أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأربعاء، 28 أكتوبر 2020

السمات الإخراجية لمسرح ما بعد الحداثة / أ.د حسين التكمه جي

مجلة الفنون المسرحية 

السمات الإخراجية لمسرح ما بعد الحداثة / أ.د حسين التكمه جي

إن مسرح ما بعد الحداثة يسعى لاستخدام وسائط عديدة ( سينما تلفزيون فيدو أفلام موسيقية أو داتشو ) في محاولة لشد الانتباه للأشياء القديمة وإعادة تدويرها في قالب حديث , أما المادة اللغوية فهي لا تنتج معاني أو مفاهيم ومضامين بقدر ما هي لغة كلام الشخصية , انه فعلا مسرح بلا دراما كما يوصف , يبحث عن الحلول اللاعقلانية والفوضوية والتدميرية واللعب واللهو. حيث أن الستارة ينبغي أن لا تسدل بعد وتبقى مفتوحة , من الصعوبة بمكان إدراك ذلك بوصفه يصب في النكوص لعالم المسرح المثالي , فلا معنى ولا فكرة ولا دال ولا حبكة ولا صراع ولا إيقاع ,, فماذا بقي للدراما ؟ مجرد سؤال ؟ فكل مخرج مسرحي يشكل عرضه المسرحي ذاتيا , كأنه يلعب بفرشاته كما يحلو له على لوحته , الم تكن هذه رطانة فارغة !!
إن مرجعيات مسرح ما بعد الحداثة خليط مركب بشكل عجيب , ويمكن لنا أن نحصر مرجعياته كما يأتي :
في الجانب الفلسفي جميع الفلسفات التي تلغي العقل كفلسفة نيتشه وكروتشة و سارتر ,وأفكار يونج وشتراوس وفرو يد وهيوز . وجميع الأفكار التي تقودنا إلى الوعي قبل المنطق .
جميع التيارات المعاصرة , المستقبلية والدادائية والكارثية التفكيكية والأنثروبولوجيا
جميع الحركات الفنية الهاببنج والبوب أرت والباهاوس والبيرفورمانس والسيرك والأكروباتيك والجسدانية والبارا مسرحية والرقص بأنواعه والميم وإدخال التقنيات التكنولوجية الحديثة .
في الجانب الروحي العودة إلى البدائية والطقسية والأنماط الأصلية واللغات الميتة كالهيروغليفية والزرادشتية والشعوذة والسحر الأسود وتناسخ الأرواح والشعائر الطقسية القديمة ,والاورفيوسية والشامانية والزن والدنيوسوسية والمبدأ التدميري *
منذ الثمانينات ظهرت عروض مسرحية تدعو لما بعد الحداثة , وراحت هذه العروض تستدعي إلى الذهن "" الوحدة المتعثرة والعسيرة , (1).
ثم بدأت محاولات عديدة للجمع بين عناصر مختلفة وربما متناقضة أحيانا صوتية وبصرية في أعمال درامية أو سينمائية أو بطريقة الكولاج المسرحي , هذا الأسلوب اعتمد بتدمير أفق التوقعات حينما تتشظى دلالاته وتهرب معانيه , كما هو أسلوب ( ريتشارد ششنر ) وغيره من المخرجين في تفكيك النصوص , ونماذج ما بعد الحداثة تسعى إلى أنواع من التعددية في المعنى وضروب من التفتت المتشظي , فأعمال ريتشارد فورمن وروبرت ولسن سعت لمثل هذا الأسلوب لتكنيك الاقتباس والشفرة المزدوجة .
فالرؤية الإخراجية تمتلك سمات تفتقر بعدم وجود ملامح ووضوح للشخصيات , واعتماد التفكيك والغاء وحدة الحدث , كما وتستخدم الإيقاعات غير المنتظمة أو المكرورة , وتسعى كذلك إلى تعددية التفسير , مما يدفعنا للاعتقاد بسمة اللاتواصلية , بسبب الاستغراق لمتخيل مفترض , فضلا عن مسعاها نحو التزامن في مكان الحدث , وهو ما سعى إليه (الآن كابرو) في الواقعة أو الهاببنج .فالعرض المسرحي ليس قصة تحكى بل مجرد لعب للاعقلانية والفوضى التي سعى إليها مسرح ( ارتو ) بوصفها إحدى سمات مسرح القسوة "" لتكشف عن مسرح لا يملأ فراغه سوى الشتات المتناثرة من الهراء والنفايات "" (1) .
إن هذا التشظي للفكرة والمعنى والعلامة بات يستقي أفكاره من التفكيكية ( لجاك دريدا ) فالنظام اللغوي السوسيري والبنيوي لم يعد نظاما قائما على العلاقة بين الدال والمدلول في المعنى ,....... بل أن المدلولات تخضع لعلاقات الاختلاف والأرجاء في محاولة لتدمير الفكرة الوهمية بين الدوال "" فالنتيجة هنا قيام المدلول بوظيفة الدال بصورة دائمة "".(2)
ويقدم بعض المخرجين اقتراحا , "" بان ما يسمونه عرضا من الممكن أن ينظر إليه على انه مسرح تفكيكيا "" (3)
على وفق ما تقدم يمكن القول أن نظم المعنى والفعل باتت غير مفعلة , بل المهم هو بناء جو عام ضمن خصوصية المسرح الوسائطي, بطرائق جديدة هو ما سعى إليه الإخراج المسرحي
  ,لتركيب عدة مواد صورية بحيث تموت عناصر السرد والتجسيد والترتيب المنطقي للحبكة ,
فدا يلوك (حوار ) الشخصية هو لغة كلام الشخصية وليس وجودا مسرحيا مستقلا , بوصفها تمتلك خصائص وأبعاد وعلامات , ذلك "" أن الانعزال والتقهقر واللجوء إلى عالم التأمل .... أصبح ضرورة ووسيلة للنجاة , لأن الحياة في المجتمع أصبحت تسير بسرعة مجنونة ""(4) .
أما من الناحية الفلسفية فقد طرحت أفكار ( نيتشه ) إلغاء سلطة العقل للفلسفات السابقة وتثبيت هيمنة الحس . فقد ركز (نيتشه) هجومه على "" فكرة الذات وضد أفكار التنوير والتقدم والعقلانية , مثلما دعا إلى التحكم بواسطة إرادة القوة المسخرة انثربولوجيا لا سوسيولوجيا , بحيث أصبح عدائه للحداثة أشد تطرفا "" (5) .مما دفع المخرجين للبحث عن مناطق اشتغال تتوافر قبل المنطق , فكانت العودة إلى البدائية والطقسية والأنماط الأصلية والتاريخ والدين , وهو السبب ذاته الذي دفع بالمخرجين للبحث أيضا في الدراسات الأنثربولوجية والنشاطات الإنسانية كعلاقات السلطة والقوة لمجتمع ما قبل التاريخ  , بوصفها لا تخضع لأي منطق , في محاولة لربط المسرح والحياة المعاصرة بعالم أسطوري وثقافات خيالية....
"" بحثا عن عالم مفترض يصلح أن يتخذه ( الفرد ) نموذجا في حياته المستقبلية من خلال العناصر الغيبية والميتافيزيقية "" (6) .
فالعودة إلى البدائية والطقسية قد حققت في مسرح ما بعد الحداثة ألاف الصور الفكرية والشعائرية من الدنيوسوسسية والتدميرية والهيروفروسية والأروفويوسية . والأشكال الطوطمية واللغات الميتة كالكونفوشستية والبوذية والهيروغليفية والزرادشتية والباخوسية , فضلا عن والإباحية الجنسية , والديانات الروحية كالشامانية والزن والنرفانا . وكان ما يستمدونه مرتبط بتصور ووجهة نظر "" ليفي شتراوس عن الكيفية التي تعمل بها الأساطير في أذهان البشر دون أن يعوا تلك الحقيقة (7)....
كما عمدوا إلى استخدام التابلوهات المسرحية والبحث عن علاقة جديدة بين المتلقي والحدث علاقة قوامها التشاركية القسرية , والرغبة في عودة إنسان اليوم المتحضر إلى ذلك العالم اللارديكالي فلا سياسة ولا دين ولا تاريخ , تحت ذريعة أن عالم اليوم عالم يسبح في المتناقضات , مما يولد عقدة الكبت في غزو الحضارة , وقد ظهرت هذه التوجهات  في أكثر العروض المسرحية من أعمال ""سوزان لا سي , وألوين بكولا, وفان إيتالي كلاود , وبيتر شومان , وميشيل كوربي , وريتشارد مورفن ""(1) .
في الجانب الأخر فإن فلسفة الروح والفنون الرمزية المرتبطة بفنون الرقص والحركة والتعبير الأدائي نتيجة الطابع الرمزي والديني والطقوسي ( الذي يعتمد الحركة والغناء الراقص ) هو اغتراف أخر ينهلون من السحر الذي تميز به الشرق كإحداث ألف ليلة وليلة ومسرح النو والكابوكي والكاتكالي وكل ما جاءت به التيارات الدينية الروحية المعروفة لدى جماعة المولوية أو رقصات الذكر ورقصات جزر بالي , وحفلات الزار " فانه لا يمكن القول بشكل نهائي أننا أمام مسرح ديني مستمد من العقيدة الشامانية أو عقائد أخرى مثل زن البوذية وعقيدة شنتو* "(2).
ويبدو الأمر كما يرى الباحث سمة من المفارقة والتناقض والازدواج في تركيبة صورية غرائبية من التعبير المسرحي بين الشرق والدين في تمازج غريب من نوعه , فالأشكال ما قبل المسرحية تتناول موضوعات تخلط بين الأسطوري والتاريخي والدين بالدنيا , والحديث بالقديم , ولعلها تقيس عناصر أخرى تحت يافطة المعاصرة والتحديث والتجريب وفعل الضعة والقداسة والعلمانية , ويؤكد غرتوفسكي بهذا الصد " إننا نعيش الآن حقبة ما بعد المسرح (post theatrical ) وليست موجه جديدة في المسرح , أنما شيء ما يحل محله "(3).
من حقنا أن نتساءل هنا , هل هذا الأمر نفي للمسرح المعاصر أو الحداثة بالكلية , أم أن الصياغات ما بعد الحداثة تنفي وجود مسرح , ولماذا إذن لم ينجح بروك وغروتوفسكي وارتو في استمرارية هذا النموذج الهجين بعد أن انحلت فرقتي ارتو وغروتوفسكي . "أن مجتمع ما بعد الحداثة لم ينتج لنا بديلا من الحداثة , وإنما افرز عمليات خلاف واختلاف وصراع حضارات ونفوذ في أغلب الأحيان إلى التشظي والانفلات وكسر هيمنة النسق المركزي "" (4).وعلى ما يبدو أن هذه الأفكار التي قدم لها المخرجون والمسرحيون ما لبثت أن وجدت لها أرضية جديدة عند تلامذتهم ( باربا وششنر وتشايكن ) كونهم وظفوا الطقس بشكل مركزي في عروضهم , وذلك ما ينتقده كريستوفر أينز بقوله ""ليس الطقس هو ما يتنافر مع فكرة المجتمع الحديث , وإنما صيغة وجود الجماعة الإنسانية تتنافر مع شكل هذا المجتمع ""(5)..
وبالمقابل فهم يدعون أن هذا النوع من المسارح هو من نوع المقدس والمسرح العلاجي والعلاج البارا مسرحي ,ويعتقد الباحث أن ذلك التوجه مجرد أفكار في مخيلة المخرجين , فلو صح أن المشاهدين قد تخلصوا من أمراضهم النفسية بالعلاجات البارا مسرحية وغيرها ومن كبت الثقافة والحضارة كما يدعي ذلك ارتو, لكانت تذاكر الدخول مرتفعة جدا , فكيف يمكن لنا أن نفسر استخدام" "أشكال وصياغات غريبة الوجود المادي المعزول للإنسان الحضري المعاصر باعتبارها وسيلة لاستعادة المقدس ""(6) ... أو وسيلة للعلاج البارا مسرحي عن طريق التشاركية الطقسية , في مثل هذه العروض التي تسخر بالإباحية الجنسية والسحر الأسود والطقوس الميتة منذ آلاف السنين وبلغات لم تعد معروفة أو مفهومة , وكأنهم يدعوننا من جديد للاحتفال العاهر بالدنيوسوسية , يبدو العرض المسرحي سيناريو سريالي مبتذل يدفع المتلقي للمشاركة فيه بشكل قسري , تحت ذرائع عديدة , فقد كان ( ارتو ) أول من قدح الشرارة كما يعتقد الباحث لمسرح ما بعد الحداثة وهو فاشل كما تشير أكثر المصادر "" فهذا الفشل الذي لقيه أرتو يبدو أن مرجعه هو تفكير ارتو في أمور قد تكون خارج نطاق قدراته ""(1) .فإذا كان ارتو يمثل لدى الكثيرين من تلامذته الذين لحقوه أو ممن تأثروا بتجربته , فأن فشله بالضرورة يعني فشل كل التيارات المسرحية التي استمدت تجاربها منه بالاستنتاج المنطقي ,وهذا  (ريتشارد فورمن) يصرح "" بأن الإخراج المسرحي .. ليس محاولة إقناع الجمهور بمصداقية المسرحية أو احتمال وقوعها بالحياة ... بل هو سعي لإعادة كتابة النص في صورته المخطوطة ,, وان الإخراج في حالتي هو امتداد واستمرار لعملية الكتابة "" (2). لقد فرض تيار ما بعد الحداثة تغيرات عديدة على صعيد الشكل والمضمون جماليا والإخراج والكتابة , وعمل لتعطيل أنتاج المعنى بكل الوسائل المتاحة , فبدلا من أن تسعى عناصر العرض إلى إيضاح الفكرة والتيمة معا , فإن مسرح اليوم ما بعد الحداثوي يشظي كل العناصر التركيبية ويدخلنا في مركز الفجوات المبهمة , مما دفع المخرجين إلى إلغاء دور المؤلف وبالتالي النص الدرامي فإن من مسلمات هذا التوجه هو " الخروج على النص وتدميره وتحطيمه ,بما  يخدم الرؤية الإخراجية ""(3) .وعلى وفق هذه التصورات بات المخرج ينصاع تماما لبناء الصورة بوصفها قدرة تعويضية عن النص , غير انه يقع في مشاكل حينما يدرك أن الإخراج ما بعد الحداثوي , ينبغي أن يلغي جل القواعد والنظم التي جاءت بها الحداثة وما قبلها , وإذا فهو ينصاع إلى كم هائل و متواصل ومتلاطم من الصور واستخدام الشاشات بشكل قد تفلت من يده ارجحية عنصر على عنصر أخر, فلم يعد المخرج مخرجا "" بل أن لقب مخرج , أستبدل  بالرجسير* "(4).
(1) نك كاي , المصدر السابق , ص 11 .
(1) كولين كونسل , علامات الأداء المسرحي , تر امين سلامة , القاهرة , مهرجان المسرح التجريبي , 1989, ص 8
(2) فيليب اوسلاند , من التمثيل الى العرض , القاهرة : وزارة الثقافة ,1977, ص82.
(3) نك كاي , المصدر السابق نفسه , ص 20 .
(4) كولين كونسل , نفس المصدر اعلاه , ص 269.
(5) ابراهيم الحيدري النقد بين الحداثة وبعد الحداثة , بيروت : دار الساقي , 2012, ص , 335 .
(6) كولين كونسل , نفس المصدر اعلا ه , ص 266 .
(7) كرستوفر أينز . المسرح الطليعي , تر سامح فكري , القاهرة : وزارة الثقافة , 1996, ص263.
(1) للمزيد ينظر ,كولين كونسل , المصدر السابق نفسه , ص 272 .
(2) نفس المصدر أعلاه , ص 182.
* عقيدة شنتو . عقيدة يابانية تجمع بين الإحساس بوحدة الوجود والولاء للسلالة الحاكمة بوصفهم أصلا من آلهة الشمس .
(3) كرستوفر أينز , المصدر السابق , ص 308.
(4) نفس المصدر أعلاه , ص 332 .
(5) نفس المصدر أعلاه والصفحة .
(6) نفس المصدر أعلاه , ص 445.
(1) كرستوفر أنز , المسرح الطليعي , , ص 110.
(2) نك كاي , المصدر السابق نفسه , ص 79.
(3) بول شاوول , مسرح ما بعد الحداثة , جريدة المستقبل , بيروت : العدد2047, 2005.
(4) أنظر نفس المصدر اعلاه والعدد ذاته .
* الرجسير : تعني ضابط ايقاع باللغة الأنكليزية ,

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption