسرحية ويأخذ عشرين جنيهاً من زملائه حتى يخرج لهم مسرحية ولكنه وجدهم يطيعونه في كل أوامره و في كل ما يقوله .
و كانت هذه هي الخطوة الأولى الإخراجية في طريق "حسن عبد السلام "
وفي سؤالي عن وجه الاختلاف بين الإخراج المسرحي والتليفزيون و السينمائي و لماذا اتجه إلى الإخراج المسرحي ؟
قال أنه لم يفضل الإخراج المسرحي لأنه لم يكن أمامه سواه فلم يكن هناك في بدايته تليفزيون و يؤكد أنه ليس له علاقة بالإخراج التليفزيوني والسينمائي وفي جملة تشبيه يقول حسن عبد السلام " إن الإخراج وقع على أم رأسي " .
ولكن بعد ذلك جاء ما يسمى بالاختيار فقد عرض عليه أن يخرج للتليفزيون و لكنه رفض لأنه أحب الإخراج المسرحي , و يقول إنه يفضل أن يكون قوياً في جبهة أفضل مما يكون متوسطاً في جبهتين .
عندما سألته عما كان يفضل العمل مع ممثل معين و مع من ؟
أجاب أن المخرج الذي يفضل أن يعمل مع ممثل معين فهو مخرج ضعيف يبحث عن الراحة له فالمخرج هو "مذلل الصعوبات "المخرج هو القدرة هو الكيان هو الحل و الإخراج هو الحل ويقول أيضاً إنه ليس لديه ممثل قريب إلى نفسه أو قريب إلى عقله فالمخرج لديه نص يريد أن يخرجه و يختار الممثلين سواء كانوا أعداءه أو أحبابه , المهم في النهاية أن يظهر بالصورة التي يتخيلها المخرج لهذا العمل .


أما عن اتجاهاته و أسلوب إخراجه في المسرح :
يقول " حسن عبد السلام " إنه كان في البداية يجهل نفسه لا يعرف الجهة التي هو متميز فيها , وشبه نفسه بالقطار الذي وضع على القضبان و قالوا له سر .
لم يكن "حسن عبد السلام " يعرف أسلوبه أو اتجاهاته التي يخرج بها , فكان عندما يقرأ نصاً يستوعبه ويفهمه و يدخل في أحشائه و يجبه ثم يخرجه .
يقول إن أحب المسرحيات إلى نفسه هي المسرحية التي يحس فيها أنه ابتكر شيئاً جديداً غير مألوف وغير عادي , لقد سبح "حسن عبد السلام " في بحار الاتجاهات الإخراجية وأنهارها ومحيطاتها فأخرج ما يسمى بالمسرح الفلسفي و التاريخي و الواقعي و الكوميدي و المسرح التغريبي والعبثي .
وتأكيداً للفظة الصدفة التي شكلت جزءاً كبيراً من حياته فكان حسن عبد السلام يخرج مسرحية بها أغاني فوجد نفسه يحب هذا اللون من المسرحيات واكتشف بعد ذلك أن هذا ما يسمى بالمسرح الشامل أو المسرح الملحمي أو المسرح الغنائي أو المسرح الموسيقي..الخ.
وعندما نضج أكثر و تعلم أكثر و تتثقف أكثر و تعرف على المسميات و الفرق بينهم فوجد أنه أول من أخرج الكوميديا الموسيقية في مسرحية سيدتي الجميلة و الكوميديا السوداء في مسرحية طبيخ الملايكة ووجد نفسه أول من أخرج ملحمة شعبية في عام 1973 لتسافر في أول مهرجان لمصر يدعي نانسي في فرنسا و منها إلى باريس ثم إلى قاعة من قاعات اليونسكو والتي عرض فيها مسرحية أيوب المصري فوجد نفسه يسير في هذا الاتجاه المسمى بالمسرح الشامل .
و عن مسرحية ندم " حسن عبد السلام " على إخراجها
ندم حسن عبد السلام حينما أخرج مسرحية تسمى سوق العصر عام 1969 بالإسكندرية و كانت هذه المسرحية أسوأ ما قدم في حياته وندم عليها ندماً شديداً وتحدث بصراحة عن سر فشل هذه المسرحية و هو الغرور فكان حسن عبد السلام في هذه الفترة مغروراً فنياً واعترف أن هذه المسرحية سقطت سقوطاً فظيعاً .
و عن المسرحيات التي لها قيمة فنية عند المخرج " حسن عبد السلام "
كانت هناك مسرحيتان لهما قيمة فنية و حنيناُ خاصاً إلى نفس حسن عبد السلام المسرحية الأولي هي راشامون و هذه المسرحية كانت تقدم لأول مرة في مصر لأنها كانت من المسرح الآسيوي الياباني في عام 1965 وكتب عنها النقاد والصحفيون أنها عمل جرئ ورائع أما العمل الثاني فهو مسرحية الزنزانة التي كان لها أثر ودوي كبير في الإسكندرية لأنه بذل فيها عصارة جهده و أفكاره الفنية فكانت المسرحيات هذه غير تقليدية و لا يوجد ستار يفتح و يغلق و الديكور كان يذوب داخل الصالة و في تعبير وتشبيه رائع يقول حسن عبد السلام إنه كان يلعب مع الجمهور ولكنه لا يلعب عليهم لأن المسرح إيهام بالواقع فكان يلعب مع الناس لإيجاد نوع من صحوة التكبير و التوقف عند كل صغيرة و كبيرة لأن يمعن التفكير ليجد الخطأ من الصواب ويبحث عن الحل .
* مسرحية "راشا مون " مؤلفها " اكوتاجاوا "
* مسرحية " الزنزانة " مؤلفها " سيد الشوربجي "
* و قدمنا في الإسكندرية عام 1965
و عن أول ما يلفت نظر المخرج وانتباهه في أثناء قراءته للنص المسرحي
أول ما يلفت نظر " حسن عبد السلام " مخرجاً وهو يقرأ نص المسرحية أنه قد انتهى من قراءة النص و هو لم يدر أنه ما زال يقرأها و المسرحية التي تجذب انتباهه هي المسرحية التي يتوقف عندما يقرأها .
و عن مدى إيمان "حسن عبد السلام " بمقولة " أن يذهب للممثل و ليس الممثل هو الذي يذهب للدور " :
يقول "حسن عبد السلام " أن الدور ينادي صاحبه و يقول أن الفنان يبحث عن دور عظيم لكي يؤكد به وجوده لكن الدور هو الذي يبحث عن الفنان أيا كان و عن الدور المسرحي أو الشخصية المسرحية يقول إن الشخصية لها صلاحية و هذه الصلاحية لها شكلان :
1- formation و هو الشكل الخارجي العام للشخصية .
2-characterization و هو التكوين النفسي الخاص للشخصية .
وعلى المخرج أن يبحث في هاتين النقطتين في تحليله لشخصيات المسرحية .
وعن أسلوب " حسن عبد السلام " أنه لا يحب لفظة ترابيزة فهي تعني الكسل و هي تختلف كثيراً عن بروفات الترابيزة القديمة فقديماً كانت هذه البروفات مجالا للنقاش ولإثراء ما يسمى بوجهة النظر التي تجعل المخرج يهتم بآراء الآخرين أما حاليا فالممثلون اختلفوا ولا يوجد وقت للنقاش و الأخذ بالرأي .
و عن كيفية التعامل مع العناصر الفنية في العرض المسرحي :
يقول إنه يجب بعد أن يقرأ النص و ينتمي إليه حتى تكون هناك حميمية بين المخرج و النص فتتفجر ما تسمى بالرؤية المسرحية في أثناء قراءاته للنص فيتخيل شكلا للديكور وموضعه على خشبة المسرح ثم يختار الشخص المناسب لكي يصمم الديكور و يعرض عليه أفكاره تجاه شكل الديكور بعد أن يقرأ مصمم الديكور النص ويتفقان فالمخرج له علاقة بكل صغيرة وكبيرة يعرضها على من يتعامل معه من مصمم الديكور و الملابس والإضاءة وغيرها من عناصر العمل الفنية .
أهمية الموسيقى عند " حسن عبد السلام " :
يقول "حسن عبد السلام " إن الموسيقى تختلف حسب النص فهي بشكل عام تكون مسجلة play back ما عدا الأوبريت و المسرحيات الغنائية فيجب أن تكون الموسيقى حية .
ولا يوجد عمل يجب أن تكون به الموسيقى و أيضاً الاستعراضات فإذا كان العمل يتطلب ذلك فلا مانع من دخولهما العرض بحيث ألا يخرجا عن الإطار الذي تسير عليه المسرحية .



و عن أهمية المخرج المساعد و المخرج المنفذ في أثناء بروفات رسم الحركة :
قال إن الإخراج ذات واحدة وليست ذوات فالذات الواحدة هي التي تنبع منها كل تفاصيل العمل المسرحي و أهم هذه التفاصيل هو ما يسمى بالحركة و الحركة عند " حسن عبد السلام" لها منابع و لها مجرى و لها مصب . المنبع هو الفكر والمجرى هو أحداث المسرحية والمصب النهائي هو الأداء الكلي للممثل و الحركة هي التعبير عن شخصية الدور من هي ؟ من أين جاءت ؟ وفي أي بيئة ولدت ؟ ونوع الدراسات و الثقافات التي درستها ومواصفاتها ؟ فإذا كانت جميلة الصورة فالشخصية هنا دائماً ما تفخر بجمالها أما إذا كانت سيئة المنظر تريد أن تداري وجهها أو الجزء السيء فيها فكل هذا يجب أن يدرسه المخرج في أثناء رسمه للحركة التي سوف تفيده كثيراً و تعطي للعمل المسرحي مصداقيته وواقعيته .
ويقول إننا في مصر نحب الألقاب ولكنه يؤكد أن في المسرح وظيفتين هما المخرج و مدير خشبة المسرح فكل ما ينطق به المخرج يدونه ويكتبه مدير خشبة المسرح و ما دام قد كتب فهو سوف ينفذ سواء أكان رسم حركة أو دخول موسيقى أو إكسسوار أو أشياء من هذا القبيل .
هل تأثر "حسن عبد السلام " بأسلوب واحد ما من المخرجين :
حينما بدأ "حسن عبد السلام " في الإخراج كان لا يوجد في مصر مخرجون أجانب فهو يقول إنه تأثر بمخرج واحد فقط و هو أستاذه الراحل "زكي طليمات "
و عن أهمية البروفة النهائية :
يقول " حسن عبد السلام " إنه في الواقع يحب أن يؤدي عشر بروفات جنرال و لكن من المفروض أن أقل شيء هو ثلاث بروفات جنرال semi general و بروفة جنرال حتى ينضج العرض و يري بصورة كاملة .


و هل ينتهي دورك كمخرج مع بداية العرض ؟
أجاب " حسن عبد السلام " عن هذا السؤال بتلقائية شديدة " أن دوري ينتهي بموتي " ولكن يجب علي المخرج أن يواكب العرض و لكن في مسرح القطاع الخاص يقول إن دوره ينتهي بمجرد تقديم العرض في أسبوعه الأول .
و عن الفرق بين الإخراج قديماً و حديثاً :-
قال إن الإخراج هو الإخراج لكن المهم هو الشكل الذي يخرج الإخراج من خلاله ويؤكد إن العصر الحالي أعطي الفرصة لأشياء استحدثت في المسرح لليوم و هذه هي سنة الحياة و لكن هناك مخرجين شباب الآن لهم أسلوب و اتجاه و هذا الأسلوب هو ابن زمنه ووقته وظروفه ودراسته .
وفي ختام حديثي معه سألته عن النصيحة التي يقدمها لكل شاب يريد أن يتجه إلي مجال الإخراج المسرحي :-
فقال لا يوجد أحد يقول إنه يريد أن يخرج فيخرج إلا إذا كان فعلاً يمتلك الملكة و القدرة والموهبة لأن أبشع شيء هو ما يمس صنع شيء فالصناعة بلا روح لكن أن أبدع تعني الموهبة فأي مخرج ناجح لابد وأن الله قد زرع فيه الموهبة والملكة , مع كونه يزكيها بالثقافة والتجربة ولكن يؤكد " حسن عبد السلام " إن الإخراج موهبة و ملكه أعطاها الله للمخرج لكي يقود مجموعة عمل ناجحة لإنتاج عمل ناجح .*

الإخراج المسرحي واكتشاف معنى النص
لاشك أن المخرج المسرحي منوط باكتشاف معنى النص . وسواء اكتشفه عن طريق ترجمة دلالاته الجزئية أو عن طريق تفسيره لتلك الدلالات وصولاً إلى تحليل المعنى أو الدلالة العامة أو وصولاً إلى تفكيك ذلك المعنى ؛ فإن وسيلته الفاعلة في ذلك الصدد هي علامات النص . أي أدوات الاتصال اللغوي وغير اللغوي ، الظاهر منها والمستتر .
العلامات غير اللغوية في المشهد المسرحي : ( تطبيق على أسلوب حسن عبد السلام ) :
أخرج الفنان حسن عبد السلام مسرحية ( مأساة الحلاج ) ( 1 ) لفرقة مسرح الجيب السكندري في أواخر عام 1967 على مسرح سيد درويش : يبدأ العرض بمشهد صلب الحلاج حيث تتوج الفضاء المسرحي لساحة الكرخ ببغداد شجرة جرداء في أحد جوانب ذلك الفضاء ؛ حيث " الحلاج " إليها مصلوباً والحرفيون الفقراء قعوداً عند قدميه ، حول النصف الأمامي من جذع شجرة الصلب ، باكين ، حزانى . وحيث الضوء الأحمر الخافت المشوب بالزرقة يشكل بؤرتين ، إحداهما تتركز على المصلوب وتتركز الأخرى على أولئك القاعدين عند قدمي الحلاج المصلوب . وتشكل مساحات من الظل رتوشاً على صورة المصلوب وعلى تكوين الحرفيين الحزانى من ناحية أخرى .
وتتوج فضاء الزمان آهات موقعة تغلفها إيقاعات موسيقية تتسلل خلالها نغمة بسيطة تعكس جواً أقرب إلى الجنائزية . غير أن لوناً من الصخب الماجن يقتحم هذا الجو الجنائزي بضحكات وحركات متمايلة لثلاثة من السكارى أحدهم ( تاجر ) والآخر ( واعظ ) أما الثالث فهو ( فلاح ) وهم يخرجون من إحدى الخمارات على الجانب الآخر المقابل للمشهد المأساوي . إلى هنا ونحن مازلنا بإزاء علامات غير لغوية ( مرئية ومسموعة ) ودلالاتها كالآتي :
* الصلب : علامة على عقوبة نفذت في الحلاج المتصوف الثائر على الخليفة العباسي المنادي بالعدل مع الفقراء . فالمدلول إذن هو معاقبة الدولة لأحد معارضي سياساتها الاجتماعية في مجال الحقوق والأرزاق فالعقاب هنا هو ( معنى أول ) يستهدف تحقيق ( معنى ثان ) هو ( ردع الآخرين غير " الحلاج " حتى لا تسوّل لهم أنفسهم التجرؤ بالخروج على ( الخليفة الحاكم )
وهذا يطابق تعريف العلامة عند سارتر حيث هي - عنده - المعنى المستخدم للدلالة على معنى آخر . (فعقاب) الحلاج ( معنى ) يدل على ( ردع ) الرعية ؛ أي تخويفهم حتى يمتنعوا عن تقليد الحلاج في خروجه على السلطة الحاكمة .
* قعود الحرفيين الباكين : ( القعود ) علامة تدل على ( خيبة الأمل ) وعدم الحيلة .
* (البكاء ) : علامة دالة على ( الندم ) .
ولأن العلامات في المشهد المسرحي يتعامد كل منها على الآخر ، ومن ثم تتفاعل دلالة كل علامة مع دلالة العلامات الأخرى التي وظفت في الصورة أو المشهد المسرحي . وهكذا فإن ( القعود ) و(البكاء ) معنيان يؤدي أولهما إلى الثاني القعود يؤدي إلى البكاء وكلاهما دلالة على ( عدم الحيلة ) وعدم الحيلة يؤدي إلى الندم . على أن مفتاح هذه العلامات كان ( الصلب ) .
هذه مجموع علامات التكوين المأساوي في هذا المشهد المسرحي . فماذا عن مجموع علامات التكوين الملهاوي اللاهي : ( التاجر - الواعظ - الفلاح ) ؟
* التطوح : علامة أولى دالة على ( عدم الاتزان ) وهذا دال على ( السكر وعدم الوعي ) وهي علامة ثانية . وفي كلا العلامتين معنيان يؤديان معاً إلى معنى ثالث هو ( الغياب الجزئي عن الذات وعن الواقع البيئي المحيط )
علامات التشكيل الهرمي في الصورة المسرحية :
إن تأمل التكوين المأساوي في المشهد الافتتاحي لعرض ( مأساة الحلاج ) تأملاً شكلياً مجرداً يكشف عن هرمين أحدهما هرم رأسي مقلوب يرتكز على الهرم الآخر مستوى القاعدة على أرضية خشبة المسرح فما هي دلالة ذلك ؟!
الهرم الرأسي المقلوب : علامة رمزية تتشكل من تكوين صلب " الحلاج " إلى شجرة جرداء بساحة " الكرخ " حيث ذراعاه المثبتان على فرعي الشجرة الذي يتجه كل فرع منهما في اتجاه مقابل للآخر أحدهما لأعلى اليمين والثاني لأعلى اليسار بما يشكل كل منهما ضلعاً مائلاً يرتكز خلف رأس الحلاج المصلوب ويشكل الضلع الوهمي بين نهاية الفرعين قاعدة وهمية للهرم المقلوب ودلالة ذلك لا تبتعد عن الحلاج المصلوب نفسه ، لأن خروجه على سياسة السلطة الحاكمة الخاصة بتوزيع الأرزاق هو نوع من الحض على قلب الهرم الاجتماعي بحيث تعلو قاعدته (جماهيره العريضة ) فتصبح على رأس النظام وتنزل قمته لتصبح مرتكزة . وتحقق ذلك يعني انتصار إرادة " الحلاج - الثائر " وذلك ما تدل عليه صورة ذراعي الحلاج المصلوبتين على فرعي الشجرة المنفرجين لأعلى - يميناً ويساراً فيما يرسم حرف ( V ) وهو يدل وفق مخزون الثقافة الاتفاقية الرمزية على النصر حيث هو حرف البداية في كلمة ( Victory : النصر ) الإنجليزية وتأكيد تلك الدلالة لا يبتعد عما أراده الحلاج نفسه ، إذ أراد الشهادة وهو في وضوء الأنبياء ( متطهراً بدمائه ) وهذا ما تؤكده كلمات الصوفية في رثائه :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني ؟
فقد توضأت وضوء الأنبياء "
" كان يقول :
كأن من يقتلني . محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمان
لأنه يصوغ من تراب رجلٍ فانٍ
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إنّ من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتمّ الدوره
لأنه أغاث بالدماء إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة ! زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها . طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاه
وردّه القضاة للسلطان وردّه السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمرة الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟ " ( 2 )
وهكذا تتضافر العلامات الكلامية ( الحوارية ) مع العلامات غير الكلامية ( المرئية ) في إنتاج دلالة الصورة المسرحية. فحرف ( V ) إذن الذي يشكله ذراعا الحلاج المثبتان على فرعي الشجرة الجرداء مع استقراء العلامات الكلامية في الحوار السردي المستقرئ لإرادة الحلاج قبل محاكمته وصلبه حيث أراد الشهادة عن طريق التوضؤ وضوء الأنبياء ( مغتسلاً بدمائه ) يدل على انتصار إرادته .


















(رسم توضيحي لتكوينات الصورة في المشهد الافتتاحي لمسرحية الحلاج بإخراج ( حسن عبد السلام )

فإذا كانت تلك هي دلالة الهرم المقلوب في تكوين الصلب ، فماذا عن الجزء السفلي من الصورة نفسها ( تكوين الحرفيين الفقراء على هيئة هرم مستوٍ استواء طبيعياً على أرضية خشبة المسرح ) .
يشكل كلا الهرمين ( المستوى القاعدة على أرضية خشبة المسرح والمقلوب ) بناء هندسياً يشكل جذع الحلاج المصلوب مع جذع الشجرة وسيلة الاتصال بينهما ( بين الهرمين المقلوب والمعتدل )
وإذا كانت دلالة الهرم المقلوب معبرة تعبيراً رمزياً عن حالة انتصار إرادة الحلاج في مسعاه الإستشهادي الدموي ؛ فإن دلالة الهرم المعتدل في استواء قاعدته أرضاً تحت قدمي الحلاج المصلوب تشكل حرف
(V / Λ ) مقلوباً ، وهو ما يرمز إلى الهزيمة مقارنة مع شكل الحرف نفسه بأعلى الشجرة ودلالته المشار إليها - فيما سبق -
والوصول إلى تلك الدلالة محكوم بقعودهم الباكي تحت قدمي ثائرهم الفاقد لثوريته ولحياته ندماً على تسليمهم إيّاه للسلطان ؛ وهو ما يدل عليه اعترافاتهم الجماعية بلغة الحوار :
" المجموعة : نحن القتلة " ( 3 )
ودلالة اعترافهم هي دلالة ( ندم ) إذن ( فالاعتراف ) معنى أول أنتج معنى ثان هو ( الندم ) وعلاماته القولية هي قولهم : " نحن القتلة " أما علاماته غير الكلامية فتتمثل في قعودهم ( النادم ) أيضاً تحت قدمي علامة جرمهم (الحلاج المصلوب ) .
حو ل إخراج حسن عبد السلام ( لمأساة الحلاج )
جماليات التكوين المزدوج في المشهد الافتتاحي ( للحلاج ) :
لاشك أن تضمن صورة الصلب لتكوينين متعارضين ، قد حقق معنى اللحظة ، إذ خلق حالة من التفاعل بين الدوال المرئية والدوال السمعية على النحو الذي مثلت له مضافاً إلى ذلك ( الحركة والأزياء والبؤر الضوئية والموسيقى والتنكر والمؤثرات والعلاقة بين الكتلة والفراغ ، الضوء والإظلام ، الصمت والصوت والسكون والثبات. فتحقيق معنى اللحظة لا يكون درامياً فحسب ولكنه جمالي أيضاً. والجمال مصدره التناقض في وحدة حيث الخطوط المثلثية ( الهرمية ) المتماثلة وغير المتماثلة ، وحيث مركز الثقل في الصورة المسرحية لأن تجمع الحرفيين الفقراء تحت قدمي شهيدهم المصلوب في تكوين هرمي مستو ومتقابل مع تكوين هرمي مقلوب يشكل جذع الحلاج الذي أصبح كتلة مضافة إلى جذع الشجرة وسيلة اتصال بين التكوينين الهرميين . فالدرامية والجمالية تتحقق في هذه الصورة التي أخرج بها الفنان " حسن عبد السلام " ( المشهد الافتتاحي لمأساة الحلاج ) عن طريق تعميق المغايرة في عناصر الصورة من ناحية ، ومن ناحية أخرى في المغايرة بين هذه الصورة التي تشكل مركز الثقل في الإطار المشهدي لتلك الافتتاحية والتكوين الثلاثي ( الهرمي ) المتحرك الذي يتشكل من الثلاثي المخمور اللاهي الخارج تواً من ( الخمارة ) : ( التاجر والواعظ والفلاح ) فهذا التكوين اللاهي المتحرك يعمق عنصر المغايرة في الصورة التالية لصورة الصلب . حيث عنصر الثبات في لوحة الصلب في مقابل عنصر الحركة المتدفقة وإيقاعاتها في لوحة الثلاثي المخمور وحيث التعارض بين اللوحتين في مشهد واحد يجمعهما ويقارب بينهما مقاربة شكلية قائمة على التنويع المثلثي في التكوينات إذ تكمل كل منهما الأخرى في تحقيق معنى اللحظة بتعبير ( مارتن إسلن ) بالإضافة إلى علاقة التناقض القائمة في المشهد بين المشهد الباكي ندماً والمشهد الضاحك رقاعة ولهواً ؛ وما وراء كل مشهد منهما من بعد موضوعي يتمثل في المنابع الطبقية للهرم الاجتماعي الحرفي الحزين والهرم الاجتماعي الرأسمالي الرقيع ، فالحلاج فقير مثله مثل الحرفيين والصوفيين الباكي منهم والمنتشي سعادة بشهادة معلمهم :
" الواعظ : .. فلنسأل الجمع ..
يا قوم ..
يتقدمون نحوه خطوة في حركات بليدة
من هذا الشيخ المصلوب ؟
مقدم المجموعة : أحد الفقراء
الواعظ : هل تعرف من قتله ؟
المجموعة : نحن القتلة
الواعظ : لكنكم فقراء مثله " ( 4 )

الممثل والدلالة الحركية الجماعية في المشهد الافتتاحي للحلاج :
إذا كانت إرشادات النص المسرحي بوصفها لغة غير كلامية قد قصد بها تصور المؤلف لحركة الشخصيات والوصف المكاني والزماني والنفسي لأحوال الشخصيات ودوافعها والمؤثرات البيئية التي تسهم في حركتها الدرامية ، فإن غالبية المخرجين لا يستندون إليها في تجسيد حياة المشهد المسرحي . وكثيراً ما يكون لدى بعض المخرجين الحق في إغفال إرشادات النص ، وغض النظر عنها فلو راجعنا مشهد تصدي ( الواعظ ) في المشهد الافتتاحي للحلاج للفقراء من الحرفيين أو ممثلي الطبقات الكادحة عن هوية ذلك الرجل المصلوب الذي وضع في طريقه هو وزميليه السكارى - حسب تعبيره - لالتمسنا العذر للمخرج حسن عبد السلام إذ غض الطرف عن إرشاد صلاح عبد الصبور في النص حيث الواعظ يوجه حديثه لمجموعة الفقراء فالمؤلف يحيل القاعدة إلى استثناء والاستثناء إلى قاعدة حيث يرشد إلى ظهور مجموعة الفقراء عندما يتوجه إليهم الواعظ بالسؤال وقد تصورهم في منطقة إظلام قبل ذلك :
" تضيء مقدمة المسرح اليمنى ، حيث نجد فيها مجموعة الناس يتقدمهم مقدمهم "
الواعظ : فلنسأل هذا الجمع
يا قوم
" يتقدمون نحوه خطوة في حركات بليدة "
من هذا الشيخ المصلوب ؟
م.المجموعة :أحد الفقراء
الواعظ : هل تعرف من قتله ؟
م : نحن القتلة " ( 5 )
جعل المخرج حسن عبد السلام حزن الفقراء الحرفيين هو القاعدة ولهو الثلاثي البرجوازي المخمور (التاجر - الواعظ - الفلاح ) وهي علامات رمزية : ( الرأسمالية العليا - التي أطلق عليها في ستينيات النظام السياسي المصري الرأسمالية الوطنية - ومثقف الطبقات البرجوازية ، والبرجوازية الصغيرة ) فالقاعدة الثبات المتقوقع في المكان والاستثناء متغير وحديث القدوم ، لذلك جعل المخرج حسن عبد السلام مجموعة الفقراء في بؤرة ضوئية خافتة وفي حالة من الثبات في قعودهم تحت قدمي الحلاج ، ليكثّف حجم المأساة ويحدث لدى المتفرجين حالة من حالات ( الإشباع ) أو التوكيد لحالة الحزن والندم ، وبذلك حقق معنى اللحظة الدرامية والجمالية بعد أن نحّى إرشادات النص جانباً إذ أحس أن بعض الإرشادات في غير محلها ، لأن حزن الحرفيين الفقراء حقيقي وندمهم ممسك بعواطفهم، وحركتهم مقيدة بالندم ، فهم غير مطالبين بشيء أو هم غير ملتزمين بشيء بعد الذي فعلوه بثمن بخس فأصابهم منه أذى كبيراً ، إذ سلموا رجلهم ، ومرشدهم إلى طرق الحصول على حقوقهم العادلة إلى جلاده وجلادهم . لذا فالقعود بهم أحرى وحركتهم الحزينة الساكنة دليل يأس واليأس لا يبادر بالحركة أو بالأفعال والأقوال ، في حين أن زمرة اللهو والخلاعة ( الثري والمثقف والبرجوازي الصغير - الفلاح ) أعضاء التحالف المخمور بعذابات الفقراء منطلقون متحررون لديهم كل الطموح والرغبة في التسلي واقتناص فرص الكسب :
" التاجر : نعم ، فقد يكون أمره حكاية طريفه
أقصها لزوجتي حين أعود في المساء
فهي تحب أطباق الحديث في موائد العشاء " ( 6 )
إذن فالبرجوازي الكبير يتسلى بمصائب الضعيف ، أين ومتى في أثناء عشائه أو إن شئنا تفسيراً لما وراء التعبير المنطوق فعلى فراش الزوجية والبرجوازي الصغير ( الفلاح ) فطبعه الفضولي غالبه على أمره ، لأنه ملتذ دوماً إلى ( حشر أنفه في شؤون الغير وتتبع أسرارهم )
" الفلاح : أما أنا ، فإنني فضولي بطبعي
كأنني قعيدة بلهاء
وكلما نويت أن أكف عن فضولي
يغلبني طبعي على تطبعي "
إن الفضولي والراغب في التسلي بأوجاع الغير يسعى بنفسه نحو ما يدفعه إليه طبعه وليس العكس . وهذا ما فهمه المخرج حسن عبد السلام مما اعتمل في نفوس هؤلاء الزمرة المنتفعة والمنتعشة بآلام الضعفاء وأنينهم ، ومما صرحوا به :
"الواعظ : وحبذا لو كان في حكايته
موعظة وعبرة
فإن ذهني مجدب عن ابتكار قصة ملائمة
تشد لهفة الجمهور
أجعلها في الجمعة القادمة
موعظتي في مسجد المنصور "
وهنا يرشد النص إلى ما يكشف عن وجود مجموعة الفقراء وكأنهم كانوا غير موجودين وجوداً له تأثير درامي قبل أن يبدي ثالوث اللهو والخلاعة الانتهازي رغبته في التسلي والانتفاع بمصيبتهم :
" تضيئ مقدمة المسرح ، حيث نجد فيها مجموعة من الناس يتقدمهم مقدمهم "
ولكن المخرج حسن عبد السلام للاعتبارات السابق شرحها يغض الطرف عن ذلك الإرشاد إذ يضع التكوين الحزين منذ البداية في منطقة الضوء وفي مقدمة يسار المسرح وليس في مقدمة اليمين ، وهذا هو الأنسب من ناحية الانتماء السياسي ومن حيث الحالة النفسية اليائسة . كذلك يغض حسن عبد السلام الطرف عن إرشادات أخرى جاءت في النص حيث يجعل الفقراء " يتقدمون نحوه في حركات بليدة "
وحيث يجعل أحد الفقراء في المجموعة : " يتقدم خطوة . وهو يتحدث وكأنه يقدم نفسه ثم يتراجع بعد أن يتم كلمته ويتكرر هذا مع كل منهم "
وأنا قراد "
أدرك حسن عبد السلام بحس المخرج أن مثل هذا الإرشاد يعكس آلية لا تناسب حالة أي من أولئك الفقراء . إلى جانب أنه إرشاد أقرب إلى المدرسية منه إلى الفن من حيث دراميته أو جمالياته . فلكي يعلن ( القراد ) عن هويته مجرد الإعلان عن مهنته يستلزم حركة التقافز والتراجع والتقدم والتخلف تلك ؟! أو لأنه ( قرداتي ) !!
ناهينا عن شكل تقديم كل منهم لنفسه :
" آخر : وأنا حداد
ثالث : وأنا حجام
رابع : وأنا خدام في حمام
خامس : وأنا نجار
سادس : وأنا بيطار "
ويغض المخرج الطرف أيضاً عن الإرشاد النصي الذي يشير إلى المجموعة قبل إجابتهم عن تساؤل التاجر
" هل فيكم جلاد ؟ "
يجعلهم الإرشاد " يتبادلون النظر ، ثم يقولون في صوت واحد "
" المجموعة : لا .. لا .. "
إن مثل هذا الإرشاد لا يعبر أبداً عن حقيقة هذه الطبقة ( طبقة العمال ) فهم حتى ( هنا ) في النص نفسه متفرقون ، كل واحد منهم يعبر عن نفسه لا غير . والحال التي صاروا إليها كانت بسبب انغماس كل واحد منهم في ذاته ، فهو فاعل في ذاته ولذاته ولاشيء غير ذلك ، وهذا ما أدى بهم إلى تلك الحال التي هم عليها في الحدث . والإرشاد يفترض قيام فعلهم على إرادة التشاور والاتفاق على الفعل قبل الإتيان به . وهذا غير حقيقي بالمرة ، لذلك لم يلتفت المخرج حسن عبد السلام إلى مثل هذا الإرشاد لأنه غير مطابق للحقيقة التاريخية . والحدث المسرحي هنا قائم على استلهام حادثة تاريخية حقيقية . ولم يكن التغاضي عن تلك الحقيقة في صالح الحدث الدرامي ، لأن نتيجته غير متطابقة مع مثل ذلك الإرشاد الذي يقرر توحد رأي الطبقة العاملة أو الجماهير الشعبية العربية !!

العلامات اللغوية في المشهد المسرحي :
إذا كان من حق المخرج المسرحي أن يغض النظر عن الإرشاد المسرحي ؟! بوصفه لغة غير كلامية - حالة ما يجدها بعيدة عن المصداقية ، أو أنها بعيدة عن المشاركة في تحقيق معنى اللحظة تحقيقاً درامياً وجمالياً ؟! لأن من البداهة القول إن اللغة بوصفها ( علامة دالة على المعنى ) وفق " دي سوسير " وأنها ( أداة اتصال لغوي وغير لغوي ) وفق ( امبرتو إيكو ) ؛ وأن من أدوات الاتصال ما كانت لها القدرة على تحقيق إرادة الشخصية وتحقيق بواعثها وعلاقاتها ، وتحقيق الحدث المسرحي وتعميق دلالاته ، ومنها ما قصر عن تحقيق ذلك أو بعضه ، فيصبح من البداهة أيضاً أن يجد المخرج المسرحي مترجماً للنص أو مفسراً ، ضعفاً في أدوات الاتصال وعدم القدرة على تحقيق المصداقية في المواقف5 الدرامي لدى الشخصية خاصة إذا تقنع الكاتب أو الشاعر خلف شخصية من شخصياته الدرامية . وكان تقنعه غير متقن ؛ وهنا يجوز له حفاظاً على المصداقية وحفاظاً على إيقاع العرض أن يحذف فقرة حوارية تضعف من البناء الدرامي أو تروغ بالإيقاع بعيداً عن تحقيق حالة الإمتاع والإقناع. ومن هذا المنطلق لجأ المخرج حسن عبد السلام إلى حذف جزء ليس صغيراً من حوار مجموعة الصوفية في إجابتهم عن سؤال طرحه الواعظ ، إذ وجد أن اللحظة الدرامية قد تحققت عندما وصلوا بخطاب رثائهم في المنظر الأول نفسه عند قولهم :
" هل نحرم العالم من شهيد
هل نحرم العالم من شهيد "
حذف المخرج خمسة عشر سطراً شعرياً بدءاً من :
" الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ؟ .
المجموعة : أبكانا أنّا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنّا علقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة
أفراد المجموعة : وسنذهب كي نلقي ما استبقينا منها
في شق محاريث الفلاحين
ونخبئها بين بضاعات التجار
ونحمّلها للريح السوّاحة فوق الموج
وسنخفيها في أفواه الإبل ..
الهائمة على وجه الصحراء
وندوّنها في الأوراق المحفوظة بين
طوايا الأثواب
وسنجعل منها أشعاراً وقصائد
المجموعة : قل لي .. ماذا كانت تصبح كلماته
لو لم يستشهد ؟
" يغادرون المسرح مع الأبيات الأخيرة من أول " وسنذهب " (7)
هل في حذف المخرج حسن عبد السلام لهذه الفقرة الحوارية ما يضر بالبناء الدرامي ؟ لا . بالقطع ، لأن المعنى الدرامي كان قد تحقق عند قولهم " هل نحرم العالم من شهيد ؟ " وبذلك أصبح الكلام التالي لهذا التساؤل الاستنكاري زائداً عن حاجة الموقف الدرامي . وقد فهم المخرج حسن عبد السلام بحسه الدرامي والجمالي وإدراكه للنهاية الحقيقية للكلام الدرامي ضرورة حذف الخمسة عشر سطراً شعرياً ، فأنهي خطاب الصوفية عند قولهم " هل نحرم العالم من شهيد ؟ " وجعلهم يغادرون المشهد متسللين . ليدخل محلهم " الشبلي " الصوفي ليعتذر للحلاج في وضعه المصلوب بمرثيته ذات خمسة وعشرين سطراً شعرياً شديد التأثير بدأها بقوله :
" يا صاحبي وحبيبي
أو لم ننهك عن العالمين
فما انتهيت "
دون أن يلتفت لاقتحام التاجر والواعظ والفلاح لعالمه غير المتصل بما هو خارج ذاته ، حتى يصل إلى نهاية مرثيته متهدجاً " أنا الذي قتلتك
أنا الذي قتلتك "
ويخرج ليلتحق البناء الدرامي من جديد بحالة التدخل المقتحم والنفعي الذي يسعى ( التاجر والفلاح والواعظ ) وراءه دون طائل فيعضوا أصابع الندم :
" الفلاح : عجباً لم ندرك شيئاً
التاجر : لن ترضى زوجي عني الليله
الواعظ : ضاعت عظتي إلا أن أتبع هذا الشيخ
الطيب فيحدثني بالقصة
يا شيخ .. ما القصة .. ما القصة .. من
قاتل هذا الرجل المصلوب "
ويحذف المخرج حسن عبد السلام التساؤل الأخير في قول الواعظ:" هل ندركه فيحدثنا .. ؟"
إذن فقد انتهينا إلى أن المخرج من حقه حذف فقرة أو أكثر من الحوار إذا أدرك تعطيلها للخط الدرامي أو رأى إرخاءها لحبل الإيقاع .
أسباب حذف المخرجين من النص المسرحي : حدد " هبنر " أسباب لجوء المخرجين المسرحيين إلى أربعة أسباب رئيسية وهو يراها متباينة الدوافع وذلك على النحو الآتي :
" أولاً : لتوفير الوقت في أثناء التدريبات .
ثانياً : للقضاء على النقاش غير المطلوب والزائد عن حده مع ممثلين دائماً ما يظهر لديهم ميل نحو الدفاع عن كل كلمة في أدوارهم ، بينما يوافقون على عمليات الخدمة والتخليص في أدوار زملائهم الممثلين الآخرين ..
ثالثاً : أحياناً ما يحدث في البداية أن يكون المخرج هو ذلك الذي يقوم بالدفاع عن كل كلمة ، بينما يطالب أصحاب الأدوار الأكبر طولاً بالتلخيصات كيلا يثقلوا ذاكرتهم .
رابعاً : عند نهاية البروفات يقوم المخرج بعمليات التلخيص والحذف ، متخوفاً من خطر الملل الذي قد ينشأ عن التطويل ، حينئذ يقف الممثلون ضد المخرج "(8)
إن أسباب المخرج " حسن عبد السلام " للحذف من حوار مسرحية ( مأساة الحلاج ) مختلفة عن تلك الأسباب التي استخلصها " هبنر " ولكن أسبابها ماثلة فيما سبق أن أشرت إليه بصفتي شاهد عيان مشارك في تجربة إخراج حسن عبد السلام لذلك النص في أواخر عام 1967 وربما كانت قريبة مما ذكره هبنر نفسه بعد ذلك حيث يرى أن بعض الحذوفات " تمليها الرغبة في وجود عرض مسرحي سريع الإيقاع يتخلص من التطويل والتكرار اللذين يتسبب عنهما ملل المتفرج المشاهد " (9)

المشهد الافتتاحي بين العلامات اللغوية والعلامات غير اللغوية :
لأن المسرح هو فن الممثل أولاً وأخيراً ، وأن أدوات التمثيل تتأسس على صوت الممثل وحركته الجسمية ومهاراته في العزف التعبيري المسرحي عليهما تجسيداً تطهيرياً أو تشخيصياً تغييرياً ، لذا فإن الصورة المسرحية تتجسد أو تشخص بالتعبيرين الصوتي والحركي معاً ، أو بالتعبير الحركي في عروض الرقص المسرحي (الدرامي ) مصحوبة بالتعبير الصوتي الذي قد يكون بشرياً - محدوداً - أو موسيقياً أو تأثيرياً . ولئن تأسس المشهد الافتتاحي لمسرحية ( مأساة الحلاج ) على الحوار كلغة كلامية وعموداً فقرياً للتوصيل الدلالي مع هامش إرشادي غير كلامي ؛ فإنه تجسيد المشهد عن طريق فنون الممثل يتحقق بتفاعل عبيره الصوتي مع تعبيره الحركي في توصيل الدلالات مع عناصر توكيدية درامية و جمالية . وإذا كان على المخرج في جلسات التحليل (تدريبات تقطيع الأداء الصوتي وتجسيد أصوات الأدوار المسرحية ) فإن عليه بعد الانتهاء من ذلك أن يرشد ممثلي العرض إلى تجسيد حياة الأدوار بالتعبير الصوتي والحركي ثم ضبط إيقاع كل منها وربطها جميعاً بإيقاع عام واحد . وهو لكي يحقق ذلك ، لابد من أن يتبع خطة مبنية على تصور . ولاشك أن تحليل المخرج للأدوار يعد الأساس النظري لتجسيد حياة الأداء لغة وحركة فكيف جسد المخرج حسن عبد السلام حياة المشهد الافتتاحي لمأساة الحلاج على المسرح ؟
إن المخرج الدارس يجب أن يقسم الحدث إلى عدد من المراحل ، حيث تتضمن كل مرحلة محطة معنوية ومن وجهة نظري فإن ذلك المشهد ينقسم إلى عدد من المراحل وذلك على النحو الآتي :
مرحلة التساؤل الاستنكاري : وتبدأ مع دهشة " التاجر " مما رأى ، ومن ثم لفته لنظر زميلي لهوه (الواعظ والفلاح) دون أن يتضح من ظاهر تساؤله إلى من يوجه السؤال هل للواعظ أم للفلاح :
" التاجر : انظر ماذا وضعوا في سكتنا ؟ " (10)
وليس معنى الاستجابة الفورية للفلاح بالرد على ما لفتهما إليه التاجر أن التاجر كان يوجه تساؤله الاستنكاري المدفوع بدهشته مما ظن أنه وضع في طريقهم عن قصد - إلى الفلاح ، ولكن صفة الفضول عند شخصية الفلاح تدفعه دفعاً إلى المبادرة بالتدخل المقتحم :
" الفلاح : شيخ مصلوب "
وهو لا يكتفي بالوصف التقريري ، ولكنه يلحق به وبشكل فوري دهشته وعجبه ليس من ذلك الموقف فحسب ، بل من كل ما صادفهم في يومهم :
" ما أغرب ما نلقى اليوم "
غير أن العضو الثالث في تحالف الرفاهية ( الواعظ ) فإن صفته كمثقف لكلا الطرفين الأولين (التاجر: رمز الطبقة المالكة العليا والفلاح:رمز الطبقة الصغرى الطامحة إلى الملكية والحليف الاستراتيجي لطبقة الملاك ولطبقة العمال معاً)
تنحى به إلى التأمل ، لذلك تتضمن مشاركته تشخيصاً للحالة التي يتأملها :
" الواعظ : يبدو كالغارق في النوم "
ولأن حرفة التجارة والتعامل المتداول تنطوي على روح التفاوض والمداخلة ، وهو ما يفرض روح الجدل ، وما يتطلبه من تدقيق لذلك يتداخل التاجر في الموقف بشكل جزئي أو تفصيلي هو من صميم ثقافته المهنية فيأتي تشخيصه أقرب إلى الطبيعة الفاحصة للسلعة محل النظر :
" التاجر : عيناه تنسكبان على صدره "
إن ألفاظ التاجر هي علامات دالة في إطارها العام على روح المهنة وثقافتها حيث الاهتمام بالتفاصيل والدقائق والتشخيص بالمعاينة الفاحصة التي اعتادت على التثمين ، وهو على العكس من ( الواعظ / المثقف ) المتأمل للخطوط العامة والوصف الظاهري العام لذلك تحمل مفرداته اللغوية لوناً من ألوان التفلسف
" الواعظ : وكأن ثقلت دنياه على جفنيه
أو غلبته الأيام على أمره "
ولأن دور الواعظ التثقيفي ، دور مرشد ومؤثر في المجتمع بشكل عام وفي أطراف التحالف الطبقي بشكل خاص؛ لذلك نجد التاجر وهو الأقرب اجتماعياً إلى التظاهر بمجاراته في لفظه :
" التاجر : فحني الجذع المجهود . وحدّق في التربِ
الواعظ : ليفتش في موطئ قدميه عن قبره "
وبذلك ظهرت تعبيراتهما الكلامية في بعض المواقف متقاربة ، ذلك التاجر بطبيعته نفعي . ولأنه براجماتي بطبيعته لذلك تتغير مواقفه دائماً ، تبعاً لما يرى فيه منفعة شخصية .
ومع أن الفلاح وفق توصيفه الطبقي المتطلع دوماً إلى التملك ، إلاّ أن مفردات بيئته بتفصيلاتها البسيطة أو شبه البدائية تربطه بما هو مادي ملموس لذلك تأتي تعبيراته تقريرية وبسيطة ، ومنفصلة إلى حد كبير عن البيئة المدنية فهو منفصل عن المدينة مهما تكررت زياراته لها ؛ لذلك يصبح من الطبيعي أو المنطقي أن تتأسس تعبيراته على عنصر الدهشة والتساؤلات المحددة :
" الفلاح : هل تعرف لم ْ قتلوه ؟
أو من قتله ؟ " (11)
ومع أن علامات اللغة في حوارياتهم تلك التي تؤدي إلى عدد من العلامات المتتالية :
( الدهشة ثن الاستنكار والتأمل ثم التشخيص ) ، إلاّ أنها في الإطار الدلالي العام تصب في دلالة واحدة تحقق معنى اللحظة على المستوى الدرامي وعلى المستوى الجمالي .
وإذا كانت الدهشة كدلالة أدت إلى دلالة جديدة هي الاستنكار فإن كلا الدلالتين هما معنيين تولدا من مجرد النظر المباشر والفجائي ، لعلامة غير متوقعة وهي وجود شخص مصلوب في طريق نشوتهم ومرحهم . والاستنكار كذلك دلالة على غياب الوعي عند هؤلاء ، بالإضافة إلى دلالته على غرابة ما صادفهم ؛ فكأن المصلوب وضع في طريقهم خصيصاً ليفسد عليهم نشوة سكرهم :
" الفلاح : شيخ مصلوب
ما أغرب ما نلقى اليوم "
فاللاتوقع قد ولّد الدهشة التي ولدت الاستنكار وما تلاه من دلالات .. فإذا كان ذلك كله نتاج العلامات اللغوية دون حاجة إلى علامات أخرى غير لغوية ؛ فهل يمكن والأمر كذلك استغناء الصورة المسرحية كمجموعة متفاعلة ومتوحدة من العلامات عن العلامات غير الكلامية طالما أن المعنى قد تحقق؟!
والإجابة بالقطع لا . لأن تحقق المعنى في المسرح القديم يتم بحالة الحضور المتفاعل شعوراً أو إدراكاً أو بكليهما معاً عن طريق علامات إرسال الصورة المسرحية وعلامات استقبالها . وإرسال الصورة المسرحية يتحقق بالتعبيرين الصوتي والحركي سواء تعادلا أو تفوق أحد طرفي معادلة الفرجة والفكر في الصورة المسرحية . وهنا يطرح السؤال الآتي نفسه بقوة : ما هي الكيفية التي ستكون عليها حركة الممثلين أو تعبيراتهم غير الكلامية في تفاعلها مع تعبيراتهم الصوتية عن هذا المشهد الافتتاحي نفسه ؟ من المعلوم أن الحركة تنبع من الحوار - في المسرحية غير العبثية - إذن فلكي يجسد الإخراج حركة الشخصيات تجسيداً تمثيلياً على المسرح في هذه المسرحية المستلهمة لحادثة تاريخية من العصر العباسي إسقاطاً على عصرنا في أواخر الستينيات المصرية لابد وأن يرتكز على تحليله للحدث ارتكازاً على محطاته الدلالية إلى جانب ارتكازه على الشخصيات بوصفها علامات تتفاعل مع علامات الحدث نفسه مضافاً إلى هذا وذاك الدلالة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الذي أنتجت هذه المسرحية في ظل ظروفه باعتبار الشخصيات الثلاث ( التاجر والواعظ والفلاح ) من ناحية رمزاً للطبقة العاملة وشخصية الحلاج المصلوب رمزاً للطليعية الثورية التي فقدت ثوريتها .
تفاعل الشخصيات بوصفها رموزاً اجتماعية :
تتفاعل مجموعة العلامات بوصفها معاني دلالية على معاني أخرى - حسب سارتر - أو بوصفها وسائل خلق دلالي في ذهن المتلقي تعويضاً عن خلق دلالي مؤول للدليل الأول أو تعويضاً عن موضوع - بحسب بيرس - كتقبيل رأس خصم لخصم آخر .. إذ هو علامة حركية يعوض بها الفاعل خصمه عما ألحقه به من ضرر أو أذى أو ألم .. فتقبيل الأول رأس الثاني دليل على ندم الأول عن فعل حصل منه ضد الثاني .. فالقبلة إذن علامة عن طلب الصفح عن الشعور بالندم وهي بذلك تعادل السماح والصفح كأنه يقول له بلغة الحركة : (اقبل رأسك لتسامحني )
ومثله خطاب الحرفيين الباكي عند قدمي الحلاج ، تعويضاً له عن تسليمهم إيّاه للشرطة ليحاكم ويصلب . فخطابهم الدرامي إذن يعادل الندم .
والتعبير غير الكلامي عن الندم ، هو تعبير يميل إلى السكون أكثر مما يميل إلى الحركة الجسمية ، وبمعنى آخر فإن بلاغة الحركة تعبيراً عن حالة الندم ؛ تقتضي ما قل ودل من التعبير بحركة الجسم . لذلك شكل المخرج حسن عبد السلام من مجموعة الحرفيين الفقراء تكويناً مثلثياً منفرج الأضلاع في مقدمة يسار الفضاء المسرحي أسفل تكوين هرمي يتشكل ضلعاه من ذراعي الحلاج مصلوبتين على فرعي الشجرة في زاوية حادة مركز التقاء ضلعيها عند رأس الحلاج المصلوب على جذعها ومحورها محور وهمي يمتد في نهاية الامتداد الرأسي لفرعي الشجرة ، وبذلك حقق التماثل الناقص ، في التكوينين العلوي والسفلي ، إذ كلاهما على هيئة مثلث ، غير أن أحدهما حاد الزاوية والآخر منفرج الزاوية وأحدهما رأسه إلى الأسفل فوق رأس الحلاج على هيئة حرف ( V ) والآخر رأسه إلى الأعلى تحت قدمي الحلاج ، إلى جانب وجود مركز ثقل في الصورة المسرحية وهو ( الحلاج المصلوب) فعين المتفرج لا تبارحه، مهما كانت طبيعة الحركة حولها ، ومهما نشطت عوامل الجذب المرئي للمكونات المتعارضة كحركة التاجر والواعظ والفلاح النقيضة من حيث الشكل ومن حيث الدلالة ، فإن عين المتفرج المشاهد وإن طرفت هنا أو هناك إلا أنها مشدودة النظر نحو مركز الثقل في الصورة ، وبذلك تتحقق للصورة المسرحية جمالياتها جنباً إلى جنب مع درامياتها ومن ثم تمتع وتقنع فتؤثر .
وإذا كانت حركة مجموعة الفقراء حركة بطيئة وئيدة جزئياً وساكنة في إطارها العام ، فذلك لا يمنع المخرج من تصميم تعبير حركي لها لا يخرج عن الجو النفسي والدلالة الرمزية بوصفهم رمزاً لطبقة مهزومة مستضعفة ومستغلة ومفككة . ذلك أن الصورة المسرحية في إطارها العام تجمع معها جمعاً تعسفياً ونقيضاً لها تكويناً آخر هو رمز للطبقة العليا المستغلة والمتحالفة ضد طبقة الحرفيين تلك . ووجود ذلك الثلاثي المخمور بنشوة الخمر أو نشوة الصراع ليتسلى فإعادة عرض القصة سرداً أو تشخيصاً أو بالتمثيل داخل التمثيل هو نوع من الفرجة الاستهلاكية التي تتسلى بآلام الضعفاء والمستضعفين .
ولأننا هنا بإزاء تكوين باك وتكوين ضاحك ، ولأننا بإزاء علامات في داخل إطار واحد مع أنها في حالة تناقض صارخ على المستوى الاجتماعي والسياسي وعلى المستوى النفسي في مجتمعنا المصري المعاصر ، لا المجتمع العربي في العصر العباسي ، لأن الشخصيات في المسرحية علامات مقاربة مع علامات طبقية في مجتمع الستينيات السياسي . والمنظر كله علامة دالة على إطار واحد يجمع تلك العلامات الطبقية ، علامة إطارية تماثل الإطار الحزبي الذي عرفته مصر في الستينيات تحت مسمى ( الاتحاد الاشتراكي العربي ) وعلاماته على المستوى الواقعي المعيش - وقتذاك - ( نموذج للرأسمالية " الوطنية " - نموذج للمثقفين - نموذج للفلاحين - نموذج للعمال ) وعلامات المشهد قي المسرحية ( تاجر - واعظ - فلاح ) و ( حرفيين حثالة الطبقة العاملة )
وتعبير الضحك واللهو وتعبير البكاء والندم علامتان متناقضتان واجتماعهما معاً يكشف عن زيف الإطار .. فعلى مستوى الواقع السياسي الذي جمع بين الغرماء يشكل نوعاً من التلفيق السياسي .. وعلى المستوى الإطاري الدرامي الفني الذي يجمع بين نماذج إنسانية تعيش مأساة . وهو ما يكشف عن الندم ؛ وهو عاطفة نبيلة ، ونماذج لا إنسانية تتلهى بمأساة غيرها وتتندر على مصائبها ؛ وذلك سلوك قبيح ولا إنساني . والجمع بين معنيين أحدهما نبيل والثاني قبيح يكشف عن المعنى الكلي الذي أراد المؤلف صلاح عبد الصبور الكشف عنه . وهو رفضه للجمع النخبوي التعسفي والنماذجي لعينات من طبقات يستحيل جمعها على هدف واحد ، لاختلاف مصالحها وثقافاتها اختلافاً طبقياً والمؤلف في رفضه ذلك التجمع وهدفه المعلن - على مستوى واقع الستينيات السياسي المعيش - إنما يرفض ذلك التجمع التلفيقي سواء عن إدراك أو عن استشفاف غير مدرك منه للفكرة السياسية التي حاولت صنع اتحاد شكلي بين عينات طبقية مصرية يستحيل توحدها في إطار حزبي واحد ، ولا يمكن أن يصدق عليها وصف ( تحالف ) لأن التحالف مرحلة في العمل السياسي بين أحزاب لكل منها استقلالها على أساس برنامج تمت مناقشته ونقده ثم إقراره من أطراف الأحزاب المتحالفة . وهذا غير قائم في حالة التنظيم السياسي المصري في الستينيات ، وغير قائم في صورته الدرامية المستلهمة أو المنعكسة على نص ( مأساة الحلاج ) لصلاح عبد الصبور .
على أن الذي يهم المخرج هنا كما يهم الناقد ما وراء تلك المرجعية الثقافية أو المعرفة الاجتماعية والسياسية النقدية هو كيف يجسد حياة المشهد المسرحي مسلحاً بها أو كاشفاً عن دلالاتها تلك .
فإذا كان صلاح عبد الصبور قد صنع لنفسه وللمتلقي المتمرس بالسياسة دلالة تعويضية عن إرغام النظام الحاكم على قبول المجتمع لذلك الاتحاد الزائف للطبقات في مصر - بدافع من حسه الطبقي أو من وعيه - فإن المخرج حسن عبد السلام لم تلفته تلك الدلالات . وهذا لا يقلل من قيمة إبداعه ، وإنما كان - لو أدرك تلك الدلالات - سيضيف إلى إبداعه أعماقاً فكرية ودلالية شديدة التميز .. وهنا تصح مقولة هبنر " الحياة التي يبعثها المخرج في المسرحية محملة بسماته الشخصية وعصبه النفسي المحتوم الذي لا مفر منه " (12)
وعودة إلى بناء الدلالات غير اللغوية في هذا المشهد الافتتاحي وقد وقفنا من قبل عند الخطوط العريضة للتكوينين الرئيسيين فيه حيث اعتمد المخرج حسن عبد السلام على ثلاثة أشكال مثلثية متنوعة ، التزمها طوال المشهد ، ربما لأن شكل المثلث هو الأنسب في تحريك المجموعات على المسرح لإمكانات التنويع فيه ما بين تساوي الأضلاع أو حدتها أو انفراجها إلى جانب تجسيد حالات التعارض ، إلى جانب ما يوحي به من المواجهة المرهصة التي تشي دوماً بقرب وقوع المواجهة الصدامية . والمخرج فطن إلى تلك الخصائص في الأشكال المثلثية من ناحية ومناسبتها من ناحية ثانية لرسوبيات التحريض أو بقاياه من خطاب الحلاج الماضي عن العدالة الاجتماعية ومناسبتها من ناحية ثالثة لحالة الاستفزاز الطارئة والدخيلة التي اقتحم بها ثلاثي الأغنياء هذا للحظة تعريتهم الجماعية لضمائرهم . تلك كانت الخطوط العريضة لتجسيد ذلك المشهد بإخراج حسن عبد السلام تجسيداً صوتياً وحركياً . وهذا لا يخرج قياساً على علم العلامات - حسب بيرس - وإن لم يكن ذلك معلوماً للمخرج - فقد جسد المشهد شيئاً معيناً هو رفض ثلاثي الملاك بمستوياتهم الطبقية لإشغال الساحة الممتدة أمام الخمارة (بيت لهوهم العام ) بمنظر يعكر صفوهم ويبدد نشوتهم ولهوهم ، وإلاّ فقد بددوا المال سدى . إنهم لا يعارضون فكرة الصلب كعقاب اجتماعي أو كقتل ، ولكنهم يعارضون تنفيذ ذلك أمام مكان لهوهم ومتعتهم ومجونهم .
وإذا كان هذا المعنى هو الذي قصده " بيرس " في الشق الأول من تعريفه للعلامة حيث قال : " هي عبارة عن شيء يعوض شيئاً معيناً بالنسبة لشخص معين ، فإن الشق الثاني من تعريفه حيث يقول : "أي أنه يخلق في ذهن الشخص دليلاً معادلاً أو دليلاً مؤولاً للدليل الأول ، ويعوض هذا الدليل شيئاً معيناً هو موضوع الدليل " يتحقق بكشف أبعاد تلك الشخصيات ( التاجر والواعظ والفلاح ) على نحو ما فعلنا وذلك بالإضافة إلى كشف الشيء الثاني المعين والشخص المعين في المشهد نفسه .. حيث رفض الحرفيين الفقراء لصلب الرجل الذي عمل بصدق على حث الخليفة أو النظام الحاكم على إنصاف الفقراء العاملين الكادحين وكانت علامة رفضهم هي قعودهم الباكي النادم على رعونتهم وجهلهم الطبقي المطبق بتسليمهم منقذهم إلى جلاده وجلادهم بالشهادة ضده زوراً نظير رشوة صغيرة حقيرة .
العلامة الحركية السكونية في المشهد :
إن إحالة الثلاثي اللاهي العلاماتية لبعضهم بعضاً دليل محاورة فيها مقاربة مع محاورة لاعبي كرة القدم ؛ فالحوار يجري بين الثالوث كتداول ثلاث لاعبين من فريق للكرة بأقدامهم فالأسلوب نفسه بينهم يشكل علامة أسلوبية دالة على المحاور بين اللاعبين ؛ فهم في الواقع يتلاعبون بالألفاظ، ويتداولون الكلام بالتساوي تقريباً ؛ فكل منهم يدفع بالعبارة إلى زميله ليدفع بها إلى الثالث ، لتعود إلى الأول .. وهكذا دواليك .
" الفلاح : هل تعرف لم قتلوه ؟
أو من قتله ؟
التاجر : هل أعرف علم الغيب ؟
اسأل مولانا الواعظ
الفلاح : هل تعرف يا مولانا ؟
الواعظ : لا .. فلنسأل أحد المارة
التاجر : نعم ، فقد يكون أمره حكاية طريفة
أقصها لزوجتي حين أعود في المساء
فهي تحب أطباق الحديث في موائد العشاء
الفلاح : أما أنا ، فأنا فضولي بطبعي
كأني قعيدة بلهاء
وكلما نويت أن أكفّ عن فضولي
يغلبني طبعي على تطبعي
الواعظ : وحبذا لو كانت في حكايته
موعظة وعبرة
فإن ذهني مجدب عن ابتكار قصة ملائمة
تشد لهفة الجمهور
أجعلها في الجمعة القادمة
موعظتي في مسجد المنصور " (13)
ودلالة هذه الحوارية بين ثالوث اللاعبين العابثين بتقاذف العبارات هي في ( مصائب قوم عند قوم فوائد) وهي الحكمة التي ضمّنها المتنبي في بيت من شعره " مصائب قوم عند قوم فوائد " " تأتي الرياح بما لا تشتي السفن "
فكل لاعب من ذلك الثلاثي الطبقي اللاهي وجد في هذا المشهد - الذي اصطدموا به اصطداماً تعسفياً - أنه سوف يفيد منه ، إذ ستحل له مشكلة خاصة ، فالفلاح رأي في مصيبة هؤلاء ما يرضي فضوله ، والتاجر وجد فيها حكاية يقصها على زوجته في الفراش أي على مائدة العشاء - ربما ليصدها عن الطعام بوصف منظر رجل مصلوب فكلاهما " سادي " إذن !!
والواعظ وجد فيها ما يصلح لأن يكون موعظته القادمة في صلاة الجمعة القادمة !
إن الشخصيات الثلاث هي علامات تكشف عن زيف هذه الطبقة الرأسمالية بكل مستوياتها وتوابعها من البرجوازية الريفية الصغرى ودلالة سلوكها تكشفها بنفسها ، فهي دلالة على انتهازيتها وانتفاعها من كل شيء ، وفي أي موضع تجد نفسها فيه حتى ولو كان على غير رغبة منها .
كذلك يكشف سلوكها وصورتها على النحو الذي صورها عليه صلاح عبد الصبور عن دلالة نقدية هو سخريته منها ودعوتنا إلى السخرية منها وليس هذا فحسب ؛ ولكن الحذر منها ، وتلك دلالة تعليمية ، لأنها تشكل تيار وعي ، يحض المتلقي على تعديل سلوكه مع أمثال هؤلاء . وتلك علامة تعويضية للمتلقي عما شاهده أو تلقاه من فلسفة الفكر السياسي لمرحلة الستينيات فالواعظ فاسد فاسق. وهو أمام جامع المنصور ، وتلك دلالة فساد رجل الدين ، فساد المثقف البرجوازي المثقف الرسمي مثقف السلطتين : الدينية والرسمية الديوانية .
العلامة التعويضية في خطاب الحرفيين : يشعر الحرفيون بالندم الشديد والحزن العميق على موقفهم المخزي ضد (الحلاج ) وهم يعوضون ذلك الندم وذلك الحزن بالاعتراف بالذنب وعمّا اقترفوه في حق الحلاج :
" الواعظ : فلنسأل هذا الجمع
يا قوم ( يتقدمون نحوه خطوة في حركات بليدة )
من هذا الشيخ المصلوب ؟
مقدم المجموعة : أحد الفقراء
الواعظ : هل تعرف من قتله ؟
المجموعة : نحن القتلة .
الواعظ : لكنكموا فقراء مثله .
المجموعة : هذا يبدو من هيئتنا "
الواعظ هو المثقف ( بكسر القاف ) وطليعة الطبقة الرأسمالية العليا ، والبرجوازية الصغيرة ، وطبقة العمال (الحرفيين ) فهو هنا علامة تعويضية ترمز إلى الدور التثقيفي المرشد للطبقات الأخرى . علامة تتصدى لهؤلاء الحرفيين وتخاطبهم دون خوف من صدّه ، لأنه مثقّف النخبة الحاكمة ، بمعنى أنه في خدمة مصالحها وما دوره الإرشادي للطبقات دون الطبقة العليا إلاّ دوراً تمهيدياً لتبعية تلك الطبقات للطبقة العليا التي نصبتها لتسوس أمورها ومصالحها في خطورة الاستكانة . بصفته مثقف العقيدة الدينية وداعيتها . وتلك هي دلالة تصديه بالخطاب التساؤلي للفقراء دون غيره ؛ فالتاجر والفلاح يقفان خلفه يحتمون به . هو يكشف لهم جلية الأمر ، ويخطط لهم ولصالحهم .
ولأن الوعظ والفلاحة والتجارة وظائف حياتية منها الرسمي ومنها المدني ، فإن لكل من أصحابها أو ممثليها (علاماتها ) زيّاً هو بمثابة علامة بصرية يدل كل منها على تلك العلامة ، فالعلامة إذن تعبير ثنائي المبنى ، يعوض ثانيهما عن أولهما ، الأول ( دال ) والثاني ( مدلول ) وبمعنى أكثر إيضاحاً :
التعبير المحسوس : السمعي والمرئي ( الشخصية - كلامها - زيها - حركتها الجسمية )
التعبير غير المحسوس : وهو ( المعنى الضمني ) : ( الصورة الذهنية الناتجة عن التعبير المحسوس )
كما يقول بنفنست " فالعلامة تربط . وبمراجعتنا للصورة المسرحية السابقة نرى كلام كل شخصية من شخصيات تلك الحوارية هو علامة وزي كل منها علامة وحركة كل منها علامة وهي علامات ترتبط جميعها وتتضافر من أجل تعيين دلالة موقفها في الحدث الدرامي . فالفقراء من علامات فقرهم ليس قولهم المعترف بذلك ولكن أزياءهم تدل على فقرهم وحركتهم المستكينة ومشاعر ندمهم والتكوين الذي شكلهم المخرج وفقه كلها علامات يمسك كل منها بتلابيب العلامات الأخرى لتعطينا مجتمعة دلالة الفقر . وهذا ما يشير إليه قولهم رداً على سؤال الواعظ :
" الواعظ : لكنكموا فقراء مثله
المجموعة : هذا يبدو من هيئتنا "
وبدون ترابط تلك العلامات مع بعضها البعض لا يكون هناك تحديد أو إنتاج لدلالة شاملة لا للشخصية ولا للحدث المسرحي وفي ذلك يصلح قول مارتن إسلن : " الشكل المكتوب من نص مسرحي ما لا يتضمن تحديداً واضحاً لمعناه الحقيقي "
وهكذا فإن الممثل ينتج الممثل من خلال دوره قراءة فردية للشخصية التي يؤديها . وهي قراءة - وإن كانت فردية - إلاّ أنها تصبح بدورها نصاً جديداً مفتوحاً لمعنى العرض المسرحي . ولأن إنتاج العرض المسرحي يتحقق عن طريق الحوار والمناظر والإيماءات والأزياء وأساليب التنكر والتلوين الصوتي والحركي للمواقف المسرحية . فكلها علامات تخلق معنى العرض المسرحي . غير أن خيال المتفرج وثقافته تولدان الأثر النهائي والمعنى الخير - على الأقل بالنسبة لهذا المتفرج أو ذاك - لن المتفرجين متباينو الثقافات والخيال والأحوال والطباع والأمزجة ؛ لذلك فإن الأثر الدرامي والمعنى الأخير هو كذلك بالنسبة لكل متفرج بمعنى أن كل متفرج ينتج المعنى النهائي للعرض على طريقته ، لذلك يختلف المعنى النهائي للعرض من متفرج إلى متفرج آخر . وهذا هو نفسه ما يعبر عنه ( جاك دريدا ) بقراءة إساءة النص .
وفي ذلك يقول ( إليوت إيزنر E . Eisner 1985) " إن المعنى والمعرفة هما تركيبان بشريان ، وإن الإنسان هو الباني لتجربته ، وإن أشكال المعاني التي يستطيع الإنسان إبداعها تتأثر جداً بالأشكال الحضارية التي يتعلم استعمالها. " (15)
وعلى ذلك يمكن القول إن تعبير كل شخصية في الحدث المسرحي للحلاج شأنه شأن كل شخصية مسرحية هو تعبير ثنائي في مبناه الدرامي ( تعبير محسوس ) و ( تعبير غير محسوس ) يؤدي الأول وهو ظاهر ( كلاماً وحركة وزيّاً ومؤثراً درامياً ) ( مدلول ) إلى تفعيل ذهن المتفرج لينتج التعبير الثاني (الدلالة )
وهذا ينطبق على كل لون من ألوان التعبير الأدبي والفني . ففي شعر إيليا أبي ماضي حيث يقول :
" قال السماء كئيبة وتجهما قلت ابتسم تجد الفضا متبسماً "
إذ يتضمن قوله لمن يسمع أو يقرأ وصفه للسماء تعبيرين :
* التعبير المحسوس : تعبير صوتي - تعبير مرئي ( دال )
ينتج عنه تعبير غير محسوس ( ضمني ) : ( دلالة )
التعبير غير المحسوس : أ ) في الشطر الأول من البيت دلالة على التشاؤم
ب) في الشطر الثاني من البيت دلالة على التفاؤل ( دعوة للتفاؤل )
وكلا الدلالتين فعلين بشريين إراديين ؛ فمن ينظر إلى الكون بكدر وتجهم لا ينال سوى الكآبة والكدر . ومن ينظر إلى الكون ببشر وسرور يكون سعيداً . وهذا هو المعنى الضمني الذي نتج عن المعنى الأول .
ويمكن إعطاء مثلين شعريين آخرين أحدهما لأبي فراس الحمداني والثاني للمعري .
يقول أبو فراس : " إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر "
معاناة الظمأ وعدم هطول أمطار
التعبير المحسوس ( الدال ) : تعبير صوتي وتعبير مرئي
التعبير غير المحسوس ( الدلالة المتضمنة ) : إيثار النفس على الكون كله ( أنا وبعدي الطوفان ) فهو في عطشه المميت له هو موت للحياة كلها غير أن ذلك ممتنع لامتناع تحقق الشرط الأول وهو العطش لذلك يمتنع جواب ذلك الشرط وهو : موت الكائنات جميعها . غير أن التعبيرين كليهما هنا متضمن في الذهن لأن الموت ظمأً وعدم هطول المطر مجرد فرض
أما المعري فيقول : " فلا نزلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد "
التعبير المحسوس ( الدال ) :
صوتياً : الهطول المشروع للمطر وامتناعه
مرئياً : السحب في رقعة ما من الفضاء الجوي من موطنه .
التعبير غير المحسوس ( الدلالة الضمنية ) : إيثاره للناس على نفسه فمصيره مرتبط بمصير الناس جميعاً .
ولقد استطردنا في التمثيل لكلا التعبيرين لنكشف عن واحدة من أهم وظائف التفسير باعتبار المخرج المسرحي - من جهة نظري هو المخرج المفسر للنص في أقل القليل من عملية التصدي لإخراج نص مسرحي .
دور الإحالات المعرفية في فن المخرج المفسر :
إنه لمن أهم المميزات التي يتوجب على المخرج أن يقوم بها في تفسيره للنص حتى يجسد رؤيته في صورة مسرحية ذات دلالة مضافة إلى المعنى الذي أراده مؤلف النص المسرحي مشروع إبداع المخرج يتمثل في قدرته على الإحالات المعرفية لعلامات النص المسرحي سواء أكانت إحالة معرفية اجتماعية أو إحالة معرفية تراثية كشفاً عن تناقضات في العادات والتقاليد في حالة إخراجه لمسرحية ملحمية أو كشفاً عن الدوافع أو البواعث الذاتية للفعل في إخراجه لمسرحية درامية تعبيرية أو كشفاً عن العلاقات الاجتماعية ومظاهر تفاعلاتها الجزئية اليومية في إخراجه لمسرحية طبيعية أو كشفاً عن العلاقات الاجتماعية المثلي المفترض تمثل الشخصيات بها في إخراجه لمسرحية واقعية أو كشفاً عن جوهر الحياة الإنسانية من خلال ركب مسيرتها الحياتية الكونية النمطية وخطوطها المجردة في إخراجه لمسرحية رمزية أو عبثية ، أو تكعيبية أو كشفاً عن حقيقة سرمدية لا تكتشف إلاّ عن طريق اللاوعي في إخراجه لمسرحية سيريالية .
الإحالة المعرفية ودورها في مراحل إبداع المخرج لمسرحية ملحمية :
المخرج الذي يتصدى لإخراج مسرحية ملحمية مثل ( منين أجيب ناس ) لنجيب سرور . (16)
عندما يغني الكورس مقطعاً من أغنية لسيد درويش :
" مليحة قوي القلل القناوي رخيصة قوي القلل القناوي
قرب حدانا خدلك قلتين "
" خسارة قرشك وحياة ولادك على اللي ما هوش من طين بلادك "
فإن الراوي يرد على مجموعة الكورس بمقطع غنائي منافض لدعوة الكورس إلى التمسك بالأدوات المتخلفة في عصر التكنولوجيا :
" الراوي : يا قلة الذل أنا ناوي ما اشرب ولو في القلة عسل "
لكن هل جسد المخرج الشاب ( مراد منير ) في إخراجه لهذه المسرحية التي أنتجها المسرح المتجول بوزارة الثقافة تجسيداً يكشف عن تفكيك الراوي لدعوة الكورس ؟هل جسد إخراجه لتلك الصورة الدرامية الغنائية روح الجدل التاريخي عرض الموقف وعرض نقيضه في صورة واحدة ؟! لا . لم يستطع تجسيد ذلك وربما لم يفطن إلى ذلك التناقض ، وإلاّ لكان قد جسد في الصورة المسرحية لعرضه ذاك . لماذا ؟ لأنه لم يلتفت وربما لم يكن يعرف أهمية العلامة في عمل المخرج المسرحي قبل عمل الناقد الحداثي وما بعد الحداثي ( التفكيكي ) باعتبار أن المخرج الواعي والناجح هو ناقد قبل أن يكون مخرجاً مفسراً أو مخرجاً ( مؤلفاً للعرض ) فلو كان ( مراد ) قد لاحظ دلالة العلامة الأولى في الأغنية التراثية والمعارضة النقيضة لها في العلامة الثانية ( مداخلة الراوي ) لتمكن من تجسيد هذه الصورة المسرحية الناقضة للأغنية الشعبية على النحو الذي تأسست عليه أبنتها ودلالتها . فماذا في العلامتين إلى ما تدلاننا ؟
العلامة الأولى في الأغنية الشعبية : تحض على الاقتصار على الصناعة المحلية ( في عشرينيات القرن الماضي ) في إطار تشجيعها ، تحقيقاً للشعار الذي رفعه الاقتصادي المصري الوطني ( طلعت حرب ) مهما كانت قيمة تلك المنتجات الأجنبية التي تكتسح الأسواق المصرية وقتذاك .
العلامة الثانية في الأغنية الشعبية نفسها : هي علامة ما بعد حداثية لأنها ترفض ذلك الشعار . وهي تفكك العلامة الأولى وتناقض دلالتها . لأن المنتج لا يجب أن يكون متخلفاً ، حتى ولو كان منتجاً وطنياً . ففي ‘إطار حالات التحديث في المجتمع ( مخترعات وتكنولوجيا حديثة ) تحقق راحة أكثر وأمناً أكثر وذوقاً أرقى وخدمة أسرع وأسهل ومجتمعاً مدنياً لا محل فيه من الإعراب لمنتجات دون ذلك بكثير . منتجات بدائية في القرن العشرين !! لذلك يجب أن تتواكب التوجهات السلوكية والفكرية والذوقية مع ذلك التحديث الاجتماعي المعاصر ، وأن تكون للمجتمع حساسية جديدة لذلك كانت العلامة الثانية في الأغنية الشعبية دعوة إلى الجودة في الإنتاج ومواكبة ما ننتج في ظل مجتمع السبعينيات التي كتبت المسرحية انعكاساً له وانعكاساً لطبيعة العصر عصر التكنولوجيا والسماوات المفتوحة والإنتاج المصري المتلاحق في ظل الأسواق المتعدية للحدود الجغرافية والسكانية. ودعوة للتفاعل مع المنجزات العلمية والتكنولوجية العالمية .
لقد اكتفى المخرج الشاب بتجسيد هذه الصورة الغنائية التفكيكية بمجموعة من الفتيات الرشيقات في أزياء بنت البلد المصرية تتراقصن جنباً إلى جنب مع شباب ممشوق القوام ، بالغ الحيوية في أزياء ابن البلد المصري وبيد كل شاب ( قلة ) يتراقص بها خلال جملة حركية نمطية متكررة ثم يلقي بها بين يدي إحدى الفتيات لتؤدي جملة حركية تعتز فيها بامتلاكها للقلة . وتنتهي المسألة عند هذا الحد - التعبير عن الفرجة بحيازة القلة - وهذه دلالة الدعوة للاقتصار على المنتج الوطني حتى وإن كان مجرد قلة وتفضيلها على أي منتج أجنبي حتى ولو كان متقدماً وهنا تختل المعادلة في الصورة المسرحية ، لأن المخرج اكتفى بتجسيد العلامة الأولى وأهمل العلامة الثانية. وقد كان من السهل التعبير عنها بجملة حركية راقصة أو أكثر ، حتى يجسد حالة الجدل المادي التاريخي فيجسد فكرة التغيير بوصفه الأصل في استمرار الحياة .
مثال ثان لدور الإحالة المعرفية التراثية في عمل المخرج :
في بداية مسرحية ( منين أجيب ناس ) أيضاً وفي أثناء غناء البنات لأغنية الافتتاح :
" البحر بيضحك ليه ونا نازله أدلع
أملا القلل "
يتبنى المؤلف الموقف الحداثي التفكيكي الذي يكشف عن تناقض في الأغنية التراثية إذ تتداخل مع هذه الصورة علامة غنائية على لسان الراوي أيضاً تناقض العلامة الأولى :
" البحر غضبان ما بيضحكش أصل الحكاية ماتضحكش "
لكن المخرج مراد منير حين يجسدها يكتفي بفتيات راقصات ومعبرات في حركة ذات جملة أو جملتين حركيتين (بالبلاليص ) عن فرحتهن لأن البحر ( النيل ) يضحك ( ضحكاً فلكلورياً ) عندما ينزلن إليه وكأن البحر له عينان يكشف بهما ما تحت أذيال أثوابهن مما تخفيه الثياب وتستره . لكن الدلالة النقيضة وهي ( غضب البحر ) تغيب عن الجمل الحركية للفلاحات الراقصات ( بالبلاليص )
إذا كانت صورة الفتيات في فرحتهن وهن يتراقصن بالبلاليص وفرحة البحر التي تكشف عنها العلامات الكلامية في غنائهن بمشاهدته لهن أو كشفه للمستور ، فإن صورة أخرى تحملها العلامة الكلامية التي يناقض بها الراوي الصورة السابقة . ولكي يعمق المؤلف وجه التناقض في الصورة توكيداً لدلالة التعارض ، تكتشف الفلاحات جثة بلا رأس تطفو أمامهن على مياه الشاطئ أي أن علامة غير كلامية ( مرئية ) جديدة أكثر تعميقاً للدلالة النقيضة للعلامة الأولى تظهر لهن ، فتتأكد دلالة غضب البحر ( النيل ) لتنفي ضحكه الذي وضعه الذهن الفلكلوري المصري لغة كلامية واصفة للغة مرئية غير منطوقة بألسنة الفلاحات في استهلالهن الاستعراضي :
" الحقوا يا بنات .. قتيل
فيه قتيل مقطوعة راسه "
إن العلامة هنا تتبدل من كونها جماعية ( في غناء الفتيات الفرح ) إلى علامة فردية ( في تعليق الراوي الناقض للدلالة الأولى ) ثم تتبدل مرة ثانية إلى علامة فردية في تعليق فتاة منهن وفتاة ثانية على العلامة المرئية المباغتة (مشاهدة جثة بلا رأس تطفو على سطح الماء بقرب الشاطئ )
وهي تظل علامة فردية حتى في صراخ إحداهن الذي يجتذب خفراء القرية وعمدتها تباعاً . ذلك أن الفرح الشعبي في الريف وفي الأحياء الشعبية يتخذ مظهراً جماعياً في حين يتخذ الخطر أو الفزع المنحى الفردي - غالباً - وإذ تعود العلامة إلى مظهرها الجماعي بهرولة العمدة وخفره فهي لا تعدو أن تكون مجرد علامة فردية من حيث مضمونها لأن هذا الجمع يأتمر بأمر قائدها ( العمدة ) فعندما يحضر عمدة القرية وخلفه الخفر يأمرهم بدفع الجثة مع التيار ليبتعد عن حدود القرية .. وهذه العلامة تحيل المتلقي إلى عادة إخلاء المسؤولية ( الطناش ) التي تسيطر على عقلية المسؤولين الريفيين وربما المدنيين أيضاً . وهي بذلك تكشف عن تناقض المجتمع على المستوى الرسمي (البيروقراطي ) .
إذن فكل العلامات التي جاءت بعد نقض الراوي لدلالة ( ضحك البحر ) كلها علامات تدحض صحة العلامة الأولى . وهكذا تتجمع العلامات لتأكيد دلالة ما قصد المبدع التعبير عنها من خلال الصورة المسرحية .
وإذا كانت العلامة الحركية المحمولة سرداً وصفياً مختصراً على لسان العمدة وخفره دلالة على ذعر المسؤول عن تحمل تبعات المسؤولية التي اختصه المجتمع بحملها ؛ فإن هذه العلامة ( الصورة ) تمد المخرج النابه ذا الخيال الخصب والثقافة الفنية بأن يوظف عناصر غير مسرحية في تجسيدها عن طريق تصوير سينمائي للجثة بلا رأس طافية على سطح الماء والخفر يدافعونها بأفرع الشجر لتسبح بعيداً مع التيار عن حدود قريتهم تجنباً لتحقيق الشرطة والنيابة وتحمل عبء ذلك ومسؤولية البحث عن سر قتلها وإلقائها في النيل . وهو أمر كان يمكن لو حدث أن يثري الصورة المسرحية ويعمقها ويحيط الفرجة بفرجة أكثر تنويعاً وإمتاعاً وجمالية .
المخرج والإحالة المعرفية التراثية وفهم العلامة الأسطورية:
إن الإحالة المعرفية التراثية تحيل العلامة ( الصورة ) في مشهد مدافعة الخفر للجثة بدون الرأس إلى الحدوتة الشعبية المعروفة ( حسن ونعيمة ) التي هي إحالة تراثية بدورها إلى الأسطورة الفرعونية (إيزيس وأوزوريس ) فهي إذن علامة رمزية وهي علامة تراثية إذ تحيل إلى الأسطورة . والرمز فيها يتمثل في ظهور الجثة بدون رأس أي بدون فكر أو عقل . .. والإحالة التراثية هنا تتصل بالإحالة التراثية بعد ذلك عند تقدم سير الأحداث في بحث " نعيمة " الشخصية المحورية في المسرحية عن جثة "حسن " وعن رأسه بعد ذلك حيث تصبح العلامة علامة نماذجية إذ هي نموذج لبحث إيزيس في تراثنا الأسطوري الفرعوني عن أشلاء زوجها أوزوريس وتحيلنا أيضاً إحالة اجتماعية على المستوى الحداثي إلى فقدان الدولة لرأسها المدبر ، فلا تفكير ولا تخطيط مما يترتب عليه طفو البلد كما تطفو ( رمة ) في النيل
لاشك في أن إدراك المخرج لتلك الإحالات المعرفية التراثية والحداثية كان يمكن أن يثري الصورة المسرحية وتنوع عناصرها وجمالياتها . لكن من الواضح أن المخرج الشاب لم يدرك ذلك ، كما لم ير في الخطبة الدرامية الممهدة للحدث المسرحي ضرورة يفيد بها في عرضه للنص إذ حذفها من العرض على الرغم من أنها مقتطفات من مصادر مختلفة تبدأ من كتاب الموتى ، مروراً بالنصوص الدينية الوثنية والوحدانية وشعر المتنبي والمعري ومأثورات الحكماء والساسة ليدلل بها على عدم التفات الناس إليها ، لأنه لا وجود للناس .


الفصل الثالث
المخرج و القراءة التفكيكية للنص المسرحي (3)
سمير العصفوري

ولعلنا إذا توقفنا عند قراءة المخرج سمير العصفوري التفكيكية لنص ( الست هدى ) للشاعر أحمد شوقي عند إخراجه له بإنتاج المسرح القومي المصري , لعلنا نقف وقفة تفصيلية على أسلوب القراءة التفكيكية في فكر سمير العصفوري التجريبي .
ملامح التجريب في إبداع مخرجي الجيل الثالث
سمير العصفوري و التجريب في المسرح الشعري
يعد سمير العصفوري أخر المجربين من مخرجي الجيل الثالث في المسرح المصري و ربما لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إنه بمثابة حلقة الاتصال ما بين مخرجي الجيل الثالث و مخرجي الجيل الرابع في المسرح المصري وربما مخرجي الجيل الثاني في المسرح العربي أيضا. و هو لم يكتسب تلك الصفة من كونه عاش حياته الوظيفية مديراً لمسرح الطليعة بالقاهرة – ذلك المسرح الذي يحتضن التجارب المسرحية الطليعية برؤى المخرجين الشبان المجربين – و لكن بعض الرؤى التجريبية التي وضعها العصفوري في بعض العروض المسرحية التي أخرجها لفرقة مسرح الطليعة و منها ( العسل عسل و البصل بصل ) عن مجموعة أشعار في النقد الاجتماعي و النقد السياسي , من إبداع بيرم التونسي و ( المغنية الصلعاء لم تعد صلعاء) وهي رؤية مسرحية عن نص ليوجين يونسكو و ( الملك معروف ) لشوقي عبد الحكيم و هي مسرحية شعبية تنتقد الفكر الفلسفي و السياسي القائم على فكرة الاشتراكية الطوباوية و قد حولها سمير العصفوري إلي عرض بعنوان _ مولد الملك معروف ) حيث تمتد سينوجرافيا العرض خارج دار عرض مسرح الطليعة بالعتبة ( في حديقة المسرح ) حيث الباعة الجائلين و المشعوذين و المتسكعين و الدراويش والناشلين و فتيات الليل و الميادين و الشوارع . إذ يعايش المتفرجون هذه الحياة المنفلتة قبل أن يسمح له بدخول قاعة العرض للفرجة علي أحداث المسرحية التي تـأسس عليها النص .ولا شك أن العصفوري أراد توكيد طبيعة المجتمع الذي يحكمه الملك معروف , ذلك يعطي ولا يبخل , يعطي لشعبه كل شيء و الشعب منفلت بلا عمل و بلا طاقة إنتاجية , شعب خامل و غير منتج بل هو غير محب للعمل . و لأن ما عند الملك المحب لشعبه سوف ينضب لعدم وجود ضخ إنتاجي سلعي قادر علي الوفاء بحاجات الناس , لذلك يتحول الملك من مالك قادر علي العطاء و العدالة في العطاء إلي سائل مثله مثل كل أفراد شعبه . لأم المعادلة مختلة حيث التوزيع العادل علي المجتمع وفاء لحاجاتهم دون وجود الطرف الأول من المعادلة و هو الكفاية الإنتاجية . فمثل هذا الفكر الطوباوي المثالي لا يقيم المجتمعات أو الدول .
ولقد وقفت متعمداً عند تلك التجربة في فن سمير العصفوري المسرحي لأنني كنت قد أخرجت ذلك النص نفسه في عام 1966 م بمجموعة من هواة المسرح السكندري و كان لي فيه رؤية اعتبرها رؤية تجريبية إذ وضعت تصوري في إخراجي علي أساس أن الملك معروف يجلس علي يد مرفوعة بالسؤال أو الاستجداء , فالشعب كله يستجدي الملك و الملك يوزع كل ما يملك علي الجميع في عدالة و عن حب لذلك جعلت المنظر مساحة خالية إلا من كرسي العرش الذي صممته علي شكل يد بشرية ممدودة إلي أعلي بالسؤال أو الاستجداء , و عندما يجلس الملك معروف علي العرش ( الكف المفتوح إلي أعلي ) تنثني الأصابع التي هي ظهر العرش نحو الجالس عليه و تحيط به كما لو كانت متهيئة للقبض عليه , و لا يغيب عن كل متصور أن تلك اليد يمكن أن تنقلب بالجالس عليها , كما أنها وسيلة لارتفاع من يجلس عليها.
ولقد ظننت و مازلت أظن أن تصوري الشبابي الهاوي لتلك المسرحية من حيث التجريب يعد – في نظري – أكثر تأكيداً لفكرة النص و إن نحا منحي تجريدياً يناسب الفكرة الفلسفية المجردة التي انبنى عليها النص , ولأنها كانت لوناً من ألوان التجريب في عرض مسرحي , فهي لم تكن بحال حالة من حالات ترجمة النص و لكنها حالة تفسير له , لكنه من جنس النص أو من نسيجه فكراً أو شكلاً أو أسلوباً أو تعبيراً .
وللعصفوري أيضاً عرض تجريبي أري أنه آخر عروضه التجريبية – حتى الآن – وهو العرض الذي تأسس التجريب فيه علي النص المسرحي الشعري ( ست هدي ) للشاعر أحمد شوقي , إذ عده العصفوري مجرد نقطة انطلاق و ليس محطة وصول , وذلك شأنه في كل النصوص التي تعرض لإخراجها , و معني ذلك أن للعصفوري مشروع مسرحي مصري , و هو كما يوضح الناقد حازم شحاته : " فمشروع العصفوري الرئيسي هو فعل مسرحي مصري , يأخذ من الفرجة الشعبية بقدر ويأخذ من العبث بقدر , وربما من برخت بقدر أيضاً , مازجاً كل ذلك في أسلوب مميز متطور مع الوقت و التجارب ليصنع لنا في النهاية خشبة مسرحية معاصرة هدفها الأول إمتاع جمهور معين , ذي ثقافة معينة , في زمن معين , فهو – أي العصفوري – لاعب مسرحي إن جازت التسمية , و مؤلف عرض إذا استخدمنا تعبير كرم مطاوع مع التوسع الشديد " .
ومعني ذلك أن مشروع العصفوري المسرحي قائم علي تفكيك النصوص التي يقوم بإخراجها للمسرح و هو ما يؤكده قول حازم شحاته :
" كان مشروع سمير العصفوري هو ضرب قدسية النصوص في المقام الأول . وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر . الأول إزالة قناع القدسية عن الكلام المكتوب في ثقافة تقدس الكلام المكتوب , والثاني هو التحرر من سلطة المؤلف فنياً – و فكرياً أحياناً – في سبيل جمهور معاصر يتغير سريعاً تغيراً لا يليق مع الالتزام بتقنيات كتبت في زمن آخر , سابقاً " 1
والعصفوري نفسه يؤكد ذلك إذ يقول : " النص هو النواة لعرض مسرحي ماحدش قال إن النواة دي احتقرها أو أهينها أو أرميها , لا .. النواة هي العمود الفقري للعرض المسرحي . "2
و يقول أيضاً : " أنا كنت مسافر فرنسا ومعتقد إن مسرح العبث وهذا المسرح الغريب , مسرح إلغاء الدلالات و إلغاء المعني و إلغاء الشخصيات و إلغاء الزمان و إلغاء المكان و إلغاء الإلغاء ذاته هو المسرح المثالي لمخرج جديد , فرحت و أدركت أن المسرح الحقيقي في العالم هو المسرح القديم الذي يمكن أن تعيد بناءه و تفكيكه و تركيبه , وتعيد بناءه من أول وجديد " 3
" المسرح فيه الآخر فبل ما يكون أنا " 4
التجريب في رؤية سمير العصفوري " للست هدي "
الست هدي بين المنظومة الأيقونية و المنظومة الحركية :-
ليس هناك شك في ارتباط المخرج سمير العصفوري بتيار الحداثة و ما بعدها في رؤاه الإخراجية المتأخرة في مسيرة إبداعه المسرحي . و لأن النص المسرحي الحداثي يهدف إلي التعبير عن حيرة الذات و شكلها وسلبيتها , فإن التصدي لإخراج النص المسرحي وفق رؤية حداثية لا يخرج عن ذلك الهدف نفسه, حيث يعمد النص الحداثي وكذلك الرؤية الإخراجية الحداثية إلي إرخاء العلاقة الوثيقة بين الشكل والواقع في مواجهتها لإشكالية تمثيل الواقع من ناحية , وعدم الرغبة في تمثيله من ناحية أخري وهذا ما تأسست عليه رؤية سمير العصفوري في إخراج عرضه المسرحي الأخير للمسرح القومي ( الست هدي) عن نص أحمد شوقي .

الوسائط الحداثية للرؤية الإخراجية و تقنياتها :-
يستعين العصفوري بأشكال التجريد " الأرجوحة " التي توظف لأغراض متعددة في خلفية المنظر كأن تصبح سريراً للعرش لكل من تتوجه الست هدي زوجاً لها .. لذلك يستعين بالخيال المكثف الذي يكون علي المتلقي التمتع به أيضاً حتى يتمكن من الوصول إلي تفسير دلالة الشكل أو التعبير .. كما يعمل علي تغيير فلسفة المكان و الزمان ليصبحا جزاءاً من التجربة الذاتية , فالأمكنة في المنظر المسرحي العام متداخلة بين " دكة " بدون مسند خلفي في منتصف الوسط من خشبة المسرح وهي أشبه بصندوق أبيض اللون مستطيل الشكل يراه الناظر إليه وكأنه قبر أو مدفن رخامي في عدم استخدامه للجلوس ويراه إذا ما جلس عليه أحدهم أريكة أو مصطبة , و إذا رقد أحدهم فوقه متخذاً تكويناً تشكيلياً جمالياً ظنه الناظر إليه قاعدة تمثال , وإذا اختفى ممثل خلفه صار تبة أو ساتراً قتالياً في عين الناظر و توهمه . . فالكتلة واحدة والموضوع الذي تحتله هو نفس الموضوع و لكن توظيفها مع تغيير تكوينات المؤدي الحركية تحليه إلى أماكن متعددة و متباينة .
ولاشك أن طبيعة التكوين نفسه تغير الزمان في وهم المتلقي له بالنظر , لأن تكوين الممثل في نومه على هذا المسطح المستطيل يحيل إلى الليل زمناً للفعل والجلوس عليه جلسة الريفي تحيل خيال الناظر إليه إلى شخصية الجالس و بيئته و أصوله الريفية . . و الاكتفاء بوضع قدم الممثل على هذا المسطح المرتفع يعبر عن طبيعة مختلفة و شخصية مختلفة و بيئة مختلفة .
وقد وظف العصفوري تلك الكتلة كل تلك الوظائف لتعطينا دلائل مختلفة للمكان و للزمان وللشخصية و للبيئة . . و هذا ما قصدت إليه حين أشرت إلى دور رؤية العصفوري في تغيير فلسفة المكان و الزمان , ناهيك عن وضعهما في إطار التجربة الذاتية للمخرج نفسه حيث يسقط رغبة كل زوج من الأزواج التسعة للست هدى في السيطرة على أموالها و ميراثها وكيف أنها تتخلص منهم واحداً وراء الآخر بالتطليق حيث العصمة في يدها أو بأمر إلهي بوفاته . . وفي جميع الحالات يسقط كل زوج خلف المسطح الرخامي المستطيل الشكل , كما لو كان قد دفن فيه , بما يرمز إلى تخلص الست هدى حالة اعتبارها رمزاً للوطن المعطاء من أزواجها المبتزين لميراثها حالة اعتبارهم رمزاً للحاكم على اختلاف هويته و مرجعيته و طريقته في محاولة السيطرة عليها و على كنوزها .
وهذا يتصل بالضرورة بعصرنا و بمجتمعنا الآتي المعيش . . من هنا يدخل المخرج المبدع تجربته المسرحية في تجربته و تجربة بيئته المعيشة مكاناً وزماناً يدخل المكان والزمان الدراميين .
وإذا كانت الحداثة تعمل على بتر التسلسل الزمني بتراً فجائياً دون تعليل ظاهر , فإن عرض الست هدى يقوم على خلخلة سير الأحداث سيراً تسلسلياً , إذ يقوم البناء الزمني . . على الإشراقات الداخلية و البقع المتناثرة أو المتقطعة عن طريق التدخل الغنائي المرتكز على أغنية ( الليل لما خلى ) أو معارضتها الفنية بتوزيع الفنان علي سعد محمولاً على صوت الفنان عذب الصوت و قويه ( أحمد إبراهيم ) غالباً – أو الشرطة الأدائية الجنائزية الإعلانية عن موت أحد الأزواج .
إن سمير العصفوري . . المخرج يبني الشخصية المسرحية بناء أدائياً هندسياً من خلال لغة الصوت متداخلة مع لغة الحركة و لغة الإيماءة و لغة الإضاءة و لغة الموسيقى و الغناء في تنويع لا يخلو من وحدة مزاجية مشدودة إلى فكرة واحدة يتقنع العرض كله بجميع عناصره خلفها تقنعاً شديد الإتقان و التأثير الممتع المقنع في آن واحد .
ويعتمد سمير العصفوري . . في عرض الست هدى كما اعتمد من قبل في عرض ( العسل عسل والبصل بصل ) على التشكيلات و التكوينات التي توهم الناظر إليها بأنه يرى فيما يرى النائم حلماً أو عالماً شبه أسطوري , كذلك ترتكز أداءات ممثليه و عناصر عرضه المسرحي ارتكازاً واضحاً على المفارقة الصوتية و الحركية و التكثيف غير المخل الذي يقترب بلغة عروضه المسرحية من لغة الشعر . . لغة الإلماح و الإشارة . . و ذلك كله من عناصر الحداثة . . أرادها المبدع أو لم يردها خروجاً مقصوداً أو غير مقصود عن الأساليب المألوفة في الربط وفي تكوين العلاقات .
إن العصفوري لاشك يدرك برؤاه الإخراجية أن تلك الوسائط الفنية التي أشرت إليها في إنتاجه عروضاً مسرحية هي وسيلته إلى تجاوز الماضي . . فالوسائط التي يستخدمها في عروضه المسرحية التي أخرجها مؤخراً لمسرح الدولة – خاصة – تعد في نظري لوناً من ألوان التوجه نحو المستقبل لإعادة اكتشاف أسس الفكر و الممارسة ارتكازا على أرضية تراثية .
لذلك يمكنني القول إن تجربة العصفوري الإخراجية على النحو الذي مهدت له في هذا الاستهلال تتميز بخاصية الوعي بضرورة تجاوز تفاسير الماضي و مفاهيمه , السعي الدائب نحو استمرار هذا التجاوز في المستقبل و ذلك لتحقيق الإدراك المطرد عملاً بالأسس الحقيقية والمتجددة التي تبطن الممارسات الإنسانية و تضفي الشرعية عليها , سواء في مجالات العلوم والفنون و الأخلاق أو في غيرها من المجالات الفكرية و العلمية , كما يمكنني القول كذلك إن سمير العصفوري مخرجاً مسرحياً قد سعى في عروضه الطليعية إلى التعبير عن حيرة الذات وشكها و سلبيتها و تداخل رؤاها و مكانها و زمانها تداخلاً يباعد بينها وبين تحقق هويتها على المستوى الذاتي و على المستوى الموضوعي .
تقنيات الإخراج في عرض ( الست هدى ) :
إن كل ما على المسرح أو في حلقة العرض لابد و أن تكون له دلالة درامية و شكل جمالي . تلك ركيزة أساسية تعلمناها على كل المستويات النظرية و العلمية .
فما هي دلالة دائرية استخدام أغنية ( الليل لمل خلي ) التي استخدمها المخرج كشرطة غنائية اعتراضية؟ و ما دلالة الجلوس على المصطبة و استعراض أشباح الأزواج في العرض و أساليب الإسقاط على الحاضر المعيش؟! ما قيمة الأرجوحتين في الخلفية و تداخل التصميم المنظري ليعطينا تكويناً تتداخل فيه عناصر المجتمع الصناعي مع المجتمع الريفي ؟
لماذا لجأ سمير العصفوري إلى الجمع بين عناصر متفقة و عناصر مختلفة ؟ إن الكتلة المستطيلة التي توظف مصطبة أو منصة لتمثال أو خطيب أو قبر لا تختلف عن درجات السلالم التي تقع خلفها لتؤدي إلى المستوى الأعلى الذي تقبع فوقه منصة على هيئة مصطبة علوية مختلفة و متنوعة . وما الفن سوى تجميع متآلف لعناصر متفرقة لا تجتمع أبدا إلاّ في تكوين فني أو صورة تعبيرية , لذلك ظهر الاتفاق في شكل من الأشكال و ظهر الاختلاف في توظيف هذه الأشكال وتوظيف أداء الممثلين و المغنيين و الراقصين فيها .
لقد تزاحمت الرموز في المشهد المسرحي مع افتقاد العناصر المسرحية المتزاحمة في النص و في العرض , وذلك للتناغم بين المنظومة الأيقونية في العرض و هي تتمثل في ( الكتل القابعة في أماكنه والتي حددها المصمم أو المخرج مجردة من الوظيفة مما يعطيها دلالة مجردة ) .
المنظومة الحركية في العرض :
تتمثل في ( الحركة الوظيفية لاستخدام الكتلة المسطحة ليصبح ) مصطبة عند جلوس شخص عليه و يصبح قاعدة تمثال عند وقوف آخر عليه في تكوين ثابت و تصبح قبراً أو كرسي حكم إذا جلس فوقها ممثل يضع تاجاً على رأسه و تصبح حركة تأرجحه و هو جالس عليها دلالة على لهوه وانصرافه عن الحكم , كما قد تصبح دلالة على اهتزاز حكمه و تبشيراً بسقوطه بعد تأرجح نظامه . من هنا تصبح المنظومة الحركية أو المنظومة اللفظية المفسرة لها علامة دالة على أن " هدى " هي مصر و أزواجها (المطربشون ) هم حكام العهد الملكي و تصبح للعدد ( تسعة ) و هو عدد أزواج الست هدى دلالة تشير إلى حكام أسرة محمد على التسع الذين تواتروا على حكم مصر و أعملوا فيها الاستغلال والاستحواذ إذا ما تحولت العلامة الدالة إلى علامة مفسرة متوسط الخبرة المعرفية للتلقي الناقد له .

عرض الست هدى و إيحاءاته :
يثير عرض الست هدى عدداً من التساؤلات : كيف قدم لنا المخرج سمير العصفوري رؤيته وما هو أثر التعارضات غير الدالة على العرض ؟ هل و صلت بنا المنظومات الأساسية والدلالات الجزئية إلى المقولات النهائية أم لا ؟
وما الهدف من وراء المزج بين أساليب الإخراج البريشتية و أساليب الإخراج التهويمية في العرض ؟
إن الست هدى في رؤية العصفوري هي الوطن و البيت هو الثروات المنهوبة و موت هدى موت الوطن و حياتها في الآخرة هو الموت على المستوى الواقعي و الحياة على المستوى التعبيري في داخلنا فالوطن هو لا وطن على المستوى الواقعي المعيش و مع ذلك فإن كل منا يحمل الوطن بداخله .
التعارضات الدلالية في عرض ( الست هدى ) :
إذا نظرنا إلى شخصية الست هدى بوصفها معادلا رمزياً للوطن و نظرنا إلى أزواجها كمعادل رمزي , نرى أزواجاً تسلب ثروات الست هدى مثلما تسلب ثروات الوطن و السالبون إنما غزاة أو مستعمرون في كلتا الصورتين حيث الأزواج يغزون حياتها و يستعمرون ممتلكاتها ( مسكنها ) و الست هدى تتزوجهم وهي تعلم بطمعهم و توافق على الزواج منهم واحداً وراء الآخر . . و هنا يظهر التعارض بين الدلالات الجزئية في شخصية الست هدى و المقولة النهائية للعرض . . وهذا لا يفيد العمل .
أمثلة :
دلالة تأرجح المرأة و الرجل في خلفية المنظر ( تأرجح العلاقة بين الجنسين )
دلالة صراع الرجل المسلم مع الرجل المسيحي .
بعض الدلالات التي تعكسها مكونات المنظر ( الديكور ) و هذه الدلالات الجزئية المتعددة والمختلفة والمتباينة الخواص لا تساعد المتلقي على خلق نسق محدد ينظمها ليكتمل المعنى عند المتلقي بما يقترب من أفق توقعاته .
وخلاصة القول – هنا – إن المنظومات الرئيسية للعرض و الدلالات الجزئية لم تصل بنا إلى المقولات النهائية التي أرادها المخرج .



خلط الأساليب التغريبية بالأساليب التوهيمية :
إن خلط الأساليب منهج معلوم يستهدف تكامل العرض . . لكن هل أدى خلط المخرج للأساليب البريختية مع الأساليب الإيهامية إلى منهج التكامل في عرض ( الست هدى ) ؟!
الأساليب التغريبية :
تهدف إلى تحديد نسق مكتمل المعني للعرض لأنها وسائل مسرح وجاهي الهدف و يتم ذلك بتحقيق العمل لأفق التوقعات عند المتلقي على اعتبار أن التلقي هنا مرتكز على الوعي والإدراك .
الأساليب التوهيمية :
لا تقصد الوصول إلى معنى محدد و إنما إلى شعور قريب من التوحد ولا يتحقق من خلالها أفق توقعات المتلقي . . و مزج المخرج للأسلوبين في عرض الست هدى شتت جهد التلقي بين محاولة تحديد نسق مكتمل للمعنى و عدم القدرة على تحديد ذلك أي يقترب من تحقيق أفق التوقعات عند المتلقي وهو في الوقت نفشه يبتعد عن تحقيق أفق التوقعات التي سارت بها دلالاته , جنبا إلى جنب مع ما يتوقع المتلقي أن يجده , أو يستدل في النهاية .
إن ذلك راجع – في نظري – إلى عدم تحديد المخرج لاتجاه حركة المعنى منذ البداية ,لذلك جاءت الدلالات الجزئية بعيدة عن المقولة الأساسية للعمل , الأمر الذي أوصلنا إلى القول : إن النص الذي كتبه أحمد شوقي مقحم على فكرة المخرج , أو العكس هو الصحيح وربما كان كلا الرأيين مجتمعين هو الصحيح .
مما يؤكد إدراك المخرج لهذا الخلط و القصد إليه , هو أنه ألقى مقولاته على لسان الراوي في نهاية العرض بشكل مباشر .
إن سمير العصفوري هو ذلك المخرج صاحب الرؤية في عروضه المسرحية و مع ذلك فإن القياس لا يكتمل بوجود الرؤية فحسب , ولكن اكتماله يتحقق من خلال توظيف العناصر الفنية من أجل توصيل تلك الرؤية الفنية التي وضعها مخرج العرض المسرحي , إذ أن كثيراً من الرؤى الفنية تضيع وسط سوء استخدام العناصر الفنية التي تجسدها , أو عدم وفائها بالحاجة إلى تحقيق بالحاجة إلى تحقيق تلك الرؤية أو ذلك التصور .

عرض الست هدى و تعدد القراءات :
و إذا كان العمل الفني في إحدى تعريفاته هو الذي يسمح بمجموعة مع القراءات على مدى العصور , و داخل أطر مرجعية مختلفة , فإن عرض ( الست هدى ) للمخرج سمير العصفوري . . من إنتاج المسرح القومي ينطبق عليه هذا التعريف , لأنه عرض متعدد القراءات , متعدد الأطر المرجعية .
إشكالية عرض ( الست هدى ) :
يطرح العرض إشكاليتين تتمثلان فيما يأتي :
- اتخاذ منهجين فنيين مغايرين :
-منهج تغييب الوعي : من خلال الإحالة إلى تشكيلات جمالية تنتظم داخل إطار العمل الفني , ولا يتحقق دلالاتها في زمن تحققها .
- منهج إيقاظ الوعي : حيث يعمل على تحقق دلالات التشكيل الجمالي في زمن تحقق ذلك التشكيل أو تجسده .
- تعدد الأساليب : حيث استخدام النهج التعبيري في بداية العرض و هو منهج يعتمد على مفاهيم تغييب الوعي و عناصرها إلى جانب منهج إيقاظ الوعي ( التغريب ) .
- مثال : دخول مجموعة من الدراويش في حالة أداء طقسي ( اقتحام مجموعات بشرية ورجال دين مسلمين و مسيحيين " وأغا " مخنث و حانوتي – وجود أرجوحتين يتأرجح على إحداهما رجل و على الأخرى امرأة . . مع خلفية زرقاء بما يشي بالفراغ أو الفضاء و يحيل إلى دلالة الحياة بكل ما فيها من تشابك بين العقائد و الجنسين و السلوك و العلل )
المعادل و قصور المنظومات الأساسية للعرض :
( التعبير الصوتي والغنائي والموسيقي والتعبير الحركي والإيمائي والتعبير السينوجرافي والإيمائي ) عن توليد الدلالة المشتقة و على سبيل المثال فإن المنظومات الأيقونية ( قطع الديكور في غير توظيفها الحركي ) الدالة على المكان لا تتحقق بفعل الإظهار أو التعيين الإشاري , و إنما تتحقق داخلياً عن طريق تداخل منظومات لغوية أو حركية مغايرة , تساعد على إيضاحها , كدخول المنظومة اللغوية في تفسير دلالة المنظومة الأيقونية المتمثلة في ( منظر بين الست هدى ) , لأن ما كان موجوداً على خشبة المسرح لم تكن دلالته واضحة , لذلك احتاج إلى تلك المنظومة اللغوية لتقوم بعبء توضيحها .
المصطبة : منظومة أيقونية احتاجت إلى منظومة حركية لتفسيرها , و قد تم ذلك عن طريق سقوط كل واحدة من أزواج الست هدى التسعة بعد موتهم , خلف هذه المصطبة و في ذلك دلالة على أنها مقبرة و هذه الدلالة لم تكن لتظهر ما لم يسقط كل واحد من هؤلاء الأزواج خلفها ميتاً .
العلامة الميتاتياترية و دورها :
في خلق معادل تشكيلي لمعنى العرض :
إن عناصر المنظر تظهر " تروساً " تعلو الأعمدة مما يشير إلى أن البيت هو مصنع أيضاً و هنا تلتبس الدلالة ليصبح البيت وطناً . . و إشارة الراوي إلى أن الثروة الحقيقة هي البيت . . تدلنا على أن الصناعة هي الثروة الحقيقية .
المستويات :
تشكل المستويات أيضاً , منظومة أيقونية دخلت عليها منظومة حركية فسرتها , فعندما جلس عليها رجل الدين أعطت دلالة على مكانته الاجتماعية و علو قدره , فالجلوس على المستوى كان هدفه إعطاء دلالة على المكانة و المستوى دون جلوس رجل الدين عليه يظل مجرد منظومة أيقونية تنتظر منظومة حركية تفسرها أو تستنطق منها دلالة محددة .
إذا فعملية الجلوس على المستوى تعد علامة ( ميتاتياترية ) تعمل على تفسير علامة أيقونية , وكذلك الأمر بالنسبة للمصطبة , فالسقوط خلفها موتاً يعد علامة ميتاتياترية , تعمل على تفسير العلامة الأيقونية .
البيت :
معادل تشكيلي للصورة الأصلية لمصر الناهضة من كبوتها بعد كل تدهور اقتصادي واجتماعي وسياسي. وما يدل على ذلك أن البيت باق , لكن الست هدى صاحبة رأس المال زائلة . . لقد ماتت و انتهى أمرها .
و من وجهة نظر المخرج فإن خلاص رأس المال من طمع الطامعين يتحقق بتوزيعه لثروته على الأصدقاء و مجالات الخير في المجتمع عند موت الرأسمالي


المبدأ التنظيمي داخل العرض :
تخم الإخراج خشبة المسرح بالعلامات المغايرة التي تحقق دلالاتها الجزئية داخل العرض و هذا ما وضع المتلقي في حيرة إذ وجد أفق توقعاته لم يتحقق في متاهة العلاقات المتزاحمة .
إشكالية عرض " الست هدى " بمستويين سيميولوجين
تنحصر إشكالية عرض الست هدى بين مستويين هما : المستوى السياقي و المستوي الاستبدالي . . ويقصد بالمستوى السياقي كل ما يدور أو يحدث أمامنا على خشبة المسرح في أثناء عرض المسرحية . . أما المستوى الاستبدالي فيقصد به الموضوعات التي يحيلنا إليها العرض في أثناء تلقيه . . و يرتبط هذان المستويان ببعضهما البعض عن طرق العناصر المنقولة . . رمزياً .
أولا : المستوى السياقي في العرض :
يتمثل في الحدوته التي تروي من خلالها عن طريق أداء قصة الست هدى التي تزوجت من عشرة رجال علي التوالي .. مات منهم في حياتها تسعا , و بقي الزوج العاشر حتى ماتت , وظن أنه سيرثها فإذا به يفاجأ بأنها وزعت جزاء من الثروة علي بعض صديقاتها , و الجزء الآخر أوصت به لأعمال الخير .
ثانياً : المستوى الاستبدالي في العرض :
و يتمثل في الموضوعات التي يحيلنا إليها المستوي السياقي .. وهي هنا تتمثل في قراءة المخرج سمير العصفوري لهذا النص ( رؤيته ) التي حاول طرحها , و إبرازها من خلال العرض المسرحي , حيث يري أن نص أحمد شوقي ليس مجرد حدوته بسيطة , وإنما يحتوي في بنائه الدرامي علي منظومة من الرموز , يمكن قراءتها أو ترجمتها لتصبح الست هدي هي الوطن و الأزواج هم قطاع طرق , وهي تحاول صيانة مالها من عبث قطاع الطرق .. و يصبح مفهوم أن أحمد شوقي في نصه متعاطف مع الملكية أو مع نظام رأس المال .
و يظهر المستوي الاستبدالي أيضاً في الدلالة الوظيفية للمصطبة في إطار المنظومة الحركية المجسدة لوظيفة الجلوس أو الموت .
المصطبة مكان للراحة الجزئية في المنظومة الحركية الأولي ( الجلوس ) فالجلوس هنا يعبر عن مرحلة انتقالية حياتية .
المصطبة مكان للراحة الأبدية في ميتاتياترية الدلالة الأولي ( أي تفسير الدلالة الثانية و هي ) : " المدفن أو القبر " الذي أوحت به أيقونية المصطبة بشكلها الذي يشبه شكل القبر أو المدفن .,

التعارض الدلالي في العرض :
تعمل التعارضات الدلالية في العرض علي ظهور المستوي الاستبدالي أيضا في محاولة المخرج الإحالة إلي أن الست هدي هي مصر التي يستغلها كل حاكم لها و كل مستعمر . و يظهر في استدراج الست هدي للأزواج وهم يدلون عنده علي المستعمرين و لأن مصر لم تمت فكيف يستقيم هذا التفسير , إلا إذا كان قصد المخرج هو موت إرادة مصر ( بموت الست هدي ممثلة لطبقة الملاك ) .
كما يظهر التعارض الدلالي في عدم وصول أفق التوقعات علي نحو ما يتوقعه المتلقي لتعارضها مع مقولات الأغنية في النهاية :
" ليه الرجال بعد الجهاد و النضال
لو شافوا جاه و لا مال
يريلوا زي العيال "
لقد تعارضت مع الأطر التفسيرية للعرض فأدت إلي وجود معاني جديدة يكتشفها المتلقي في نهاية العرض و هو ما يتعارض مع ما توقعه من خلال الدلالات الجزئية في داخل العرض منذ البداية ... إذن فالنهاية تبطل أفق توقعات المتلقي التي مهدت لها دلالات العرض المتتابعة منذ البداية .
أمثلة علي التعارض الدال :
إقحام المخرج لكثير من العناصر المسرحية الموضحة بكثير من الدلالات في داخل العرض المسرحي أدي إلي تغييب وعي المتفرج خاصة و أن إدراك الدلالات و معناها يأتي بشكل تتابعي أو تكراري أو تأكيدي علي مدار المسرحية و هذا التغييب للوعي يتناسب مع أسلوب المسرح العبثي و السريالي بينما نجد أن المخرج قد استخدم الأسلوب الملحمي في إخراجه و هو يعمل علي إيقاظ الوعي و عمل العقل و هذا أيضاً يعد تعارضا دالا .





ثبت مصادر ومراجع الباب الثاني
الفصل الأول
* حديث أجراه إيهاب يونس , طالب بالفرقة الثانية بقسم المسرح في مادة أسس الإخراج المسرحي 2002 تحت إشراف د. أبو الحسن سلاّم .
1- سعد أردش : المخرج في المسرح المعاصر , سلسلة عالم المعرفة الكويتية 1979 .
2- أحمد زكي , عبقرية الإخراج المسرحي , القاهرة , الهيئة العامة المصرية للكتاب .
3- د. كمال الدين عيد , مناهج عالمية في الإخراج المسرحي في جزئين , القاهرة سان بيتر للطباعة
والنشر 2002 .
4- د. كمال الدين عيد , المرجع السابق . مقدمة الجزء الأول .
5- نبيل الألفي , من عالم المسرح – تجارب و دراسات – القاهرة , مطبعة الدار المصرية للطباعة
والنشر و التوزيع 1960 م .
6- نبيل الألفي , من عالم المسرح نفسه . ص 165
7- نفسه , ص ص 5 - 6 .
8- نفسه , ص 6
9- نبيل الألفي , نفسه , ص 11 - 12
10- المصدر , نفسه , ص 12
11- المصدر نفسه , ص 13
12- نفسه , و الصفحة نفسها .
13- نفسه , ص 14
14- نفسه , ص 15
15- نفسه , ص 16
16- نفسه , ص 17
17- نفسه , ص 17
18- نفسه , ص 17
19- نفسه , ص 18
20- نفسه , ص 20
21- نفسه , ص 20
22- المصدر نفسه , ص 18 - 19
23 – نفسه , ص 19
24- نبيل الألفي , المصدر نفسه , ص 20 - 21
25- نفسه , ص 21
26- نفسه , ص 21 - 22
27- نفسه , ص 22
28- نفسه , ص 23
29- نفسه , ص 25
30- نفسه , ص 26
31- نفسه , ص 26
32 – نفسه , ص 34
33- سعد أردش , عن ليون موسيناك Moussinac , دراسة في الإخراج , باريس 1956 انظر:
المخرج في المسرح المعاصر , عالم المعرفة الكويتية ع ( 19) رجب / شعبان 1399 هـ - يوليو / تموز 1979 ص 14 .
34- نبيل الألفي , نفسه , ص 34 - 35
35- للاستزادة حول دور الفريد فرج في مطلع حياته النقدية ورد نبيل الألفي عليه راجع , نبيل
الألفي , نفسه ص 27 - 47
36- نبيل الألفي , نفسه , ص 54
37 – نبيل الألفي , نفسه , ص 55
38- نفسه , ص 55 - 56
39 – نفسه ، ص 58
40 – نفسه , ص 59
41 – نفسه , ص 60
42 – نفسه , ص 60 - 61
43 – نفسه , ص 62
44 – نفسه ,
45 – نفسه , ص 63 - 64
46 – نفسه , ص 64
47 – نفسه , ص 64
48 – نفسه , ص 65
49 – نفسه , ص 65 - 66
50 – نفسه , ص 66
الفصل الثاني
1- صلاح عبد الصبور , مأساة الحلاج , بيروت , منشورات اقرأ , د / ت .
2- المصدر السابق . نفسه , المنظر الأول .
3- نفسه ، ص 9 .
4- نفسه ، ص 9 .
5- نفسه , ص 8 - 9 .
6- نفسه ، ص 8 .
7- نفسه ، ص ص 14 - 15 .
8- زيجمونت هبنر ، جماليات فن الإخراج المسرحي ، ترجمة د. هناء عبد الفتاح ، سلسلة الألف
كتاب ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993م ، ص 108 .
9- زيجمونت ، نفسه ، ص 108 .
10- صلاح عبد الصبور ، مأساة الحلاج ، نفسه ، ص 7 .
11- نفسه ، ص 7 .
12- هبنر ، جماليات الإخراج ، نفسه ، ص 105 .
13- نفسه ، ص 8 .
14- Issues, Prospects Challenges Discipline - Based. Art Education - قاعدة التربية الفنية المنهجية - قضايا وتوقعات وتحديات - ترجمة د. زياد سالم حداد تحت عنوان : النقد الفني ، أبحاث في النقد الفني ، الأردن ، دار المناهل للطباعة والنشر 1988 / ص 13 .
15- نجيب سرور ، منين أجيب ناس ، القاهرة ، دار الثقافة الجديدة .
ثبت مصادر ومراجع الباب الثاني
الفصل الثالث
1- حازم شحاته ، " ماذا فعل سمير العصفوري بنص ميخائيل رومان ؟ " ( سمير العصفوري - مشوار وأسلوب - ) ، مع دراسة للدكتور أبو الحسن سلاّم القاهرة ، المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية - الرواد - الإصدار الرابع ، سبتمبر 2000 ص ص 46 - 47 .
2- العصفوري ، سمير العصفوري ، مشوار وأسلوب ، نفسه ، لقاء الرواد ، ص ص 36 - 37 .
3- نفسه ، ص 39 .
4- نفسه ، ص 41 .

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption